اخر الروايات

رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل الثامن عشر18 بقلم عفاف شريف

رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) الفصل الثامن عشر18 بقلم عفاف شريف




الفصل الثامن عشر
بين الرفض والقدر
🦋عريس قيد الرفض 🦋
❈-❈-❈
أيا صدمةَ القدر، ماذا تريدي
في الصمتِ ترتعشُ الملامح،
وأحملُ وجعي على أكتافي الثقيلة.
لا صوتَ يواسي صدى ارتجافي،
ولا يدٌ تُمسكُ بي في تلك اللحظة الهزيلة.
أحاول أن أجدني،
لكنني أضعتُ الطريق.
كأن روحي تبخرت،
وتلاشت في عتمة العميق.
هل يمكن أن يولد من الحطامِ سلام؟
أم أنني سأبقى سجينة اللام؟
كل ما أريده الآن،
هو أن تهدأ أجنحة هذا الارتجاف
❈-❈-❈
دلفَ للمستشفى يسيرُ بسرعةٍ وتعجل، خلفه حور تحمل الصغيرةَ الغافيةَ بين ذراعيها، بعد أن أصرّت وبشدة أن تذهبَ معه.
حاولَ معها أن تعودَ هي للمنزل، أو حتى إلى منزل والديها، لكنها رفضت وبشدة.
نهرها، لكنها لم تهتم.
لن تتركه أبدًا في تلك اللحظة.
فليوبخها لاحقًا، لكنها لن تسمحَ له أن يُبعدَها وهو في أمسِّ الحاجةِ إليها.
تلك مهمتُها أن تظلَّ بجانبه، تسانده وتساعده.
هي بحاجةٍ أن تكونَ بجانبه، ولن تُنكرَ أيضًا خوفها مما حدث مع تميم.
تخافُ ولا تفهمُ ما حدث.
تلك المرةُ الأولى التي يتعرضُ أحدُ أفرادِ الأسرةِ لمثلِ تلك الأمور، ورعبُها عليه يجعلها تريدُ التمسكَ به.
هي لن تُخاطرَ به أبدًا... أبدًا.
ضمّت الصغيرةَ أكثر وهي تُسرعُ خطواتها خلفه، وما إن وصلوا للطابق المنشود حتى بَطُؤت خطواته وهو يرى والده يقفُ هناك في نهايةِ الممر، يستندُ على زجاجِ إحدى الغرف.
وهن متعبٌ ومرهق، يستندُ بجسدِه على الحائطِ غير قادرٍ على الوقوف.
كان زاد فوق عمره عمرًا، والتعبُ قد بلغ أشدّه.
بَطُؤَت خطواتُها هي الأخرى حتى توقفت تمامًا وهي ترى حسامَ يركضُ نحو والده، الذي ما إن استمع إلى صوته حتى تحرك هو الآخر بسرعةٍ رغم وَهنِه، وحسامُ يُلقي بنفسه بين أحضانه، والآخرُ يضمه باشتياقٍ، سعيدًا أنه حضر أخيرًا.
دمعت عيناها وهي تراقبُهم بشفقة.
لطالما كانت علاقةُ عائلةِ حسامَ ببعضهم ذات طابعٍ مميزٍ وفريدٍ لا تراه كل يوم، تحديدًا مميزةً بالنسبة لها.
كانت دافئةً، مريحةً، داعمين لبعضهم البعض مهما حدث.
يلتفون مسرعين، تراهم في علاقةٍ تمنّت أن تحظى هي بها يومًا ما مع عائلتها، تمنّت أن يُحاوطَ الدفء قلوبهم.
تنهدت، وعادت الابتسامةُ لوجهها وهي تراه يلتفتُ ينظرُ لها، يمدُّ يدَه يدعوها للاقتراب.
وما إن اقتربت حتى قبّلها حماها من جبهتها، قائلًا بهدوءٍ وترحيب، وهو يُقبّلُ يدَ الصغيرةِ النائمة بحنانٍ وحبٍّ فطري:
ـ "حمدًلله على السلامةِ يا حور.
ـ نوّرتِ يا حبيبتي."
أهدته ابتسامةً سعيدةً وهي تربتُ على يده مواسيةً إياه، قبل أن يقولَ بحزمٍ لحسام:
ـ "إزاي تجيبها هنا يا حسام؟
ـ يلا روحها وبعدين تعالِ.
ـ أو ارتاح إنت كمان.
ـ شكلك مرهق، إنتو يدوب من المطار على هنا يا ابني."
أمسك حسامُ يدَه يربت عليها قائلًا بتأكيدٍ ورفق:
ـ "أنا جيت ومش هَمشي، ما تشيلش همّي."
وتابعَ بضيقٍ ناظرًا إلى حور:
ـ "وبالنسبة لحور، فللأسف مش راضية ومصرة تفضل هنا."
وتابعَ بقلقٍ وترقب:
ـ "تميم يا بابا... حصل له إيه؟
ـ إيه اللي حصل؟ ووضعه إيه دلوقتي؟
ـ طمّني بالله عليك.
ـ أنا حاسس إني مش فاهم حاجة."
طالعة مدحت بملامحَ متعبةٍ ومرهقة، قبل أن يزفرَ بعمقٍ شاعرًا بالألمِ لا يُفارقه.
وهو يحكي له سريعًا ما توصّل له، وتابع قائلًا:
اللي فهمته إنه في راجل لَقاه على الطريق غرقان في دمه.
وأول ما شافه وقع.
ومن رحمة ربنا إنه كان ابن حلال وأنقذه وجابه على المستشفى، وهناك هم لحقوه.
ده من ستر ورحمة ربنا بينا بس.
وقتها لما فضلت أرن عليه، قالوا لي، بس من غير تفاصيل.
ولما وصلت لقيت أحمد هناك.
وعرفت إنه عرف هو كمان.
وأصريت أنقله هنا.
شدد حسام على خصلاته بغضبٍ شديدٍ وهو يردفُ بعصبيةٍ وغضبٍ أعمى: عرفوا مين عمل كده؟
هزّ مدحت رأسه نافيًا، قائلًا بضيق:
الشرطة مش هتقدر تعرف اللي حصل غير لما تميم يفوق إن شاء الله.
المنطقة اللي كان فيها عند المقابر، وهناك فعليًا مفيش ناس، ولا كاميرات، ولا أي حاجة خالص.
ولولا ستر ربنا إن الشخص ده عدّى من هناك، كان زمانه..."
وامتنع عن المتابعة وهو يستغفرُ ربه، ويسمح بيده سريعًا دمعةً أبى أن يحررها.
اقترب منه حسامُ يضمه إلى صدره بألمٍ وضيق، قائلًا برفق:
وحّد الله.
تميم هيكون كويس.
أنا واثق.
ربنا مش هيخذلنا أبدًا يا بابا.
صدقني ربنا كريم أوي.
وزي ما بعت له حد في الوقت المناسب، هيقوم بالسلامة وسطنا، أنا متأكد."
قالها وهو يطالعُ حور التي تبكي بصمتٍ متأثرةً بما يحدث.
هزّ مدحت رأسه داعيًا من قلبه، وهو يقول بتساؤل:
حد من إخواتك عرف اللي حصل؟
نظر حسام إلى ساعته قائلًا بتأكيد:
محدش عرف غير ملك.
أنا لسه هبلغ الكل دلوقتي.
أنا بس قولت أعرف أنس اللي حصل، عشان يقدر يسيطر على ملك.
إنت عارف وضعها، مش هتستحمل اللي حصل أبدًا."
هزّ مدحت رأسه بحزنٍ على صغيرته الأخرى، قبل أن يتابعَ حسام قائلًا لوالده:
تعال إنت بس يا حبيبي اقعد.
ـوشّك أصفر أوي.
أومأ له مدحت بتعبٍ حقيقي، مستسلمًا ليد ولده مُجلسًا إياه براحةٍ على أحد المقاعد، ومشيرًا لحور أن تجلسَ بجانبه.
خلع سترته مدثرًا الصغيرةَ شمس خوفًا عليها من أن تبرد، وهو يربت على وجنتيها، ماسحًا دموعها، سائلًا إياها بهمسٍ للمرة الخامسة تقريبًا:
يا حور، اسمعي الكلام بقى.
هخلّي حد من الحرس يروحك إنتي وشمس.
أنا مش حابب قعدتك هنا.
إنتي شايفة الوضع، وكمان شمس نايمة على رجلك ومحتاجة تنام براحة أكثر.
هزت رأسها نافيةً بإصرارٍ، وهي تقول بتأكيد:
مش همشي يا حسام.
أنا هفضل هنا، جنبك وجنب عمو."
هزّ رأسه مستاءً بشدة.
لا يريدها أن تظل هكذا هنا، تحتاج هي والصغيرة للراحة.
لكن لم يُنكر بداخله أنه سعيد.
هو بحاجةٍ إليها، بحاجة أن تظل بجانبه.
وجودها بحد ذاته يُريح قلبه المتعب ويعطيه القوة.
وهو بحاجة أن يكون قويًا لتَمرَّ تلك المحنة بسلام.
ستمرُّ برحمةِ الله بكل تأكيد.
❈-❈-❈
أخذ نفسًا عميقًا وهو يلتفت، يخطو ببطء بخطوات ثقيلة نحو ما لا يريد أن يري، وكأن كل خطوة تزداد ثقلًا على صدره، كأنه يسير على جمر لا يتحمله.
في بداية الأمر كان مقررًا أنه لا يريد أن يرى تميم بتلك الهيئة.
كيف له أن يراه؟
تميم شقيقه القوي، ذاك السند الذي لا يميل.
كيف؟
كيف له أن يراه بفراش المستشفى؟
لكنه لم يقدر، لم يقدر أبدًا على أن يكون أمامه ولا يراه.
يريد أن يراه ليطمئن قلبه.
وقف أخيرًا أمام الزجاج، بعيون غائمة غائرة.
عندما يتعلق الموضوع بأحبته، تتلاشى قواه.
تتلاشى أفكاره وآماله.
كل شيء يتلاشى، ولا شيء يظل سوى الخوف.
الخوف من القادم، الخوف من كل شيء، وكل لحظة، يظل بها تميم بتلك الغرفة.
رفع يده بتوتر شديد يمسح وجهه، شاعرًا بالهواء ينسحب من حوله.
وبكل ثانية يتطلع به فيخفض عيناه، لا يريد أن يراه بهذا الوضع.
كيف له أن يتحمل؟
كيف له؟
تنهد بقلب مثقل بالكثير، وهو يشعر بيد توضع على كتفه.
التفت ينظر خلفه، وهو يرى أحمد يربت على كتفه مواسيًا إياه.
نقل نظره لأخيه مرة أخرى، ولسانه لا يكف عن الدعاء.
وقلب يشاركه الرهبة والرعب، قلب يخشى، قلب لا يريد سوى أن يفتح عيناه.
قلب لا يريد سوى أن يراه بخير، وحينها، سيحاسب الجميع.
ولن يتهاون أبدًا.
❈-❈-❈
«مشاعر الحب لا يوجد ما هو أجمل منها،
جميلة بل رائعة،
كزهرة بديعة الجمال وسط صحراء جرداء،
نبتت في مكان لا تنتمي له.
وحبها هكذا،
أحبت من لا يستحق،
أحبت ذكرًا،
ذكر لا يليق أن يحصل على لقب "رجل" حتى،
ذكر تمنت لو تحرق صفحته من كتابها،
ولتبدأ من جديد.
فبدونه تصبح الحياة أسهل.
هي امرأة قوية،
ستسقط،
ستبكي قليلاً،
وربما ستتألم،
لكن ليس لأجله أبدًا،
بل لأجل مشاعرها المهدرة
وقلبها المتألم.
يمكن أن تقول بكل صدق
إن حبها له يومًا ما
لم يكن سوى مرض،
مرض خبيث لن يزول إلا باستئصاله
ونزعه من حياتها.
حينها ستحيا
كما تمنت،
ستحيا قوية أبية، لأجلها وصغارها.»
انتهت من أداء صلاتها وهي تجلس بهدوء،
تسبح محاولة أن تخرج نفسها من هالة الغضب والخوف التي تحيطها منذ علمت ما حدث.
تميم مختفي،
ما زال مختفي،
تلك وحدها أخبار تجعلها خائفة،
لكن واثقة أنه بخير،
سيعود،
وحينها ستأخذه في أحضانها
وتضمه وتزيح عنه كل ما يؤلم قلبه.
نظرت حولها بشرود للمنزل المقلوب رأسًا على عقب،
لا يظل مرتبًا أكثر من خمس وعشرون دقيقة،
هذا إن أكملهم حتى.
حركت رأسها بيأس،
لا أمل مع هؤلاء.
مسحت وجهها وهي تفكر،
نام الصغار
واحد تلو الآخر،
يستيقظ أحدهم في المنتصف،
فتظل معه حتى ينام، ويظلوا هكذا يتبادلون الدوريات فيما بينهم،
هذا ينام، تلك تستيقظ،
وتظل هي تدور حولهم وحول نفسها،
إلى ما لا نهاية،
دائرة مغلقة،
لن تخرج منها تقريبًا سوى يوم زفافهم.
ضحكت بسخرية،
لا، حتى حينها لن تخرج.
أطلقت آهًا خافتة متعبة،
وهي تحرك رأسها يمينًا ويسارًا.
من رحمة الله بها في هذا اليوم،
وفي تلك اللحظة من اللحظات النادرة للغاية،
نام الجميع.
وكم كانت بحاجة حقًا أن تصلي بهدوء شديد،
أن تقف بين يدي الله،
تبكي وتشكو،
تدعو بقلب مثقل بالكثير والكثير.
تريد أن تظل هكذا تصلي وتصلي
حتى يرتاح قلبها المتعب،
حتى تجد السكينة التي تنشدها.
مالت بجسدها حتى نامت على سجادة الصلاة بهدوء وراحة.
هنا ملجأها وأمانها.
مسحت على المصلاة الناعمة وهي تريح رأسها،
مغمضة عينيها،
سامحة لنفسها
بقليل من الهدوء والراحة،
قليل من السكون،
حتى غفت تمامًا.
غفت في أكثر الأماكن راحة لها.
غفت وبداخلها دعاء أن يريح الله قلبها
❈-❈-❈
صوت مزعج اخترق نومتها الهادئة،
لتفزعها وتوقظها،
تفتح عينيها بقلق، تنظر حولها بعدم فهم وتشوش.
نظرت بتشوش وعيون غائرة وشحوب خفيف،
وهي تعتدل تفرك وجهها بإرهاق شديد.
اعتدلت حتى جلست، مراقبة الواقف أمامها،
يلتقط بضع مقرمشات للصغار،
يلقيهم في فمه، يناظرها ببرود هادئ.
حسنًا كالعادة،
يخوض معها حربًا باردة،
حربًا غبية يعشقها هو،
يستفزها
ليخرج أسوأ ما فيها.
ناظرها بابتسامة
بعثت بداخلها نيران.
اشتعلت عيناها
حتى كادت أن تحرقه حيًا من شدة غضبها وغيظها.
أخذت نفسًا عميقًا
قبل أن تقف، تطوي المصلاة،
تضعها على ذراع المقعد،
وبهدوء شديد ينافي جنونها الحالي.
كانت تتوجه ببطئ نحو غرفة التوأمين.
وضعت القرآن بصوت أعلى قليلاً من الطبيعي
دون أن يفزعهم،
واقتربت تقبل الصغيرتين واحدة تلو الأخرى.
واتجهت تفعل المثل نحو الصغيرين عز وتميم.
أغلقت الباب،
والتفتت تناظره بعين تحمل الكثير من المشاعر:
استياء، احتقار، غضب، حزن.
قبل أن تقول بتأكيد حازم غير قابل للجدال:
"أنا مسافرة مصر
دلوقتي على أول طيارة."
لم تغفل عن اتساع عيني رامي،
يليه احمرار طفيف غزا وجهه نتيجة لغضب نما في تلك اللحظة،
وصدره يعلو ويهبط دليلاً أنها أوصلته إلى مرحلة الانفجار.
حسنا يستحق
قبل أن تتابع قائلة بتعب: تميم أخويا
بيمر بمشكلة،
وأنا لازم أكون جنبه.
وهكون.
وإذا حابب تمنعني،
حاول.
ووقتها رد فعلي مش هيعجبك أبدًا.
صدقني يا رامي، أنا عملت كثير أوي عشانك.
كثير أوي أكثر مما تتخيل.
بس زي ما عملت عشانك،
أقدر دلوقتي
أعمل ضدك.
برقت عيناه بذهول من حديثها،
وقبل أن يقترب منها ويصيح بغضب،
رفعت يديها بحزم وحسم:
"عندك،
صوتك ميعلاش.
ولادنا،
تو تو، قصدي
ولادي نيمين.
وأنا مش هسمحلك تفزعهم بسبب صوتك وزعيقك اللي ملوش لازمة.
أنا خدت القرار لوحدي عشان ملقتش جوزي جنبي لما كنت محتاجاه.
لما احتجته، ملقتهوش.
ولما فضلت أرن عليه اليوم كله،
قرر يتجاهل أني ممكن أكون في مصيبة
أو حد من ولادي حصله حاجة.
وتابعت بابتسامة مريرة: حبيت أقولك يا رامي،
إنك لا تستحق أن تكون أب.
يمكن مش أول مرة أقولهالك،
بس بجد أنت بتحب تثبتلي كل يوم
أني صح،
وأني كنت بعافر في لعبة خسرانة.
والتفتت تدلف الغرفة حيث صغارها،
شاعرة بالمرارة،
مرارة كونها أخطأت الاختيار.
❈-❈-❈
«قلب خائف، متألم وحائر،
يغوص كل يوم في خوف والم جديد،
تتألم وتصمت،
وخوفها الدائم يطفئ روحها، دون أن تدري.»
تسللت من بين ذراعيه بعدما تأكدت من نومه العميق.
ظلت تطالعه لعدة دقائق،
محتارة.
الحقيقة هي أنها لم تعد تفهم علاقتها بعمر.
علاقة تتعقد يومًا بعد يوم.
هي تعافر وهو يعافر،
لكن والغريب،
إنهما لا يلتقيان في نقطة واحدة،
كأنهما خطين مستقيمين غير مُقدر لهما التلاقي يومًا.
ماذا تفعل هي؟ تحاول،
لكن أصبح الوضع أثقل مما هي تتحمل.
البيت، المسؤولية،
المطبخ وعقده،
الطبخ ومقادير الزيت والزبده،
ونصف ملعقة ملح.
وإن زادت، تضيع الطبخة.
ماذا تفعل هي؟ لا تحب هذا.
وأيضًا لا تنسى،
ولا تظن أنها ستنسى
مشهده وفي أحضانه أخرى.
كلما تذكرت ما حدث،
تندلع بداخلها نيران لا تقدر على إطفائها.
وتود لو تمسك بأول شيء تطاله يدها
وتقذفه على رأسه ورأس تلك...
ماذا كان اسمها؟
لا تتذكر.
لا يهم.
المهم أنها سيئة،
وهي لم تحبها.
وما زاد ألمها وإحساسها بإهدار كرامتها،
رغبته أن تذهب مرة أخرى.
هي لا تريد،
لكن لأجله ستذهب.
ستذهب مجبرة لأجله، للأسف.
حركت يدها تمسد على خصلاته بحيرة،
أبعدتها سريعًا وهي تشعر بتحركه،
قبل أن تترك الفراش.
تسير ببطء وحرص شديد،
تناظره بصمت قبل أن تغادر الغرفة،
محاولة إصلاح ما أفسدته
السيدة لوزة.
وبداخلها تدعو عليها،
قطة بعقل مجرم.
❈-❈-❈
وقفت في منتصف الغرفة تتطلع حولها بيأس.
لوزة تمثل طفلًا صغيرًا شقيًا يسعى في المنزل فسادًا.
التفتت تنظر إلى لوزة الجالسة على الأريكة تشاهد التلفاز وهي تتمتم موبخة:
شوفتي البيت بقى عامل إزاي؟ خليكي مكانك يا لوزة لحد ما اخلص.
ناظرتها لوزة لوهلة قبل أن تعيد وجهها للتلفاز.
هزت فريدة رأسها بيأس.
حسنًا، الغباء منها تحادث قطة.
إنها قطة، لا امرأة حامل تشاركها منزلها.
رغم أنها تتصرف بأريحية لا تفعلها هي شخصيًا.
تركت غرفة المعيشة في الوقت الحالي، ودلفت إلى غرفة نومهم.
نظرت للفراش المبعثر بضيق.
حسنًا، هي لا يرضيها ما حدث.
من اليوم لن تدلف لوزة إلى غرفة نومهم، احترامًا لرغبة عمر.
وقفت تنظر إلى الغرفة بيأس، تحتاج للكثير من العمل.
اليوم ستكون المرة الأولى كتنظيف فعلي للمنزل، وهي لا تحب تلك الأمور.
لكن لأجله، لأجله ستعتاد عليها.
وكانت أصعب ساعتين مرت بهما.
نظفت الفراش من أثر لوزة، وكان الأمر حقًا مرهقًا، فلوزة تترك أثرها في كل مكان بكل قلة أدب.
بدلت الشراشف بصعوبة، هذا الأمر لا تحب أن تأخذ فيه نصف ساعة لكي يتم ضبطه.
مسحت المكان وأزالت الغبار، وضعت ملابسه في سلة الغسيل، ووضعت الباقي في الخزانة.
رتبت طاولة الزينة، وأخيرًا اللمسات الأخيرة.
نثرت المعطر في الغرفة، فتحت النافذة، ووضعت أيضًا الهاتف علي القرآن.
وأخيرًا، وقفت تناظر الغرفة بإرهاق حقيقي.
مسحت وجهها بتعب قبل أن تلتفت إلى لوزة الواقفة خارج الغرفة تنوي الدخول.
اقتربت منها تحملها وهي تداعبها برفق قائلة برفق:
"سامحيني يا لوزة، بس من النهاردة ممنوع تدخلي الأوضة دي.
وأغلقت الضوء والباب، متوجهة للخارج تحملها
وهي تفكر أن أمامها الكثير قبل استيقاظ عمر.
❈-❈-❈
أربع ساعات من العمل الشاق وغير المعتاد لها.
كل دقيقة تنظر لنفسها بقرف،ملابسها المتسخة بفعل التراب وجهها المتعرق ترغب في التوقف.
هي لا تريد هذا.
هي لا تعرف أصلاً.
تبحث على مواقع التواصل عن كل شيء.
أبسط الأشياء لا تعرفها.
لكن تظل تخبر نفسها أن ذلك هو الطبيعي.
تلك الأمور، التنظيف، إعداد الطعام، الذهاب إلى السوق.
هذا الطبيعي بالنسبة لأي زوجة تجاه منزلها.
ومن الطبيعي أن تعتاد هي أيضًا.
لكنها لا تستطيع، وتتساءل دائمًا: هل هي فقط بحاجة للوقت؟
أم أن الأمر لا يناسبها وإن توفر الوقت؟
❈-❈-❈
خرجت من الحمام تجفف خصلاتها بشرود بعد أن حصلت على حمام دافئ ومريح بعد كل هذا العناء.
تنظيف المنزل لم تكن مهمة سهلة أبدًا.
نظرت للشقة برضا قبل أن تنتبه لوزة الواقفة أمامها لتسألها قائلة برفق وهي تنحني تلاطفها:
جعانة صح؟ تعالي نحضرلك أكل قبل ما ندخل ننام.
وسارت نحو المطبخ تطالع فطور عمر المجهز له خصيصًا مغطى بعيدًا عن متناول فم لوزة.
جهزت لها هي وجبة كبيرة، ووضعت لها طبق الماء أيضًا.
جلست بجانبها تراقبها بحنان وعطف منتظرة أن تنتهي.
لوزة ونيستها في هذا المنزل.
لكنها تريد أن تأخذ خطوات أخرى لتشعر هي بالاستقرار.
❈-❈-❈
حملت لوزة متوجهة نحو الأريكة.
لم يتبقَّ سوى ساعة واحدة على استيقاظ عمر.
إذا نامت بالداخل، ربما لن تشعر به.
فلتظل هنا حتى تضع له الفطور وتريه كيف أصبح المنزل نظيفًا.
مسدت على لوزة، وهي تفكر هل ستظل هكذا، بهذا المنزل فقط؟
ليلًا ونهارًا وحدها.
هي تريد شيئًا آخر.
تريد بناء منزل وليس مجرد بيت.
منزل دافئ يحاوطها بدفئه، يحتضن قلبها المتعب.
وغفت وكان هذا اخر ما تفكر به.
❈-❈-❈
استيقظت على شعور بحركة حولها.
فتحت عينيها تنظر حولها
لتجد يتحرك بسرعة هنا وهناك.
اعتدلت سريعًا ناظرة للساعة لتتسع عينيها وهي ترى تأخره ثلاث ساعات عن موعد استيقاظه!
تحركت سريعًا خلفه وهي تراه يدس محفظته في جيب بنطاله بملامح جامدة مبهمة لتسأله بخفوت قلق من مظهره:
عمر راحت عليك نومه ازاي؟
وهنا لم تدري من أين أتى انفجاره بها.
وهو يهتف بعصبية وضيق ملتفًا يناظرها بغضب:
"طبعًا راحت عليا نومه! عشان الهانم بدل ما تبقى نايمة جمبي تاخد بالها مني، رايحة نايمة جمب القطة بتاعتها!
أصلاً خلاص القطة بقت أهم مني، أهم من أكلي، وراحتي، ونومتي، وشغلي!"
بهتت ملامحها تحت وطأة هجومه الغير صحيح.
هي ظلت طوال الليل تنظف حتى غفت متعبة، ويقف هو أمامها يحاسبها على شيء ليست من ضمن مسؤولياتها.
كانت ستصمت منزوية، إلا أنها لم تجد نفسها سوى وهي تصيح به هي الأخرى قائلة بخيبة أمل:
"صحيانك مسؤوليتك، وانت عارف ده.
أنا ولا مرة صحيتك.
فلو راحت عليك نومه واتأخرت ده مش ذنبي أبدًا.
وبالنسبة إني مش يهتم بيك ولا بالبيت ولا بحياتك، فلو انت شايف كده، يبقى بجد يا خسارة تعبي في المحاولة دائمًا عشانك.
عارف أنا نمت بره ليه؟
نمت تعبانة ومرهقة بعد ما خلصت تنظيف الشقة كلها عشان تصحي تكون مبسوط وسعيد.
وبعد ما حضرتلك فطار، وجهزته وقلت بدل ما أنام جوه ومحسش بيك، أنام هنا عشان أفطرك.
بص، أنا عملت إيه وبص، أنت بتعمل إيه؟"
أخذت نفسًا عميقًا للغاية صامتة لدقيقة قبل أن ترفع وجهها تطالع ملامحه المتجهمة متابعة بإرهاق:
"بص يا عمر، أنا مش ملاك.
أنا بس إنسانة بتحاول تعافر في حياة صعبة عليها مش بلومك، بس أنا قلتلك كتير أنا محتاجة وقت.
وقت عشان أتعود على حياة مختلفة تمامًا عن حياتي.
حياة صعبة بالنسبة لي.
أنت دائمًا بتقلل من محاولاتي اللي بالنسبالي مجهود كبير أنت مش قادر تقدره.
أنا تعبت يا عمر من إني أفهمك.
أنا مقدرة اللي أنت بتعمله، مقدرة تضحيتك بوجود لوزة وعدم حبك ليها، وبكل الطرق بحاول أرضيك.
مقدرة أنك مش زي أي زوج طبيعي بيرجع يلاقي البيت نظيف والأكل زي ما بيحب.
مقدرة كل ده، لكن أنا مش زي أي زوجة.
مش إنقاص مني ولا منهم، لكن أنا مختلفة عنهم وهم مختلفين عني.
أنا كنت عايشة بطريقة مختلفة، مختلفه تمامًا.
وبحاول أفهمك.
أنت وعدتني.
وعدتني أنك مستحيل تحسسني أني أقل من حد.
مستحيل تجرحني.
هتقف جمبي وتساعدني واحدة واحدة.
بس شوية شوية بحس أن كل ده مش بيتحقق.
وبحس أني بزرع في أرض مش قابلة تكون أرضي."
قالتها وهي تكاد تبكي.
قبل أن تلتف مغادرة الغرفة، وبداخلها تعلم أنة و لكي تنجح تلك العلاقة، يجب عليهما أن يكونا سويا.
لا هي بمفردها، ولا هو بمفرده.
يجب أن يكونا هما سويا.
وهذا ما لا يفهمه هو.
فهي تحارب في معركة هو لا يعلم عنها شيئًا.
❈-❈-❈
سارع بالخروج من البناية،
لا وقت لديه أبداً للحديث.
انفجاره بها
لم يكن بسبب التأخير فقط، ولْيكن صادقاً،
بل كان أيضاً بسبب تلك الرسالة التي وجدها على هاتفه.
أخرج هاتفه بضيق يناظره باستياء مرةً أخرى
قبل أن يفتح الرسالة المزعومة.
كانت في المجموعة الخاصة بالعمل،
حيث روفيدا توجه له التوبيخ على أحد القضايا الخاصة بهم
لكن على الملأ،
وسط الجميع بكل بساطة.
رسالة صوتية
بصوتها العالي
تهدده
وتوبخه كطفل في الرابعة.
وبدل أن يصب غضبه على تلك الحية،
أصابت فريدة،
كالعادة.
أصبح لا يقدر على التحكم بغضبه،
لكنه يريد منزلاً طبيعياً،
طبيعياً جداً،
أبسط الأشياء،
وهذا ما لا تقدر عليه فريدة،
مهما حاولت.
قالها لنفسه بتعب
وهو يخرج من البناية.
ولا يعلم لما رفع عيناه في تلك اللحظة
لتلتقي عيناه بعين الواقف تنظر له من الشرفة.
توقع أن تهرب للداخل،
لكن عيناها أبت أن تنزاح عن عينيه،
كأنها تخبره بقوة،
"تلك المرة أنت مخطئ."
وحينما طالت النظرات،
لم يجد حلاً سوى فصل ذلك التواصل،
مغادراً سريعاً،
شاعراً برأسه سينفجر.
ف روفيدا تنجح في جعله يخرج عن السيطرة.
❈-❈-❈
دلف للمكتب بسرعة،
يلقي بنفسه على المقعد،
لكن صوت صديقه أنبأه بسرعة: "بسرعة على مكتب مدام روفيدا،
قلبت الدنيا عليك من الصبح."
مسح عمر وجهه بتعب وإرهاق،
قبل أن يتوجه ببطء وقوة نحو مكتبها.
دق على الباب،
لتسمح له بالدخول بعد ثلاث دقائق.
دلف ليجدها تنظر لأحد الملفات أمامها،
ليقف صامتاً منتظراً التوبيخ الجديد،
لكنها لم تعره هي أي اهتمام،
بل تابعت ما تفعل بهدوء.
قبل أن تغلق الملف،
مرجعةً ظهرها للخلف،
تناظره بابتسامة ساحرة قائلة بهدوء: "اتفضل اقعد."
انعقد حاجباه بشدة، يناظره بشك واستغراب.
حسناً، هناك شيء قادم
ولن يعجبه أبداً.
شعور بداخله أخبره بذلك،
لذلك رد قائلاً بهدوء: "أنا كويس كده.
اتفضلي، حضرتك طلبتيني."
رفعت حاجبها، تناظره بعين متفحصة.
تحرك المقعد يميناً ويساراً ببطء شديد،
قبل أن تقول بتوبيخ طفيف: "متأخر."
أومأ لها قائلاً باعتذار على مضض: "بعتذر جدّاً،
غصب عني.
حضرتك تقدري تخصميلي،
وبعتذر مرةً ثانية، مش هتكَرَّر تاني.
حركت رأسها نافيه وعيناها لا تترك عينه:
"عادي، وأي المشكلة لما تتكرر؟
لكل مشكلة حل،
ومشكلتك أنت تحديداً،
حلها عندي أنا.
عقد حاجباه يناظرها بضيق شديد،
لتكمل هي حديثها واقفةً بهدوء،
خاطيةً خطواتها المدروسة نحوه ببطء شديد،
قبل أن تقف أمامه لا يفصلهما سوى خطوات معدودة،
قائلةً بتأكيد: "أنت عايز تشتغل بهدوء وبدون مشاكل وتاكل عيش.
ورفعت يدها تمس صدره في ثوانٍ دون أن يدرك ما يحدث،
هامسةً بعزم: "وأنا عايزاك أنت.
❈-❈-❈
بعد عدة ساعات،
تزامن وصول ملك وآلاء في نفس الوقت.
صدفة لم يتوقعها أيٌ منهما.
فبعدما غادرت آلاء، وجدت للصدفة البحتة مقاعد شاغرة في الطائرة المتوجهة إلى مصر.
والغريب أن رامي لم يوقفها،
بل راقب مغادرتها بصمت،
تبعه أن دلف غرفته لينام.
ببساطة.
حسناً، وما الجديد في أفعاله؟
لا جديد
كانت رحلة مرهقة ومتعبة حتى كادت أن تطلق صرخاتها بنصف الطائرة.
السفر بالصغار وحدها ثاني أبشع شيء بعد وجود رامي في حياتها.
لقد أفقدوها عقلها،
وكادت أن تسقط مغشياً عليها من أصواتهم وصراخهم ومناوشاتهم.
تنهدت براحة، تضم الصغير تميم،
تراقب عز الغافي في العربة على ساق آية النائمة هي أيضًا في عربة الأطفال المزدوجه.
هدية تميم لها،
أخاها الحبيب،
الذي لطالما فكر في كيفية التخفيف عنها.
تميم الذي لا تعلم عنه شيئًا،
ولا أحد يريد أن يخبرها.
وقفت تنظر حولها بحيرة.
لقد أخبرتها ملك
أنها ستصل في نفس الوقت تقريباً،
فرق نصف ساعة أو أكثر.
هي أقرب من ملك، فوصلت أسرع منها.
وبسبب تأخر طائرة ملك سيصلو في نفس الوقت تقريبا
لذا جلست على أحد المقاهي،
تهاتف حسام الذي أخبرها أن السيارة قادمة في اتجاهها.
وكعادته منذ ما حدث،
يمتنع عن الإجابة عن أي شيء يخص تميم.
يخبرها بحزم: "لما تيجي يا آلاء،
لما تيجي إن شاء الله
لو سمحتي.
وتصمت هي مخرسة نفسها.
جلست محلها تهدد الصغير تميم،
والذي يريد أن ينتشل منها الهاتف ملقيًا إياه أرضاً.
صوت رسالة أخرجها من شرودها.
قطبت حاجبها باستغراب، كانت من صديقة قديمة لها لم تحدثها منذ زمنٍ حقًا.
فتحتها وهي تقرأ الرسالة بملامح متعجبة:
«صح اللي حصل يا آلاء؟»
ردت عليها سريعًا بعدم فهم: "حصل إيه؟"
أتاها الرد في دقيقة واحدة على هيئة صورة مكتوب بداخلها على إحدى صفحات الأخبار:
«إصابة رجل الأعمال تميم مدحت العسلي بعدة طعنات ونقله إلى مستشفى...»
اتسعت عيناها بشدة،
وتلاشى كل شيء من حولها وهي تضع يدها على فمها تكتم شهقة عالية خرجت.
قبل أن ترفع الهاتف على أذنها، تهتف برعب وصدمة: "حسام،
تميم،
بيقولوا تميم اتعرض للطعن!
وقبل أن تأتيها الإجابة،
أتتها شهقة عالية،
لكن لم تكن منها،
بل من ملك الواقفة خلفها، تناظرها بعيون غائرة وملامح باكية،
تهدد بالمزيد.
❈-❈-❈
انتفض أنس يغلق الهاتف بسرعة وهو يستمع إلى صوت عالي يهتف باسم زوجته.
سارع خطواته وهو يصل إليها،
يمسك خصرها وهي تكاد تترنح ساقطة أرضًا، ينظر إلى آلاء محاولًا فهم ما يحدث.
لكن من ملامحها الباكية وملامح زوجته،
علم ماذا حدث.
لقد علموا.
قالت ملك بصوت متقطع باكي: "تميم، تميم يا أنس، بيقولوا مطعون!
"مطعون إزاي يعني؟
مش كان مختفي؟
ضمها إلى صدره محاولة التحكم في بكائها وخوفه عليها،
وهو يهمس لها برفق: "ممكن تهدي؟
استهدي بالله،
خدي نفس، خدي نفس عميق.
تميم كويس، تميم كويس.
هزت رأسها برعب،
ليكمّل قائلاً بتأكيد وهو يمسك وجهها بين يديه، يمس جبهته بجبهتها: "تميم كويس.
وأنا اطمنت عليه من حسام.
تميم كويس.
قالها وهو يضمها إلى صدره بعدما خفت صوت بكائها.
ولم يرَ أحدهم التفات آلاء ناحية الأخرى،
تمسح دمعاتها،
تردد الآيات القرآنية خوفًا من أن تصيبها بالحسد.
قبل أن تلتفت مرةً أخرى، ترفع الهاتف على أذنها قائلةً بأمل: "حسام، تميم كويس؟
أتتها إجابة حسام بحزم قائلاً بتعجب وغضب: "إنتي عرفتي منين؟"
إجابتها بتأكيد: "من واحدة صاحبتي.
أكيد الخبر انتشر في كل حتة يا حسام.
أغلق معها سريعاً،
لتقترب هي من ملك، تضمها والصغير إلى صدرها،
وأنس يراقبهم بخوف،
خوفًا على زوجته،
وخوفًا على صديق كان له أكثر من أخ.
❈-❈-❈
دلفا للمشفى بخطوات مرتجفة،
تمسك كل منهما يد الأخرى،
وأنس يحمل الصغير تميم، وأمامه أحد الحراس يدفع عربة الصغار.
صعدا للطابق الخاص،
وما إن وصل المصعد حتى وجدا حسام ووالدهم واقفين في انتظارهما.
ألقت ملك نفسها بين أحضان والدها، تتشبث به بقوة.
واندفع حسام يضم آلاء إلى صدره،
لتنفجر كل منهما باكية، غير قادرة على التحمل في تلك اللحظة.
مسح مدحت على حجاب آلاء برفق، متمتمًا برفق: "تميم كويس،
أخوكي كويس،
صدقيني.
استهدي بالله عشان الي في بطنك.
أخوكي كويس وهيقوم بالسلامة، وأحسن من الأول."
ورفع يده الأخرى يدعو آلاء للانضمام،
لتترك صدر أخيها،
وتنضم لأختها.
ووقف هو ضامًا إياهما بشوقٍ حقيقي،
محييًا أنس هو الآخر.
ربت أنس على كتف حسام، سائلاً بهدوء: "طمّني يا حسام، إيه الوضع؟
وقبل أن ينطق، قاطعته ملك سائلة بخوف: "عايزة أشوفه يا بابا.
نظر مدحت إلى أنس بخوف،
يخشى الجميع من انهيارها،
يخشى الجميع من تكرار ألم لن تتحمله هي.
❈-❈-❈
وقفا كلاهما تضع كل منهما يدها بجانب أختها،
يتطلعان لتميم بعين متفحصة.
خوف،
ذعر،
فزع.
مشاعر كثيرة،
مختلطة،
ولا يمكن وصفها أبدًا.
رفعت آلاء رأسها، تنظر لوالدها، قائلة بإصرار، رغم وهنها وساقها التي لم تعد تقدر على حملها: "أنا عايزة أدخله،
محتاجة أدخله يا بابا.
ورغم صعوبة الدخول،
وإذا أُتيح،
سيكون متاحًا لشخص واحد فقط.
هز مدحت رأسه بتعب، لن يقدر،
قد يسقط من شدة ألمه.
وملك أيضًا لن يسمح وضعها، رغم رغبتها بذلك.
أخيرًا، وقف حسام، يناظر آلاء الباكية،
قبل أن يهز رأسه موافقًا أن يعطيها الحق بالدخول،
رغم رغبته الشديدة.
لكنها بحاجة لذلك.
❈-❈-❈
تم تجهيزها بعناية شديدة.
اتبعت الإجراءات الوقائية وارتدت الملابس والقناع المحدد.
تم تعقيمها،
وأمرها الطبيب بضرورة الالتزام بالقواعد بالداخل.
وأخيرًا،
فتح لها الباب،
لتدلف حيث الغرفة الباردة.
أثارت بداخلها رعشة انعكست على جسدها،
وهي تتطالع ذاك المسطح أمامها.
عيناها تجولان على الغرفة والأجهزة الطبية المحيطة به من كل اتجاه،
بأصواتها المؤلمة لقلبها.
اقتربت أكثر وأكثر،
حتى وقفت بجانب تطالعه بعيون غائرة وقلب متألم لأجله.
مدت يدها المرتعشة تمسك بيده الباردة، تربت عليها.
سقطت منها دمعة متألمة،
وهي تراقب الأجهزة حوله لا تفهم منها شيئًا.
قبل أن تنقل عينيها إلى وجهه الشاحب المتعب المليء بالكدمات.
كان بهيئة تؤلم القلب،
إلا أنها شددت على يده، وهي تهمس له بخفوت قائلة: "أنا هنا يا تميم،
كلنا هنا،
وكلنا مستنيين ترجع تاني.
اوعي تستسلم،
إحنا مستحيل نسيبك،
فأرجوك متسبناش."
قالتها ودموعها تسبقها،
وبداخلها الكثير من الأمل
أن الله لن يخذلهم أبدًا،
أبدًا.
❈-❈-❈
«بعد مرور ثلاث أيام»
كانت كعادتهم الأيام الماضية،
الجميع ملتف حول بعضهم البعض،
يجلسو في انتظار إفاقة تميم،
في انتظار خبر واحد:
أنه تخطى مرحلة الخطر،
وأصبح الآن بخير.
حرك حسام عيناه يطالع أمير الواقف في نهاية الرواق يتحدث في الهاتف.
أتى في اليوم التالي مع أسرته منضماً إليهم.
لم يخبره أحد بما حدث، ومن شدة انشغاله لم يعلم إلا بعد أن أتى إلى مصر.
لكنه كان معهم، وليس معهم.
تنهد بتعب وهو يستمع إلى صوت حور المتذمر في الهاتف،
بعد أن أصر هو وبشدة أن تذهب مع يارا إلى المنزل مصطحبة صغيرته شمس،
وصغار آلاء، والمربية للمساعدة،
ليبقى فقط هو وإخوته،
وأحمد الذي لم يذهب حتى بعد أن أصروا عليه.
يوم تلو الآخر والجميع لا ينام سوى القليل،
ولا يأكلون سوى القليل ليبقوا أحياء،
والقلب متعلق بالله،
داعين من كل قلوبهم.
كان مدحت جالسًا على أحد المقاعد يقرأ القرآن بوهن،
بحانبِه أنس يضم ملك الغافية إلى صدره،
وعلى بعد عدة خطوات يقف هو يحادث حور،
وأحمد الجالس بعيدًا يحادث أحدهم هو الآخر.
أما آلاء فكانت كالعاده،
تقف بجانب الزجاج،
تمسك المصحف بين يديها تقرأ وتقرأ.
كانت صامتة على نحو يخيفهم عليها،
صامتة تصلي وتدعو وتقرأ القرآن،
وتطمئن على الصغار بذهن شارد.
رفعت يدها تلمس الزجاج،
قبل أن تشعر بشيء غريب يحدث.
تبعه اندفاع الطبيب الذي أتى مسرعًا من حجرته،
وخلفه طاقم التمريض،
دالفين سريعًا للداخل.
اندفاع الجميع نحو غرفته أثار قلق الجميع،
محاولين فهم ما يحدث.
كانوا يتفحصون تميم بدقة،
قبل أن يقترب أحدهم مغلقًا الحاجز الزجاجي،
تاركين إياهم والخوف ينهش قلوبهم.
حسام الممسك بمدحت الشاحب والمرتعب،
وأنس يحاوط خصر زوجته داعمًا إياها بعد أن استيقظت على أصوات الجلبة،
وأمير وأحمد واقفين ينتظرون بتوتر.
وآلاء تقف تتلمس الزجاج برعب،
تكتم شهقاتها بالألم،
مرتعبة،
ماذا يحدث؟ ماذا يحدث لأخيها؟
❈-❈-❈
«ثلاث أيام منذ خلافهم الأخير»
يتأخر في العودة فتكون هي قد نامت.
يأتي فيجد منزله نظيفًا، وطعامه البسيط جدًا معد ومتروك له.
أما هي فكانت نائمة في غرفتها، رافضة أن تتخلى عن مكانها.
يرحل وهي نائمة ويعود وهي نائمة.
ولم يكن له أي طاقة لأي جدال أو نقاش، فما يحدث معه يكاد يطير عقله من محله.
فصمت وابتعد، وهي فعلت المثل.
لا هي أخذت خطوة، ولا هو يريد.
حتى قطتها أصبح لا يراها، تضعها في الغرفة الأخرى لكي لا تحتك به.
سمع صوتها أول أمس وعلم أنها تضعها طوال فترة وجوده في الغرفة، والتي لا تتعدى بضع ساعات.
ويثق أنها تزودها بالطعام والماء، لن تتركها دون رعاية أبدًا.
لكن اليوم مختلف، عاد ليجدها جالسة تشاهد التلفاز بصمت.
وما إن رأته حتى تحركت للمطبخ تعد الطعام.
نظر في أثرها باشتياق ودهشة، ودلف سريعًا للغرفة يبدل ثيابه.
عائدًا بسرعة ليجدها قد جهزت المائدة على أكمل وجه.
كان طعامًا بسيطًا يناسب مستواها في المطبخ، لكن لا بأس، فليتحمل.
جلس على المائدة يشاركها إياها.
لتبدأ هي في تناول الطعام في صمت.
تبعها هو ولم يكن يقطع هدوء الجلسة سوى أصوات أدوات الطعام.
أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تترك شوكتها، ناظرة إليه، قائلة بهدوء:
"عمر"
رفع عينيه لها يناظرها بلهفة، ينتظر أن تصالحه.
إلا أن أحلامه ردمت في التراب، وهو يستمع إليها تكمل متابعة:
"أنا قررت أشتغل"
اتساع طفيف في عينيه، تبعه صمت لدقيقة كاملة، قبل أن يضع شوكته هو الآخر،
مجيبًا إياها قائلاً بتهكم:
"قررتي؟
وقرارك ده بيتاخد قبل ما ترجعي لجوزك ولا إيه؟"
قاطعته قائلة باستنكار:
"أمال أنا بعمل إيه؟"
هز رأسه نافيا، قبل أن يقف من مكانه قائلاً برفض:بس أنا مش موافق. مفيش شغل يا فريدة."
وتركها وغادر بسرعة.
وقبل أن تتبعه لتكمل ذالك الحديث رافضة رفضة، توقفت وهي ترى هاتفها ينير بعيدًا عنها.
اقتربت سريعًا تمسكه، لتتسع عيناها وهي ترى عشر مكالمات فائتة من سارة خلال خمس دقائق.
ارتعبت ملامحها، وقبل أن تهاتفها، وجدتها تهاتفها مرة أخرى.
وصوتها يردد بصدمة:
"الحقي يا فريدة.
أجابتها بسرعة وقلق:في إيه يا بنتي؟ أنتِ كويسة؟
تابعت سارة قائلة بحزن:
لسه شايفة حالًا. تميم ده اللي كان متقدملك، بيقولوا اتعرض للطعن.
❈-❈-❈
مرت ثلاثون دقيقة.
ثلاثون دقيقة من الانتظار المرعب، انتهت أخيرًا بخروج الطبيب.
ليندفع الجميع نحوه بسرعة، وكان أول من تسأل بصوت باهت متوتر وقلق:
طمّنا يا دكتور، ابني تميم حصل إيه؟
ابتسم لها الطبيب بهدوء، قبل أن يربت على كتفه قائلاً بهدوء:
"الحمد لله، أستاذ تميم فاق."
❈-❈-❈

التاسع عشر من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close