اخر الروايات

رواية حرر هواك فالحب بات معلنا كامله وحصريه بقلم تسنيم المرشدي

رواية حرر هواك فالحب بات معلنا كامله وحصريه بقلم تسنيم المرشدي



« حرِر هَوَاك فَالحُب بَات مُعلنَا »
«الفصل الأول»
***
بسم الله الرحمن الرحيم
«صلِ على الرسول»
في أحد الأحياء الهادئة، يقف أمام مرآته يضبط ربطة عنقه بقامة منتصبة شامخة، انتهى من عقد نهايتها عِند حلقه فبات وسيم المظهر أكثر جاذبية عن ثيابه المعتادة.

رفع أنامله وتخلل بها خصلات شعره السوداء الناعمة ليعيد انتصابها من جديد، مد يده والتقط قنينة عِطره، دعس على جزء منها فتناثر العطر على أنحاء متفرقة من حُلته السوداء.

أعاد وضعها على "التسريحة" ثم اختلس النظر إلى مظهره للمرة الأخيرة قبل خروجه من الغرفة، أخرج تنهيدة قبل أن يولي صورته فى المرآة ظهره وتوجه نحو الباب، أدار مقبضه على مهلٍ فشيء ما يمنعه من الخروج وكأنه مقيد بالأصفاد.

حرر أصفاده بفتحه للباب الذي أصدر صريراً عالياً فانتبهت له والدته وبخطوات راكضة توجهت ناحيته، اتسعت شفتيها مُشكلة ابتسامة عذبة حين رأته يطل عليها بتلك الجاذبية المبالغة.

رفعت ذراعها وملست على كتفه بكف يدها مبدية إعجابها الشديد به:
_ بسم الله ما شاءالله، ربنا يحميك من العين يا حبيبي

تشدق فظهرت ابتسامته الهادئة التي أسرت قلب والدته من فرط جمالها، أراد مشاكستها فهتف:
_ دا أنا أتغر على كدا

بنبرة سريعة عفوية ردت على كلماته بحُب:
_ ويليق بيك الغرور يا حبيبي، ويكون معاك الحق كمان، أنت مش شايف طلتك ولا إيه، شبه البدر في تمامه ربنا يسعد قلبك يارب

انحنى على يدها التي تناولها وطبع قُبلة عليها ثم عاد لفرد قامته، جاب المكان من حوله وعاد بأنظاره على والدته المنحنية لكِبر عمرها وبفضولٍ قام بسؤالها:
_ العريس فين؟

أشارت بعينيها إلى بابٍ ما وأردفت:
_ لسه مخرجش من أوضته، تحب أستعجله؟

أبدى رفضه بإيماءة من رأسه كما أوضح عِلته:
_ لأ، سبيه على راحته، المأذون لسه موصلش

أولاها ظهره وصوب بصره على باب غرفةٍ أخرى، حرك قدميه ناحيتها بخُطى مُتريثة، وقف أمام الباب ثم كور أصابعه فاختفت في كفه وبهدوءٍ طرقه ووقف في إنتظار فتحه.

تقوس ثغره بإبتسامة عذبة حين رآها تظهر من خلف باب غرفتها بفستانها الأبيض الرقيق، اتسع ثغرها فور رؤيته وبحماس شديد إستدارت بجسدها حول نفسها لتريه معالم الفستان كاملاً متسائلة بتلهف لسماع رأيه:
_ إيه رأيك؟

وقف يتابع تصرفها وكأنه يراها بالتصوير البطيء، لمعت عيناه بوميض مختلف فـطلتها كانت مُزهرة تليق بكونها عروس.

حدجها بنظراته التي يشع منهما السعادة العارمة قبل أن يهتف بنبرته الرخيمة:
_ مكنتش عارف إن القمر هيزورنا النهاردة!

عضت هي على شفاها السُفلى بحياء كما أخفضت رأسها راسمة بسمة لا تتعدى شفاها فجذب هو انتباهها بسؤاله:
_ جاهزة؟

رفعت بصرها عليه وكأنه أسقط أعلاها حجارة هائلة الحجم، أخرجت زفيراً قبل أن تجيبه:
_ مش عارفة..

غمز إليها مع حركة سريعه من رأسه وهو يردد بعدم فِهم:
_ المأذون على وصول

خفق قلبها بتوجس، لم تشعر بذاك الخوف الذي اجتاحها من قبل فهي على حافة العزوبية، سوف تبدل حياتها السابقة كاملةً بحياة أخرى وهي حياة الزوجية!!

شعرت بغصة مريرة في حلقها فابتلعت لعابها لعلها تتخلص منها، انتبهت على صوت من خلفها يهتف بحميمية:
_ إزيك؟

غض بصره عنها ثم استأذن بلطافة وغادر بينما استدارت هي بجسدها ورمقت صديقتها بنظرات مشتعله وبإقتضاب هدرت بها:
_ أنتِ مالك بيه يا رخمة؟ بتحرجيه ليه؟

انفجرت الآخرى ضاحكة بميوعة وأجابتها مازحة:
_ بحب أشوفه وهو مكسوف

احتقن وجهها بغيظ ولم تسمح لها بافتعال المزيد من السخافات حيث صاحت بها مندفعة:
_ ملكيش دعوة بيه، أنتِ فاهمة؟!

تشدقت الأخرى بفمها قبل أن تردف مستاءة:
_ في إيه؟ مغلطتش في البخاري يعني وبعدين دا مجرد...

قاطعتها محذرة إياها:
_ هااا

وضعت صديقتها راحة يدها على فمها مانعة لسانها من استرسال الحديث الذي يسلب رونقها فتوجهت الأخرى إلى مرآتها تتفحص فستانها ووجها الذي إزداد جمالاً بتلك الزينة التى لا تعتاد وضعها إلا لو استحق الأمر.

في الخارج،
رحب بالمأذون بحفاوة وكذلك بعض الحضور الذي قام بدعوتهم، دعا المأذون لأريكة ما تتوسط الردهة، أشار لوالدته على باب إحدى الغرف فتفهمت ما يشير إليه وبخُطى متعرقلة سارت إليها، طرقت الباب قبل أن تدلف لغرفتها التي وضع ولدها يده عليها اليوم حتى يتجهز بحرية لتخبره بحضور المأذون:
_ المأذون وصل يا حبيبي، يلا أخرج مش عايزينه يستنى كتير

استدار بجسده ليظهر مظهره الحسِن الذي خفق قلب والدته إثره، اقتربت منه وعينيها تلمع بمزيج من المشاعر المختلفة في تلك الأثناء، قامت بتقبيله وهي تردد بشجن:
_ ربنا يحميك يابني، استنى لما أرقيك قبل ما تخرج

وضعت كف يدها على رأسه وبدأت تتلوا بعض الآيات أسفل ضحكاته التي لا تتوقف على تصرفها، انتهت من تلاوة الآيات ثم تراجعت للخلف سامحه له بالذهاب:
_ والوقتي تقدر تخرج

حرك رأسه بإستنكار، ثم أخذ بيدها لترافقه للخارج، اقترب منه الجميع فور ظهوره حيث تلقى التهنيئات من الأصدقاء والأقارب وكذلك الجيران، نهض شقيقه عن مقعده سامحاً له بالجلوس بينما توجه هو إلى باب غرفة العروس وطرقه فظهرت هي بعد ثوانٍ قليلة فأخبرها قائلاً:
_ يلا إحنا مستنينك..

بوجهٍ جامد خالي من المشاعر أماءت له بقبول ثم إستدارت بجسدها مولياه ظهرها وأخذت شهيقاً أزفرته على مهلٍ، دنت منها صديقتها وربتت على يدها داعمة لها:
_ متخافيش، أنا جنبك

تبادلا نظرات الإمتنان ثم خرجن كلتاهن برفقة بعضهن البعض، جلست هي إلى يسار المأذون تاركة مساحة بينهم بينما جلس العريس على يمينهما وعيناه لم تُرفع من عليها كما أن ابتسامته لم تختفي من على محياه منذ ظهورها

لم يشعر أحدهم بالعيون التي تراقب ما يحدث على بُعد، شعور مقيت يليه شعور بالفقد وكأنهم يسلبون روحٍ من جسدها، العيون تبكي في صمت فلا لهما الحق في إظهار آلامهم وليس من حقهم فعل أي شيء سوى مراقبة الأجواء في صمت..

***

في ظُلمة الليل الحالك لا يضيء المكان سوى ضوء القمر ونجوم السماء بالإضافة إلى النيران المتقدة من صُنع هذان العسكريان، يتوسطون صحراء سيناء الحبيبة يحاولون تدفئة أيديهم الممدودة بقُرب الحطب المشتعل، يعلوا أكتافهم أغطية ثقيلة.

تحدث أحدهم بتلعثم من بين أسنانه التي تحتك ببعضهم مُصدرة سيمفونية قوية تدل على حرارة جسده المنعدمة لشدة برودة الطقس:
_ وأخيراً هنخلص من الممرمطة دي بكرة

تجلى الحزن معالم وجه الآخر كما أنه أبدى ندمه بكلماته:
_ خلصنا خدمتنا ومعملناش حاجة نفتخر بيها، هخرج من هنا زي ما دخلت، محصلش اللي اتمنيته

قطب صديقه جبينه بغرابة فما الذي يمكنه فعله بجانب تأدية خدمة وطنه، سأله مباشرةً حين لم يصل إلى ما يعنيه:
_ وأنت عايز تعمل إيه أكتر من اللي عملناه؟

رفع نظريه إلى الأعلى رامقاً السماء بأمنية لطالما
كانت حُلمه ودافعه الأساسي لتأدية واجبه الوطني:
_ الشهادة!، اتمنيت أنولها قبل ما خدمتي تخلص

فغر فاهه وطالعه بأعين جاحظة، لم يستوعب أمنيته، لقد تفاجئ حقاً بها، حرك رأسه مستنكراً تلك الأمنية الغريبة وعاتبه بإزدراء:
_ أحمد، أنت اتجننت؟ بتتمنى الموت؟

عدل "أحمد" على كلمة "موت" وشرح له اعتقاده:
_ عايز الشهادة، فيه فرق وفرق كبير كمان، زي السما والأرض كدا، على الأقل كنت هضمن دخول الجنة بدل العيشة في حياة بتجبرنا نمشي في طريق المعاصي والفِتن، بندخل معاها في سباق طويل إما أزهق وأستسلم أو تدوس عليا من غير رحمة، ونفضل كدا في سباق إسمه الحياة، صراع مش بينتهي، أنا مش عايز كل المعاناة دي، أنا عايز أقابل ربنا وأنا شهيد عشان يسامحني على أي حاجة عملتها، حد يكره إنه ينول الشهادة؟

رمق "أحمد" صديقه بطرف عينيه وسأله مواصلاً:
_ أنت تكره إنك تموت شهيد يا يوسف؟

أسرع "يوسف" في نفي سؤاله معللاً أسبابه:
_ طبعاً لأ، المسألة بس إني عندي عيلة، كل ما يخطر على بالي إني ممكن أموت وأسيبهم بخاف، وأدعي ربنا إنه يبارك في عمري عشانهم، بسأل نفسي إزاي هيقدروا يعيشوا من غيري، أمي وأخويا الصغير اللي يدوب ١٢سنة هيقدر يسد مكاني لو مت؟ هيشيل مسؤولية كبيرة زي دي وهو في عمره دا؟
بخاف يشقوا لو مكنش موجود بينهم، عشان كدا بخاف من الموت جداً

تفهم "أحمد" سبب "يوسف" في عدم توافقه مع أعتقاده لكنه لن يقتنع وعارضه برزانة:
_ ما أنا كمان عندي عيلة، أمي وإخواتي التؤام، يدوب عندهم عشر سنين، بس ربنا موجود دايماً، مش هينساهم وهما في أمانته حتى لو كنت حي أو ميت

لوى "يوسف" شفتيه للجانب ساخراً على حديثهما:
_ عارف إنك نكدت عليا والنهاردة عيد ميلادي!

اتسعت حدقتاي "أحمد" بذهول، شكل إبتسامة نادمة وطلب منه السماح:
_ بجد، أنا آسف يا جو مكنتش أعرف، كل سنة وأنت طيب، تميت كام سنة؟

أجابه صديقه وهو يحرك العصا التي بيده في الرمال مدوناً عليها عُمره:
_ وأنت طيب يا أبو حميد، تميت الـ ٢٣سنة

كاد "أحمد" أن يتابع حوراهما إلا أن "يوسف" قد مد ذراعه له موحياً إليه بإشارة تحثه على الإمتناع عن الحديث، صمت أحمد حين شعر بشيء مريب يحدث، صغى كليهما إلى صوت أقدام على بعد مسافة قريبة منهم.

أشار يوسف بعينيه إلى كتيبة الخدمة التي يقومون بحراستها، فاستشف الآخر ما يريد فعله، عادا كليهما إلى الكتيبة زاحفين لكي لا يراهم الدخلاء، تابع "يوسف" زحفه بخفة وكذلك فعل "أحمد" الذي تبعه في هدوء.

اتسعت حدقتاي أحمد حين شعر بشيء صلب قد لامس كعب قدمه، ابتلع ريقه وتجرأ على الإلتفاف ليرى من هذا، جحظت عينيه بصدمة حين رآى رجلاً عريض المنكبين له لحية طويلة مبالغة وشارب يغطي فمه، يطالعه بسودتاه بتقزز مرسوم على تقاسيمه.

_ "أحمد"
هتف "يوسف" بإسمه حين لم يجد صديقه خلفه، تفاجئ بتلك العربة الربع نقل التي تستقل على مقربة منهما ناهيك عن ذاك الرجل الذي يقف أمام صديقه المستلقي أرضاً حتماً إنهما من يتحدثون بإسم الدين وهم لا يفقهون عنه شيئاً.

وجه "يوسف" سلاحه نحو ذلك الرجل لكن هيهات لسرعة بنيته فلقد سحب سلاحه من على كتفه وصوبه نحوه يوسف، ثوانٍ قليلة كادت أن تُنهي بحياته إلا أن "أحمد" قد ركل الرجل بقدمه فسقط السلاح من يده.

وقف بقامة منتصبة وداهم الرجل، قيد حركته بوضعه لذراعيه خلف ظهره، عاد برأسه للخلف قليلاً ثم بعزم ما يملك من قوة لكمه برأسه، أوسعه ضرباً فسألت الدماء من فم الرجل، اقترب منهم "يوسف" لكنه فوجئ بتحرك السيارة نحو صديقه فصاح محذراً:
_ أحمد، خد بالك

التفت أحمد لينظر إلى السيارة فاستطاع الرجل فك قيده ثم تنحى مهرولاً إلى الجانب فتابع شريكه قيادته للسيارة بأقصى سرعة لديه ولم يؤثر به الطلقات النارية التي يطلقها يوسف على سيارته.

صدر صوت يقشعر له الأبدان حين دعست الإطارات على جسد "أحمد"، لم يتوقف السائق عن القيادة بل فر هارباً ومن معه الذي قفز في صندوق السيارة الخلفي محتمياً بجدارها.

لم يتوقف "يوسف" عن إطلاق النيران حتى نفذت ذخيرته، ألقى ما معه أرضاً حين تأكد من هروبهم وصوب بصره على تلك البقعة الحمراء التي حاوطت صديقه، انتزع قلبه في تلك الأثناء ورجف جسده بشدة.

ضعفت ساقيه ولم يقدر على الوقوف فانحنى ببدنه حتى عانق رمال الأرض وعينيه مازالت على صديقه، يريد الوصول إليه لكنه لا يعلم كيف؟!
يسمع صدى أنفاسه المتهدجة وكأنها تتردد في المكان بسبب هدوئه وفرط قوة أنفاسه، جمع جزءً من قوته ورفع جسده عن الأرض قليلاً باستناده على كفوف يده وركبيته، تابع حبوه حتى وصل إلى صديقه الذي ينازع الموت.

حمداً لله أنه لازال على قيد الحياة، فقد ازدهر أملاً داخله حين استمع لوتيرة أنفاسه، انحنى عليه بخوف شديد لتلك الحالة التي كان عليها وهمس بنبرة تكاد تُسمع:
_ أحمد، أنت كويس؟

يشعر بالألم الشديد في كل أنش وثغره بجسده، روحه تسلب منه بتهمل، يشعر بالإنزعاج المفرط فهو يريد أن يقابل خالقه سريعاً حتى يشكره على تحقيقه لأمنيته الوحيدة.

_ "أهلي"
كانت تلك آخر كلماته وكأنه يوصي صديقه بعائلته، عادت الروح إلى بارئها فصرخ يوسف بألم الفراق:
_ لأ لأ، لسه بدري أوي، متمشيش أبوس إيدك، قوم يا أحمد عشان خاطري، عيلتك مستنية رجوعك ليهم بكرة، مينفعش تمشي وتسيب وجع فراقك يا أحمد
طيب قولي هبلغهم بموتك إزاي؟
هقولهم اللي كنتوا بتستنوه مات؟
قوم أحمد قوم

***
_ "يوسف ذكريا الراوي"
_ "بنادي عليك يا عسكري"

أنتبه يوسف على مناداة أحد الظباط له، وقف بقامة منحنية وعبوس مشكلاً على تعابيره ورد عليه:
_ "نعم"

بعملية وحزم أمره الظابط:
_ اللوا أيمن عايزك

أماء له "يوسف" بقبول ثم ولج الظابط غرفة اللواء، تبعه "يوسف" إلى الداخل ولم يستطيع النظر في عيني من بالغرفة، فكان الحزن يعم قلبه وينعكس على وجهه.

سمح له اللواء بالجلوس بهدوء فلا يريد أن يزيد من همه:
_ اتفضل أقعد يا يوسف

جلس "يوسف" ولازال منكس الرأس، وزع اللواء نظريه على الظابط الكائن معهم وبين "يوسف" ووجه حديثه إليه:
_ البقاء لله، أكيد صاحبك في مكان أحسن دلوقتي

فرك "يوسف" أصابعه بإرتباك وأجاب على تعزية اللواء بآسى:
_ اللي مهون فراقه يا فندم إنها كانت أمنيته، بس وجع الفراق صعب أوي، أحمد مكنش مجرد زميل..

فرت دمعة على مقلتيه أسرع يوسف في مسحها قبل أن يراها أحد لكن لم يستطيع النجاح فكان قد رأه اللواء وحاول التخفيف من عليه:
_ متخبيش دموعك يابني، إحنا في الآخر بشر وعندنا مشاعر لازم نخرجها سواء كانت حلوة أو وحشة، وبالنسبة للي اتعلمته هنا أنك لازم تمسك مشاعرك خلاص انساه، أتمنالك التوفيق في حياتك الجاية

باختصار أجابه:
_ شكراً لحضرتك

استأذن منه حين تأكد أنه ليس بحاجة إليه، عاد إلى عنبره ولملم أشيائه في حقيبة ظهره ثم وجه بصره على فراش صديقه الذي بات فارغاً، تقوس ثغره بإبتسامة متحسرة على ما قضاه سوياً.

حضر زملائه حين علموا بعودته، اقتربوا منه وقاموا بتعزيته ودعوا الله أن يصبر قلبه ويلهمه الصبر والسلوان، ودعهم جميعاً ثم غادر الكتيبة مع صديقه "الشهيد" في سيارة أُحضِرت خصيصاً لنقله إلى بلدته.

***

في أحد القرى الريفية البسيطة، قامت بأداء صلاة الفجر ثم بدأت في تحضير ما لذ وطاب لفلذة كبدها، إبنها البكري رب منزلهم، صنعت له جميع الأطعمة التي يحبها وتشتهيها نفسه، كما أنها أوصت أحد شباب البلدة بحضور فرقة موسيقية التى تحيي حفلات الزفاف لكي تستقبل غاليها استقبال حافل.

انتهت من الأعمال التي رتبت لفعلها ثم جلست على الأريكة الهذيلة التي جار عليها الزمن وترك أثره في خشبها وباتت ضعيفة هاشة، مالت برأسها على راحة يدها مستندة بمرفقه على جدار الأريكة في انتظار عودة ولدها.

" أحمد جه يا ماما؟"
تسائلت الصغيرة ذات العشر أعوام متلهفة لعودته، أعدلت السيدة من ميل رأسها مجيبة إياها بفروغ صبر:
_ لسه موصلش يا حبيبتي، روحي دوري على أخوكي "علي" ومترجعيش إلا بيه، عشان يكون في استقبال أخوه أول ما يوصل بالسلامة

أماءت لها بقبول فهذا ما تريده "التسكع" بعيداً عن المنزل، فذلك من الممنوعات هنا في القرية، وأن تُحرم الفتيات من اللعب منذ عمر التاسعة لاعتقادهم أن هذا عار لعائلتها وفي المستقبل لن يتقدم أحد لخِطبتها.

بعد مدة غفت السيدة مكانها فلقد طال الإنتظار كثيراً، انتفضت من مكانها حين صغت إلى سؤال إحداهن:
_ أحمد لسه موصلش يا خالة إجلال؟

تشدقت "إجلال" متهكمة وأجابتها بنفاذ صبر:
_ لا يا سعاد لسة، ربنا يرجعه بالسلامة يارب

انتبهت كلتاهن على مكابح سيارت الشرطة التى لم تتوقف صافرتهم مُعلنا عن وصولهم، نهضت "إجلال" عن مقعدها وقد شعرت بالريبة داخلها ناهيك عن تلك الوخزة في قلبها فزدات رعباً، لا تعلم لما هي باتت مذعورة لكنها تشعر بعدم الراحة فور رؤيتها لسيارات الشرطة.

خرجت من شرودها على صوت "سعاد" وعينيها مازالت معلقة على السيارة التي تقترب منهن وكأن منزلها المقصود:
_ يا تري دول جاين لمين؟

لم تجيبها فلم يكن لديها الشجاعة الكافية لتجاريها في الحديث، وضعت يدها على قلبها في انتظار سماع ما هو الأسوء على الإطلاق، توقفت السيارت أمام المنزل ثم ترجل منها بعض الظباط متسائلين عن منزل ما.

اجتمع أغلب أهالي القرية إثر وجود الشرطة في المكان ليعلموا سبب وجودهم، توجهت الأنظار جميعها على السيدة "إجلال" التي رجف جسدها وقُبض قلبها حين رأتهم يقتربون بخطاها منها.

وقف أمامها أحد الظباط ذات الرتُبة العالية والمكانة المرموقة وبهدوءٍ يسبق العاصفة أخبرها:
_ أنتِ إجلال السيد والدة العسكري أحمد نعمان فاضل؟

بصعوبة بالغة قابلتها في الحركة أماءت له مؤكدة هويتها فتابع هو ما عليه إخباره:
_ أنا اللوا أيمن البسيوني، البقاء لله يا أمي، إبنك نحتسبه شهيد بإذن لله

صراخ دون غيره دوى في رأسها، تريد العويل لكن لسانها قد شل تماماً، توقف عقلها فور تلقيها الخبر وشعرت بأن حركة جسدها قد تقيدت، تجمدت مكانها فقط تطالع من هم حولها في سكون مريب لم يشعر به البعض من خلف أقاويل الواقفين مثل:
_ لا حول ولا قوه إلا بالله ربنا يرحمه
_ دا كان طيب أوي
_ يا حبة عيني يابني، دا لسه صغير أوي على الموت
_ ربنا يستر على أمه
_ نحتسبه شهيد إن شاء الله

شعرت السيدة "إجلال" بهزة قوية لم تعلم هوية فاعلها، فقط كلمات القائد يتردد صداها داخل عقلها لا تسمع أياً مما يتناولوه من حولها، تحاول ابنتها اختراق جدار عقلها لتأتي بإجابة تطمئنها لكنها تفشل في جذب انتباه والدتها فتابعت هزها بقوة أكبر:
_ مين دول يا ماما، في إيه؟

ارتفع صراخ الفتاة بتوجس شديد حين سقطت والدتها مغشي عليها:
_ ماما، قومي

تدخل شقيقها هاتفاً بذعر تملكه فور سقوط والدته:
_ ماما ردي عليا يا ماما

اقترب منه أحد أهالي البلدة مبعداً إياه عن والدته:
_ تعالى معايا يا علي نستلم جثة أخوك الشهيد، والحريم هتساعد الست إجلال

"جثمان وشهيد"
ماذا يهذي هذا الرجل، دفعه علي بقوته الصغيرة وظل يطالع من هم حوله بذهول، فعقله الصغير مازال لا يستوعب عن ماذا يتحدثون، اقترب منه القائد وأحاطه بذراعه وبهدوءٍ قال:
_ تعالى معايا

سار معه علي وهو لا يعلم وجهته لكنه ارتاب هيئته وخصيصاً زيه الرسمي بينما اقتربت بعض النسوة من السيدة "إجلال" يحاولون إيفاقتها بشتى الطرق.

أشار القائد إلى "علي" بالصعود إلى أحد السيارات القاطنة في المكان، أمر عسكري كان يجلس بجوار الصندوق الخشبي أن يفتحه وبالفعل امتثل لأمره ووضع غطاء الصندوق جانباً فظهرت ملامح "أحمد" جيداً.

وضع "علي" كلتى يديه على فمه مانعاً خروج شهقاته القوية أمام الجميع، بأعين جاحظة ظل يطالع شقيقه وهو لا يصدق أنه بالفعل قد مات، أنه جثة كما أخبره ذلك الشرطي.

زم شفتيه التي ترتجف بشدة محاولاً السيطرة على عبراته لكن ألمه كان أكبر من أن يمنع بكائه في الخروج، سقطت عبراته على مقليته ومازالت عينيه مثبتة على أخيه، لا يقدر على فعل شيء سوى مطالعته دون إبداء ردة فعل.

في الخلف يحاول "يوسف" الصمود قدر المستطاع أمام ما يجري أمام مرأى عينيه دون أن يبكي، مشهد الفتاة وهي تجسي على ركبتيها تتوسل والدتها أن تنهض يؤلم قلبه، وقوف توأمها أمام شقيقه الأكبر مصدوماً من حاله يزيد من ألم جوفه، شعر بالإختناق يجتاجه بسبب بكائه الذي يحشره داخله، كتم أنفاسه بصدمة كبيرة اعتلت وجهه حين هتفت إمرأة من النسوة المحاوطين للسيدة "إجلال":
_ لا حول ولا قوه إلا بالله الست إجلال ماتت!!

حالة من السكون حلت لبرهة، فالجميع الآن بين ذهولاٍ وعدم استيعاب، مزيج من الخوف والرغبة في أن يكون ذلك كابوساً لا أكثر.

أخرجهم عويل الصغيرة وهي تهز والدتها بقوة تتوسلها بألا تتركها وحيدة، لم تكف عن النواح ولم ينجحن النسوة في تهدئتها بل كانت تزداد تمرداً كلما حاولوا إبعادها عن والدتها.

ترجل "علي" من السيارة بعدما أيقن أنه عليه مسايرة ما يحدث لكونه الرجل الوحيد الأن وعائل شقيقته، على الرغم من صِغر عمره إلا أنه عزم أن يكون جديراً بهذا الدور المفاجئ.

توجه ناحية شقيقته وأحاط كتفيها بذراعه ثم توجه بها داخل المنزل ومنه إلى غرفتها، أرغمها على الجلوس على الفراش وأشار إليها بالصمت فلم تطيل فيما تفعله وامتثلت لأمره دون مجهود منه.

عاد إلى الخارج وقام بمساعدة رجال الشرطة وبعضاً من أهالى البلدة في توصيل أحبته إلى مثواهم الأخير ومن ثم عاد برفقة القائد الذي حرص على عدم مغادرة المكان قبل أن يسلمهم لأحد أقاربهم.
"عايزين نسلم الأولاد لأهلهم، هما فين؟"
صاح "أيمن" غاضباً حين لم يرى من الأقارب حاضرين، توجه إليه الحاج "حسان" من كبار البلدة وقام بالرد عليه:
_ عندهم خال ودا مكنش على علاقة كويسة معاهم، كان بينهم مشاكل كتيرة على الورث، وعندهم عمين بس واحد فيهم متوفي والتاني مسافر برا

نفخ "أيمن" بضجر بائن وحاول الوصول إلى خالهم بقوله:
_ حد يعرفني مكان بيت خالهم، وأنا هروح له بنفسي أتكلم معاه وأسلمه الأولاد

أعطاه "حسان" عنوان خالهم فانصرف "أيمن" برفقة رجاله ويوسف متجهين إلى المنزل المقصود، توقفت السيارات خلف بعضهم أمام المنزل ثم ترجلا "أيمن" و"يوسف" وسارا خلف بعضهم نحو الباب الذي طرقه "أيمن" بقوة.

فُتح الباب بعد لحظات من قِبل رجل سمين يرتدي سُترة بيضاء وسروال قطني واسع بعض الشيء، حدجهم بنظرات مرتابة حين رأى سيارات الشرطة وكذلك الزي الذي يرتديه أيمن، حمحم وسألهم بتلعثم ونظراته تمرر بين الواقفين:
_ في إيه يا باشا؟

بحزم ونبرة جادة عرف "أيمن" عن هويته:
_ أنا اللوا أيمن البسيوني، الست إجلال أخت حضرتك اتوفت النهاردة وأبنها أحمد استشهد إمبارح وبناءً عليه جاي أسلمك الأولاد بما أنك خالهم الوحيد

الأن فهم الأمر، حرك رأسه حين أطمن قلبه لعدم وجود أمراً يدينه ثم فرد قامته المنحنية وبجمودٍ أبدى لامبالاة لحديثه:
_ آه لا الله يرحم الجميع، بص يا باشا أنا معنديش اخوات ومعرفش أنت بتتكلم عن مين، هما ميهمونيش وأنا مش هستلم عيال حد

كاد أن يغلق الباب في وجههم إلا أن "أيمن" لحق به وبملامح غاضبة انفعل عليه:
_ أنت بني آدم حقير، فين شهامتك ومروءتك؟، دا أنا بقولك أختك وابنها ماتوا وأنت تقولي ميهمونيش؟!

قلب الرجل عينيه بإزدراء وحدثه بفتورٍ:
_ أيوة ميهمونيش، خدهم أنت وربيهم

لم يستطيع "أيمن" كبح غضبه تلك المرة، اقترب منه وكاد أن يفتك به إلا أن تَدخُل "يوسف" منعه من الوصول إليه، وقف "يوسف" حائلاً بينهما وحاول تهدئة روعه:
_ أهدى يا أيمن بيه، مينفعش اللي حضرتك بتعمله دا

نهره أيمن بعصبية بالغة:
_ أنت مش سامع الحقير دا بيقول إيه؟

انتبه أيمن لخروج سيدة في مقتبل الثلاثينات تبدوا أنها زوجته، قامت بترديد بعض الكلمات في أذنه وبعد ذلك لاحظ الجميع هدوء الرجل وتحول حالته:
_ رجعت في كلامي، خلاص هاخد العيال

لم يطمئن يوسف لتلك الموافقة المفاجأة فمن يراه قبل ثوانٍ يظن أنه بلا قلب فما حدث في تلك الدقائق المعدودة لكي يبدي موافقته برعايتهم حتماً هناك ثمة حقارة ستُحاك ما إن أطمئن ذلك الرجل بذهاب رجال الشرطة.

انسحب أيمن ورجاله بينما لم يبرح يوسف القرية قبل أن يتأكد بنفسه من رعاية الرجل للأطفال، انتظر حتى تأكد من ذهاب السيارات وعاد إلى المنزل لا يعلم كيفية الوثوق في ذاك الرجل، في النهاية هما وصية صديقه وواجب عليه الإطمئنان عليهم.

شعر بالتعب ينهال منه بسبب عدم نومه مدة طويلة ناهيك عن كل الأحداث التي سلبت طاقته كاملة، جلس أرضاً أسفل نافذة المنزل ولم يشعر بعينيه التى زاغت في النوم، قلق على نبرة غاضبة تصيح عالياً:
_ أنا مش عارف بس إزاي سمعت كلامك وأخدت العيال دول، أنا هعمل بيهم إيه دلوقتي؟

أخفضت زوجته من نبرتها وبدهاء ماكر أردفت:
_ كان لازم توافق عشان الظابط يمشي من هنا، ودلوقتي تخرجهم من بيتي حالاً، أنا مبربيش عيال حد، خدهم وروح أرميهم قدام أي ميتيم وتعالى بسرعة من غير ما حد يشوفك

ظهرت إبتسامة خبيثة لدهاء زوجته اللامحدود وتمتم مفتخراً بها:
_ بحسدك على أفكارك الخبيثة دي يابت، أنا هروح أرميهم في مكان بعيد عن هنا وأرجع قبل ما الشمس تشرق ويشوفني حد من أهل البلد

كان يصغي لحوارهما بذهول شديد أهناك بشر بتلك الأخلاق المتدنية؟، حمد الله على عدم ذهابه وبقائه في الوسط، تخفى يوسف خلف أحد الأشجار المجاورة للمنزل، انتظر خروج ذلك الرجل البغيض وتبعه حارصاً على عدم انتباه الآخر له، بعد سير بالأقدام ما يقرب على الثلاثون دقيقة وصلا الرجل إلى مرداه.

"دار البدور لإعالة الأيتام"
قرأ يوسف المدون على اليافطة الورقية التي تعلو باب ذاك المبني العريق، شعر لوهلة بأنه سيهدم إن مرت عليه ريح عاتية بسبب قِدمه.

سحب الرجل يديه من بين كفوفهم الصغيرة ثم أولاهما ظهره ليعود حيثما جاء، تبعته الصغيرة متسائلة في خوف:
_ أنت رايح فين يا خالي وسايبنا لوحدنا في الضلمة دي؟

لم يتعب نفسه في النظر إليهم وألقى مافي جوفه على نفس وضعه:
_ هرجع مكان ما جيت، استنوا أنتوا هنا لما حد يلاقيكم أو كلاب السكك تيجي وتاكلكم، أنتوا مصيبة وأنا مش مستعد أستحمل قرفكم

أنهى جملته وتابع سيره عائداً إلى منزله بينما جهشت الفتاة باكية بمرارة الفراق مختلطة بالخوف فالمكان شديد الظلام من حولهما، هدوء مخيف خشيته كثيراً، حاول "علي" تهدئة روعها على الرغم من خوفه الشديد هو الآخر، عانقها بقوة وملس على خصلاتها بحنو دون حديث.

صرخت الفتاة عالياً حين شعرت بظلام داهمهما، استدار "علي" بمروءة لكي يحمي شقيقته من ذاك الدخيل، أوقفها خلفه ونظر إليه فشعر بأنه سبق ورأى تلك الملامح من قبل، نعم لقد تذكره أنه كان برفقة رجال الشرطة على ما يبدوا أنه واحد منهم.

_ "تعالوا معايا"
أردفها يوسف بعدما حسم بألا يعود من دونهما، قابل جمودٍ مصحوب بالخوف في ملامحهما فأراد طمأنتهم ناحيته:
_ متخافوش أنا صاحب أخوكم أحمد الله يرحمه، وهو اللي قالي أهتم بيكم لو حصله أي حاجة، يلا تعالوا معايا هنرجع مع بعض للبيت عندي

شهقت الفتاة بذعر وكأنه اقترف خطأ فادح، اقتربت من أخيها وهمست له لكن نبرتها كانت واضحة ليوسف:
_ أمي قالتلي مروحش مع حد غريب ولا أطلع بيتهم

أسرع يوسف في توضيح سوء الفهم الحادث بقوله:
_ متقلقيش أنا مش قاعد في البيت لوحدي، معايا أمي وأخويا الصغير في نفس سنكم، وبعدين أخوكي معاكي دا مش كفاية؟

اختبئت الفتاة خلف أخيها بخوف فلم يجد يوسف ما يفعله ليطمئن قلبها، أولاهما ظهره وطالع السماء لعله يأتي بفكرةٍ يمكنها إقناعهما، تنهد بضجر بائن فلا أفكارٍ مناسبة لديه في تلك الأثناء.

بعد مرور عدت دقائق راودته فكرة تمنى نجاحها وبدأ على الفور في تنفيذها، بحث عن هاتفه في جيبه، كان مغلقا حتماً أثار القلق في قلب والدته الآن، لكنها بالتأكيد ستلتمس له العذر إن علمت بما مر عليه منذ البارحة.

هاتفها على الفور حين أعيد تشغيل الهاتف، جائه صوتها القلق من الجانب الآخر:
_ أنت فين يا يوسف؟ وقافل موبايلك ليه؟ أنا قلقت عليك وخوفت يكون حصلك حاجة

أخذ نفساً قبل أن يردف بنبرة مرهقة:
_ أنا كويس يا أمي، هحكيلك اللي حصل لما أرجع إن شاء الله

اقترب من الصغيران وتعمد فتح مكبر الصوت وتابع استرساله وعينيه معلقة على الفتاة حتى يبث فيها الطمأنينة:
_ بالمناسبة يا أمي، معايا ضيوف وبقترح عليهم يرجعوا معايا البيت وهما محرجين ومش عارف أعمل إيه الوقتي عشان أقنعهم؟

أسرعت والدته هاتفة بإسيتاء واضح:
_ إحراج إيه بس، دا لو الأرض مشالتهمش أشيلهم فوق راسي، ناولهم الموبايل لما أتكلم معاهم أنا، بس قولي الأول مين دول أنا أعرفهم؟
شعر يوسف بالراحة من خلف كلمات والدته العفوية التي نجحت في تبخر القلق من عيناي الفتاة، لقد استشف ذلك حين أزاحت يدها من على ذراع شقيقها .

أعاد وضع الهاتف على أذنه كما أغلق المكبر وأجابها ممتناً:
_ لا متعرفيهمش يا أمي، بس أنتِ هتحبيهم أوي، أنا هقفل دلوقتي متقلقيش عليا، قدامي حوالي ساعتين وأوصل إن شاء الله

أنهى الإتصال وأعاد النظر إليهما، مد يده لهما وشجعهم على العودة معه:
_ عرفتوا إني مش لوحدي، يلا بينا نمشي قبل ما القطر يفوتنا

اقتربت الفتاة أولاً فكانت دوماً ما تتحدث هي وتبادر في فعل كل شيء عكس أخيها تماماً، صامت لا يتحدث منذ أن رآه، حتماً من أثر الصدمة، عزم يوسف بأن يحادثه لكن أولاً عليهما العودة إلى الديار ليكون معه على انفراد.

أمسك كليهما بيديه فصاح يوسف وهو لا يدري وجهتهم الصحيحة:
_ أنا مش عارف الطرق هنا، لو ممكن تعرفوني الطريق اللي نرجع منه لبيتكم عشان نلم هدومكم قبل ما نمشي

سحب "علي" يده من بين يدي يوسف وتقدم بخطوات راكضة إلى الأمام، أسرع يوسف في اللحاق به لكي لا يفقده محذراً:
_ استنى يا علي، ممكن نتوه من بعض

أنتبه على صوت الفتاة وهي تحلل سبب ركض أخيها:
_ هو هيرجع بينا للبيت، علي عارف الطرق كلها، أنا معرفش كتير زيه

أماء لها يوسف بتفهم ثم أسرع من خطواته لكي يلاحق خطوات الفتى، عادوا إلى ديارهم فوقف يوسف يطالع الباب بخيبة أمل أخرى، فكيف سيفتحه الآن بالتأكيد لن يكسره!

تأفف بضجر فكلما شعر بأنهما قد اجتازا خطوة يعود إليها من جديد، صاح متسائلاً لربما يملكون حلاً:
_ هنفتح الباب إزاي؟

هرولت الفتاة نحو البساط الكائن أمام الباب وسحبت من أسفله مفتاح المنزل ثم قامت بإعطائه ليوسف مرددة:
_ ماما بتحط مفتاح تحت المشاية عشان لو نسينا المفتاح في البيت

رمقها يوسف بنظرات مشفقة على حالهم الذي تبدل تماماً، حاول ألا يتأثر كثيراً فهناك قطار عليهم لحاقه قبل أن أن يمر ميعاده، أسرع ناحية الباب وقام بفتحه ثم استدار إليهما وحثهم على الإسراع:
_ هاتوا اللي هتحتاجوه معاكم بس ياريت بسرعة

هرولت الفتاة أولاً إلى غرفتها بينما لاحظ يوسف عدم تحرك الصبي وعينيه مصوبة على نقطة ما خلفه، التفت برأسه ليرى على ماذا ينظر فتفاجئ بالأطعمة الموضوعة على الطاولة، يبدوا أنه كان هناك استقبال حافل ينتظر صديقه رحمة الله عليه.

شعر بغصة مريرة في حلقه كما شعر بحرارة العبرات التى سقطت كالشلال على مقلتيه حزناً على رفيقه، لقد كان عاماً فقط من وقت تعارفهم إلا انه التمس فيه مروءة وشهامة أحمد، لقد كان حقاً خير صديق.

مسح عبراته بأنامله ثم أعاد النظر إلى علي، دنى منه وربت على كتفه مآزرا إياه في محنته:
_ عايزك تعتبرني أخوك، أنا موجود على طول لو كنت محتاج تتكلم

اكتفى علي برمقه بنظرات جامدة، حاول يوسف مساعدته فقال:
_ يلا وريني أوضتك فين عشان أساعدك في تحضير شنطتك

توجه علي إلى غرفته فتبعه يوسف، طالعها بآسى وحسرة حين اكتشف أنها غرفة مشتركة له ولأخيه، ساعده بما استطاع فعله وكان يختلس النظر على الصورة الفوتوغرافية الموضوعة أعلى الكومود من حين لآخر وهو يدعوا له بالرحمة.

أنهى ثلاثتهم تجهيز مستلزماتهم ووقفوا في منتصف الردهة يطالعون المنزل للمرة الأخيرة، ابتسم يوسف حين جائته فكرة ما وعزم على تنفيذها لكن لن تحدث إلا بمساعدة الصِغار.

تنهد وبنبرة متحمسة وجه حديثه لهما:
_ عايز منكم تساعدوني في لم الأكل قبل ما يبوظ

تدخلت الفتاة متسائلة في فضول:
_ هنعمل بيه إيه؟

وضح لها يوسف ما يريد فعله مختصراً:
_ خدوا اللي عايزينه من الأكل عشان تاكلوه وإحنا راجعين في القطر، والباقي هنوزعه على المحتاجين

تحمست الفتاة لما أخبرها به وهللت عالياً:
_ ونطلب منهم يدعوا لماما وأحمد؟

تلألأت العبرات في عيناي يوسف مشفقاً عليها، أخذ شهيقاً عميق وحاول استعادة نفسه سريعاً وأعاد ترديد كلماتها كتأكيد لها:
_ ونطلب منهم يدعوا لمامتك وأحمد الله يرحمهم

ابتسمت له برقة ثم شرع ثلاثتهم في وضع الأطعمة في أكياس بلاستيكية وقاموا بوضع جميعها في حقيبة قماشية تعود للسيدة إجلال كانت تستخدمها لوضع الخضراوات والفاكهة فيها حين تقوم بشرائهم حتى يسهل عليها حملهم.

أحكم يوسف من إغلاق باب المنزل جيداً ثم تابع سيره متجهاً إلى محطة القطار التي دله على طريقها "علي" دون حديث فقط يسبقهم بخطواته وهم يتبعانه.

حل الصمت مدة طويلة قبل أن تقطعه الفتاة بسؤالها:
_ ليه خالي سابنا في نص الطريق ومشى؟ مش هو اللي فاضل لينا والمفروض يحمينا؟

توقف يوسف عن السير والتفت برأسه إليها وطالعها لوقت، لقد ذكرته بسؤالها عما غاب عن ذهنه، فغر فاهه وقام بسؤالهم مستفسراً:

***
يا ترى إيه هو سؤال يوسف؟



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close