رواية سارية في البلاط الملكي الفصل الخامس 5 بقلم هدير مجدي
الفصل الخامس
وما النسيان سوى قلب صفحة من كتاب العمر!
قد يبدو الأمر سهلًا
لكن ما دمت لا تستطيع اقتلاعها ستظل تعثر عليها بين كل فصل من فصول حياتك.
أُخبر ذات يوم أن الوقت ينسي الألم ويطفئ الانتقام!
أُخبر أنه بلسم الغضب ، خانق الكراهية!
فلماذا حتى الآن لا يشعر بتأثير الوقت عليه؟
تصارعت الأفكار في رأس إلياس عندما وصل برفقة خديجة إلى مشارف القصر الذهبي ، وجد حشد كبير من الرعية والجنود في استقباله ، دخلت الخيول من البوابة العملاقة لتتوقف بعدها وهبط منها بزيه الأخضر الملكي وعمامة تحمل نفس اللون يتوسطها حجر ماسي على شكل حبة اللوز ، يتأمل القصر الذي لا يدخله إلا في هذا الوقت من العام بعد أن كان يقيم فيه.
مزينًا ببزخ بستائر ملونة معلقة بين الشرفة والأخرى ، وأشرطة الورود ملقاة على الممر الذي يقف في آخره أخيه نيار بزيه الأزرق وعمامته من نفس اللون.
طالت نظراتهم لبعضهما تحمل جميع المعاني من كبرياء ، غرور ، غموض ، عتاب ، غضب ، اشتياق وأخيرًا حب.
رأى والده يقف على يمينه بزيه الأبيض المعتاد ، بجواره والدته والتي لا يشعر نحوها بأي نوع من المشاعر غير أنها مجرد الملكة.
نظراتها ، وقفتها وملامحها لم تتغير ، مازالت على جمودها وغرورها الذي سيقتلها بيوم من الأيام.
جذب انتباهه فتاة بجوارها جميلة الملامح بخصلات شقراء وزي ملكي باللون البنفسجي الهادئ وتاجها الماسي ، لكنه لم يستطع أن يحدد هويتها فهي المرة الأولى التي يراها لكنه خمن أنها خطيبة أخيه.
التفت ليجد خديجة وقفت بجانبه بعدما ترجلت من قُبتها ، ليتقدما نحو والده الذي ابتسم بحنان بعد أن لبى دعوته.
يعلم كم أن الأمر شاق عليه لكنه يعلم أن له مكانة في قلبه.
اقترب منه وانحنى يقبل ظاهر كفه ، فشد تقي الدين على كتفه بفخر ورضا ، ليلتفت إلى أخيه ومد الاثنان يدهما في نفس الوقت يشد كل منهما على يد الآخر ، كابحين رغبة أن يضما بعضهما باشتياق ، لكن العينين عكستا ما في القلوب ، والنظرات عبّرت عما يجيش في الصدر من مشاعر وشوق.
لكن نيار قال بجمود قاطعًا هذا الصمت :
-"المملكة نالها الشرف بحضورك جلالة الملك"
هز إلياس رأسه يجيبه بنبرة جامدة لكن الآخر التقط الاهتزاز الطفيف بها :
-" شكراً لك جلالتك"
التفت إلى والدته مقتربًا منها والتي ظنت أنه سيرتمي بأحضانها بمجرد رؤيته لها لكنه اكتفى بانحناءة بسيطة لا تُرى :
-"مرحبًا أيتها الملكة"
جملته بمثابة صفعة مفاجأة على وجنتها!
صعقها ردة فعله فهذا أبعد ما توقعته!
اشتعلت نظراتها بالغضب الذي ابتسم له إلياس بسخرية خاصةً عندما حاولت الحفاظ على جمودها رافعة أنفها بكبرياء تومئ برأسها :
-"أهلًا وسهلًا جلالة الملك"
حال بنظره إلى ليان التي انحنت بابتسامة جميلة ، ليسمع صوت والده معرفًا إياها له :
-"الأميرة ليان ابنة الملك سليم خطيبة أخيك"
تجاهل كلمة والده الأخيرة والتقط كفها ليطبع قبلة رقيقة على ظاهر أناملها في حركة تدل على الاحترام وقال ينظر نظرة خاطفة للملكة رقية :
-"مرحبًا بالملكة المستقبلة"
ابتسم للرسالة المبطنة التي قالها والتي التقطتها رقية بصدمة وقد فهمت مقصده ، أن عصرها آن له أن ينتهي.
★★★★★★★
مرت عدة أيام بعد حضور إلياس وجاد ، كان قد حضر الملك سليم وتم استقباله بترحاب شديد.
كان نظام أيام الشكوى في المملكة قائم على أربعة أيام بلياليهم.
كل جهة من جهات المملكة يوم.
من يمتلك شكوى يتقدم بها ويسردها أمام الملوك ، فإن كان يمكن حلها في وقتها يتشاورون فيما بينهم في الوقت ذاته ، وإن أرادت بعض الوقت يعطوه ميعاد آخر ليأتي من جديد.
مرت الثلاثة أيام الأولى ليأتي اليوم الرابع والأخير ، كان من المفترض أن يقام الاحتفال السنوي للملكة بعد هذا اليوم بثلاثين يومًا ، فاستمع الملوك لجميع الشكاوي ، منهم من تم حلها ومنهم من أُجلت للنظر فيها.
وقف نيار يتحدث لجميع الحاضرين ، حيث كانت الساحة ممتلئة كلها بلا منفذ حتى امتد الحشد لخارج القصر بعدة أمتار :
-"أرجو أن يكون الجميع سعداء ، فقد حاولنا حل جميع الشكاوى بالعدل والحكمة حتى لا نظلم أحدًا ، و ...."
قاطع حديثه صوت أنثوى صدح بقوة من بين الحشد يتخلله صوت أقدام الخيل وصهيله :
-"وهل للظالم أن يحكم بالعدل؟"
امتدت رأسه يرى من التي تجرأت على اقتحام القصر وقاطعته بهذا الشكل ، حتى إلياس هب واقفًا بجواره عندما وصله الصوت ، تبعه الجميع بالوقوف.
التفتت جميع الرؤوس إلى بوابة القصر ، واصطف الناس صفين على كل جانب ، لتدخل بمهرتها البيضاء ترتدي قلنسوتها الحمراء القانية على رأسها ، فكان جاد أول من تعرف عليها ليفغر فاه بصدمة من فعلتها!
أما إلياس عقد حاجبيه وضيّق نظراته يحاول أن يتذكر أين رآها من قبل؟
صوتها صدح مرة أخرى وهي تهبط من فوق الخيل بمهارة وتلتفت تزيح طرف العباءة إلى الخلف ترمق الجميع بغضب وسخط :
-"أخبرني أيها الملك.. هل من يضع قانونًا يحلل لنفسه أخذ فتاة لم تكد تتجاوز سن الرشد من أسرتها أن يحكم بالعدل؟"
رفعت يدها تزيح القلنسوة عن رأسها فظهرت خلاصتها النارية تلمع تحت أشعة الشمس الساقطة :
-"هل لملك يحرم أم عانت لأشهر من ألام الحمل والوضع كي تقر عيناها في النهاية بطفلة وهبها الله من الجمال نصيب أن يوصف أنه عادل؟
هل لملك يحرم أب قضى لياليه داعيًا الله أن يرزقه بطفلة ويفني عمره في رعايتها وحبها وتربيتها أن يكون عادل؟!"
نظرت لتقي الدين وكأنها تقول جملتها له بالأخص :
-"هل من يجبر رجلًا أفنى عمره في خدمة هذه المملكة ، لا يريد لها إلا الصالح أن يتشرد بأسرته خوفًا على ابنته من مصير محتوم كتبتموه بأيديكم بدون وجه حق"
قاطع حديثها هتاف إلياس الذي تقدم منها بعدما هبط من مجلسه يعصف بها :
-" من أنتِ كي تتجرئي وتتحدثي مع ملوكك بهذه الطريقة المتبجحة؟
قسمًا بالله ستعاقبين على ما فعلتيه لتوك''
رمقته بسخرية تناظره بقوة ترسم ابتسامة مستهزئة ، وقالت بصوت يسمعه الجميع :
-"حقًا سأعاقب لأنني أقول الحقيقة التي تتهربون منها؟!
لأنني أهتف بظلمكم وظلم قوانينكم؟"
أومأت برأسها عدة مرات مكتفة ذراعيها أمامها تصيح باتهام صريح له أمام الجميع :
-"حسنًا أخبرني أيها الملك ، ما عقاب من يختطف فتاة من أسرتها ليقدمها هدية لأخيه كي يعيد الوصال من جديد؟"
رمقها بدهشة لما تقوله وعقد حاجبيه باستنكار ، فهو لا يفهم ماذا تقول ومن تقصد؟
أتتهمه هو بخطف فتاة والسير بهذا القانون؟
يخطف فتاة ليعيد حبل الوصال الذي قطعه بيده منذ خمس سنوات؟
كاد أن يرد ، لكن قاطعه صوت والدها الذي أتى من الخلف :
-"سارية!"
هب تقي الدين بصدمة مع رقية ، وقد ارتعد جسديهما من هول ظهوره ، ليهمسا معًا في نفس الوقت :
-"مستحيل ، بدر الدين!"
خاطئون إن ظنوا أنهم تخلصوا من الماضي بدفنه!
ألا إنه دائمًا ما يجد طريق عودته!
فالتخلص من الماضي يكون بالمواجهة وليس الدفن!
هدر بها أبوها الذي جاء من خلفها يمتطي جواده الأسود بزيه الأبيض ووشاحه الذي يلفه كعمامة على رأسه.
يطالعه الاثنان بأعين جاحظة ونظرات غير مصدقة!
صدمة بعينين مختلفين..
فتقي الدين بات مصدومًا أنه على قيد الحياة ، بحث عنه طوال العشرين عامًا الماضية حتى يئس وسلّم أمره بأنه إما رحل أو توفيَّ.
أما رقية فصدمتها مختلفة ، ظنت أنها تخلصت منه إلى النهاية..
ذلك الرجل الذي كان دائمًا عقبة في طريق أمانيها ، فهل ستخسر كل ما حققته الآن؟
هل بظهوره مرة أخرى ستُفتح الدفاتر القديمة؟
ضغطت على كفيها بقوة ، وللمرة الأولى يظهر في عينيها القلق والتوتر وهي تنظر لهيئته الشامخة كالمعتاد يقترب من تلك الفتاة المتبجحة التي اقتحمت قصرهم فجأة.
أما نيار وقف بجانب أخيه وصدمه رؤية بدر الدين كبيرة عليه وقد تذكره ، هو ذلك الشيخ الذي قابله أثناء رحلة صيده لكي يسأله عن الفتاة التي أنقذته في الغابة..
ليعود بذاكرته إلى ذلك اليوم..
بعدما عاد مأمون سرد عليه ما حدث ، فقرر لقاء هذا الشيخ ورؤية المكان ، فذهب إليه في الصباح ليجده شيخ له وقار وهيبة شديدين.
رأى المكان الذي يسكنه عبارة عن مجموعة من الأكواخ على مسافات متفرقة من بعضهم لكنه يشوبه الألفة والدفء الذي يفتقده في حياته.
سأله عن الفتاة وأين يمكن إيجادها ، فكان جواب بدر الدين :
-"كما قلت لصديقك يا سيدي ، لا يوجد فتيات بتلك المواصفات هنا في القبيلة ، فأكبر فتاة هنا لا يتعدى عمرها العشر سنوات"
عاد بذاكرته يحيل بنظره إليها ، هي الفتاة بنفس المواصفات التي ذكرها الجندي له.. الفتاة التي يبحث عنها طوال هذه المدة لتأتيه بقدمها ، فتحولت ملامحه إلى الغضب وعيناه السوداء أصبحت كبئر حالك.
كان جاد أول من صُدم و أول من استفاق يهز رأسه بغضب من غبائها واندفاعها ، دائمًا ما تلغي عقلها وتسير خلف غضبها الذي سيقتلها يومًا ما.
لولا الجمع الغفير وحضور الملوك لكان الآن يعيد لها عقلها وبطريقتها هي.
التفتت سارية إلى والدها تلهث من الانفعال ، ليقترب منها ممسكًا ذراعها بحزم طفيف :
-"عندما تتحدثين مع الملوك عليكِ أن تتهذبي"
نظرت إليه بجمود تلتفت حولها ترى الحضور الغفير يراقب المشهد بانتباه شديد ، وعلامات الإعجاب على وجوههم وكأن كلماتها لم تنبع منها فقط ، بل من قلب كل شخص هنا.
ابتسمت بسخرية وعادت بنظرها لنيار الذي وقف أمامها هاتفة :
-"معك حق أبي.. لكنك لم تقم بتربيتي على احترام من هو ظالم"
ثم توجهت بحديثها إليه قائلة :
-"أتعلم أيها الملك.. إذا كنت أعلم أنك من أنقذته من الهجوم ذلك اليوم ، لكنت أمضيت في طريقي غير عابئة بما يحدث وتركتك تدبر أمرك"
ارتفع حاجبي نيار بدهشة ، والآن استطاع أن يربط كل الخيوط ببعضها ، الفتاة الذي يبحث عنها هي نفسها من أنقذته في ذلك اليوم ، وهذا الشيخ هو والدها والذي لم يكذب عندما سأله عنها..
فقد كانت في هذا الوقت في مملكته تهاجم جنديه ، فاقترب منها بابتسامة غامضة تلقي الرعب في قلوب الرجال :
-"حسنًا ، فالفتاة التي أبحث عنها لأنها اعتدت على أحد جنودي هي نفسها من أنقذتني"
ليصيح بصوته موجهًا سؤاله الساخر للجميع :
-"هل أقوم بعقوبتك أم بمكافئتك يا تُرى؟!"
كانت رقية تتابع ما يحدث لكن عقلها فقط مشغولًا بعودة بدر الدين وأن تلك الفتاة ابنته.
أما خديجة وليان لا تفهمان شيئًا مما يحدث ، ولكن دق ناقوس القلق في قلبيهما ، لتنظرا لبعضهما بعدم فهم.
إلياس نظر إلى وزيره وكأنه تذكر لقائه معها ويريد التأكد ، فالتقط جاد نظراته وتساؤله وأومأ برأسه كأنه يقول له "نعم إنها هي".
التفت الجميع لصوت تقي الدين الذي صدح بقوة آمرًا جنوده :
-"أيام الشكوى انتهت ، هيا فلينفض الجمع في الحال فالقادم من شئون القصر"
كاد الجميع أن يلبي ما أمره لكن حينما صدح صوتها عاليًا بغضب :
-"ولمَ أيها الملك؟!
فلتعتبرني من رعيتك.. أليس هذا يوم من أيام الشكوى ، والجميع يقدم شكواه في هذه الساحة لترد المظالم إلى أهلها؟
ها أنا أقدم شكواي وأمام الجميع"
في خضم التوتر الذي لفح أفراد المملكة بين انصرافهم أو بقائهم ، واضطراب الملك تقي الدين.. هل يسمح لها بتقديم شكواها التي لا يعلم فحواها إلى الآن وأن يظل أفراد الشعب في الساحة ويشهدون على عتاب من كانوا أصدقاء يومًا على افتراقهما؟!
أم يصر على موقفه؟
ورقية التي تحاول تمالك خوفها من القادم..
أما إلياس كمن يشاهد عرضًا وكأنه ليس ملكًا ، بل فردًا من العامة لا تعنيه الأحداث بشيء.
فصدح صوته البارد يجلس بأريحية لامبالية على كرسيه مرة أخرى ، يوجه كلامه لوالده ولكن عينيه على سارية وبنبرة ساخرة من والدته كأنه شعر بفراسته بخوفها وتوترها :
-"مولاي هذا حقها فهي تريد طرح شكواها كباقي أفراد الشعب ، وواجبنا الاستماع إليها"
تقدم نيار على غفلة منهم يضع يده خلف ظهره واليد الأخرى على السيف :
-" كل فرد من الشعب يعلم حدوده ، يعلم ما هي حقوقه وواجباته.. يتعلم من الصغر احترام العائلة الملكية!!
من تحميه في بيته من أي هجوم يطاله ، تساعده وتكّون له بيت ومأمن.. عائلة تحيا معه تحت هذه السماوات قبل ان تحكمه"
وقبل أن يكمل حديثه ، قاطعته سارية متحدية بنبرة غاضبة ساخرة :
-"لو كنت يومًا من أفراد الشعب تعرف حقوقك وتقوم بواجبتك.. وكان لك أخت أو ابنة أنفقت عليها من روحك ، ولأن الله حباها جمالًا ، تُفاجأ أنها تؤخذ منك على غرة..
تؤخذ من أولئك الذين يمثلون لك الأسرة..
لا تعلم عنها شيئًا؟
وهل سوف تراها مرة أخرى أم لا؟"
اقتربت منه حتى وقفت أمامه بالند تكمل بحدة وقد تحشرج صوتها من الصراخ :
-"هل هذه هي الأسرة التي تتحدث عنها؟
هل ترى بذلك مصلحة شعبك أم مصلحة احتياجاتك المبجلة؟"
أنهت كلامها صارخة ، فعم الصمت والذهول مرتسم على محيا الجميع.
ارتعاشة خفيفة مرت بداخله لعلمه أنها على حق ، فلو كانت له أخت لحارب العالم لأجلها ، ولكن سامحها الله والدته.. لم تعلمه معنى أن يكون له أحد تحت حمايته غير شعبه لأجل السيطرة لا لشيء آخر!
ولكنه لم يسمح لذلك بالظهور ، يجب أن تتأدب فقال بقوة :
-"أتعترضين على قرارات المملكة؟!
أتعلمين ما هي العقوبات؟!
صدقيني عقوبة ذلك وخيمة ، وأنا الذي سيطبقها بنفسه"
قالها بصوت حاد خطير ، لو يعلمه أحد لعلم أن القادم أسوأ.
هتف تقي الدين بصوت ثابت يخفي تأثره بعودة صديقه :
-"الساحة لا تليق بحديث كهذا ، هيا للداخل حتى نقوم بحل هذه المشكلة"
وقبل أن ترد سارية عليه ناداها والدها بحزم يشوبه اللوم والعتاب :
-"سارية أخبرتك أن تتأدبي.. إن لم تحترمي أحدًا فاحترمي من رباكِ"
-"ولكن أبي ..!!"
قطعت رقية كلامها وقد حانت لحظة تدخلها
-"نعم.. احترمي مكانتك يا ابنة كبير الوزراء ، لا يليق هذا بكما"
قالتها بنبرة عالية ونظرات خبيثة تنوي المكائد ، تلتقط نظرات سارية المتسائلة.. ثم التفتت إلى بدر الدين قائلة بسخرية :
-"مرحبًا بعودتك بدر الدين..
أيليق أن نصحو منذ عشرين عامًا نجد أن كبير الوزراء لا يوجد أي أثر له في المملكة؟"
كانت الدهشة من نصيب كل من خديجة وليان اللتان بدأتا فهم ما يحدث قليلًا ، لكن الصدمة الحقيقة كانت من نصيب سارية وجاد.
كانت تعلم أن والدها قد هرب بها صغيرة في عمر شهور خوفًا عليها من القانون الذي وضعه تقي الدين بنفسه ، والتي علمت أن زوجته من أشارت عليه بهذا الأمر.. لكنه لم يقص عليها أن علاقته بهذا القصر أنه كان كبير الوزراء ، بل كل ما تعرفه أنه كان صديق الملك!
دارت أسئلة في رأسها تحول بنظرها بين الملكة وبين أبيها
لماذا أخفى عليها مكانته هنا؟
هل كان يشغل هذا المكان عندما وضع هذا القانون؟"
شهقت بخفوت تضع كفها على فمها عندما لمع هذا السؤال في عقلها :
-"يبدو أن هذه المرأة تكن كرهًا شديدًا لأبي كما يظهر في عينيها ، لكن هل يعني هذا أنها وضعت هذا القانون لتتخلص منه؟"
أما جاد فكان أبعد ما يأتي في مخيلته أن معلمه ووالده الروحي هو نفسه وزير الملك تقي الدين ، يعلم بقصة كبير الوزراء من حديثه مع إلياس لكن لم يتصور أبدًا أنه نفسه.
لكن نيار لم يتفاجأ لأنه يعلم ، وإلياس كان يتابع كل هذا بسخرية ولامبالاة شديدة ، يعلم أن أمه السبب وراء كل هذا .. فليجلس ويرى.
قال بدر الدين برزانة معروفة عنه :
-"إذا كان في هروبي كما تسميه جلالتك سبيل في حماية ابنتي فلا ندم عما فعلته"
وعندما أدرك نيار أن الحوار سيأخذ منحنى آخر يكشف عن خبايا القصر.. أمر أفراد الشعب القادمين للشكوى بالانصراف قائلًا :
-"الآن علمتم أن ما يحدث من الأمور الداخلية للقصر.. انتهت الشكوى فلينصرف الجميع"
ثم وجه بصره لأبيه متابعًا :
-" والباقي يتم مناقشته بالداخل وليس في الساحة!"
وكأن اللقاء أيقظ شعلة الذكريات..
ذكريات عادت حاملة سوطها تدق في الرأس مسمارًا ذهبيًا ، مسمارًا قصيرًا غير كافٍ للقتل ، لكنه كافي لنشر ألم قاسي يجعلك تتمنى الموت حينها.
فتذكر تقي الدين وبدر الدين ما حدث في الماضي.
ذكريات حُفرت داخل الأعماق
صور حُفظت في العيون
حنين عظيم حُبس بالقلب
الأشواق باتت واضحة بالكلمات
والحب لا يمكن إخفاءه.
جمعتهما صداقة عميقة منذ زمن مضى ، حتى بات بدر الدين كبير الوزراء يكاد تقي الدين لا يثق في رأي أحد غيره ، وكان رأيه نعم الرأي ، ومشورته ليس بعدها مشورة.
لكن رقية كانت تعتبره عقبة في طريق الوصول لما تريد.
وجوده بجانب زوجها جعل تأثيرها على قراراته لا يأتي بثماره ، فحاولت جاهدة أن تثير المشاكل بينهما ، فتارة تتهمه بالتقصير ، وتارة تبث سمومها في أذنه لكن قوة العلاقة بينهما كانت أكبر من مخططاتها.
وفي يوم كانت تسير بالرواق المؤدي لجناح ولديها فاستوقفها صوت طفلة صغيرة يأتي من إحدى الغرف، وهمهمات مهدئة وكأن أم تغني لرضيعتها حتى تنام.
وقفت عند الباب بعد أن أفسح الحراس الطريق لها وانحنوا احترامًا ، تراقب المربية تحمل طفلة أقل ما يقال عنها ملاكك ذو شعر أحمر وكأنه شعلة نارية ، ووجه أبيض مشرب بالحُمرة.
اقتربت ببطء لا تتذكر أن هناك أحد من القصر يمتلك هذا الجمال النادر.. أو أن هناك طفلة لأحدهم من خواص الملك.
وعندما شعرت المربية بوجودها نهضت وانحنت احترامًا لها :
-"جلالة الملكة"
نطقت المربية بصوت خافت تستمع إلى ملكتها :
-"من هي؟"
قالتها رقية بصوت هادئ رغم نبرة صوتها القوية..
-"الطفلة مولاتي.. إنها ابنة الوزير بدر الدين"
أجابت بصوت خافت رغم ذبذبات التوتر فيه ، لتردد رقية اسمه بصوت جامد لا حياة فيه :
-"بدر الدين!!"
صدر الصوت منها بصدمة كأن هناك من لكمها بقوة ، يتخلله صوت الرضيعة يشبه مواء قطة أصابتها التخمة بعد وجبة دسمة أتبعتها بضحكة رقيقة بعد أن سمعت اسم أبيها كأنها تعرفت عليه.
لم تكن أخباره منتشرة إلا لدى تقي الدين ، كانت تظنه عازفًا عن الزواج.
أم هي من كانت مشغولة في الفترة الأخيرة وباتت الأخبار لا تصل إليها؟
استفاقت من أفكارها على صوت المربية تسألها بريبة :
-"هل هناك شيء مولاتي؟!"
تطلعت إليها بصمت قاتل لبضعة دقائق بينما رأسها تحيك الأفكار ، والتصارع داخلها ينتشر كدخان أسود كان بداية نيران ستترك أثرها للمدى البعيد وستطال الجميع.
تركتها دون كلمة وخرجت تحيك مؤامرتها ضد طفلة لا تفقه من الحياه شيئًا ، ووزير كل غايته العدل.
هو بالنسبة لها حنظل بحلقها ، عثرة بطريقها يجب عليها إزالته وإن لم يكن فقتله واجب.
وفي مساء أحد الأيام كانت برفقة زوجها في مضجعه ، جالسًا على أريكته الكبيرة في شرفته ، احتضنته من الخلف تمسد على صدره ، وخصلاتها السوداء تغطي جانب وجهها وهمست في أذنه :
-"مولاي.. أما آن الأوان كي نفكر قليلًا بولدينا!
فإلياس صار في سن السابعة عشر ونيار في الخامسة عشر"
أدارها تجلس على فخذيه يحيطها بذراعيه يعيد خصلاتها خلف أذنها :
-"ماذا تريدين أن نفعل لهما؟"
ابتسمت بمكر تتلاعب بخصلاته هامسة بتلاعب :
-"آن الأوان الآن كي يكون لكل واحد منهما حاشيته وجواريه الخاصة ، فما رأيك بوضع قانون خاص بهذا الشيء!"
تعجب من اقتراحها وتساءل :
-"ماذا تقصدين؟!"
-"مملكتنا مليئة بالفتيات الجميلات ، بدلًا أن يذهبوا لأشخاص عاديين فأبنائي أولى أن يتمتعوا بهذا الجمال ، ولكن لن يوافق أحد على ذلك إلا بقانون صارم"
نهض من مقعده وأوقفها معه ليسير في غرفته يفكر فيما قالته ، وهل هو صحيح أم لا؟
قانون مخصص للفتيات ليكونن جاريات لأبنائه؟
كيف لهذا أن يتحقق؟
التفت لها وقال :
-"ولكن هذا خطأ ، حتى بدر الدين لن يوافق على ذلك"
تحولت عيناها للغضب والسخط الشديد تهمس من بين أسنانها بسخرية :
-"حقيقةً لا أعلم من هو الملك بينكما!
أنت أم بدر الدين؟!"
هتف بقوة بها وعيناه جاحظة ترمقها ببوادر غضب:
-"ماذا؟"
-"لماذا تصرخ عليّ؟!
كل ما تفعله لابد من تدخل بدر الدين فيه.. أراه يؤثر عليك بشكل كبير"
حاول الدفاع عن صديقه يهز رأسه باستنكار عاقدًا حاجبيه :
-"هذا ليس صحيحًا ، كل ما في الأمر أنني استشيره كأي شخص في حاشيتي"
لوت فمها بسخرية تكتف ذراعيها أمام صدرها مقتربة منه :
-"كم من قرار أخذته وتم تغييره بناءً على رأي بدر الدين!"
ثم رفعت كفيها تضعهما على صدره قائلة بفحيح أفعى متلونة كادت أن تقترب من هدفها :
-"هو وزيرك لم أقُل شيئًا ، لكن أنت الملك ، تأخذ مشورتهم لكنك لست مجبرًا على تغييرها بسببهم ، على كل شخص أن يعرف بمكانته في هذا القصر"
تبادلا النظرات بينهما ، هو في حيرة وتفكير في كلماتها ، وهي ببراءة مزيفة تخفي ورائها مكر خبيث.
وفي الاجتماع التالي للوزراء في القصر ألقى هذا القرار بوضع القانون يتحتم على كل أسرة تملك ابنة جميلة بمواصفات خاصة ستكون ملك للقصر الملكي ، من بداية العام القادم في يوم محدد يُقام فيه احتفال خاص ، وهذا اليوم هو يوم ميلاد طفليه ، حيث صادف أنهما ولدا في نفس اليوم من العام.
انتفض بدر الدين عندما استمع لهذا القرار.. كيف يحدث ذلك؟
كيف يصدر الملك قرار يتعلق بمصير الفتيات وبأي حق؟
ومن أجل من؟
من أجل متعة وراحة أبنائه فقط!
غضب بقوة وقال بثورة يواجه تقي الدين ملقيًا تذمره من هذا القانون الجاحد :
-"كيف ذلك مولاي؟
كيف تضع قانون يتحكم بأرواح الرعية بدون وجه حق؟
فلا دين ولا شرع يرتضي ذلك"
استقام تقي الدين بغضب هاتفًا بنبرة لم يسمعها أحد من قبل يتحدث بها إلى بدر الدين :
-"يبدو أنك نسيت من تكون!
أنت تخاطب الملك ، وما أعلنته الآن ليست مجرد فكرة استشيركم فيها بل هو قانون وأمر ، سيبدأ العمل به عما قريب فلا نقاش"
ذُهل الجميع من ثورة الملك على بدر الدين ، فهذه المرة الأولى التي يرون فيها هذا المشهد!
فهو ليس فقط كبير الوزراء بل صديقه المقرب ومستشاره الخاص فلم يتوقعوا ردة الفعل تلك منه.
تباينت مشاعرهم ، منهم من فرح وانتابته السعادة بسبب كرههم الشديد له وحقدهم من قربه من الملك..
ومنهم من حزن وصُدم مما يحدث الآن بسبب حبهم له وحكمته.
صمت الجميع مترقبين رد بدر الدين الذي يقف صامتًا شامخًا ينظر للملك يتأمل ما الذي تغير به ، وما سبب هذا الهجوم المفاجئ عليه؟!
وجدوه ينحني قائلًا بهدوئه المعتاد :
-"أعتذر من جلالتك ، لكن أعذرني فأنا أنسحب من هذا الاجتماع"
ثم التفت وانطلق خارجًا من ساحة المناقشة بل من القصر كاملًا ، لكن استوقفه صوت من خلفه ليلتفت وجدها رقية تخبره :
-"يبدو أن القانون الجديد لم يلقِ إعجابك ، لم أعتقد أنك ستسخط على أفكاري هكذا"
لم يجبها بل ظلت تعبيراته مبهمة فزاد من سخطها عليه ، كان عقبة كبيرة في طريقها وزاد سخطها عندما اعتذر منها ليذهب بل وأعطاها ظهره ، فهتفت من خلفه :
-"القانون لن يخص الرعية فقط ، بل سيصل الأمر في المستقبل لفتيات القصر أيضًا"
وصلت الرسالة وعلم أن الهدف هو إبعاده عن الملك والقصر ووصل الأمر أن يلتفتوا لابنته الرضيعة!
مر يومان منذ خروجه من القصر ولم يحضر مرة أخرى ، فأمر الملك أحد الوزراء بالذهاب إلى منزله ومطالبته بالحضور فورًا ، وفي ظل الحوار مع مستشاريه وجد وزيره عاد :
-"مولاي منزله فارغ ولم نجد به أحدًا ، وعندما قمنا بالبحث لم نجد أي من متعلقاته..
يبدو أنه ترك المكان"
ومنذ هذه اللحظة ترك بدر الدين كل شيء خلفه.. منزله ، مكانته ، وظيفته ، بل ووطنه بأكمله في سبيل حماية ابنته الوحيدة ، والذهاب للغابة في مملكة الجنوب.
تخلى بصدر رحب عما أفنى عمره فيه من أجل صغيرته!
تخلى عن الغالي حتى يحافظ على الأغلى في حياته ولم ولن يندم لحظة عما فعله.
حينها تأكد تقي الدين أنه خسر صديقه للأبد..
بسبب هذا القانون خسر الشخص الوحيد الذي يثق فيه..
في تلك اللحظة أراد الرجوع في قراره وإلغاء ما أمر به ، لكن تلك الأفعى المتلونة المسماة زوجته بثت آخر قطرة من سمها في أذنه..
كيف سيكون مظهره ومكانته أمام رعيته وحاشيته عندما يتراجع عن قرار أخذه؟
ولماذا تراجع؟
بسبب وزيره الذي رفضه وترك المملكة بأكملها!
حينها كأنه يخبر الجميع أن سلطة بدر الدين أكبر من سلطته!
استفاق الجميع من دوامة الماضي على صوت سارية تهتف بكره وتصرخ بقهر لما في داخلها لما أُخفي عنها ، وغضبها الموجه لملوك ذلك القصر :
-"لن أدخل قصر تؤخذ فيه البريئات ليصبحن سبايا"
أنفاسها تهدر بعنفوان وأكملت بغيظ وعنف :
-"لن أدخل مكان أعلم أنه من الممكن أن تكون صديقتي بطريقها للمشنقة التي تسموها احتفالًا!
احتفال باغتصاب البراءة ، وتحويلهن إلى جواري!"
أشارت لنفسها بقلة حيلة ودموعها تأخذ مجراها على وجنتيها دون إرادة منها :
-"أنا فتاة مثلهن ، ولولا هروب والدي لكنت بجوارهن الآن أُنعي روحي"
تصرخ وتتحدث وكلماتها تفتح الجراح المندملة الذي يحاول الجميع تخطيها!
العزف على الجراح في تلك اللحظة بالمجان وللجميع!
فقدان صديقتها وما واجهه والدها بسبب هذا القصر ومن فيه يطبع بقلبها حقد أكبر وكره يشتعل فتيله!
لتكون كلماتها كالسكين الملتهب تنغرس في قلبيّ الأخيّن تفتح الحقيقة التي يحاولان الهروب منها طوال الوقت!
حقيقة الظلم المتسببين فيه!
حقيقة قهر قلوب كل أسرة بسببهم!
إلى هنا وقد تلبست شياطين العالم السفلي في هذه اللحظة نيار الذي تقدم منها يريد فصل رأسها ، فحاولوا الوقوف بينه وبينها عندما تقدم إلياس ومأمون يمنعانه عنها.
فالشر المتمثل في عينيه الآن كافي للقضاء عليها.
هتف بها بقوة وعيناه تحولت للون الأحمر من الغضب يحاول تجاوزهما :
-"إن لم تحترمي المكان الذي تقفين فيه ستطردين أو تودعين السجن ، ولن تشفع لك مكانة والدك أبدًا"
لم تعِ لكلام من حولها فقد أعمتها غيرتها وألمها :
-"لن أرحل من هنا إلا ومعي صديقتي!"
قالتها بصوت عال وحاد لا يقبل النقاش.
حينها تدخل تقي الدين يعلم أن أيًا منهم لن يتوقف والتطاول لا مفر منه ، فقال يقترب من سارية يضع يده على عضديها :
-"بنيتي.. لا نعلم من هي ، والنقاش لا يتم هكذا ، حتى لو أردتها ضحّي من أجلها وادخلي مكانًا تكرهينه"
ثم نكس رأسه في الأرض بحرج ، وقال بصوت خافت :
-"لقد تم جمع الفتيات للاحتفال ولا نعلم من تكون هي منهن..
لذا انتظري بالقصر وسنتناقش حول الموضوع"
وقبل أن يكمل قاطعه إلياس الذي بدأت الخطوط تتجمع بيده!
سائلًا إياها بتفكير يقترب منها بتروي :
-"ولمَ صديقتك ستكون هنا؟
أنتِ وصديقتك من الجنوب.. إذن من الذي سيأتي بها؟
فلا أحد له دخل بمملكتي"
حينها أجابته والشرر ينطلق من عينيها ترمقه بنظرات شرسة ناظرة في عينيه ترفع له رأسها نظرًا لفارق الطول بينهما :
-"لمَ لا تسأل نفسك أيها الملك؟!
تدعي أمامنا أنك ضد كل من يحاول مس الفتيات بسوء في مملكتك!
وبعدها لا أجد صديقتي ، بل يصلني أنك أخذتها هدية لأخيك حتى تعيد الوصال بينك وبينه"
قالت جملتها الأخيرة ساخرة ، مهينة الجميع بخفاء مبهم ، مشيرة بسبابتها إلى نيار الواقف خلفه بخطوة واحدة ، ثم عادت بنظرها إليه هاتفةً بشراسة واتهام بُهت له الجميع وتعالت الشهقات بقوة :
-"لذلك أنا هنا لأسألك أنت وليس أحد آخر..
بل أتهمك بأخذها"
نظر لها ببلاهة عاقداً بين حاجبيه بدهشة لا يعي ما تقوله!
تتهمه بخطف صديقتها والإتيان بها إلى هنا؟!
الرافض القاتم على كل ما يحدث لا يصدق أنه جاء اليوم الذي يتهمه أحد بما يحاربه طوال السنوات الماضية؟
هو من ترك قصره وقاطع أسرته احتجاجًا ورفضًا على هذا القانون.. الآن يُتهم أنه طبقه؟
نظر لها صامتًا ، جامد الملامح يشوبها الغموض!
حتى جاد وخديجة نظرا لها بذهول من اتهامها الجديد ، فصدح صوت خديجة بغضب تقترب منها تجذبها من مرفقها تديرها نحوها وترمقها بكره :
-"كفى لقد تماديتِ كثيرًا أيتها الفتاة..
لم أرَ تبجحك من قبل حتى تقفي في وجه ملوكك وأسيادك بهذه الجرأة"
تفاجأ الجميع بردة فعلها وأكثرهم سارية التي رمقتها بدهشة ما لبست أن تحولت لغضب تمسك رسغها تزيح يدها من عليها هاتفة من بين أسنانها :
-"ليس هناك سيدًا عليّْ ، وإذا كان ما أقوله يعتبر تبجح فما تفعلونه الجحود بحد ذاته"
هتف جاد من خلف إلياس الذي علم أنه على مشارف الغضب ، وإن لم يسيطر عليه سيجعلها تندم على ما لفظته الآن ، ليرمقها بغموض يقترب منها :
-"سارية ما الذي تقولينه؟
لماذا سنخطف صديقتك لا أفهم؟"
نظرت سارية له بغضب مشهرة سبابتها في وجهه باتهام ولم تضع في الاعتبار أنه صديق عمرها وأكثر من تعرفه ويفهمها :
-"نعم أنتم اختطفتم صديقتي بل وأكاد أقسم أيضًا"
كاد نيار أن يفتك بها يزيح خديجة من أمامه هاتفًا :
-"حقًا لقد تجاوزتِ كل الحدود"
لكن منعه ذراع إلياس من التقدم نحوها ولم يزح نظراته عنها ووجه حديثه لجاد من خلفه :
-"جاد.. أريد منك العودة للمملكة والبحث بكل ركن من أركانها عن تلك الفتاة حتى تجدها وتعود لي بها إلى هنا"
أومأ الآخر بطاعة ، ثم وجه كلماته لها بشراسة ونبرة هادئة باردة :
-"ومن هنا و حتى نجدها لن تخرجي من هذا القصر"
ارتفعت وتيرة أنفاسها وهي تستمع له ترمقه بجمود ، ليزداد توترها وتوسعت عيناها أكثر عندما تقدم منها نيار بعدما أنزل أخوه يده ينظر لها بغموض :
-"وحتى يعود جاد سأتركك تبحثين بين الفتيات اللاتي جئن إلى القصر.. فإن وجدتِ صديقتك وعد مني سأعتذر لكِ أمام المملكة كلها"
ثم تقدم منها أكثر هامسًا أمام وجهها بنبرة مرعبة :
-"لكن إذا حدث العكس وجاء بها جاد..
فأقسم بالله -جل جلاله- سأعاقبك كما لم أعاقب أحد من قبل"
شهقات مختلفة خرجت من الجميع وبالأخص ليان التي كانت تتابع ما يحدث في صمت ، تحاول أن تستشف مما يحدث شخصية وتفكير كل شخص من الحاضرين ، ولكن وجه نيار الجديد وشراسته جعلت قلبها ينتفض بين أضلعها.
لم تظنه بهذا السخط والغضب ، تشعر بالشفقة عليها على قدر إعجابها بقوتها وجرأتها لكن وسيلتها في عرضها هي المشكلة.
وخديجة التي شعرت بالسعادة والحقد عليها ، فشجاعتها علاوة عن جمالها أثاروا كراهيتها ، واهتمام إلياس بها من وجه نظرها قد أثار سخطها.
أما رقية لا يوجد أحد في سعادتها الآن ، فما أرادته بالماضي يحدث أمامها فكانت تريد أن تنتقم من بدر الدين وتصير ابنته مصيرها كمصير كل هؤلاء الفتيات ولكن لم يسعفها ذلك بسبب اختفائه ، ولهذا ستعمل على أن تجد تلك الفتاة قبل سارية وحينها سوف تضع بيدها عقابها ، وبالأخص أن أبنائها ساخطين عليها.
أول من قطع الصمت بعد كلمات نيار هو بدر الدين بهتافه الحاد مقتربًا من ابنته يحاوطها عندما شعر بتوترها وترنحها الخافت :
-"ما هذا الذي تقوله؟
ألم يكفيكم ظلم؟
عوضًا عن البحث عن الفتاة حتى لو لم تكونوا على علم بها ، تتغاضون عن الأمر وتعاقبون ابنتي على شيء أنتم شرعتموه بأنفسكم"
رفع نيار رأسه بشموخ يجيبه ببرود وثقة :
-"عقابها سيكون على إهانة ملوك البلاد بدون وجه حق ، من يريد عرض مشكلته يعرضها بكامل الاحترام وما علينا غير حلها"
ثم نظر إليها فوجدها تنظر في الفراغ وصدرها يرتفع وينخفض بقوة من شدة تنفسها فابتسم بسخرية قائلًا:
-"لكن ابنتك لا تعلم أي شيء عما يسمى احترام"
رمقته بنظرات طويلة جامدة ، وتعبيرات مبهمة لم يستشف منها أحد أي شيء لكنها لم تتحدث أو تجيبه ، فصدح صوت تقي الدين :
-"هذا أسلم حل لكِ.. المدة المتبقية حتى وقت الاحتفال هي شهر من الآن ، وطوال هذا الوقت سيعامل بدر الدين وابنته الجميلة معاملة الأهل لهم كامل الاحترام والتقدير ، لن يتعرض لهما أي شخص أيًا كان"
نظرت لوالدها بعيون دامعة تتمسك بمرفقيه وتهز رأسها برجاء هامسة له :
-"أبي لا.. لن أستطيع المكوث في هذا المكان لا"
ضمها له يضع رأسها على كتفه يربت عليها بكفه والأخرى يضم خصرها يهمس بدوره :
-"لا تخافي يا قلب أبيكِ ، لن يستطيع أحد المساس بكِ ما دمت حيًا"
القوة ليست في الصراخ
فالغضب السبب الأول في إضاعة الحقوق!
لكنها تكمن في استخدام العقل بذكاء
للوصول إلى المبتغى
دلفت إلى القصر تتأمل ما حولها من نقوش ورسومات ملكية على الحائط ، لكن هذا الجمال لا يضاهي حجم نفورها منه.
منذ أن وضعت قدمها من بوابة القصر وانتابتها قشعريرة أنها لن تخرج من هذا المكان ، لكن هذا لن يحدث ولو الثمن حياتها!
كانت رقية تسير أمامها فتوقفت في المكان الفاصل بين الناحية الشرقية و الغربية ، لتلتفت لها تطالعها من أعلى رأسها حتى قدمها بنوع من السخرية تذم شفتيها ، وصلت لعينها فرأت ثباتها الذي ينبعث منها..
بإمالة بسيطة من رأسها وجهت حديثها إلى خادمتها دون أن ترفع نظرها عنها :
-"أخبريهم أن يعدوا فراش في غرفة من غرف الحرمليك لاستضافة ابنة الوزير"
كادت الخادمة أن تنحني وتذهب لتنفذ ما أُمرت به ، لكن صوت سارية أوقفها :
-"توقفي"
ثم نظرت إلى رقية مبتسمة ببرود :
-"هذا الفراش وهذا الحرمليك لن أخطوه بقدمي ، فأنا لست من جواريكِ أيتها الملكة"
ابتسمت باستهزاء واقتربت منها أكثر تهمس بوعيد:
-"أعدك أنكِ ستكونين"
-"وأنا سأستمتع بمشاهدتك تحاولين تحقيق أمنيتك المستحيلة"
أجابتها مصطنعة البراءة في نظراتها وصوتها البارد الذي نطق كل كلمة على حِدى ، فكادت رقية تجيبها لكن يد امتدت ممسكة بساعدها تجذبها للخلف ، وصوت صدح بثبات :
-"مأمون أوصلها للجناح الغربي ، وأخبر الخادمات أن يعدوا لها غرفتها هناك"
دُهشت عندما وجدت إلياس من أزاحها من أمام والدته ، طالعته بتساؤل لكنه لم يبادلها النظرات وظلت عيناه معلقة بوالدته ، فلم تعرْ أيًا منهما اهتمامًا والتفتت لصوت مأمون :
-"هيا بنا من هنا"
ذهبت معه حيث أشار يتقدمها بخطوة واحدة تتبعه متذمرة ، فوجدت تلك المرأة التي صرخت بوجهها منذ قليل "خديجة" تستوقف مأمون قائلة مشيرة إليها :
-"إلى أين تأخذها مأمون؟
ألم تكن مع الملكة رقية حتى تريها أين ستمكث؟"
تأففت سارية تشيح بوجهها للجهة الأخرى ، وسمعت صوته يجيبها بنفاذ صبر :
-"الملك إلياس أمر أن يُعَد لها جناح كامل في الجهة الغربية"
رمقتها بسخط قبل أن تنطلق في طريقها بغضب واندفاع ، فنظرت في أثرها تتأمل فستانها الأحمر يرفرف حولها بسبب الهواء ووشاحها الذي سقط عن خصلاتها الشقراء ، ثم نظرت لمأمون وسألته :
-"هل لي أن أسأل من هذه؟"
أجابها ناظرًا في أثرها :
-"إنها الأميرة خديجة ابنة شقيق الملك تقي الدين وخطيبة الملك إلياس"
لوت شفتيها بسخرية تنظر لخطواتها الحانقة ، وهمهمت بخفوت :
-"بالفعل الطيور على أشكالها تقع"
وبالجهة الأخرى..
وقف إلياس يتطلع إلى والدته بتعبيرات واجمة يشوبها الغموض ، ولم يتحدث إلى أن قطعت هذا الصمت :
-"ما الذي فعلته إلياس؟
لمَ تركتها تذهب؟!
عليها أن تتأدب وتتعلم كيف تعامل من هم أعلى منها شأنًا"
داء العظمة إذا أصاب أحدًا لن يتركه مدى حياته ، فهو كالطاعون إذا تمسك بالجسد لا راحة منه إلا بالموت!
ضحكة ساخرة صدرت منه عندما حالت تلك الأفكار برأسه ، وأشار لوصيفاتها بالابتعاد وكذلك حراسه ، ليقترب منها :
-"دعكِ من أمر الفتاة ، فالأمر برمته لا يهمك لأنكِ لم تنتبهي لما حدث وقيل"
ظهر التوتر والتردد في حدقتيها فالتقطه قبل أن يسمعها :
-"ماذا تقصد؟"
وضع يده خلف ظهره والأخرى يحك بها ذقنه بتفكير ناظرًا لأسفل قبل أن يرفع عينه إليها هامسًا :
-"انتباهك بأكمله كان منصَّب على الشيخ بدر الدين ، كل حديثك عن هروبه وفترة تواجده في القصر"
-"إلياس.. لا تنسَ أنني والدتك فلا تتحدث معي بتلك الطريقة واظهر بعض الاحترام"
هتفت به بقوة تقاطعه وشرارات الشراسة تنطلق منها جعلته يضحك بقوة من غرورها الذي من المستحيل التخلي عنه ، ليقول بعدما هدأت ضحكاته لكن عيناه يشوبها الغموض :
-"لا لم أنسَ أيتها الملكة ، لكن لا تنسِ أنتِ أنني ابنك ودمائك للأسف تسري في عروقي"
ثم تركها في ذهولها المشوب بحزن من كره ابنها لها والذي يزداد كل يوم عن سابقه.
★★★★★★
امتزاج الغضب مع الشراسة يزيد من رغبة الانتقام وحرق كل شيء
كالمعادلة الكيميائية التي يربط متفاعلاتها مع نتائجها علاقة طردية كلما ازداد طرف من المتفاعلات ازدادت كمية النتائج!
دلفت إلى جناحها ، خلعت قلنسوتها فظهر ثوبها بلون الزرع ، وأذرع ضيقة حتى الساعد ثم تتسع على هيئة زهرة اللوتس ، يهبط باتساع ويزين خاصرها حزام من حلقات فضية ملتحمة مع بعضها ويلتحم الطرفين بطرف يهبط الثوب.
اقتلعها من شرودها صوت مأمون من خلفها :
-"وضعتِ نفسك في مأزق لن تستطيعي الخروج منه بسهولة!"
التفتت له تناظره بأعين ضيقة وكادت أن ترد لكنه رفع سبابته في وجهها بأن تصمت حتى ينتهي فاتسعت عيناها بدهشة :
-"سأخبرك بشيء قبل أن أذهب وسأتركك تفكرين به..
هناك قانون في المملكة يحق لملكها امتلاك من يريد من الفتيات وهذا القانون خاص بالشَمال فقط أي أن الجنوب لا يعترف به!"
-"ماذا تريد أن تقول؟
هل تريد إقصائي عن التفكير في أمر أن ملكك ظالم ، جاحد ، لا يمتلك قلبًا"
هتفت بشراسة ابتسم لها مأمون الذي اقترب منها ببطء يطالع عينيها المشتعلتين بعبث :
-"أريد أن أنبهك أن المملكة التي لا يعترف ملكها بقانون وضعه أبوه بنفسه وقصى بحكمه بعيدًا عن هنا لن يفعل ما تتهمينه به..
فما هدفه من اختطاف صديقتك؟"
أولاها ظهره واتجه نحو الباب ليخرج تاركًا إياها واقفة تفكر في حديثه ، لكن استوقفه صراخها الغاضب :
-"اختطفها كي يعيد حبل الوصال مع أخيه بإجباري على المجيء إلى هنا ، فأنا من يريدها ملكك"
-"إذًا فلماذا لم يختطفك أنتِ؟"
ألقاها بسخرية دون النظر إليها يتخللها قهقهة صغيرة غامضة ثم خرج مغلقًا الباب خلفه.
لم تهتم لما قاله ولم تفكر فيه وقد أعماها غضبها وقلقها على مارية.
وضعت قلنسوتها على أريكة من الأرائك المرصوصة بمحيط الغرفة بأكملها ، والتفتت تتأمل ما بها..
فراش كبير في منتصف الغرفة يلتصق بالحائط يحيطه الستائر ، وتوجد شرفة كبيرة تواجه الفراش ومجموعة من المشاعل بمحيط الغرفة ، بجانب النقوش الملكية والثريا الكبيرة في منتصف السقف.
مازال جسدها يشع من الغضب والنفور ، فمن يدخل تلك الغرفة يقسم أن شرارات من النيران تنتشر في الأجواء.
كان لها من الكبرياء ما جعلها بهذا الثبات أمام الجميع مع أن كل شيء بداخلها يرتجف.
كانت تذهب وتجيء في الغرفة كالليث الحبيس ، زمجرتها من حين لآخر بغيظ يجعلك تبتعد من أمامها في تلك اللحظة.
الأفكار في رأسها تدور حول اثنين كل ما تتمناه أن تجعلهما عبرة لمن يعتبر.
أحدهما أحمق مدّعي الفضيلة ينادي بحق الفتيات بمملكته وفي الخفاء يختطف مسكينة كل ذنبها أن حظها العسر أوقعها بين يديه ، لتكون قربانًا للأخرق الآخر الذي يظن أن الدنيا تتحرك بإشارة منه.
صوت فتح الباب أخرجها من غضبها لتصرخ دون أن تكلف خاطرًا و تلتفت لمن دخل..
فمن سيتجرأ على الدخول غير أبيها؟
هتفت بعنفوان يتصاعد في كل لحظها وغضبها يوشك على حرق كل ما حولها :
-"أبي أنا أريد الخروج من هنا ، فأنا أختنق!
وهؤلاء المجرمون ينكرون وجودها لسبب لا يعلمه إلا الله ، فقط أخرجني من هنا وسنجد طريقة أخرى"
التفتت بسرعة وملامحها تتحول للون الأحمر من الغضب والشراسة ، ووقفتها تتأهب للقتال عندما أتاها صوت يتسم بالسخرية ، صاحبه يقف بشكل مائل على جانب الباب مكتفًا ذراعيه يناظرها بتسلية:
-"هل الصغيرة تستنجد بوالدها الآن؟"
لتفقد القدرة على الحديث للحظات عندما علمت ماهية القادم.

