رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل التاسع عشر19 بقلم عفاف شريف
الفصل التاسع عشر
الفصل التاسع عشر
بين الرفض والقدر


❈-❈-❈
رحلَ الحبيبُ وترَكَ خلفَهُ حكاياتٍ لم تكتمل، وأحلامًا باتت كالغبارِ تتلاشى مع أولِ نسمةِ ريح. كيفَ لقلبٍ أحبَّ بصدقٍ أن يتجاهلَ هذا الفراغ؟ كلُّ زاويةٍ تحملُ ذكرى، وكلُّ لحظةٍ تحملُ وجعًا. ليستِ الخسارةُ في الفراقِ فقط، بل في محاولتي أن أعيشَ بعده وكأنَّ شيئًا لم يكن.
ورغمَ الحزنِ، أؤمنُ أنَّ الأيامَ تعلِّمُنا كيفَ نعيدُ ترتيبَ نبضاتِنا، وكيفَ نلملمُ أشلاءَ أرواحِنا. فالحبُّ يبقى درسًا، حتى إنْ لم يكتمل.
تميمُ مدحت العسلي
❈-❈-❈
صدمه غريبةٌ جمدتها،
الهاتفُ على أذنها، لكنها لم تعد هنا.
في لحظةٍ واحدة،
انفصلت عن كل شيء،
عائدةً لوقتٍ مضى،
لوقتٍ غاب عنها كثيرًا،
منذ عامٍ وبضعة أشهر.
الذكريات تتضارب برأسها
يوم كان تميم عريسًا قيدَ الرفض،
مرفوضًا منها، ورافضًا لها.
لا هي أرادته،
ولا هو كان يريدها.
لم يُرد أحدُهما الآخر.
وعافر كلٌّ منهما لإنهاء تلك الزيجة الفاشلة.
وكشريط سينما لفيلمٍ قديم،
مرّ كل شيء أمام عينها،
ببطءٍ سريعٍ لم تفهمه،
لحظةً بلحظة.
أخبارهم لها بخبر الزواج الإجباري.
انهيارها، رفضها، وسخطها.
الاستعدادات المؤلمة والمُهينة لها.
أول لقاء، وأول نظرة.
صدمتها به للوهلة الأولى.
جلسته في منزلهم،
ومقالبها التي لم تنتهِ سوى بنهاية الأمر.
ولن تنسى، لم تقدر حتى أن تنسى.
جلستها هي في منزله وكم كانت مختلفة.
كان المنزل دافئًا،
دافئًا لدرجةٍ بعثت الرجفة في جسدها البارد.
يحاوطه الأمان رغم غربتها فيه.
شعرت بانتماءٍ لم تشعر بقطرةٍ منه في بيتها.
وكم كان هذا مؤلمًا لها.
لن تنسى تلك الليلة.
الأمطار.
البرق والرعد.
ورغم خوفها اللحظي،
كانت آمنةً مطمئنةً بمنزله.
كانت بخير يومها.
بخيرٍ حتى إنها سهرت طول الليل
تُدندن شاعرةً أنها حلّقت خارج قفصها الذهبي.
وأخيرًا، يومٌ كان لها أقرب من أهلها.
يوم علم أنها مجبرة.
وحديثٌ حُفر بداخلها ولم تنسه أبدًا.
حديثٌ كان لها طوق النجاة.
حينما صاح بها بحزم:
"إحنا الاتنين اتجبرنا.
إحنا الاتنين كنا بنحاول ننهي المهزلة دي.
بس محدش فينا نجح،
لأننا كنا معتمدين على رفض بعضنا،
وده أكبر غلطة."
أجابته بتعب:
أنا مبقتش عارفة الصح من الغلط.
إزاي يعملوا فينا كده؟ إزاي؟
تميم بقوة:الصح؟
الصح اللي هنعمله دلوقتي.
وأكمل بحزم: هنرفض.
هنرفض مهما حصل.
هترفضي يا فريدة.
قالها وحثّها عليها.
وقف بجانبها.
لم يتخلَّ عنها.
بسببه هي واجهت.
تمرّدت على ما لا تستحقه.
تمرّدت على سنوات عمرها الضائعة.
تمرّدت وخرجت من سجنها الذهبي.
وكان داعمًا لها رغم أنه لم يعرفها سوى مدةٍ صغيرةٍ جدًا.
ويوم الوداع.
ويوم أمسك يدها مودّعًا إياها.
مغادرًا، كلٌّ منهما نحو طريقه.
غادرت، ولم تدرِ يومها لمَ التفتت خلفها،
لمَ فعلت هذا.
وكان آخر لقاءٍ أبى أن يغادر جزءٌ منها.
حتى دعاؤه لها بآخر مرة،
كان صادقًا.
كان يدعو من قلبه.
تعلم، هي تعلم.
ملمسٌ دافئٌ لامس وجنتها.
رفعت يدها تلمسه،
لتمسح دمعةً سالت،
تبعها الكثير.
دموعٌ غادرت عينيها لم تمنعها،
قبل أن ترمي الهاتف من بين يديها.
جالسة أرضًا.
تضم ركبتيها إلى صدرها،
تبكي وتبكي دون أن تدري ما بها ،
حتى رفعت يدها تكتم صوت شهقات بكائها،
لا ترغب في أن يسمعها عمر
لا تريد سوا ان تظل بمفردها
❈-❈-❈
كم مرَّ؟
لحظة؟ اثنتان؟ ثلاث؟ أربع؟
والجميع يقف يناظر الطبيب بعينٍ متسعة،
يحاول كلٌّ منهم استيعاب ما نطق به للتو.
ماذا قال؟
كأنهم أصيبوا جميعًا بغباءٍ مفاجئ،
يحاول كلٌّ منهم الفهم، ناظرين لبعضهم البعض.
ثم حدث بعدها كل شيء دفعةً واحدة.
شهقة آلاء العالية وهي تغطي وجهها، تبكي بقوة،
وفمها يردد: "الحمد لله."
لم تقدر على الوقوف حتى خانتها ساقاها لتقع أرضًا،
شاهقةً بقوة من شدة بكائها،
تشكر وتحمد الله،
بوجهٍ أحمر متعب ومرهق،
تهز رأسها بسعادة،
غير قادرة على نطق أي شيء سوى:
"الحمد لله، الحمد لله."
وقلبها يخفق بشدة،
شاعرةً أنها الآن تستطيع التنفس.
اخاها تميم قد أفاق، ولله الحمد.
أما حسام،
فلم يجد نفسه سوى وهو يخر ساجدًا أرضًا،
غير قادرٍ على فعل أي شيء في تلك اللحظة
سوى أن يسجد لله شاكراً إياه،
حامدًا وشاكرًا مُرددا: الحمد لله،
بعد الكثير من الرعب والقلق،
والكثير من لحظات اليأس وفقدان الأمل،
كان الله بهم رحيمًا وكريمًا،
وقد أنقذ أخاهم.
أفاق تميم،
وكانت تلك أمنية أيامٍ طويلة للغاية،
أيام مؤلمة للجميع،
ولقلبه المتألم.
فتميم لم يكن يومًا أخًا فقط،
بل أخًا وأبًا وصديقًا،
يحمل بقلبه له الكثير.
والآن، سيظل يحمد الله دائمًا
على رحمته بهم واستجابته لدعائهم."
أما أنس،
فقد ضم ملك الباكية إلى صدره،
متشبثةً به بقوة،
تضم جنينها، ويضمها هو إلى صدره بحنانٍ وعطف،
متحملًا ثقل جسدها الواهن،
مهدهدًا إياها،
هامسًا في أذنها بعطف:
"بس، بس يا حبيبتي،
بس، متعيطيش.
الحمد لله، الحمد لله قدر ولطف.
تميم بخير،
تميم بخير يا ملك،
وهيبقى بألف خير.
ثقي في الله،
ثقي أن ربنا مستحيل يتخلى عنّا،
وأن ربنا رحيم أوي بعباده.
تميم بخير،
وإنتِ كمان هتبقي بخير إن شاء الله.
بلاش زعل عشان خاطري.
كله هيكون تمام وبخير، أنا واثق.
رددها لها ولنفسه قبلها،
والابتسامة لا تغادر فمه،
ودمعة كادت أن تغادر، فتركها.
فهي خرجت لمن هو بمقام أخيه.
والحمد لله على نجاته.
تنهيدةٌ مرتاحة من قلبٍ مثقلٍ بالكثير
خرجت من فم أحمد،
وهو يُلقي بجسده على المقعد،
ماسحًا وجهه بارتياح.
فأخيرًا، لله الحمد،
أفاق صديقه وأخيه.
كم دعا في صلاته بتلك الدعوة،
وجُسِّدت أمامه في تلك اللحظة.
وسيصبح بألف خير.
وضع أمير الهاتف في جيب بنطاله،
بعد أن رفض مكالمة العمل الواردة،
وهو يتمتم بالحمد هو الآخر،
حامدًا الله،
شاعرًا بالخجل من نفسه لوهلةٍ من انشغاله بتلك الطريقة.
إلا أنه نفض عن عقله أي أفكار،
وهو يفكر بشيءٍ واحد
يكفيه أنه اطمأن على تميم،
يكفي هذا الآن.
أما مدحت،
فقد كان كما هو،
متسمرًا،
لا يتحرك،
ولا ينطق.
يشاهد الجميع،
لكنه لم يقدر،
لم يقدر على الارتياح.
خائفًا، بل مرتعبًا.
بقلبه خوفٌ كبيرٌ ورعب.
يريد التصديق.
يريد أن يرى صغيره بخير.
لكنه خائف، خائف.
ظل يناظر الطبيب المبتسم بهدوء
بعينين خائفتين مرتعبتين،
تترجاه بألمٍ شديد
أن يُخبره بالصدق.
أن يُخبره أن ابنه أصبح بخير،
وأن الوضع في تحسن.
حتى أومأ له الطبيب مرةً أخرى،
بتأكيدٍ قائلاً بطمأنينة:اطمئن، ربنا كبير.
ربنا استجاب دعاءكم كلكم.
والحمد لله، تميم فاق،
والوضع أحسن كثير.
وهيكون في تحسن أكثر إن شاء الله مع المتابعة.
اطمئن، الحمد لله، الصعب عدا.
أكدها له بصدق،
فناظره مدحت بعيونٍ دامعة بشدة،
وهو يندفع يحتضنه بقوة،
يبكي كطفلٍ صغير،
ودموعه تغرق وجهه،
مرددًا بصوتٍ مبحوح وواهن:
اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد.
الحمد لله.
❈-❈-❈
عودة إلى وقت سابق
تحديدًا بغرفة العناية المركزة.
بدأ وعيه يعود ببطء تدريجيًا، كمن يحاول أن يصعد بصعوبة من أعماق بحر مظلم نحو سطح النجاة، بر الأمان وسط ظلمة لا نهاية لها.
لا يفهم ما يحدث، شاعِرًا بتيه غريب،
يحاول التحرك محاولًا فهم ما يحدث معه،
لكن حتى حركته في تلك اللحظة كانت صعبة وثقيلة للغاية.
أصوات وتحركات حوله بعيدة مشوشة،
كظلال تدور حوله في بحوره المظلمة.
في البداية، لم يكن قادرًا على القيام بأي شيء
أو الشعور بجسده حتى.
يحاول فتح عينيه، لكن ثقل جفونه كان أقوى،
وهو يشعر وكأنها تحمل جبالًا فوقها تمنعها بقوة وحزم.
محاولة تلو الأخرى.
أخيرًا، نجح.
لمحة خفيفة من الضوء اخترقت عتمته،
مزجت بين الراحة والضيق وعدم الفهم.
شيئًا فشيئًا،
بدأ الألم يتسرب إليه لأول وهلة، لم يعلم ماذا أصابه،
والألم يتصاعد في أكثر من مكان،
يوقظ حواسه واحدة تلو الأخرى بكل قسوة.
يحاول أن يفتح عينيه لينظر ماذا به،
لكن قوة الضوء وألمه تغلب عليه،
وهو يعود يغلقهما بيأس،
شاعِرًا أن الألم يزداد قسوة.
تحديدًا أن الأصوات حوله تقترب أكثر وأكثر.
وفجأة، شعر بيدٍ تفتح عينيه برفق،
وضوء قوي يخترق ظلمته بفعل أحدهم.
وسؤال هامس متسائل:
تميم، سامعني يا تميم؟
وتكررت الأسئلة محاولين الحصول على إجابة،
أي إجابة أو رد فعل.
ومن داخله أراد أن يجيب، أن يتشبث بذلك الخيط الرفيع بينه وبين العالم الخارجي،
لكن الكلمات رفضت أن تخرج.
اكتفى بأنين خافت متألم،
كأنه إعلان ضعيف عن عودته أخيرًا.
كأنه ما زال غارقًا في بحور التيه،
لا هو قادر على ترك نفسه ليغوص بها
ولا هو قادر على التشبث بطوق نجاة،
ينتشله بقوة.
مع كل لحظة تمر،
بدأ وكأنه يجر ذاكرته من بين الأنقاض،
يحاول أن يتذكر، أن يفهم، أن ينطق،
والكثير من البشر ملتفين حوله،
يفحصه هذا ويحادثه ذاك،
ووعيه يتماسك ببطء،
غير قادر على فعل أي شيء،
لكن في قلبه سؤال ثقيل يضغط عليه:
ما الذي حدث؟ ولماذا أنا هنا؟
ولم يدري أن تلك الأسئلة
إجابتها لديه هو فقط.
❈-❈-❈
كان يغمض عينيه بتعبٍ وألمٍ شديد.
مرّت ساعة منذ عاد إليه وعيه.
فحصه الطبيب أكثر من مرة،
حتى أنه كان أكثر من طبيب تناوبون على فحصه،
والتأكد من أنه تخطى مرحلة الخطر بالفعل.
تم فحص جروحه بحرص،
كانت أربع جروح في أماكن مختلفة،
أربع طعنات متفرقة.
سقط بعدها لأيام فاقدًا للوعي.
كم يومًا مرّ؟
لم يدرك،
حتى سألهم بضعف،
وكانت الإجابة:
أربعة أيام راقدًا لا يدرك ما حوله.
كل ما حدث يمر أمام عينيه،
تنهيدة متعبة وعقل غير راغب ورافض لتذكر الأمر،
لا يريد أبدًا، لا يريد.
تبعها صوت الطبيب يخرجه من ذكرياته القاسية،
يخبره بهدوء أنه سيتم نقله إلى غرفة عادية.
أومأ له بصمت، غير قادر على الحديث.
تحرّك الفراش به بالفعل،
يخرج من غرفة العناية بحرصٍ شديد.
فتح الباب،
وفتح هو عينيه،
ليقابله المشهد الآتي
أباه يقف بضعفٍ يناظره بعيونٍ دامعة،
يضمه حسام خشية أن يسقط في أي لحظة،
وبجانبه أنس يضم حبيبته ملك الباكية،
أحمد يناظره بابتسامة،
وبجانبه أمير،
وأخيرًا آلاء الواقفة تستند على الباب من الخارج،
تضع يدها على فمها تبكي.
خرج فراشه من الغرفة، وقبل أن يلتف الجميع حوله،
أخبرهم الطبيب بهدوء،
أنه سيتم نقله،
وحينها سيكون متاحًا لهم الوجود حوله،
لكن بحرص،
فالإصابة ليست بهيّنة،
وإن كان قد تخطى مرحلة الخطر.
ابتعد الجميع إلا آلاء التي اقتربت،
تمسك بيده،
شدّ على يدها بضعف،
قبل أن يغمض عينيه سامحًا لنفسه بالراحة.
فهو غير قادر أبدًا على الاستيقاظ.
وتحرّك الفراش إلى غرفته،
يتبعه الجميع،
هو بقلبٍ يصرخ بصمت،
يمزقه الألم دون أن ينطق،
وكأن كل صرخة عالقة بين الضلوع.
وهم بقلوبٍ راضية وشاكرة لله،
انه بخيرٍ أمام أعينهم.
❈-❈-❈
ساعات بسيطة، وأشرقت شمس يوم جديد.
تم نقل تميم إلى غرفة خاصة، لينام بضع ساعات بتعب وإرهاق بفعل المسكنات القوية، غير قادر على تحمل الألم.
ظل الجميع بالخارج إلى حين السماح لهم بالدخول، كما كانوا في الأيام السابقة.
كل منهم ينام على مقعد، إلا آلاء وملك في غرفة صغيرة، لظروف حمل ملك الغير المناسبة للنوم على تلك المقاعد.
وظلوا هكذا منتظرين أن تطمئن قلوبهم.
لذا قرر حسام أن يتناول الجميع الفطور، وليس فقط تلك اللقمات التي كانوا يتناولونها بسبب عدم وجود شهية للأكل.
الآن الوضع تغير، فالحمد لله تم الاطمئنان عليه.
اقترب منهم يحمل بين يديه عدة حقائب، ليوزع على كل منهم وجبة وعلبة عصير قبل أن يدخلوا لتميم.
تناول أحمد الطعام بهدوء، وأخذ منه أمير العلبة دون أي انتباه، وعينه تراقب الهاتف بتركيز، يدون عليه شيئًا بسرعة.
هز حسام رأسه بيأس وهو يقول بتهكم:
يا ابني، الموبايل مش هيطير! كل لقمة الأول، مش هيحصل حاجة لو سبته العشر دقايق دول يعني. سيبه يا أمير عشان تعرف تاكل.
لكن الآخر لم يهتم، وهز رأسه نافيًا، متابعًا ما يفعله.
ليضرب حسام كفًا على الآخر، شاعرًا أن العمل قد جعل أخاه يجن، بل يكاد يكون ينام والهاتف بين أحضانه.
قالها لنفسه بسخرية وهو يسير نحو ملك.
آه، تلك الباكية... كانت تبكي بين أحضان أنس بفرحة.
ليقف أمامها ويردف بمشاكسة:
في إيه ماما؟ أنتو تزعلوا تعيطوا، تفرحوا تعيطوا، إيه الهم ده؟! يا بت، فُكي كده! ما تميم بقى زي الفل أهو، ولله الحمد.
ويلا بقى عشان تأكلي... جايبلك شوية سندوتشات إنما إيه، ما شاء الله، ريحتها مفحفحة... شامه؟
قالها وهو يقرب منها الأكياس بمشاكسة.
إلا أنها هزت رأسها بوهن، وهي تقول:
لا، مش قادرة... حاسة أي حاجة هاكلها هجيب كل اللي في معدتي.
نظر نحو أنس الذي بادله النظر بيأس، فملك هكذا منذ أفاق تميم، تبكي قليلًا، ثم تصمت، ثم تعود لتبكي، وكأن أعصابها قد توقفت عن العمل، والتراكمات جعلتها في حالة من الانهيار.
هبط على ركبتيه أمامها وهو يمسك يدها يربت عليها قائلًا برفق:
مش هينفع يا ملك، مينفعش اللي بيحصل ده أبدًا. إنتِ يادوب بتاكلي أي حاجة تعيشك. مينفعش أبدًا... ابنك مسؤول منك، ولازم تاكلي كويس عشانك وعشانه. صح يا أنس؟
قالها وهو ينظر لزوج أختها.
نظرها أنس وهو يمسح على حجابها قائلًا بضيق حقيقي:
حسام عنده حق يا ملك. أنا مقدر أكيد خوفك، بس حقيقي وشك أصفر أوي. معقول هتدخلي لتميم كده؟ هيتعب أكتر ما هو تعبان. لازم تاكلي كده عشان وشك يرجع للونه الطبيعي. هتقلقي تميم وهو لسه يدوب بيفوق. لو سمحتي اسمعي الكلام.
وأكمل بهدوء وهو يمد يده لحسام:هات يا حسام، أنا هاكلها.
أعطاه حسام العلبة وعلبة أخرى قائلًا بتأكيد:
وتاكل معاها، أبوس راسك، انت كمان.
وأكمل ساخرًا:
فكري بس، ما تاكليش كده وأنا هجيب البت شمس تجيبك من شعرك.
قالها وهو يتوجه لوالده القادم من الحمام، أجلسه وجلس بجانبه يحاول إطعامه، لكن مدحت رفض قائلًا:
مش جعان يا حسام، عايز أطمن على أخوك يا ابني. شوف بس هيدخلونا إمتى، أنا قلبي خلاص تعب، وعايز أخده في حضني.
اقترب منه أكثر قائلًا برفق:
وعشان كده يحصل لازم كلنا نكون بخير يا بابا. إزاي عايزين تشوفوه كويس وكل واحد فيكم داخل وشه أصفر كده؟
بابا، متنساش إنك لازم تاخد الدوا، وعشان تاخده لازم تاكل كويس. لو سمحت، تميم محتاجلنا كلنا جنبه، وعشان ده يحصل لازم نكون أقوياء. فلو سمحت بقى.
وفتح علبة الطعام يخرج له منها شطيرة، يمدها نحو فمه بإصرار، ليأخذها مدحت باستسلام تحت إصراره.
وينتقل حسام للشخص التالي والأخير، آلاء.
كانت تقف بجوار نافذة في آخر الرواق بعيدًا عنهم، كأنها منفصلة عنهم تمامًا، كأنها في عالم آخر.
حسنًا... آلاء ليست بخير.
كلهم لم يكونوا بخير.
لكن تلك... بها شيء، كان الحمل زاد فوق قلبها المتعب.
❈-❈-❈
كانت تقف تتطلع إلى السماء بشرود وعيون خاوية، تراقب ورقة شجر صغيرة تطير هنا وهناك، لتحط في النهاية أرضًا، فيدهسها المارون دون أي اهتمام.
أيعقل أنها أصبحت مثلها؟ كورقة شجر تطير في كل مكان، تحط هنا قليلًا ثم تقذفها الرياح، فتطير هناك متخبطة بين الأغصان، لا حول لها ولا قوة، حتى تسقط تحت أقدام من لا يراها ولا يقدر وجودها.
لكنها لا تريد هذا.
لا تريد أن تبدو بهذا الضعف، حتى وإن كان لنفسها فقط.
يكفيها ،
كم بكت بكاءً مريرًا حتى جفت عيناها كأرض قاحلة.
لم تعد تريد البكاء أبدًا.
تريد أن ترى كل شيء من زاوية أخرى.
الأمور تتحسن مع الوقت، ينير الله طريقها، متى تخلى عنها؟
لم يتخلَّ أبدًا.
تميم أصبح بخير، والفضل لله.
سيكون أفضل، وهي بجانبه.
لن تتركه ولن تتخلى عنه.
ستضمد جراح قلبه المكسور.
وعند تلك الخاطرة، انطفأت عيناها أكثر، وتساءلت:
متى تضمد جراح قلبها هي؟
تحارب نفسها.
تريد وبشدة أن تفيق من تلك الغفلة.
تريد أن ترى ذاتها وأطفالها.
هم وعائلتها الأهم بالنسبة لها في تلك اللحظة.
يكفيها من أضاعت.
يكفي سنوات عمرها المفقودة.
فقدت الكثير، أكثر مما يجب.
انتفضت على يد توضع على ذراعها، لتجد حسام يناظرها بابتسامة، قائلًا برفق:
اتخضيتي كده ليه؟
هو في حد يتجرأ يلمسك يا لولو غيرنا؟
رسمت على وجهها ابتسامة باهتة وهي تربت على يده، ليمسك يديها متسائلًا بهدوء:
مالك يا آلاء؟
لم تجد إجابة لسؤاله.
حتى وإن وجدت، لن تجيب.
فلم تجد نفسها سوى وهي تندفع لتدس نفسها بين أحضانه.
تحتاج الأمان.
تريد أن تحظى بدفئه، دفء سيغادرها قريبًا بعودة كل منهم لحياته.
❈-❈-❈
تحركت فريدة ببطء وجسد متعب بعد أن استمعت لصوت الباب يغلق، دليلًا على مغادرة عمر.
تتذكر ما حدث معها أمس،
فبعد وصلة بكاء طويلة، أخذت حمامًا دافئًا وخرجت لتنام في فراشها بجانبه دون أن تنبس ببنت شفة.
فقط تسطحت وأعطته ظهرها، متظاهرة بالنوم.
حتى غفى هو واستمعت لصوت أنفاسه المنتظمة.
التفتت تنظر إليه في نومه، وهي تفكر.
أصبحت لا تفهم عمر، وللصدق أصبحت لا تفهم نفسها.
أصبحوا في علاقة معقدة، كل منهم يشهر سيفه في وجه الآخر، كأنهم في حرب.
هي تحاول، وهو يحاول، لكن لا يرى محاولاتها.
بكل بساطة يتجاهلها.
وأخيرًا موضوع العمل، ماذا يضره في أن تعمل وتشغل وقتها بدلاً من أن تظل وجهها في وجه الحائط طوال اليوم؟
عمر لا يفهمها، ولا يفهم مشاعرها أبدًا، وذلك يؤذي قلبها.
يؤذيها بشدة.
انقلبت على ظهرها تطالع السقف بعينيها الجامدتين.
ولم تعلم كم ظلت، حتى استمعت إلى صوت منبه عمر.
أغمضت عينيها متظاهرة بالنوم.
ورغم أنه كان يسير في الغرفة ويصدر العديد من الأصوات، إلا أنها لم يكن لها القدرة أبدًا أن تخبره حتى بتحية الصباح.
وظلت هكذا، حتى استمعت إلى صوت انغلاق الباب.
أطلقت تنهيدة متعبة وهي تتحرك ببطء، تجلس على الفراش، تتمسك به بقوة.
عندما فجأتها نوبة دوار مفاجئة، لتظل كما هي، متهدلة الكتفين بوجه شاحب وباهت، كليمونة صفراء.
لا تقدر على الجلوس بطريقة صحيحة حتى.
كان الدوار يلفها منذ فترة، يسبب إرهاقها والضغط النفسي المستمر.
صحتها لم تعد بخير.
حياتها، طعامها، كل شيء اختلف.
جسدها لا يتقبل ما يحدث معها.
ترنحت قليلاً، تحاول أخذ أنفاسها المختنقة.
فلم تشعر بنفسها سوى وهي تميل فجأة للأمام، تفرغ ما في معدتها بقوة وضعف، غير قادرة حتى علي الركض نحو المرحاض.
فظلت محلها تفرغ ما في معدتها بقوة، وعينها تذرف الدموع بالم.
❈-❈-❈
ظلّت محلّها تنظر للأرض المتسخة بعيون مرهقة، غير قادرة على الصمود.
تشعر بالانهيار والتعب المفرط.
تحركت ببطء، تحاول أن توازن نفسها لكي لا تسقط أرضًا، تستند على الحائط حتى خرجت من الغرفة إلى المرحاض.
غسلت وجهها مرة تلو أخرى، ووقفت تنظر لنفسها المتعبة قبل أن تجلس على حافة المغطس محاولة الاتزان على قدر الإمكان.
ذلك الدوار أصبح مقرفًا بالنسبة لها، ومرهقًا بشدة، تخشى أن تسقط فجأة مرتطمة بأي شيء يقتلها ولا يشعر بها أحد.
لم تدري كم مرَّ من الوقت، تقريبًا نصف ساعة، وهي في محلّها لا تتحرك.
حتى شعرت بقدرتها على الوقوف.
وقفت ببطء، خائفة من السقوط.
وما إن وقفت باعتدال حتى تحركت للمطبخ لتجلب كوبًا من العصير، ليعود الدم إلى وجهها الشاحب والمرهق.
لكن صوت لوزة من داخل الغرفة تخربش على الباب تريد الخروج جعلها تنظر نحوها بتعب مضاعف.
لكنها لم تذهب لها.
لن تقدر على إخراجها الآن، وأرضية الغرفة متسخة بتلك الطريقة.
ستزيد الطين ابتلالًا.
انتهت من كوبها سريعًا، وعادت للمطبخ مرة أخرى لتجلب قماشة نظيفة ومناديل وأدوات التنظيف لتنظف تلك الفوضى.
وقفت على باب الغرفة تنظر للأرض المتسخة.
تكاد تفرغ معدتها للمرة الثانية.
نظرت للأرض ولنفسها، تشعر بأن كل شيء خاطئ، خاطئ بشدة.
اقتربت وجثت على ركبتيها لتنظفها بقرف شديد.
نعم، يخصها، لكنها لا تتحمل.
شاعرة بالاشمئزاز من المنظر والرائحة.
وبدأت في التنظيف مرة بعد مرة.
وما إن انتهت حتى كومتها لتحملها بإرهاق، وألقت بها في المغطس، تغمرها بالكثير من الماء والمنظفات.
وما إن شعرت بأنها إلى حد ما أصبحت نظيفة، ملأت المغطس ماءً وألقت عليها المزيد من المنظفات لعلها تخفف من حدة الرائحة الكريهة.
وخرجت سريعًا عائدة للغرفة، تمسحها وتعطر المكان.
شاعرة بالراحة فقط لكونها انتهت من تلك المهمة الصعبة للغاية، الصعبة عليها هي،
أصعب من قدرتها في تلك اللحظة.
❈-❈-❈
وقفت أمام المرآة تضم المئزر أكثر عليها، قبل أن ترفع يدها المرتعشة تمسح البخار المتراكم على المرآة.
كل مسحة تكشف جزءًا منها وجهها المتعب والشاحب، عينها التي بدت وكأنها تروي قصة كاملة حزينة مليئة بالألم.
نظرت لنفسها بصمت، كأنها لم تعد تعلم ما بها، ما بقلبها، قبل أن تشيح بوجهها سريعًا، غير قادرة على مواجهة صورتها أكثر.
خرجت تفتح للوزة الغرفة أولاً، لتناظرها بضيق، قبل أن تتجه ببطء نحو الأريكة تنام عليها منتظرة طعامها، فهي قد جاعت.
بيت مقرف وظالم، يحبسوها طول الليل ويتأخرون عليها في طعام الفطور.
مقرفين غير مقدرين أنها حامل.
حامل = الكثير من الطعام، الكثير من الدلال.
لا تقدير ولا احترام.
هزت فريدة رأسها بيأس، تتجه نحو المطبخ تجلب الطعام المحضر لها،
ووضعته لها أرضًا بجانب الماء.
توجهت له لوزة بجوع شديد،
وتوجهت هي نحو الأريكة ملقية بنفسها عليها بتعب.
أمسكت هاتفها، تناظر عدد المكالمات الفائتة من سارة.
بالتأكيد قلقت عليها، لكنها فعليًا لم تشعر بنفسها لا بالأمس ولا اليوم.
لذا قررت مهاتفتها، لكن الأخرى رفضت الاتصال.
وقبل أن تهاتفها مرة أخرى، وجدتها تتصل بها مكالمة مرئية.
أجابتها بهدوء، لتسمع شهقة الأخرى وهي تهمس بصدمة: "يا نهار أبيض، وشك أصفر وعينك حمراء كده ليه يا بنتي؟
ابتسمت لها ابتسامة باهتة دون رد، قبل أن تأخذ أنفاسها تتساءل همسًا:
تميم... أنا مقدرتش أشوف الأخبار. مقدرتش حقيقي. حاسة أعصابي سابت خالص. هو كويس؟
ناظرتها سارة بحزن، وهي تؤكد لها قائلة بخفوت:
أنا متابعة المواقع من امبارح. نزل خبر أنه تخطى مرحلة الخطر.
الحقيقة مقدرش أأكدلكِ إنه صح ولا لا.
أنتِ عارفة، السوشيال ميديا مفهاش خبر موثوق.
أومأت لها بصمت، لتتابع قائلة:
محدش يعرف تفاصيل عن اللي حصل.
منتظرين يفوق عشان يعرفوا إيه اللي حصل.
واكملت:
"فريدة..."
نظرت لها، وهي تهمس بحذر:
أنتِ ليه اترعبتي على تميم بالطريقة دي؟
يعني كنت عارفة إنك هتزعلي، بس منظرك ومنظر عينك الحمره دم...
كانك مبطلتش عياط طول الليل. خلاني مش قادرة مسألكِش.
تنهدت فريدة لوهلة قبل أن تجيب:
هقولك. بصي يا سارة، يمكن الكلام ده سمعتي جزء منه ده لأنك كنتِ شاهدة على اللي حصل.
لكن الموضوع ده كان بالنسبة لي صفحة. أنا مش حابة أتكلم بخصوصها.
بس خليني أقولك إن أولًا كده... أنا أصلاً مش بستحمل الأخبار دي، وحقيقي بتعب نفسيًا لما بسمع أي خبر وحش.
معرفش السبب، يمكن عشان أنا شخص حساس، بس ده كان بيخليني دايمًا أبعد عن السوشيال ميديا،
لأني مش حابة أشوف حاجة توجع قلبي. ده أولًا.
ثانيًا بقي لأنه تميم وأنا أعرفه، الوجع والضغط كان أكبر.
تميم ساب في حياتي أثر كبير أوي، وحاجات مهمة ليّ أنا كفريدة.
يمكن لو كان في حياة حد غيري، مكنش إتأثر زيي.
بس الوضع هنا مختلف، أنا مختلفة عن ناس كتير، وده اللي محدش بيفهمه.
أنا غير، مشاعري غير، حياتي غير، كل حاجة مختلفة، ومحدش للأسف بيقدر اختلافنا كبشر.
أنتِ عارفة أنا كنت عايشة إزاي، قد إيه كنت تعيسة بسببهم.
تميم عمل الحاجة اللي محدش غيره قدر يعملها.
حتى أنا، مهما حاولت أعمل، كنت بفشل فشل زريع.
إني أخرج من الحفرة دي، هو كان السبب.
جه في أكثر وقت كنت فيه بتعرض لأكثر أنواع الضغط من بابي ومامي.
كنت خلاص على حافة الانهيار، وكل حاجة كانت سودة في وشي.
لولا تميم ولولا أنه شخص محترم، أنا كان زماني متجوزة بشخص غصب عني.
لأني معرفش الوضع كان هيوصل لإيه.
بس هو وقف جنبي.
أنا عمري ما هقدر أنسى اليوم.
تميم خلاني أكسر جبل كان فوق قلبي وروحي من سنين طويلة.
كسرها هو في أيام.
تميم شجعني إني أخد حقي، إني أعيش زي ما كنت بحلم طالما أنا ماشية صح،
طالما مبعملتش حاجة غلط.
ساب جوايا كتير أوي، أكتر مما حد ممكن يتخيل.
والخبر... الخبر خلاني حاسّة إن قلبي وجعني.
حسيت لوهلة روحي بتتسحب، ودموعي مش قادرة تقف.
حسيت إني مش قادرة أتقبل أن يكون حصل له حاجة.
تميم شخص كويس أوي.
تميم...
وصمتت.
فتحت سارة فمها تنوي أن تسأل شيئًا، كادت أن تتراجع عنه،
إلا أنها سألت دون أن تقدر على منع نفسها:
"فريدة، أنتِ...
قاطعتها فريدة تهز رأسها برفض، قائلة همسًا خافتًا:
"لا... لا يا سارة."
إلا أن سارة تابعت بإصرار:
"فريدة..."
أغمضت الأخرى عينيها مردفة بمرارة:
"مينفعش... مينفعش أبدًا اللي بتفكري فيه ده.
مينفعش أبدًا يا سارة، أنا بحب عمر.
بحبه أوي.
وتميم كان صفحة في حياتي ، ملهاش علاقه بالحب ، بس عمري ما هنساها.
لأنها كانت السبب إني قدرت أكون أنا.
أكون فريدة وبس.
❈-❈-❈
كان مسطحًا على فراشه بعد أن خضع للعديد من الفحوصات للتأكد أنه بخير.
اقتربت منه الممرضة تعدل له الوسادة وتسأله بهدوء: محتاج أي حاجة؟
هز رأسه نافيًا.
ابتسمت له، متجهة نحو الباب تفتحه ليدخل بعدها مدحت وأخواته وأحمد ما عدا أمير.
دخلوا الغرفة واحدًا تلو الآخر.
كان يناظر الجميع والجميع يناظره، الابتسامة ترتسم على وجوههم والدموع تملىء عيونهم.
كان أول من اقترب منه أبيه الغالي، يقف بجانب الفراش يضمه لصدره دون حديث، دون أي شيء، فقط يضمه.
ابتسم له تميم بضعف، رفع يده ليقبلها قائلاً برفق: "اطمن يا حبيبي، أنا كويس."
وتابع مشاكسا بتعب وصوت واهن ضعيف: "زي القط بسبع أرواح، ولا كنت عايز تخلص مني، قاعد على قلبك يا حج."
ابتسم مدحت بضعف قائلاً بدعاء: "العمر كله يا رب يا حبيبي، ربنا يحميك ويحفظك."
اقترب حسام يردد بمزاح: "الله الله، فاق تميم وكل الجو، لا ازعل، وأجيب ناس تزعل."
ناظره مدحت بقرف قبل أن يقول بتأكيد: "اخبط راسك في أتخن حيطه، في أربعة أهو، اختار اللي تحب."
ضحك الجميع، شاعرين بتبدد الحزن من الأجواء.
تحركت ملك من بين أحضان أنس، تخطو ببطء تتمسك ببطنها المنتفخة.
وما إن اقتربت حتى انفجرت في بكاء عنيف، جعل حسام يقول بمزاح: "يا بت يا بت، كله عياط عياط، ارزعيه حضن يلا."
قالها لتندفع هي دون تردد، تحط فوق صدره بعنف.
تجعدت ملامح تميم بألم شديد، يكتم تأوهًا متألمًا إثر ضغطها على جرحه بثقلها، لكنه لم يتكلم وهو يضمها برفق.
ليقترب أنس سريعًا، يبعدها برفق عن صدر تميم قائلاً برفق: "براحة بس يا ملك."
ليتابع حسام بمزاح: "الواد يحبه عيني، لسه مفقش، مش حمل وزنك."
فجأة تبدلت ملامح ملك لتناظره بشر، قائلة بعصبية: "قصدك إيه؟ إني تخنت؟
كتم أنس ضحكته، لتلتف له قائلة بعيون يملؤها الغضب: "بجد يا أنس؟
اتسعت عينا أنس بشدة وهو يشير لحسام قائلاً بسرعة: "أنا مالي أنا! روحي اضربي أخوكي."
ولم تتردد فعلاً، لتقرب من حسام سريعًا تنهال عليه بالضربات، وهو يركض وهي خلفه، وتتعالى حولهم ضحكات الجميع.
حتى تميم الواهن بفراشه.
اقترب أحمد يهمس له بهدوء، يربت على يده: "حمد الله على السلامة، الحمد لله إنك بخير يا حبيبي."
ابتسم له تميم بهدوء، وعيناه تراقب آلاء الواقفة بسكون تام.
مد يده يدعوها للاقتراب، لكنها لم تقترب.
ناظرها بتساؤل، إلا أنها همست بضعف: "مكنتش هسامحك أبدًا لو كان حصلك حاجة. إزاي متاخدش بالك من نفسك؟
ابتسم لها قائلاً بهمس: "أديكي جيتي عشان تخدي بالك مني، مش هتيجي بقي في حضني؟ وحشاني يا أم العيال."
ركضت نحوه تبكي وتلقي بنفسها بين أحضانه، ليتأوه بألم ووجع شديد للمرة الثانية.
يضمها لصدره ويقبل حجابها بحنان.
قبل أن يسارع حسام برفعها قائلاً بتعب: "يا بنات، إنتو فكرين نفسكم عصافير؟ الله أكبر عليكم، كل واحدة قد ال..."
وقبل أن يكمل، لكمته آلاء بقوة قائلة بضيق: "احترم نفسك."
ناظرها بقرف قائلاً بهمس: "صبرك عليا، هعمل من ودانك قطايف، بس اصبر لما نروح احترامًا للموقف."
قاطع مزاحهم دخول أمير قائلاً باعتذار وحرج: "آسف جدًا، جتني مكالمة شغل مهمة قوي."
واقتراب من تميم قائلاً بهدوء: "الف سلامة يا تميم، الحمد لله إنك قمت بالسلامة."
ابتسم له الآخر يومئ برأسه بهدوء، وتعب اشتد عليه.
تحرك مدحت، يجلس على الفراش أمامه، قبل أن يردف بتساؤل حازم: "إيه اللي حصل يا تميم؟ مين اللي عمل كده فيك؟ احكيلي كل اللي حصل بالتفاصيل."
عم المكان هدوء، والجميع يترقب ما سيقال في تلك اللحظة.
إلا أنه قبل أن ينطق بأي شيء، دلفت الممرضة قائلة بهدوء: "بعتذر منكم، بس لازم الكل يخرج، عشان أستاذ تميم محتاج يرتاح. وكمان نبص ونطمئن على الجروح قبل ما البوليس يوصل في أي لحظة.
قالتها بتأكيد، مشيرة لحضور الشرطة.
لتنهد مدحت بضيق قائلاً بهدوء وإرهاق: "حسام خد أخواتك وأحمد واخرجوا إنتو يلا لو سمحتم. أنا دقائق وهحصلكم على طول، مش هتاخر."
نظرت ملك لوالدها بحزن، يدفعها أنس، وآلاء يدفعها حسام، وأمير الذي سعد لديه مكالمة مهمة للغاية.
غادروا واحدًا تلو الآخر.
وظل هو جالسًا في مكانه ينظر أرضًا.
رفع رأسه، يناظر تميم بعيون حانية قائلاً برفق وتأكيد: "إنت كويس يا حبيبي؟"
أومأ له تميم همسًا بتأكيد: "الحمد لله، عمر الشقي بقي يا حج."
قالها ممزاحًا إياه بوهن.
زفر مدحت قبل أن يكمل بحزم: "أنا هنا، مش همشي ولا هتحرك غير وإنت معايا."
ابتسم له تميم يربت على يده بوهن.
ليشدد الآخر على يده بحنان وحب، قبل أن يتحرك مغادرًا الغرفة، وخلفه تميم ينظر في أثره بإرهاق شديد، خشية من ردة فعل الجميع وتحديدًا على ما سيروي لهم بعد قليل.
❈-❈-❈
كان يجلس على مكتبه يراجع بعض الأعمال الموكلَة له، قبل أن يشرد في آخر حديث مع روفيدا. كم مر عليه؟ لم يعد يعد تلك الأيام، لكنه أصبح يخشاها بشدة.
عودة للوقت السابق
في مكتب روفيدا
منذ عدة أيام
كان يناظرها بعينين متسعتين، مذهولًا من شدة جرأتها. تريده بكل بساطة وجرأة، تريده. كيف واتتها الجرأة على النطق بها أصلًا؟
انتفض مبتعدًا بحدة عن يدها التي كانت على صدره، والذي كان يعلو ويهبط بعنف.
تناظره هي بتحدٍّ وابتسامة كبيرة واثقة، قبل أن تقترب هي تلك الخطوات القليلة التي ابتعدت عنها.
تلتف حوله، تتلمسه، وهو ينفض يدها.
لتقول بفم ممطوط: متستقلش بذكائي يا عمر، عايز تقولي إنك اتفجئت ومكنتش تعرف؟
مستحيل أصدق إنك بالغباء ده، أنت أذكى من كده. أنت كنت عارف بس عامل نفسك مش عارف.
صمت ولم يرد، لم يجد ما يقوله. هي حقيرة، نعم، لكنه يعلم أنها تقول الحقيقة. بل كل الحقيقة.
كان يعلم أنها تريده، لكن لم يتوقع أن تفصح عن ذلك.
أكملت دورانها حوله، قبل أن تقف أخيرًا وتواجهه قائلة بحزم:
"أنت ليا يا عمر. حبيت أو لا؟
وأكملت همسًا خافتًا: المكتب ده بقي بتاعي خلاص. يعني إذا حابب تفضل هنا وتاكل عيش، يبقى تكون معايا.
تراجع خطوة للخلف، يشعر بقلبه يتضخم.
لتكمل هي متابعة:
وإذا لا، براحتك. لكن لا هتلاقي شغل عندي ولا عند غيري. هخليك تقعد في بيتكم. وعد مني أعمل كده. وانت عارف أني أقدر، وأكثر من كده كمان.
وتابعت بابتسامة شريرة محذرة:
هدِّيك فرصة لآخر الشهر. شفت أنا طيبة إزاي. معاك لآخر شهر. وتجيلي لوحدك، ومن نفسك، راضي وموافق. بس خليني أقولك، أنا مش هصبر عليك كتير.
تركتته يغادر، وغادر بالفعل.
أفاق من شروده، لا يصدق ما حدث يومها. ألقي بالقلم على المكتب، ينظر للأ شيء.
روفيدا تتركه في حاله تمامًا، كأنها تعطيه مساحة قبل احتلاله.
أنه محاصر، ولا سبيل للنجاة من نيرانها،
سوى بإلقاء نفسه في نيران أخرى،
أشد قسوة.
❈-❈-❈
كان يجلس يُناظر الضابط أمامه بهدوء، والذي أردف بهدوء: "أستاذ تميم، حمد الله على السلامة أولًا.
رد عليه قائلًا بصوت خافت متعب: "الله يسلمك، شكرًا.
ليتابع الضابط حديثه قائلاً بهدوء: إحنا محتاجين ناخد إفادتك عشان نقدر نفتح محضر رسمي باللي حصل يوم الأحد الموافق ..........
المدعو ...... لاقاك على الطريق قريب من مقابر ... غارق في دمك.
ولما شافك وقعت فاقد للوعي ، وقتها نقلك لمستشفى ....... وبعدها والدك نقلك هنا.
المكان مفهوش كاميرات، محدش شاف اللي حصل، ولا في أي شهود.
أنت الوحيد اللي تقدر تقول إيه اللي حصل ومين اللي عمل كده.
تنهد تميم وهو يرفع يده يُسمح وجهه بتعب، متذكرًا ما حدث يوم الحادثة، يوم سقط غارقًا في دمائه.
يومها انتهى متأخرًا من الجلوس بجانب قبر أمه، لم يُدرك أنه تأخر أكثر من اللازم، وبكل غباء، لم يأتي بسيارته حتى.
والخروج من هنا في تلك الساعة كان بحاجة إلى سيارة، أي سيارة.
أمسك هاتفه يهاتف أحمد ليأتي له، لكن لم يجد أي إشارة أبدًا، وبالتالي سيسير لمسافة جيدة قبل أن يلتقط هاتفه أي إشارة.
وفعلاً خرج من المقابر يسير ببطء، والظلام يُحاوطه إلا من بعض أنوار خافتة تسمح له برؤية بسيطة للغاية يكاد يعتمد عليها، ليسير دون أن يسقط.
لكن ما حدث بعدها كان في ثوانٍ محدودة.
فمن حيث لا يدري، وجد أحدهم يكبله من الخلف وآخر أمامه.
انتفض يبعده بقسوة ويدفع الآخر ليسقط أرضًا.
ولم يدري وهو يتحرك ليركض من أين ظهر فجأة حبل غليظ ليتعثر به ويسقط أرضًا على وجهه متأوهًا بالألم.
ألقي بنفسه للخلف واقفًا بسرعة ليظهر أمامه رجلين اخرين من حيث لا يدري.
كلهم ملثمين يلتفون حوله كدائرة لن تسمح بفراره بتلك السهولة التي يظنها.
يناظروه بعين يملؤها الشر والإجرام.
صاح به أحدهم: "طلع كل اللي معاك يلا."
ناظرهم بضيق وهو يضع يده ببطء في جيبه مخرجًا المحفظة، ليسقطها أرضًا بهدوء.
وما إن أمال أحدهم نفسه ليلتقطها، حتى عاجله بساقه ملقيًا إياه أرضًا.
هجم عليه الثلاثة، أطاح أحدهم
ليكبله اثنان بقوة.
يصارعهم هو بعنف شديد.
وقف الواقع أرضًا يقترب منه بغل شديد.
ليعاجله تميم بأن رفع ساقيه بسرعة يدفعه بقوة في صدره، مائلًا برأسه للأمام بسرعة ليرجعها أسرع، مطيحًا وجه أحد المكبلين له.
وما إن فقد قيده لثوانٍ، حتى استدار ينطح الآخر بقوة وعنف.
راكضًا بسرعة، لا يدري إلا أين، وأصوات الأرجل الراكضة خلفه تزداد قربًا.
وفجأة من حيث لا يدري، ظهر أمامه أحدهم، ولم يدرك سوى وذلك الملثم يشهر أمامه مدية كبيرة.
يغرزها بقوة في بطنه.
اتسعت عيناه بشدة من شدة الألم، وهو يشعر بالنصل يخترقه.
فلم يجد نفسه سوى وهو يرفع يده بقوة ليلكمه بسرعة لم يستوعبها الآخر.
وقبل أن يفعل أي شيء آخر، شعر بنصل أخر يخترق ظهره.
حاول أن يخرج المدية أو أن يلتفت للخلف، لكنه لم يجد الوقت لذلك.
قبل أن يعاجله أحدهم بلكمة أطاحت به أرضًا، ويقترب منه ليتفحص جيوبه ليأخذ كل ما فيها، كل شيء.
كان يعاني من ألم، إلا أنه كان مصممًا على النجاة.
فلم يجد نفسه سوى وهو يطوحه بساقه وكاد أن يستقيم.
يركض مرة أخرى.
وما إن وقف يترنح بألم، إلا ووجد نصلًا آخر يخترقه مرة أخرى.
ولم يكتفِ بل أخرجها وطعنه أخرى بقوة، متعمدًا أن تكون في أماكن متفرقة حتى يشعره بالألم أكثر وأكثر.
مستمتعًا بأصوات تأوهات المتألم وعجزه.
حتى أبعده عنه آخر يصرخ فيه بقوة: "يا غبي يا غبي، سيبه هيموت في إيدك، إيه اللي أنت عملته ده!"
واكمل موبخًا الآخرين: "بسرعة، بسرعة، خدوا كل حاجة بسرعة."
وبالفعل أخذوا كل شيء.
وتركوه ظنًا منهم أنه مات من شدة الطعنات.
أما هو فظل في مكانه يئن بالألم، يشعر أنه انتهى بالفعل، ولا يدري من أين أتى بتلك القوة وهو يردد بضعف: "يا رب، يا رب."
يتحرك زاحفًا بالألم حتى اقترب من بداية الطريق.
وما إن رأى سيارة حتى استقام بضعف وألم شديد.
وبعدما توقفت السيارة فجأة، خرج صاحبها راكضًا تجاهه حتى سقط فاقدًا الوعي.
لا يعي أي شيء سوى أنه يتألم، يتألم بشدة.
ولم يكن فقط ألم جسده، بل وقلبه.
أفاق من ذكرياته الأليمة وهو ينتهي من ذكر كل التفاصيل.
سأله الضابط بهدوء: "أنت شاكك أن الحادثة بفعل فاعل؟"
ناظره تميم بصمت تام، قبل أن ينطق بكلمة واحدة متعبة: "لا.
الموضوع كان واضحًا أنه سرقة بس."
ناظَرهُ الضَّابطُ بتفَحُّصٍ شديدٍ،
قبل أن يقف قائلاً: "حمد لله على السَّلامة مرَّةً ثانيةً.
إن شاء الله في حد هيجي عشان ياخد منك مواصفات المتهمين.
وأتمنى لو عندك أي معلومات تبلغنا بيها عشان نوصلهم في أسرع وقت."
"حمد لله على السلامة."
وغادر.
وظلَّ تميم يتطلَّع في أثره بشرود،
قبل أن يغمض عينيه،
شاعِرًا أنه بحاجةٍ للنوم،
الكثير من النوم،
والابتعاد عن البشر.
يكفيه لليوم.
❈-❈-❈
اجتمع الجميع مرةً أخرى في غرفته،
بعد أن نام لعدة ساعاتٍ، شاعِرًا بالكثير من الإجهاد والتعب الشديد.
لم يتبقي الكثير على موعد انتهاء الزيارة،
لذا أصروا على الجلوس بجانبة،
يضحكونَ ويتشاغبونَ، محاولين التخفيف من الوضع.
لكنه لم يكن معهم أبدًا.
كان بعيدًا،
بعيدًا كل البعد عنهم.
كان هناك،
كان بعقله وقلبه وكل جوارحه،
عند قطعة السكر،
قطعة السكر التي ذابت بقلب غيره.
قطعة السكر التي لم يُقدَّر له أن تكون له.
تنهيدةٌ متألمةٌ خرجت من قلبه،
قاطعها بعدها صوت طرقاتٍ على الباب.
لم يرفع رأسه ولم يهتم،
لكن الصمت الذي حلَّ في لحظةٍ واحدةٍ
أثار فضوله.
رفع عيناه يتطلع أمامه،
لتتسع عيناه،
وهو يرى تلك الواقفة عند الباب، تناظره بابتسامةٍ كبيرةٍ.
قائلةً بهدوءٍ وخجلٍ مصطنعٍ، وهي تطالع تميم والجميع يطالعها: "هاي."
ولم تكن سوى قريبةً قطعة السكر،
آسيا.
وما زاد ذهوله وارتفاع حاجبه أكثر
هو اقتراب أخته ملك منها، محتضنةً إياها،
قائلةً بابتسامةٍ ودودةٍ: "تعالي يا آسيا."
وعندما لاحظت صمت الجميع،
أكملت: "دي آسيا،
اتعرفت عليها في المستشفى هنا يا تميم،
وبقينا صحاب."