رواية الظل الذي يلاحقني كاملة وحصرية بقلم محمد عادل
لا أحد يحب أن يكون منعزلأ عن العالم ولكن يحدث ذلك رغمآ عنا عندما لا نجد من يُحس ما بداخلنا وعند إختلاف وجهات النظر مع من تقابله فنجد أنفسنا بدون مقدمات نتدحرج إلي عالم أخر عالم لايوجد به نفاق أو خذلان عالم لايوجد به غيرنا او بمعني اخر عالم نخلقه نحنُ وهو "الرسم" وحين يحدث ذلك يراودك شعور أن تبوح عن ما بداخلك لكن حينها تهمس لك أصوات من داخل عقلك تريدك أن تبقي هذا سرآ يراودك أحساس بالقلق والتوتر وحروب لا تعرف عنها شئ .
----
كان يومآ هادئآ في منزل عائلة "أدم"، والدته "كريمة" كانت واقفة في المطبخ، تصنع الفطائر برائحة زكية تملأ المكان والده
"فريد" يجلس في الصالة يشاهد الأخبار بصوت مرتفع كعادته شقيقته الصُغرى" نور " فتاة في السابعة عشر، كانت على طاولة الطعام تُحلّ واجبها المدرسي أما الأخ الأكبر " أمجد " فكان في غرفته يراجع أوراق عمله، مشغولًا بأعباء حياته الجديدة بعد أن انهي بعثه تعليمه في الخارج .
أما " آدم "فقد كان في غرفته، كعادته، يرسم لم يكن يتحدث كثيرآ، لكنه كان حاضر دائمآ حين يحتاجه أحد .
نادت كريمة بصوت عالٍ: " آدم، تعال جرب الفطائر "
رد من بعيد دون أن يرفع عينيه عن لوحته: " لاحقًا، يا أمي "
كانت غرفة "آدم" عالم قائم بذاته، عالم يتنفس من خلال ألوانه وأدواته في زاوية الغرفة، مرسم صغير يشغل مساحة أكبر مما ينبغي، لكن "آدم" لم يكن يعترض، على طاولة خشبية قديمة، تجمعت أنابيب الألوان، بعضها مفتوح ومسحوق بجانب فُرَش بأحجام مختلفة فوق الطاولة، كانت هناك لوحة نصف مكتملة
لامرأة تطل من نافذة، نصف وجهها في الضوء، والنصف الآخر غارق في الظلام.
توقف "آدم" أمام اللوحة، ينظر إليها بعيون مُتعبة ثم مرّ بأصابعه على وجه المرأة المرسومة، وكأنه يحاول أن يلمس شيئآ مفقودً ثم همس لنفسه: "أين الخطأ؟"
لكنه لم يحصل على إجابة، فكان صدى صوته يملأ الغرفة.
فجلس على الأرض بجوار المرسم، يدفن وجهه في يديه لم يكن الصوت في رأسه واضحآ هذه المرة، كان أشبه بهمس يتردد على أطراف أفكاره رفع رأسه ونظر حوله الغرفة كانت هادئة... هادئة أكثر مما ينبغي ثم غرق في النوم .
في اليوم التالي كان " جاسر" صديقه الوحيد، قرر زيارة " آدم " عندما لم يرد على رسائله دق الباب وانتظر طويلآ قبل أن يفتح "آدم" بوجه شاحب وعينين غارقتين في الظلال.
سأله "جاسر" وهو يدخل الغرفة...
"آدم؟ تبدو مرهقًا، ماذا يحدث؟"
رد"آدم"ببرود:
"لا شيء. مجرد... أشياء تحدث في رأسي."
جلس "جاسر" على الكرسي بجانب المرسم، ينظر إلى اللوحة ثم قال وهو يشير إلى المرأة في اللوحة :
"هذه رائعة، لكنها... مخيفة بعض الشيء"
قال" آدم " بصدق من داخله "أحيانًا أشعر أنها تنظر إليّ"
"جاسر" لم يعرف كيف يرد ظل صامتآ للحظات قبل أن يقول:
"آدم ربما تحتاج إلى التحدث مع أحد أنا هنا دائمآ، لكن أعتقد أنك بحاجة إلى مساعدة أكبر."
نظر " آدم " إلى "جاسر" ، وكأنه يبحث عن تأكيد ثم قال:
"أنت الوحيد الذي لم يشككني في نفسي يا جاسر"
ثم قام " جاسر " بالنظر إلي " أدم " وأكنه يحتضنه بعيناه
ثم جلس امامه يتحدثون كثيرآ في ذكريات صداقتهم
وأيام الطفوله بينهم، لكن " أدم " شارد الذهن في آشياءً اخري
ثم تركه وقال له يرتاح من مواجهه نفسه بالنوم وإنه سوف يعود له لاحقآ ليطمئن عليه
لكن "أدم" يعلم ماذا سيفعل بعد مغادره "جاسر"
جلس"أدم" في ليلةً باردة، قمرها خافتٌ كأنّ السماء نفسها تمعن في عزلته جلس على الأرض أمام مرسمه، يحدق في اللوحة التي باتت كابوسه الابدي المرأة ذات النظرة الثابتة شعر للحظة وكأن عينيها تتعقبانه تجول في الغرفة وتعود إليه تطارده كأسرارٍ مدفونة.
مدّ يده مترددآ، ولمس إطار اللوحة ثم تراجع جسده إلى الخلف عندما أحسّ ببرودتها، كيف لقطعة من قماش وألوان أن تثير فيه هذا الشعور العميق بالخوف؟ بدا وكأن اللوحة تخفي وراءها شيئآ حي كائن أو سرّ ينتظر لحظة كشفه.
أغمض عينيه للحظات، لكن حين فعل، وجد نفسه محاصرآ بالأصوات مجددآ كانت همسات، لكنها لم تكن كلمات واضحة
بل مجرد أصوات تتلاطم، كأمواج خفيفة تنكسر بصمت وتخفي تحتها معاني غامضة فجأة، تبلورت كلمات في تلك الأصوات:
"آدم... لماذا أنت هنا؟"
فتح عينيه مرعوب، ينظر حوله، الغرفة لم تكن مختلفة، لكنها ظهرت غريبة، كأن شئ غير مرئيٍّ تحرك فيها بدأ يتعرق، ونبضات قلبه تتسارع.
ثم جاء في ذهنه عندما تحدث مع "جاسر" وساله :
"هل تؤمن أن الأشياء يمكن أن تتحدث؟ ليس بصوت مسموع، لكن... برسائل خفية؟"
ورد "جاسر" حينها و قال:
"أنت تعلم أن هذا مجرد وهم، أليس كذلك؟"
ابتسم " آدم " ابتسامة جافة وأومأ برأسه، لكنه لم يكن مقتنعآ داخل عقله، كانت المرأة في اللوحة لا تزال تتحدث، تهمس له وتطلب منه إنهاء شيءٍ لم يفهمه بعد ثم سمع طرقات الباب وسمح للطارق بالدخول رغم إنه لا يبالي بأحد غير هذه المرأة .
دخلت العائلة وتجمعت حول" آدم " في غرفته .
جلست" كريمة " بجواره، تمسك بيده برفق كأنها تحاول بث الطمأنينة في قلبه.
جلس " فريد " أمامه يحاول أن يخفي قلقه خلف نظرة الأب الحازمة.
"أمجد" كان واقفآ عند الباب يدقق النظر إلى شقيقه بنظراتٍ مختلطة من الحب والعتاب
أما "نور" فقد كانت جالسة على الأرض تراقب شقيقها بحذر كأنها تحاول أن تفهم الصمت الثقيل الذي يملأ الغرفة لكنها كانت أصغر من أن تفهم شيء
قالت "كريمة" بصوت هادئ:
"آدم، نحن هنا لنساعدك... مهما كان الأمر... سنظل بجانبك."
نظر إليها، ثم قال بنبرة بعيدة:
"هل تعلمون أنني أرى أشياء؟ أشياء لا أستطيع شرحها... كأنهم يعيشون معي."
سادت لحظة صمت ثم قال "أمجد" بنبرة حاول أن يجعلها قوية:
"آدم، نحن معك.... وسيكون كل شيء على ما يرام."
لكن "آدم" لم يكن مقتنعآ، شيء ما بداخله كان يخبره أن ما يمر به ليس مجرد أوهام كانت هناك رسائل مشفرة في همسات الغرفة كأنها تطلب منه إتمام مهمة لم تُكمل بعد .
ثم طلب منهم المغادره لكي يخلد إلي النوم وسرعان ما استجابه له
لانهم يُريدونه أن يفعل ذلك .
لكن انتم تعلمون أنه لم يرغب في ذلك ويرغب في معرفه ماذا يحل حوله من فوضي
لكنه قرر هذه المرة مواجهة ما يجري بعقل مفتوح جلس على كرسيه وأحضر ورقة بيضاء وفرشاة ثم أخذ نفس عميق، وأغمض عينيه، وبدأ يرسم دون تفكير.
شيء داخله كان يرسم عنه، يتبع الألوان بحركة سريعة، كأنها تتحدث بدلاً من الهمسات عندما انتهى، فتح عينيه ببطء، ليجد على الورقة صورة امرأة جديدة، مختلفة عن تلك الموجودة في اللوحة، لكن ملامحها مألوفة كانت تلك المرأة تنظر إليه من الورقة بابتسامة غريبة، ابتسامة من يعرف ما يحدث في بداخله.
أخذ الورقة وعلقها بجانب اللوحة، لكنه حين فعل، شعر بشيء كأنّه انفصال عن الواقع، الغرفة حوله بدت كأنها تنبض، والجدران بدأت تتحرك ببطء، وظهرت خطوط غير مرئية تكشف عن عالمٍ موازي حيث كان كل شيء مليئ بالرموز الغامضة والألوان الداكنة.
ثم افلت كل شيء وقرر أن يذهب إلي فراشه ويستلقي لكي يرتاح قليلآ لكن سرعان ما أصابه القلق بعد مده ليست ببعيده
ثم نفر من فراشه واخد معطفه وقرر الذهاب إلي الحديقه.
---
في إحدى أمسيات الخريف الباردة، قرر "آدم" أن يخرج من غرفته لانه شعر بأن جدرانها تضيق عليه أخذ دفاتره وبعض الألوان، وخرج دون أن يخبر أحدآ، سار في الشارع متثاقل الخُطى، متجنبآ أعين المارة الذين كانوا ينظرون إليه كأنهم يعرفون سرّه.
وصل إلى حديقه صغيره مهجوره حيث الأشجار العالية تحجب معظم الضوء جلس على مقعد خشبي وبدأ يرسم لكن بدلاً من رسم الطبيعة أمامه، بدأ يرسم وجوهآ لا يعرفها وجوه غريبة، بعضها يبتسم وبعضها يحدق فيه بغموض.
فجأة، شعر بحركة خلفه التفت ليجد فتاة صغيرة، ربما في العاشرة من عمرها، تقف هناك تحمل دمية ممزقة.
سألته بصوت ناعم: "هل ترسم الأشباح؟"
تجمد للحظة، ثم قال:
"أشباح؟ لماذا تقولين ذلك؟"
أشارت الفتاة إلى إحدى لوحاته وقالت:
"هذا وجه أمي... لقد ماتت منذ عام."
ارتجف جسده وسقطت الفرشاة من يده لكنه عندما نظر لها مجددآ، لم تكن الفتاة هناك.
عاد "آدم" إلى المنزل بعد رحلته الغريبة في الحديقه دخل إلى غرفته دون أن يتحدث إلى أحد جلس أمام مرسمه، ينظر إلى اللوحة التي بدأت تبدو له كأنها نافذة لعالم آخر.
لم تمر دقائق حتى دق "جاسر" مجددآ الباب فجأة كان وجهه ممتلئ بالقلق والغضب.
ثم قال: "آدم، هذا يكفي لا يمكنك الهروب منا نحن قلقون عليك"
نظر "آدم" إليه بعينين مثقلتين وقال بصوت منخفض:
"أنا أسمعهم يتحدثون أراهم يتحركون في اللوحات أعتقد... أعتقد أنني مجنون."
اقترب"جاسر" منه ووضع يده على كتفه.
"أنت لست مجنونآ، أنت تمر بشيءٍ صعب، لكننا سنخرج منه معآ"
لكن "آدم" لم يكن متأكد وظلُه معآ في صمت طويل، وكل منهما غارق في أفكاره ثم غادر مجددآ وخلد " أدم " للنوم .
-----
في اليوم التالي، اجتمعت العائلة كلها في غرفة المعيشة كان الجو مشحونآ بالتوتر "أمجد" جلس متحجرآ على الكرسي، بينما كانت
"كريمة" تتحرك بين المقاعد غير قادرة على الجلوس "نور" تجلس على الأرض تعض شفتيها بقلق، بينما والده كان يراقب الجميع بعينين منهكتين.
دخل"آدم" الغرفة متثاقل الخطى نظر إلى عائلته كأنهم غرباء
ثم جلس على الأريكة دون أن يبوح بكلمة "كريمة" اقتربت منه وضعت يدها على كتفه بلطف، وسألته:
"آدم، لماذا لا تخبرنا بما يحدث معك؟"
تنهد بعمق، ثم قال بصوت خافت:
"لا أعرف.. الأصوات... اللوحات... إنها ليست مجرد خيال هناك شيء يحدث، لكن لا أحد يصدقني."
انفجر "أمجد" قائلًا:
"آدم، هذه ليست طريقة للعيش نحن نحاول مساعدتك، لكنك تدفن نفسك في هذه الأوهام"
رد "آدم" بغضب مفاجئ:
"أوهام؟ أنت لا تفهم شيئآ أنت تعيش حياتك بشكل مثالي بينما أنا.. أنا محاصر"
ارتفعت حدة الأصوات في الغرفة، وكادت المناقشة أن تتحول إلى جدال صاخب، لكن "كريمة" تدخلت بحزم:
"كفى... نحن هنا لنساعده وليس لإلقاء اللوم."
ثم استدارت إلى "فريد" وقالت:
"يجب أن نتخذ خطوة فعلية.، العلاج النفسي ليس خيارآ بعد الآن إنه ضرورة، يجب أن تاخذه لطبيبة العائلة بأسرع وقت"
نظر الجميع وفي نظراتهم توحي بالموافقه .
----
في الصباح التالي وقف "أمجد" بجانب سيارة والده ينتظر "آدم" الذي بدا متردد في الخروج من المنزل،
من نافذة غرفة المعيشة كانت "كريمة" تراقب المشهد بقلق بينما "نور" تجلس بجانبها وهي تمسك بيدها وكأنها تحاول تهدئتها.
نزل"آدم" أخيرآ بخطوات ثقيلة يحمل حقيبته الصغيرة التي تحتوي على دفتر رسمه وجلس بجوار "أمجد" في السيارة دون أن يتبادل معه أو مع والده أي كلمة كان الطريق إلى العيادة النفسيّة طويلآ وصامتآ إلا من صوت المحرك وأصوات السيارات المارة.
في العيادة، كانت الطبيبة "د. سلمي" تنتظرهم أمرأه في منتصف العمر، بملامح هادئة ونظرات ساحره جلس "آدم" أمامها في غرفة مليئة بالكتب والنباتات الخضراء، بينما انتظر "أمجد و والده "
في الخارج.
بدأت الطبيبه الحديث برفق:
"آدم، أخبرني عن نفسك. ما الذي يشغلك؟"
صمت "آدم" للحظات، ثم قال بصوت منخفض:
"أسمع أصوات... أرى أشياء، لوحاتي تتحرك، تتحدث إليّ، لا أعلم إن كان هذا حقيقيآ أم لا."
أومأت الطبيبه بهدوء وسألته:
"هل تذكرت أول مرة شعرت بهذا؟"
أجاب "آدم" وهو ينظر إلى الأرض:
"قبل بضعة أشهر، عندما بدأت أرسم تلك المرأة منذ ذلك الوقت، تغير كل شيء."
سألته الطبيبه عن طفولته، عن عائلته، وعن علاقاته بمن حوله ومع كل إجابة، شعر "آدم" وكأنه ينزع طبقة من الضباب الذي يحيط بعقله.
سألت "سلمي"...: "آدم، كيف تشعر الآن؟"
أجاب بعد تفكير: "مرهق... وكأن هناك شيء يستهلكني من الداخل."
ردت "سلمي" :
"هذا التعب الذي تصفه، هل هو جسدي أم نفسي؟ أم مزيج من الاثنين؟"
قال "آدم" وهو يضغط على يديه:
"نفسي أكثر أشعر وكأنني محاصر في عقلي، ولا أستطيع الخروج."
ابتسمت "سلمي" بلطف وقالت:
"أحيانآ يكون العقل مثل الغرفة إذا ملأتها بالكثير من الأشياء، يصبح من الصعب التحرك لكن يمكننا أن نحاول ترتيب هذه الغرفة معآ."
سألت "سلمي" بجدية:
"هل هذه الأصوات تطلب منك فعل شيء معين؟"
أجاب "آدم" بعد لحظة صمت:
"نعم، أحيانآ تطلب مني أن أرسم كأنها تريد أن أخرج شئ ما على اللوحة."
سألت "سلمي" :
"وعندما تسمع هذه الأصوات، كيف تشعر؟ هل تخيفك؟ أم تشعرك بالطمأنينة؟"
قال وهو يحدق في الأرض:
"في البداية، كانت تخيفني لكن الآن... لا أعرف، أصبحت معتادآ عليها وكأنها جزء مني."
تابعت "سلمي" بسؤال أخر:
"هل تحدثت مع أحد عن هذه الأصوات قبل اليوم؟"
أجاب "آدم" :
"لا... لم يصدقني أحد، حتى عائلتي، يعتقدون أنني أتوهم."
قالت الطبيبه بلطف:
"أفهم شعورك الشعور بأنك وحدك في هذه التجربة يمكن أن يكون صعب جدآ لكنك لست وحدك الآن نحن هنا لنفهم معآ ما يحدث."
ثم تابعت حديثها في نهاية الجلسة:
"آدم، أنا سعيده لأنك قررت الحديث معي اليوم ما تمر به ليس شئ غريب أو مستحيل الأصوات التي تسمعها قد تكون انعكاسآ لأفكارك أو مشاعرك التي لم تتمكن من التعبير عنها بشكل كامل سنعمل معآ على فهمها."
أخرجت الطبيبه دفتر ملاحظاتها وكتبت سطور ملحوظه :
"أريد منك أن تبدأ يوميات بسيطة كلما سمعت الأصوات أو شعرت بشيء مختلف حاول أن تكتب ما تشعر به، أو حتى ترسمه إن كان ذلك أسهل هذا سيعطينا فكرة أفضل عما يحدث داخلك."
"آدم" أومأ برأسه ببطء وقال: "سأفعل"
ثم أنتهت اول جلسه وأول حرف تم نحته في دفتر العلاج النفسي
ومحاوله فهم كيف ولماذا يحدث هذا مع "أدم" وكيف يتغلب عليه
وكيف تتعايش اسرته مع هذه الاشياء المختلطه باوهام ممزوجه بواقع أليم ...
(كل لوحة يرسمها كانت محاولة يائسة لإعادة ترتيب شتات روحه لكن كل ضربة فرشاة كانت تفضحه أكثر، تُظهر للعالم فوضى لم يستطع الهروب منها يومآ، يرسم بيدٍ مرتعشة وألوانٍ شاحبة يحاول أن يسكب فوضى عقله على القماش، لكن كلما اكتملت لوحته، أدرك أنها ليست سوى انعكاس آخر لجراحه التي لا يمكن محوها)
عاد "آدم" إلى غرفته بعد لقائه الأول مع الدكتورة "سلمى" محملآ بمشاعر متداخلة رغم أنها بدت مستعدة لفهمه ومساعدته، إلا أنه لم يستطع تجاوز شعوره الغامض بأن ما يعيشه يتعدى كونه مجرد أزمة نفسية، كان يعلم أن اللوحة التي رسمها ليست مجرد عمل فني بل نافذة إلى شيء أكبر، شيء لا يستطيع تفسيره.
جلس "آدم" على الأريكة في غرفة المعيشة، واللوحة ما زالت معلقة على الجدار المقابل كان ضوء القمر يتسلل عبر النافذة، مضيئآ ملامح المرأة التي رسمها بدت وكأنها حية في ذلك الضوء الخافت تحدق إليه بنظرة عميقة تخترق روحه.
في تلك الليلة، وبينما كان يتأمل اللوحة، لاحظ شيئ غريب لم يكن قد رآه من قبل في الزاوية السُفليه من اليمين، كان هناك نقش صغير بالكاد يمكن ملاحظته اقترب بحذر ونظر عن كثب كان النقش عبارة عن سلسلة من الأرقام والرموز، بدت وكأنها رسالة مشفرة.
كانت الأرقام والرموز على الورقة: F20.9 | +39-00-055XX
"الحاضر والماضي يعكسان الحقيقة "
كان يشعر بقشعريرة تسري في جسده الرسالة بدت وكأنها تحاول توجيهه نحو شيء معين ولكن ماذا تعني؟
قرر "آدم" أنه لا يمكنه تجاهل هذا الأمر أخذ الورقة إلى مكتبة قريبة وبدأ البحث عن أي طريقة لفك شفرة الرموز قرأ عن أنماط الرسائل المشفرة، وعن الرموز التي يمكن أن تحمل معاني مخفية.
في أثناء البحث، صادفُه كتاب قديم عن رمزية الفن وتأثير اللاوعي على الإبداع فتح صفحة عشوائية، ووجد فيها عبارة أثارت اهتمامه :
"الفن ليس مجرد انعكاس للواقع، بل هو طريق لاكتشاف الحقيقة المخفية."
كان الكتاب يتحدث عن فنانين العصور الوسطى الذين كانوا يخفون رسائل في لوحاتهم، رسائل تشير إلى معتقداتهم أو تحذر من شيء ما.
جلس أمام اللوحة مرة أخرى، يحاول فك غموضها هذه المرة، لاحظ أن تفاصيل الخلفية تحتوي على أشكال غامضة، أشجار ملتفة بطريقة تبدو وكأنها تكتب كلمات، وظلال تُشكل أرقامآ.
قرر أن يبدأ برسم اللوحة من جديد، ولكن بشكل مختلف بدأ بإضافة تفاصيل جديدة، محاولآ إعادة بناء المشهد كما كان يتخيله أثناء الرسم، شعر وكأنه يدخل في حالة من الغياب عن الوعي حيث تتحرك يده دون تحكم منه.
عندما انتهى نظر إلى ما رسمه كانت الصورة الآن مختلفة تمامآ المرأة أصبحت تبتسم ابتسامة غامضة، والخلفية أظهرت مشهد لمدينة قديمة، يبدو وكأنها مكان مألوف ولكنه لا يستطيع تحديده.
وبينما كان "آدم" يتأمل اللوحة الجديدة، سمع صوت خافت، كأنه همس كان الصوت يأتي من اللوحة اقترب بحذر، وشعر بأن المرأة في اللوحة تنظر إليه بشكل أكثر وضوحآ الآن.
"آدم... الماضي ليس كما تتذكره، الحقيقة تكمن في التفاصيل."
ارتعد "آدم" ولكنه شعر في نفس الوقت بشيء من الراحة
كان هذا الهمس أول تواصل مباشر بينه وبين ما يحمله داخله.
قرر "آدم" أن يبحث عن المدينة التي ظهرت في لوحته الجديدة
بدأ باستخدام التفاصيل التي رسمها، المعمار، الألوان، والطبيعة المحيطة بحث على الإنترنت وفي الكتب القديمة، حتى وجد صورة مشابهة تمامآ كانت المدينة تُدعى "فلورنسا"، وهي مدينة صغيرة في ايطاليا معروفة بتاريخها الغامض والأساطير المرتبطة بها.
فقرر "آدم" أن يشد الترحال إلي هناك بدون تفكير وقال بداخله .
" بلاد الفن تستدعاني ويجب أن أتبع النداء "
ثم ترك الغرفه وذهب لتحضير فنجانً من القهوه ويدور في عقله
عن ما الذي ينتظره هناك وما يتوجب عليه فعله .
هل جنون الفن يستدعي كل هذا المخاطر ؟
هل تكون رحله بسيطه أم تكون بها مغامرات ؟
لم يعلم ما ينتظره لكنه يعلم إنه أمام لغز كبير مهما كانت عواقبه.
ثم انتهي من القهوه وذهب مره اخري لغرفته علي الفِراش
(الوهم هو مرسم الرسام في عزلته، يرسم بخياله عوالم لا يراها أحد، لكنه كلما اقترب من اكتمال لوحته، يزداد يقينآ بأنها ستبقى حبيسة إطار عقله، لا تنتمي إلا للفراغ)
------
بعد أيام قليلة، حزم "آدم" حقائبه مستعدآ للسافر إلى "فلورنسا"
كان يعتقد أن الإجابة التي يبحث عنها موجودة في هذه المدينة في مكان ما بين أزقتها الحجرية وأبنيتها التاريخية.
خرج من غرفته ليري عائلته أمامه وعلي وشوشِهم نظرات
من القلق والحيره وحينها ذهبت إليه والدته وهي تُكتم في اعيونها الكثير من الدموع لكنها لم تندلع للخارج .
وتقول له :
"سوف يطمئن قلبك إذا ذهبت لهناك ؟ هل تعتقد ذلك ؟
انت الوحيد الذي يعتقد اشياءً لم تحدث قط لكن اريدك أن تعلم
إني بجوارك دائمآ واشعر بك لذلك رجاءً احترس علي نفسك جيدآ "
فقامت بأحتضانه بعطف کأم لم تري أبنها منذ سنين واستغرق وقتآ
حيث قام والده بقطع هذه المشاعر الرائعه قائلا :
" أنت تعلم يا أدم إني لم اعارض لك شئً او لكم جميعآ
لكن انا اعارض بشده ما تريد أن تفعله، لكنك تري أن هذه المغامره سوف تمحي من داخلك عبئً وانا ايضا اريد هذا لذلك لم افعل شيئآ
اذهب وكما تعلم نحن هنا جميعآ نُحِبك"
ثم ربَّت علي كتفيه وأكنه يقول له : " أستعد للمغامره "
ثم هرعت إليه شقيقته "نور" مُسرعه وتقوم بالقفز بين احضانه
وتقول له:
" انا لا اعلم لماذا انت ذاهب لكني اعلم انك ذاهب لكي تمحي الاصوات الشريره من داخلك، من فضلك انتهي سريعآ من ذلك وارجع لنا فورآ "
وتركت قُبله علي خده تحمل الكثير من الحماس
توجه "أمجد" ليلتقط "نور" من داخل احضان "أدم"
ويترك قُبله هو الاخر علي جبينها ثم ينظر إلي "آدم" بحزن ويقول:
" يا ليتني اعلم ما بداخلك، وماهو شعورك المزعج هذا
اقسم لك بإنني لم اتخلي عنك وسوف اكون بجوارك دائما "
تعله شفايف "أدم" إبتسامه بالكاد كانت ملحوظه ويقول :
" أراك لاحقآ يا أخي، كُن بخير "
ثم يلتفت ويتحرك نحو الباب ويغادر المنزل لكي يستقبله
الشخص الوحيد الذي يؤمن بافعاله "جاسر"
يتجه نحوه ويرفع عنه حقائبه لداخل السياره تم ينطلق للمطار.
كان الطريق للمطار طويلآ فقال "جاسر" :
"اريدك أن تخلد للنوم حتي تتمكن من استكمال رحلتك دون ارهاق"
ثم نظر له "أدم" وقال :
" لماذا تصدقني في كل شئً؟ لماذا لم تقول عني إني مجنون مثل الباقيه؟ لماذا برغم إنك اقرب صديق لدي لكنك لا تاتي مثل ما كُنا قديمآ لتتناول الغداء؟ أنت أخي وليس بصديقي، اشكرك علي كل هذا لكنك ستاتي عندما أعود للنتناول الغداء معآ"
أبتسم "جاسر" بفخر وقال :
"سوف افعل، لكن الان أذهب إلي النوم الطريق طويل "
بعد بضعه ساعات وصل "أدم" واستلقي بالطائرة ثم تتوالي الساعات في السماء .
وعندما وصل للمدينة، شعر وكأنه عاد بالزمن إلى الوراء، شوارعها الضيقة، رائحة القهوة الإيطالية، صوت الموسيقيين في الساحات كل شيء كان ينبض بالحياة والتاريخ.
بدأ "آدم" رحلته بالبحث عن الجسر الذي رآه في رسمه القديم وعندما وصل إلى جسر " بونتي فيكيو " شعر بشيء غريب
المكان بدأ مألوف له بشكل مُخيف كأنه زاره من قبل.
أثناء تجولُه تحت الجسر وجد متجر صغير لبيع اللوحات الفنية والتحف القديمة بدأ المتجر وكأنه من عالم آخر، مملوءً بالغبار واللوحات الغريبة ثم دخل ببطء، وجذب انتباهه لوحة صغيرة معلقة على الجدار.
كانت اللوحة تصور نفس المرأة التي رسمها، ولكنها تبدو أكبر سنآ وكأنها قد عاشت حياة طويلة منذ آخر مرة رآها فيها، في أسفل اللوحة، كان هناك نفس الرموز التي وجدها في لوحته.
سأل "آدم" صاحب المتجر، رجل عجوز ذو نظرات ثاقبة :
" من أين حصلت على هذه اللوحة؟ "
ابتسم العجوز وقال :
"هذه اللوحة ليست للبيع، ولكن يبدو أنها كانت تنتظرك"
بينما كان العجوز يتحدث، أخرج صندوق خشبي صغير من تحت طاولة قديمة، داخل الصندوق كانت هناك مجموعة من الوثائق والصور، جميعها تشير إلى امرأة تُدعى " ماريا دي فيوري "
سأل "آدم" : "ماريا دي فيوري؟"
أجاب الرجل :
"نعم، كانت فنانة غامضة في عصر النهضة، واختفت في ظروف غامضة يقال إنها تركت رموز ورسائل في لوحاتها لمن يستطيع احد علي فكها."
بدأ "آدم" يفحص الوثائق، ووجد بينها خريطة صغيرة تشير إلى مكان معين في "فلورنسا" وهي كنيسة "سانتا ماريا ديل فيوري" الكاتدرائية الشهيرة في قلب المدينة.
كان الظلام قد حان فـ لملم حقائبه وذهب إلي "روكو فورت"
وهو الفندق الذي سبق وقام بالحجز والعيش فيه ثم ذهب إلي غرفته وترك الوثائق الخاصه به علي مكتب الغرفه وقام بتغير ملابسه واستلقي علي الفراش وظل يُبحلِق في سقف الغرفه
ومحاط بخيالات " ماريا " في جميع ارجاء الغرفه، لحين خلوده إلي نومآ عميق .
---
في صباح اليوم التالي، استيقظ "أدم" ثم قام بجمع اغراضه وتوجه إلي الاستحمام ثم انتهي من تغير ملابسه وجمع اغراضه
في حقيبته وذهب إلي الاسفل ليتناول وجبه الافطار ثم انتهي .
وتوجه إلى الكاتدرائية كان يشعر بأن كل خطوة تقربه من كشف اللغز عندما دخل الكاتدرائية شعر بقداسة المكان لكن شيئآ ما كان مختلفآ بدأ يبحث في الزوايا واللوحات الجدارية حتى لاحظ نقش صغير مشابهآ للذي وجده على لوحته النقش كان يشير إلى قبو تحت الكاتدرائية.
بعد جولة طويلة من البحث، وجد مدخل القبو بمساعدة أحد العاملين في الكاتدرائية المكان كان مليئ بالغبار والعتمه لكنه يجري بداخله شعورآ قويآ بالتاريخ.
في أحد الأركان وجد صندوق حجري صغير، فتحه بحذر
ليجد بداخله مجموعة من الرسائل القديمة مكتوبة بخط اليد الرسائل كانت تتحدث عن سر دفين يتعلق بمصير
" ماريا دي فيوري " وعن لوحة كانت ترمز إلى "المرأة الأبدية"
أدرك "آدم" أن المرأة في لوحته ليست مجرد شخصية خيالية بل رمز لفكرة أو رسالة أعمق ربما عن الخلود أو الإبداع الذي يتجاوز الزمن.
لكن اللغز لم يُحل بعد بالكامل، كانت هناك رسالة أخيرة تقول:
"لإكمال القصة، يجب أن تعود إلى البداية، الحقيقة لا تُكتشف إلا لمن يُعيد خلقها."
كانت الدهشه والحيره تملؤه وجه "أدم" ويقول بداخله :
"هل انجزت شئ؟ بالطبع لا انها بدايه الانجاز وليست نهايته
هل يجب أن استكمل الرحله؟ وأن اكملتها متي ستنتهي؟"
ظل يتحدث داخل نفسه كثيرآ ثم غادر القبو وعقله ثقيل بما وجده كانت الرسائل مليئة بالألغاز، لكنه شعر أن الإجابة تكمن في العودة إلى جذوره الفنية، إلى تلك اللحظة التي أمسك فيها بالفرشاة لأول مرة ورسم وجه المرأة الغامضة كان عليه أن يعيد خلق القصة بنفسه، كما أشارت الرسالة الأخيرة.
عاد إلى الفندق وذهب للاستحمام وعند الانتهاء خرج وارتدي ملابسه وقام بأعداد فنجان القهوه ثم جلس يراجع الرسائل التي وجدها .
إحدى الرسائل كانت موجهة بشكل غريب إلى (الفنان الذي سيرى) وكأن "ماريا دي فيوري" كانت تعلم أن شخص مثل "آدم" سيجد هذه الرسائل يومآ ما، كانت الرسالة تُحثه على زيارة ورشة فنية قديمة في "فلورنسا" قيل إنها المكان الذي اختفت فيه "ماريا"
ثم نظر في الساعه واكتشف أن الوقت قد سرقه مع هذه الالغاز
لذلك لم يستطيع الذهاب إلي هذه الورشه القديمه حاليا ثم سريعآ ذهب إلي الفراش لكي يخلد في النوم ويذهب صباحآ إلي هناك ليكتشف هذا المكان .
----
في اليوم التالي استأجر دراجة وتوجه إلى ضواحي المدينة حيث تقع الورشة كانت الطُريق مليئة بالأشجار الكثيفة والهواء يحمل رائحة الطبيعة الجميله وعندما وصل وجد المبنى القديم متهالكًا ومحاطآ بالكروم والنباتات البرية دخل الورشة بحذر، حيث الغبار يغطي كل شيء، وقطع القماش الممزقة تتدلى من السقف وبينما كان يتجول، رأى طاولة قديمة عليها بقايا ألوان وفرش كأن
"ماريا" غادرتها للتو، ولكن أكثر ما لفت انتباهه كان لوحة غير مكتملة، ممزقة الأطراف، لكنها تصور المرأة نفسها التي رسمها.
فحص اللوحة بعناية ولاحظ نقش جديد في الجزء السُفلي، كان عبارة عن سلسلة من الرموز الغريبة تشبه خريطة أو مخطط لشيء ما، كان النقش يشير إلى مكان محدد وقريب من الورشة ولكنه محفوف بالمخاطر.
خرج "آدم" من الورشة وبدأ يتبع الإحداثيات التي فهمها من النقش وصل الطريق إلى كهف صغير بين الجبال القريبة عندما دخل الكهف، شعر بالرهبة، الجدران كانت مزينة برسومات قديمة، أشبه برسائل تركتها "ماريا" لتوثيق رحلتها.
في عمق الكهف وجد صندوقآ آخر لكن هذه المرة كان مغلقآ بقفل مُعقد استغرق الأمر ساعات من التفكير، لكنه تذكر الرموز التي وجدها في الورشة واستخدمها كرمز لفتح القفل.
عندما فتح الصندوق، وجد داخله مخطوطات قديمة لكنها لم تكن فقط تتحدث عن "ماريا" كانت المخطوطات تصف وجود
(أكاديمية سرية) للفنانين في عصر النهضة تعمل على تدريب فنانين مختارين لفهم جوهر الخلود من خلال الفن.
وجميع هذه المخطوطات كانت موقعة بأسماء كثيره مثل :
" ليوناردو دا فينشي، رافاييل، مايكل أنجلو، ..... "
ثم بين جميع المخطوطات جاءت مخطوطه المرأه الغامضه
ثانيآ، لكن هذه المره مختلفه كليآ عن ماسبق.
ظل يحدق لمده طويله وعندما وصل ليري توقيع المخطوطة القديمه الخاصه بالمرأه الغامضه ساد الرعب وجه واتسعت عيناه وبداءت تعلؤ دقات قلبه حيث كانت ستخلع صدره من مكانه
قائلا :
" انا !! انا آدم فريد، هذا هو خط يدي، هذا توقيعي الخاااص!!"
بدأ "آدم" يفهم أن ما يحدث ليس مجرد صدفة يبدو أن حياته مرتبطة بطريقة ما بحياة "ماريا" وأعضاء الأكاديمية الرسائل واللوحات التي وجدها لم تكن سوى وسيلة لإعادة إيقاظ شيء داخله ربما موهبة أو رسالة يجب أن ينقلها.
لكن الأسئلة ظلت تتراكم في رأسه :
"كيف عرفوا عني؟ ولماذا رسمت المرأة قبل أن أعرف قصتها؟ لماذا انا، وماذا يريدون؟ "
جاء وقت العوده إلي مصر، العوده مع الكثير من الالغاز التي لا يعرف من أين، و كيف، حلها لكنه يعلم أنه لابد أن يكمل مشواره .
-----
عاد "آدم" إلى مصر منذ اسبوع مع المخطوطات واللوحة التي وجدها في الورشة وكان قد تحدث مع الدكتورة "سلمى" عبر الهاتف مسبقآ ليشاركها ما اكتشفه عندما أخبرها بكل شيء اصبحت مذهولة لكنها بدأت تربط الأحداث عن ما تعرفه عن الأساطير الفنية في فلورنسا و أقترحت له أن يحاول إعادة إحياء اللوحة غير المكتملة باستخدام الأساليب القديمة التي استخدمها فنانين عصر النهضة ربما يكون هذا هو المفتاح لكشف اللغز بالكامل.
قام "أدم" في اليوم التالي بعمل جميع المقترحات الذي قدمتها له الدكتورة "سلمي" وكانت الورشة مليئة بالفرش والألوان ويداه تعملان كأنها بها قوة خفية، وعندما أكمل اللوحة حدث شيء غريب
المرأة التي رسمها بدأت تبدو مشوشة، ملامحها تغيرت تدريجيآ، شعور غريب تملكه، وكأن اللوحة لم تكن موجودة بالشكل الذي يتذكره.
في دهشه مرسومه علي ملامحه تتردد في اذنه كلمات "سلمى":
"أحيانآ العقول المبدعة تخلق عوالم بديلة للتعامل مع ألم حقيقي قد تكون كل هذه التفاصيل انعكاسآ لصراع داخلي."
ثم بدأ "آدم" تتحول ملامحه من دهشه للشك في كل شيء،
قام بجمع الرسائل التي وجدها في القبو، محاولآ التأكد من حقيقتها لكن عندما نظر إليها مجددآ كانت فارغة مجرد أوراق بيضاء .
ظل يقلب مرارآ وتكرارآ في الغرفه عن آي شئً حقيقي ثم مسرعآ
سحب الهاتف وقام بالاتصال بالدكتورة "سلمي" ومع كل رنه تعلؤ انفاسه اكثر واكثر حتي استجاب الرد .
"سلمي" قائله : " أدم... اتمني تكون بافضل حال" .
يفرك "أدم" راسه وهو حائر في الغرفه، تقطع "سلمي" سكوته"
" أدم .. انت بخير ؟"
كان "أدم" سريع الرد حتي لا تنتهي "سلمي" من انهاء كلمتها :
"لا... لست بخير، اريد ان اتحدث، اريد ان افهم، اريد أن اتحسن"
"سلمي" لم تفهم لكنها تتمالك نفسها قائله : "حسنآ، انا في انتظارك"
اغلق الهاتف وقام بمكالمة اخري لصديقه "جاسر" لكن كان الهاتف مغلق، ثم ذهب في طريقه إلي "سلمي" .
توجه "آدم" إلى مكتب "سلمى" جلس أمامها وأخبرها بكل ما حدث منذ آخر لقاء أخبرها عن اللوحة التي تتغير والرسائل التي اختفت "سلمى" بدت قلقة لكنها حافظت على هدوئها.
ثم قالت وهي تُرتب دفاترها :
"آدم، هل فكرت يومآ أن هذه القصة بأكملها قد تكون من صنع خيالك؟ ربما العقل يحاول توجيهك لمواجهة شيء دفنته عميقآ"
كان "أدم" شارد الذهن بعيدآ حيث ينظر بطرف عيناه إلي جانبه لكنه يسمع "سلمي" جيدآ .
ثم بدأت تسأله أسئلة دقيقة عن طفولته، عن علاقته بالفن
وعن حياته العاطفية شيئآ فشيئآ، بدأ "آدم" يتذكر.
وبدا يكتشف ذكريات منسية حيث تذكر حبيبته التي كانت رسامة وكيف أثناء فتره الجامعة كان يجلس بجانبها يشاهدها ترسم امرأة تشبه المرأة التي رآها في لوحته لكنها لم تكن امرأة غامضة
بل كانت "ليلى" حبيبته ترسم نفسها.
كانت "ليلى" تعاني من مرض نفسي حاد، وقضت سنواتها الأخيرة ترسم وتتكلم مع لوحاتها كما لو كانت حية و "آدم" كان الشاهد الوحيد على تلك اللحظات.
في أحد الأيام، بينما كانت ترسم في مرسم الجامعة وهو يتأملها أصيبت بنوبة حادة وانهارت أمامه، وفاتها كانت مأساة لم يستطع نسيانها لكنها دفنت في أعماق عقله.
ثم تابعت "سلمى" حديثها:
"كيف كانت الأيام الماضية؟ هل جربت كتابة اليوميات كما اتفقنا؟"
"آدم" بنبرة هادئة، لكنه متردد:
"نعم... حاولت، لكن كلما أمسكت القلم، انتهى بي الأمر برسم وجهها بدلاً من الكتابة."
"سلمي" : "وجهها؟ تقصد المرأة التي تظهر في لوحاتك؟"
"آدم" يُهز رأسه :
"نعم... لكن أعتقد أنني بدأت أتذكر الآن ،هي ليست مجرد امرأة غريبة إنها ، ليلى"
" سلمى" تميل إلى الأمام بفضول : "من هي ليلى، يا آدم؟"
" آدم " بصوت متهدج :
"كانت... كانت كل شيء بالنسبة لي، كانت تحب الفن أكثر مني، تعلمت الرسم منها لكن حياتها كانت مليئة بالظلام، وأنا لم أكن قادرآ على مساعدتها."
"سلمى" قالت بهدوء : "حدثني عنها، ماذا حدث لها؟"
"آدم" يشبك يديه ببعضهما وينظر إلى الأرض:
"كانت تعاني دائمآ، كانت تقول إن الألوان تتحدث إليها، وإن اللوحات تحمل رسائل لا يفهمها أحد كنت أعتقد أنها مجرد طريقة شاعرية لرؤية العالم، لم أفهم أن الأمر كان أعمق... وأخطر"
"سلمى" بحذر : "هل تعتقد أن معاناتها تشبه ما تمر به الآن؟"
"آدم" يرفع عينيه إليها، مرتبكًا :
"الآن أشعر بذلك وكأنني أعيش ما عاشته وكأن روحها لم تتركني، اللوحات، الهمسات، كل شيء مرتبط بها"
"سلمى" بنظره تابته :
"آدم، هل تعتقد أن هذه الأصوات أو الصور هي جزء من ذنبك تجاه ليلى؟"
"آدم" بغضب مفاجئ :
"بالطبع أشعر بالذنب كنت هناك عندما انهارت، ولم أستطع فعل أي شيء كنت أعلم أنها تحتاج إلى مساعدة، لكنني لم أكن شجاعآ بما يكفي."
"سلمى" بهدوء:
"الشعور بالذنب طبيعي بعد فقدان شخص نحبه، لكنك لا تستطيع تغيير الماضي ما يمكننا فعله الآن هو فهم ما يحدث لك وإيجاد طريقة للتعامل مع هذه المشاعر ربما ليلى كانت مميزة بالنسبة لك، وربما ظهورها في لوحاتك الآن هو طريقتك لإبقائها حية."
" آدم" بصوت منخفض:
"لكنني أشعر وكأنها تطلب مني شئ، كأنني مدين لها بشيء، ولا أعرف ما هو."
"سلمى" بصوتً هادئ :
"ربما هذا ما يجب أن نكتشفه معآ، أحيانآ يكون العقل مزيجآ من الذكريات والألم، ويصعب علينا فصل الحقيقة عن الخيال سنعمل على تحديد هذا الخط الفاصل لكن عليك أن تثق بأنك لست وحدك"
"آدم" بعد صمت طويل :
"أريد أن أصدق ذلك... لكني لا أعرف كيف أترك هذا كله ورائي."
"سلمى" بنبرة حازمة ولكن دافئة :
"لن نتركه سنواجهه، أحيانآ أفضل طريقة للتخلص من شبح الماضي هي مواجهته مباشرةً خطوة بخطوة وأنا هنا لأساعدك في ذلك."
نظر "آدم" إلى "سلمى" وكانت تلك أول مرة يشعر فيها أنه ربما فقط ربما، يمكنه إيجاد طريق للخروج من المتاهة التي علق فيها.
ثم انتهت الجلسه وذهب " أدم " إلي منزله ثم إلي غرفته مباشرآ
وجلس علي اطراف الفراش يتأمل في المرأه الغامضه أو "ليلى"
ثم ردد بداخله كلمات كانت تدور في عقله فقط.
"ماذا تريدين مني أن افعل؟ هل تطلبين مني مسامحه نفسي، عن إحساسي المُريب بإني كان يجب مساعدتك؟ أم تريدين معاقبتي لتركك ترحلين؟ لا أعلم لماذا كل هذا لكني أعلم إنني افتقدك كثيرآ"
ثم اطااح بنفسه علي الفراش واستلقي علي ضهره ثم اخلد بالنوم العميق
----
كان يومآ هادئآ في منزل عائلة "أدم"، والدته "كريمة" كانت واقفة في المطبخ، تصنع الفطائر برائحة زكية تملأ المكان والده
"فريد" يجلس في الصالة يشاهد الأخبار بصوت مرتفع كعادته شقيقته الصُغرى" نور " فتاة في السابعة عشر، كانت على طاولة الطعام تُحلّ واجبها المدرسي أما الأخ الأكبر " أمجد " فكان في غرفته يراجع أوراق عمله، مشغولًا بأعباء حياته الجديدة بعد أن انهي بعثه تعليمه في الخارج .
أما " آدم "فقد كان في غرفته، كعادته، يرسم لم يكن يتحدث كثيرآ، لكنه كان حاضر دائمآ حين يحتاجه أحد .
نادت كريمة بصوت عالٍ: " آدم، تعال جرب الفطائر "
رد من بعيد دون أن يرفع عينيه عن لوحته: " لاحقًا، يا أمي "
كانت غرفة "آدم" عالم قائم بذاته، عالم يتنفس من خلال ألوانه وأدواته في زاوية الغرفة، مرسم صغير يشغل مساحة أكبر مما ينبغي، لكن "آدم" لم يكن يعترض، على طاولة خشبية قديمة، تجمعت أنابيب الألوان، بعضها مفتوح ومسحوق بجانب فُرَش بأحجام مختلفة فوق الطاولة، كانت هناك لوحة نصف مكتملة
لامرأة تطل من نافذة، نصف وجهها في الضوء، والنصف الآخر غارق في الظلام.
توقف "آدم" أمام اللوحة، ينظر إليها بعيون مُتعبة ثم مرّ بأصابعه على وجه المرأة المرسومة، وكأنه يحاول أن يلمس شيئآ مفقودً ثم همس لنفسه: "أين الخطأ؟"
لكنه لم يحصل على إجابة، فكان صدى صوته يملأ الغرفة.
فجلس على الأرض بجوار المرسم، يدفن وجهه في يديه لم يكن الصوت في رأسه واضحآ هذه المرة، كان أشبه بهمس يتردد على أطراف أفكاره رفع رأسه ونظر حوله الغرفة كانت هادئة... هادئة أكثر مما ينبغي ثم غرق في النوم .
في اليوم التالي كان " جاسر" صديقه الوحيد، قرر زيارة " آدم " عندما لم يرد على رسائله دق الباب وانتظر طويلآ قبل أن يفتح "آدم" بوجه شاحب وعينين غارقتين في الظلال.
سأله "جاسر" وهو يدخل الغرفة...
"آدم؟ تبدو مرهقًا، ماذا يحدث؟"
رد"آدم"ببرود:
"لا شيء. مجرد... أشياء تحدث في رأسي."
جلس "جاسر" على الكرسي بجانب المرسم، ينظر إلى اللوحة ثم قال وهو يشير إلى المرأة في اللوحة :
"هذه رائعة، لكنها... مخيفة بعض الشيء"
قال" آدم " بصدق من داخله "أحيانًا أشعر أنها تنظر إليّ"
"جاسر" لم يعرف كيف يرد ظل صامتآ للحظات قبل أن يقول:
"آدم ربما تحتاج إلى التحدث مع أحد أنا هنا دائمآ، لكن أعتقد أنك بحاجة إلى مساعدة أكبر."
نظر " آدم " إلى "جاسر" ، وكأنه يبحث عن تأكيد ثم قال:
"أنت الوحيد الذي لم يشككني في نفسي يا جاسر"
ثم قام " جاسر " بالنظر إلي " أدم " وأكنه يحتضنه بعيناه
ثم جلس امامه يتحدثون كثيرآ في ذكريات صداقتهم
وأيام الطفوله بينهم، لكن " أدم " شارد الذهن في آشياءً اخري
ثم تركه وقال له يرتاح من مواجهه نفسه بالنوم وإنه سوف يعود له لاحقآ ليطمئن عليه
لكن "أدم" يعلم ماذا سيفعل بعد مغادره "جاسر"
جلس"أدم" في ليلةً باردة، قمرها خافتٌ كأنّ السماء نفسها تمعن في عزلته جلس على الأرض أمام مرسمه، يحدق في اللوحة التي باتت كابوسه الابدي المرأة ذات النظرة الثابتة شعر للحظة وكأن عينيها تتعقبانه تجول في الغرفة وتعود إليه تطارده كأسرارٍ مدفونة.
مدّ يده مترددآ، ولمس إطار اللوحة ثم تراجع جسده إلى الخلف عندما أحسّ ببرودتها، كيف لقطعة من قماش وألوان أن تثير فيه هذا الشعور العميق بالخوف؟ بدا وكأن اللوحة تخفي وراءها شيئآ حي كائن أو سرّ ينتظر لحظة كشفه.
أغمض عينيه للحظات، لكن حين فعل، وجد نفسه محاصرآ بالأصوات مجددآ كانت همسات، لكنها لم تكن كلمات واضحة
بل مجرد أصوات تتلاطم، كأمواج خفيفة تنكسر بصمت وتخفي تحتها معاني غامضة فجأة، تبلورت كلمات في تلك الأصوات:
"آدم... لماذا أنت هنا؟"
فتح عينيه مرعوب، ينظر حوله، الغرفة لم تكن مختلفة، لكنها ظهرت غريبة، كأن شئ غير مرئيٍّ تحرك فيها بدأ يتعرق، ونبضات قلبه تتسارع.
ثم جاء في ذهنه عندما تحدث مع "جاسر" وساله :
"هل تؤمن أن الأشياء يمكن أن تتحدث؟ ليس بصوت مسموع، لكن... برسائل خفية؟"
ورد "جاسر" حينها و قال:
"أنت تعلم أن هذا مجرد وهم، أليس كذلك؟"
ابتسم " آدم " ابتسامة جافة وأومأ برأسه، لكنه لم يكن مقتنعآ داخل عقله، كانت المرأة في اللوحة لا تزال تتحدث، تهمس له وتطلب منه إنهاء شيءٍ لم يفهمه بعد ثم سمع طرقات الباب وسمح للطارق بالدخول رغم إنه لا يبالي بأحد غير هذه المرأة .
دخلت العائلة وتجمعت حول" آدم " في غرفته .
جلست" كريمة " بجواره، تمسك بيده برفق كأنها تحاول بث الطمأنينة في قلبه.
جلس " فريد " أمامه يحاول أن يخفي قلقه خلف نظرة الأب الحازمة.
"أمجد" كان واقفآ عند الباب يدقق النظر إلى شقيقه بنظراتٍ مختلطة من الحب والعتاب
أما "نور" فقد كانت جالسة على الأرض تراقب شقيقها بحذر كأنها تحاول أن تفهم الصمت الثقيل الذي يملأ الغرفة لكنها كانت أصغر من أن تفهم شيء
قالت "كريمة" بصوت هادئ:
"آدم، نحن هنا لنساعدك... مهما كان الأمر... سنظل بجانبك."
نظر إليها، ثم قال بنبرة بعيدة:
"هل تعلمون أنني أرى أشياء؟ أشياء لا أستطيع شرحها... كأنهم يعيشون معي."
سادت لحظة صمت ثم قال "أمجد" بنبرة حاول أن يجعلها قوية:
"آدم، نحن معك.... وسيكون كل شيء على ما يرام."
لكن "آدم" لم يكن مقتنعآ، شيء ما بداخله كان يخبره أن ما يمر به ليس مجرد أوهام كانت هناك رسائل مشفرة في همسات الغرفة كأنها تطلب منه إتمام مهمة لم تُكمل بعد .
ثم طلب منهم المغادره لكي يخلد إلي النوم وسرعان ما استجابه له
لانهم يُريدونه أن يفعل ذلك .
لكن انتم تعلمون أنه لم يرغب في ذلك ويرغب في معرفه ماذا يحل حوله من فوضي
لكنه قرر هذه المرة مواجهة ما يجري بعقل مفتوح جلس على كرسيه وأحضر ورقة بيضاء وفرشاة ثم أخذ نفس عميق، وأغمض عينيه، وبدأ يرسم دون تفكير.
شيء داخله كان يرسم عنه، يتبع الألوان بحركة سريعة، كأنها تتحدث بدلاً من الهمسات عندما انتهى، فتح عينيه ببطء، ليجد على الورقة صورة امرأة جديدة، مختلفة عن تلك الموجودة في اللوحة، لكن ملامحها مألوفة كانت تلك المرأة تنظر إليه من الورقة بابتسامة غريبة، ابتسامة من يعرف ما يحدث في بداخله.
أخذ الورقة وعلقها بجانب اللوحة، لكنه حين فعل، شعر بشيء كأنّه انفصال عن الواقع، الغرفة حوله بدت كأنها تنبض، والجدران بدأت تتحرك ببطء، وظهرت خطوط غير مرئية تكشف عن عالمٍ موازي حيث كان كل شيء مليئ بالرموز الغامضة والألوان الداكنة.
ثم افلت كل شيء وقرر أن يذهب إلي فراشه ويستلقي لكي يرتاح قليلآ لكن سرعان ما أصابه القلق بعد مده ليست ببعيده
ثم نفر من فراشه واخد معطفه وقرر الذهاب إلي الحديقه.
---
في إحدى أمسيات الخريف الباردة، قرر "آدم" أن يخرج من غرفته لانه شعر بأن جدرانها تضيق عليه أخذ دفاتره وبعض الألوان، وخرج دون أن يخبر أحدآ، سار في الشارع متثاقل الخُطى، متجنبآ أعين المارة الذين كانوا ينظرون إليه كأنهم يعرفون سرّه.
وصل إلى حديقه صغيره مهجوره حيث الأشجار العالية تحجب معظم الضوء جلس على مقعد خشبي وبدأ يرسم لكن بدلاً من رسم الطبيعة أمامه، بدأ يرسم وجوهآ لا يعرفها وجوه غريبة، بعضها يبتسم وبعضها يحدق فيه بغموض.
فجأة، شعر بحركة خلفه التفت ليجد فتاة صغيرة، ربما في العاشرة من عمرها، تقف هناك تحمل دمية ممزقة.
سألته بصوت ناعم: "هل ترسم الأشباح؟"
تجمد للحظة، ثم قال:
"أشباح؟ لماذا تقولين ذلك؟"
أشارت الفتاة إلى إحدى لوحاته وقالت:
"هذا وجه أمي... لقد ماتت منذ عام."
ارتجف جسده وسقطت الفرشاة من يده لكنه عندما نظر لها مجددآ، لم تكن الفتاة هناك.
عاد "آدم" إلى المنزل بعد رحلته الغريبة في الحديقه دخل إلى غرفته دون أن يتحدث إلى أحد جلس أمام مرسمه، ينظر إلى اللوحة التي بدأت تبدو له كأنها نافذة لعالم آخر.
لم تمر دقائق حتى دق "جاسر" مجددآ الباب فجأة كان وجهه ممتلئ بالقلق والغضب.
ثم قال: "آدم، هذا يكفي لا يمكنك الهروب منا نحن قلقون عليك"
نظر "آدم" إليه بعينين مثقلتين وقال بصوت منخفض:
"أنا أسمعهم يتحدثون أراهم يتحركون في اللوحات أعتقد... أعتقد أنني مجنون."
اقترب"جاسر" منه ووضع يده على كتفه.
"أنت لست مجنونآ، أنت تمر بشيءٍ صعب، لكننا سنخرج منه معآ"
لكن "آدم" لم يكن متأكد وظلُه معآ في صمت طويل، وكل منهما غارق في أفكاره ثم غادر مجددآ وخلد " أدم " للنوم .
-----
في اليوم التالي، اجتمعت العائلة كلها في غرفة المعيشة كان الجو مشحونآ بالتوتر "أمجد" جلس متحجرآ على الكرسي، بينما كانت
"كريمة" تتحرك بين المقاعد غير قادرة على الجلوس "نور" تجلس على الأرض تعض شفتيها بقلق، بينما والده كان يراقب الجميع بعينين منهكتين.
دخل"آدم" الغرفة متثاقل الخطى نظر إلى عائلته كأنهم غرباء
ثم جلس على الأريكة دون أن يبوح بكلمة "كريمة" اقتربت منه وضعت يدها على كتفه بلطف، وسألته:
"آدم، لماذا لا تخبرنا بما يحدث معك؟"
تنهد بعمق، ثم قال بصوت خافت:
"لا أعرف.. الأصوات... اللوحات... إنها ليست مجرد خيال هناك شيء يحدث، لكن لا أحد يصدقني."
انفجر "أمجد" قائلًا:
"آدم، هذه ليست طريقة للعيش نحن نحاول مساعدتك، لكنك تدفن نفسك في هذه الأوهام"
رد "آدم" بغضب مفاجئ:
"أوهام؟ أنت لا تفهم شيئآ أنت تعيش حياتك بشكل مثالي بينما أنا.. أنا محاصر"
ارتفعت حدة الأصوات في الغرفة، وكادت المناقشة أن تتحول إلى جدال صاخب، لكن "كريمة" تدخلت بحزم:
"كفى... نحن هنا لنساعده وليس لإلقاء اللوم."
ثم استدارت إلى "فريد" وقالت:
"يجب أن نتخذ خطوة فعلية.، العلاج النفسي ليس خيارآ بعد الآن إنه ضرورة، يجب أن تاخذه لطبيبة العائلة بأسرع وقت"
نظر الجميع وفي نظراتهم توحي بالموافقه .
----
في الصباح التالي وقف "أمجد" بجانب سيارة والده ينتظر "آدم" الذي بدا متردد في الخروج من المنزل،
من نافذة غرفة المعيشة كانت "كريمة" تراقب المشهد بقلق بينما "نور" تجلس بجانبها وهي تمسك بيدها وكأنها تحاول تهدئتها.
نزل"آدم" أخيرآ بخطوات ثقيلة يحمل حقيبته الصغيرة التي تحتوي على دفتر رسمه وجلس بجوار "أمجد" في السيارة دون أن يتبادل معه أو مع والده أي كلمة كان الطريق إلى العيادة النفسيّة طويلآ وصامتآ إلا من صوت المحرك وأصوات السيارات المارة.
في العيادة، كانت الطبيبة "د. سلمي" تنتظرهم أمرأه في منتصف العمر، بملامح هادئة ونظرات ساحره جلس "آدم" أمامها في غرفة مليئة بالكتب والنباتات الخضراء، بينما انتظر "أمجد و والده "
في الخارج.
بدأت الطبيبه الحديث برفق:
"آدم، أخبرني عن نفسك. ما الذي يشغلك؟"
صمت "آدم" للحظات، ثم قال بصوت منخفض:
"أسمع أصوات... أرى أشياء، لوحاتي تتحرك، تتحدث إليّ، لا أعلم إن كان هذا حقيقيآ أم لا."
أومأت الطبيبه بهدوء وسألته:
"هل تذكرت أول مرة شعرت بهذا؟"
أجاب "آدم" وهو ينظر إلى الأرض:
"قبل بضعة أشهر، عندما بدأت أرسم تلك المرأة منذ ذلك الوقت، تغير كل شيء."
سألته الطبيبه عن طفولته، عن عائلته، وعن علاقاته بمن حوله ومع كل إجابة، شعر "آدم" وكأنه ينزع طبقة من الضباب الذي يحيط بعقله.
سألت "سلمي"...: "آدم، كيف تشعر الآن؟"
أجاب بعد تفكير: "مرهق... وكأن هناك شيء يستهلكني من الداخل."
ردت "سلمي" :
"هذا التعب الذي تصفه، هل هو جسدي أم نفسي؟ أم مزيج من الاثنين؟"
قال "آدم" وهو يضغط على يديه:
"نفسي أكثر أشعر وكأنني محاصر في عقلي، ولا أستطيع الخروج."
ابتسمت "سلمي" بلطف وقالت:
"أحيانآ يكون العقل مثل الغرفة إذا ملأتها بالكثير من الأشياء، يصبح من الصعب التحرك لكن يمكننا أن نحاول ترتيب هذه الغرفة معآ."
سألت "سلمي" بجدية:
"هل هذه الأصوات تطلب منك فعل شيء معين؟"
أجاب "آدم" بعد لحظة صمت:
"نعم، أحيانآ تطلب مني أن أرسم كأنها تريد أن أخرج شئ ما على اللوحة."
سألت "سلمي" :
"وعندما تسمع هذه الأصوات، كيف تشعر؟ هل تخيفك؟ أم تشعرك بالطمأنينة؟"
قال وهو يحدق في الأرض:
"في البداية، كانت تخيفني لكن الآن... لا أعرف، أصبحت معتادآ عليها وكأنها جزء مني."
تابعت "سلمي" بسؤال أخر:
"هل تحدثت مع أحد عن هذه الأصوات قبل اليوم؟"
أجاب "آدم" :
"لا... لم يصدقني أحد، حتى عائلتي، يعتقدون أنني أتوهم."
قالت الطبيبه بلطف:
"أفهم شعورك الشعور بأنك وحدك في هذه التجربة يمكن أن يكون صعب جدآ لكنك لست وحدك الآن نحن هنا لنفهم معآ ما يحدث."
ثم تابعت حديثها في نهاية الجلسة:
"آدم، أنا سعيده لأنك قررت الحديث معي اليوم ما تمر به ليس شئ غريب أو مستحيل الأصوات التي تسمعها قد تكون انعكاسآ لأفكارك أو مشاعرك التي لم تتمكن من التعبير عنها بشكل كامل سنعمل معآ على فهمها."
أخرجت الطبيبه دفتر ملاحظاتها وكتبت سطور ملحوظه :
"أريد منك أن تبدأ يوميات بسيطة كلما سمعت الأصوات أو شعرت بشيء مختلف حاول أن تكتب ما تشعر به، أو حتى ترسمه إن كان ذلك أسهل هذا سيعطينا فكرة أفضل عما يحدث داخلك."
"آدم" أومأ برأسه ببطء وقال: "سأفعل"
ثم أنتهت اول جلسه وأول حرف تم نحته في دفتر العلاج النفسي
ومحاوله فهم كيف ولماذا يحدث هذا مع "أدم" وكيف يتغلب عليه
وكيف تتعايش اسرته مع هذه الاشياء المختلطه باوهام ممزوجه بواقع أليم ...
(كل لوحة يرسمها كانت محاولة يائسة لإعادة ترتيب شتات روحه لكن كل ضربة فرشاة كانت تفضحه أكثر، تُظهر للعالم فوضى لم يستطع الهروب منها يومآ، يرسم بيدٍ مرتعشة وألوانٍ شاحبة يحاول أن يسكب فوضى عقله على القماش، لكن كلما اكتملت لوحته، أدرك أنها ليست سوى انعكاس آخر لجراحه التي لا يمكن محوها)
عاد "آدم" إلى غرفته بعد لقائه الأول مع الدكتورة "سلمى" محملآ بمشاعر متداخلة رغم أنها بدت مستعدة لفهمه ومساعدته، إلا أنه لم يستطع تجاوز شعوره الغامض بأن ما يعيشه يتعدى كونه مجرد أزمة نفسية، كان يعلم أن اللوحة التي رسمها ليست مجرد عمل فني بل نافذة إلى شيء أكبر، شيء لا يستطيع تفسيره.
جلس "آدم" على الأريكة في غرفة المعيشة، واللوحة ما زالت معلقة على الجدار المقابل كان ضوء القمر يتسلل عبر النافذة، مضيئآ ملامح المرأة التي رسمها بدت وكأنها حية في ذلك الضوء الخافت تحدق إليه بنظرة عميقة تخترق روحه.
في تلك الليلة، وبينما كان يتأمل اللوحة، لاحظ شيئ غريب لم يكن قد رآه من قبل في الزاوية السُفليه من اليمين، كان هناك نقش صغير بالكاد يمكن ملاحظته اقترب بحذر ونظر عن كثب كان النقش عبارة عن سلسلة من الأرقام والرموز، بدت وكأنها رسالة مشفرة.
كانت الأرقام والرموز على الورقة: F20.9 | +39-00-055XX
"الحاضر والماضي يعكسان الحقيقة "
كان يشعر بقشعريرة تسري في جسده الرسالة بدت وكأنها تحاول توجيهه نحو شيء معين ولكن ماذا تعني؟
قرر "آدم" أنه لا يمكنه تجاهل هذا الأمر أخذ الورقة إلى مكتبة قريبة وبدأ البحث عن أي طريقة لفك شفرة الرموز قرأ عن أنماط الرسائل المشفرة، وعن الرموز التي يمكن أن تحمل معاني مخفية.
في أثناء البحث، صادفُه كتاب قديم عن رمزية الفن وتأثير اللاوعي على الإبداع فتح صفحة عشوائية، ووجد فيها عبارة أثارت اهتمامه :
"الفن ليس مجرد انعكاس للواقع، بل هو طريق لاكتشاف الحقيقة المخفية."
كان الكتاب يتحدث عن فنانين العصور الوسطى الذين كانوا يخفون رسائل في لوحاتهم، رسائل تشير إلى معتقداتهم أو تحذر من شيء ما.
جلس أمام اللوحة مرة أخرى، يحاول فك غموضها هذه المرة، لاحظ أن تفاصيل الخلفية تحتوي على أشكال غامضة، أشجار ملتفة بطريقة تبدو وكأنها تكتب كلمات، وظلال تُشكل أرقامآ.
قرر أن يبدأ برسم اللوحة من جديد، ولكن بشكل مختلف بدأ بإضافة تفاصيل جديدة، محاولآ إعادة بناء المشهد كما كان يتخيله أثناء الرسم، شعر وكأنه يدخل في حالة من الغياب عن الوعي حيث تتحرك يده دون تحكم منه.
عندما انتهى نظر إلى ما رسمه كانت الصورة الآن مختلفة تمامآ المرأة أصبحت تبتسم ابتسامة غامضة، والخلفية أظهرت مشهد لمدينة قديمة، يبدو وكأنها مكان مألوف ولكنه لا يستطيع تحديده.
وبينما كان "آدم" يتأمل اللوحة الجديدة، سمع صوت خافت، كأنه همس كان الصوت يأتي من اللوحة اقترب بحذر، وشعر بأن المرأة في اللوحة تنظر إليه بشكل أكثر وضوحآ الآن.
"آدم... الماضي ليس كما تتذكره، الحقيقة تكمن في التفاصيل."
ارتعد "آدم" ولكنه شعر في نفس الوقت بشيء من الراحة
كان هذا الهمس أول تواصل مباشر بينه وبين ما يحمله داخله.
قرر "آدم" أن يبحث عن المدينة التي ظهرت في لوحته الجديدة
بدأ باستخدام التفاصيل التي رسمها، المعمار، الألوان، والطبيعة المحيطة بحث على الإنترنت وفي الكتب القديمة، حتى وجد صورة مشابهة تمامآ كانت المدينة تُدعى "فلورنسا"، وهي مدينة صغيرة في ايطاليا معروفة بتاريخها الغامض والأساطير المرتبطة بها.
فقرر "آدم" أن يشد الترحال إلي هناك بدون تفكير وقال بداخله .
" بلاد الفن تستدعاني ويجب أن أتبع النداء "
ثم ترك الغرفه وذهب لتحضير فنجانً من القهوه ويدور في عقله
عن ما الذي ينتظره هناك وما يتوجب عليه فعله .
هل جنون الفن يستدعي كل هذا المخاطر ؟
هل تكون رحله بسيطه أم تكون بها مغامرات ؟
لم يعلم ما ينتظره لكنه يعلم إنه أمام لغز كبير مهما كانت عواقبه.
ثم انتهي من القهوه وذهب مره اخري لغرفته علي الفِراش
(الوهم هو مرسم الرسام في عزلته، يرسم بخياله عوالم لا يراها أحد، لكنه كلما اقترب من اكتمال لوحته، يزداد يقينآ بأنها ستبقى حبيسة إطار عقله، لا تنتمي إلا للفراغ)
------
بعد أيام قليلة، حزم "آدم" حقائبه مستعدآ للسافر إلى "فلورنسا"
كان يعتقد أن الإجابة التي يبحث عنها موجودة في هذه المدينة في مكان ما بين أزقتها الحجرية وأبنيتها التاريخية.
خرج من غرفته ليري عائلته أمامه وعلي وشوشِهم نظرات
من القلق والحيره وحينها ذهبت إليه والدته وهي تُكتم في اعيونها الكثير من الدموع لكنها لم تندلع للخارج .
وتقول له :
"سوف يطمئن قلبك إذا ذهبت لهناك ؟ هل تعتقد ذلك ؟
انت الوحيد الذي يعتقد اشياءً لم تحدث قط لكن اريدك أن تعلم
إني بجوارك دائمآ واشعر بك لذلك رجاءً احترس علي نفسك جيدآ "
فقامت بأحتضانه بعطف کأم لم تري أبنها منذ سنين واستغرق وقتآ
حيث قام والده بقطع هذه المشاعر الرائعه قائلا :
" أنت تعلم يا أدم إني لم اعارض لك شئً او لكم جميعآ
لكن انا اعارض بشده ما تريد أن تفعله، لكنك تري أن هذه المغامره سوف تمحي من داخلك عبئً وانا ايضا اريد هذا لذلك لم افعل شيئآ
اذهب وكما تعلم نحن هنا جميعآ نُحِبك"
ثم ربَّت علي كتفيه وأكنه يقول له : " أستعد للمغامره "
ثم هرعت إليه شقيقته "نور" مُسرعه وتقوم بالقفز بين احضانه
وتقول له:
" انا لا اعلم لماذا انت ذاهب لكني اعلم انك ذاهب لكي تمحي الاصوات الشريره من داخلك، من فضلك انتهي سريعآ من ذلك وارجع لنا فورآ "
وتركت قُبله علي خده تحمل الكثير من الحماس
توجه "أمجد" ليلتقط "نور" من داخل احضان "أدم"
ويترك قُبله هو الاخر علي جبينها ثم ينظر إلي "آدم" بحزن ويقول:
" يا ليتني اعلم ما بداخلك، وماهو شعورك المزعج هذا
اقسم لك بإنني لم اتخلي عنك وسوف اكون بجوارك دائما "
تعله شفايف "أدم" إبتسامه بالكاد كانت ملحوظه ويقول :
" أراك لاحقآ يا أخي، كُن بخير "
ثم يلتفت ويتحرك نحو الباب ويغادر المنزل لكي يستقبله
الشخص الوحيد الذي يؤمن بافعاله "جاسر"
يتجه نحوه ويرفع عنه حقائبه لداخل السياره تم ينطلق للمطار.
كان الطريق للمطار طويلآ فقال "جاسر" :
"اريدك أن تخلد للنوم حتي تتمكن من استكمال رحلتك دون ارهاق"
ثم نظر له "أدم" وقال :
" لماذا تصدقني في كل شئً؟ لماذا لم تقول عني إني مجنون مثل الباقيه؟ لماذا برغم إنك اقرب صديق لدي لكنك لا تاتي مثل ما كُنا قديمآ لتتناول الغداء؟ أنت أخي وليس بصديقي، اشكرك علي كل هذا لكنك ستاتي عندما أعود للنتناول الغداء معآ"
أبتسم "جاسر" بفخر وقال :
"سوف افعل، لكن الان أذهب إلي النوم الطريق طويل "
بعد بضعه ساعات وصل "أدم" واستلقي بالطائرة ثم تتوالي الساعات في السماء .
وعندما وصل للمدينة، شعر وكأنه عاد بالزمن إلى الوراء، شوارعها الضيقة، رائحة القهوة الإيطالية، صوت الموسيقيين في الساحات كل شيء كان ينبض بالحياة والتاريخ.
بدأ "آدم" رحلته بالبحث عن الجسر الذي رآه في رسمه القديم وعندما وصل إلى جسر " بونتي فيكيو " شعر بشيء غريب
المكان بدأ مألوف له بشكل مُخيف كأنه زاره من قبل.
أثناء تجولُه تحت الجسر وجد متجر صغير لبيع اللوحات الفنية والتحف القديمة بدأ المتجر وكأنه من عالم آخر، مملوءً بالغبار واللوحات الغريبة ثم دخل ببطء، وجذب انتباهه لوحة صغيرة معلقة على الجدار.
كانت اللوحة تصور نفس المرأة التي رسمها، ولكنها تبدو أكبر سنآ وكأنها قد عاشت حياة طويلة منذ آخر مرة رآها فيها، في أسفل اللوحة، كان هناك نفس الرموز التي وجدها في لوحته.
سأل "آدم" صاحب المتجر، رجل عجوز ذو نظرات ثاقبة :
" من أين حصلت على هذه اللوحة؟ "
ابتسم العجوز وقال :
"هذه اللوحة ليست للبيع، ولكن يبدو أنها كانت تنتظرك"
بينما كان العجوز يتحدث، أخرج صندوق خشبي صغير من تحت طاولة قديمة، داخل الصندوق كانت هناك مجموعة من الوثائق والصور، جميعها تشير إلى امرأة تُدعى " ماريا دي فيوري "
سأل "آدم" : "ماريا دي فيوري؟"
أجاب الرجل :
"نعم، كانت فنانة غامضة في عصر النهضة، واختفت في ظروف غامضة يقال إنها تركت رموز ورسائل في لوحاتها لمن يستطيع احد علي فكها."
بدأ "آدم" يفحص الوثائق، ووجد بينها خريطة صغيرة تشير إلى مكان معين في "فلورنسا" وهي كنيسة "سانتا ماريا ديل فيوري" الكاتدرائية الشهيرة في قلب المدينة.
كان الظلام قد حان فـ لملم حقائبه وذهب إلي "روكو فورت"
وهو الفندق الذي سبق وقام بالحجز والعيش فيه ثم ذهب إلي غرفته وترك الوثائق الخاصه به علي مكتب الغرفه وقام بتغير ملابسه واستلقي علي الفراش وظل يُبحلِق في سقف الغرفه
ومحاط بخيالات " ماريا " في جميع ارجاء الغرفه، لحين خلوده إلي نومآ عميق .
---
في صباح اليوم التالي، استيقظ "أدم" ثم قام بجمع اغراضه وتوجه إلي الاستحمام ثم انتهي من تغير ملابسه وجمع اغراضه
في حقيبته وذهب إلي الاسفل ليتناول وجبه الافطار ثم انتهي .
وتوجه إلى الكاتدرائية كان يشعر بأن كل خطوة تقربه من كشف اللغز عندما دخل الكاتدرائية شعر بقداسة المكان لكن شيئآ ما كان مختلفآ بدأ يبحث في الزوايا واللوحات الجدارية حتى لاحظ نقش صغير مشابهآ للذي وجده على لوحته النقش كان يشير إلى قبو تحت الكاتدرائية.
بعد جولة طويلة من البحث، وجد مدخل القبو بمساعدة أحد العاملين في الكاتدرائية المكان كان مليئ بالغبار والعتمه لكنه يجري بداخله شعورآ قويآ بالتاريخ.
في أحد الأركان وجد صندوق حجري صغير، فتحه بحذر
ليجد بداخله مجموعة من الرسائل القديمة مكتوبة بخط اليد الرسائل كانت تتحدث عن سر دفين يتعلق بمصير
" ماريا دي فيوري " وعن لوحة كانت ترمز إلى "المرأة الأبدية"
أدرك "آدم" أن المرأة في لوحته ليست مجرد شخصية خيالية بل رمز لفكرة أو رسالة أعمق ربما عن الخلود أو الإبداع الذي يتجاوز الزمن.
لكن اللغز لم يُحل بعد بالكامل، كانت هناك رسالة أخيرة تقول:
"لإكمال القصة، يجب أن تعود إلى البداية، الحقيقة لا تُكتشف إلا لمن يُعيد خلقها."
كانت الدهشه والحيره تملؤه وجه "أدم" ويقول بداخله :
"هل انجزت شئ؟ بالطبع لا انها بدايه الانجاز وليست نهايته
هل يجب أن استكمل الرحله؟ وأن اكملتها متي ستنتهي؟"
ظل يتحدث داخل نفسه كثيرآ ثم غادر القبو وعقله ثقيل بما وجده كانت الرسائل مليئة بالألغاز، لكنه شعر أن الإجابة تكمن في العودة إلى جذوره الفنية، إلى تلك اللحظة التي أمسك فيها بالفرشاة لأول مرة ورسم وجه المرأة الغامضة كان عليه أن يعيد خلق القصة بنفسه، كما أشارت الرسالة الأخيرة.
عاد إلى الفندق وذهب للاستحمام وعند الانتهاء خرج وارتدي ملابسه وقام بأعداد فنجان القهوه ثم جلس يراجع الرسائل التي وجدها .
إحدى الرسائل كانت موجهة بشكل غريب إلى (الفنان الذي سيرى) وكأن "ماريا دي فيوري" كانت تعلم أن شخص مثل "آدم" سيجد هذه الرسائل يومآ ما، كانت الرسالة تُحثه على زيارة ورشة فنية قديمة في "فلورنسا" قيل إنها المكان الذي اختفت فيه "ماريا"
ثم نظر في الساعه واكتشف أن الوقت قد سرقه مع هذه الالغاز
لذلك لم يستطيع الذهاب إلي هذه الورشه القديمه حاليا ثم سريعآ ذهب إلي الفراش لكي يخلد في النوم ويذهب صباحآ إلي هناك ليكتشف هذا المكان .
----
في اليوم التالي استأجر دراجة وتوجه إلى ضواحي المدينة حيث تقع الورشة كانت الطُريق مليئة بالأشجار الكثيفة والهواء يحمل رائحة الطبيعة الجميله وعندما وصل وجد المبنى القديم متهالكًا ومحاطآ بالكروم والنباتات البرية دخل الورشة بحذر، حيث الغبار يغطي كل شيء، وقطع القماش الممزقة تتدلى من السقف وبينما كان يتجول، رأى طاولة قديمة عليها بقايا ألوان وفرش كأن
"ماريا" غادرتها للتو، ولكن أكثر ما لفت انتباهه كان لوحة غير مكتملة، ممزقة الأطراف، لكنها تصور المرأة نفسها التي رسمها.
فحص اللوحة بعناية ولاحظ نقش جديد في الجزء السُفلي، كان عبارة عن سلسلة من الرموز الغريبة تشبه خريطة أو مخطط لشيء ما، كان النقش يشير إلى مكان محدد وقريب من الورشة ولكنه محفوف بالمخاطر.
خرج "آدم" من الورشة وبدأ يتبع الإحداثيات التي فهمها من النقش وصل الطريق إلى كهف صغير بين الجبال القريبة عندما دخل الكهف، شعر بالرهبة، الجدران كانت مزينة برسومات قديمة، أشبه برسائل تركتها "ماريا" لتوثيق رحلتها.
في عمق الكهف وجد صندوقآ آخر لكن هذه المرة كان مغلقآ بقفل مُعقد استغرق الأمر ساعات من التفكير، لكنه تذكر الرموز التي وجدها في الورشة واستخدمها كرمز لفتح القفل.
عندما فتح الصندوق، وجد داخله مخطوطات قديمة لكنها لم تكن فقط تتحدث عن "ماريا" كانت المخطوطات تصف وجود
(أكاديمية سرية) للفنانين في عصر النهضة تعمل على تدريب فنانين مختارين لفهم جوهر الخلود من خلال الفن.
وجميع هذه المخطوطات كانت موقعة بأسماء كثيره مثل :
" ليوناردو دا فينشي، رافاييل، مايكل أنجلو، ..... "
ثم بين جميع المخطوطات جاءت مخطوطه المرأه الغامضه
ثانيآ، لكن هذه المره مختلفه كليآ عن ماسبق.
ظل يحدق لمده طويله وعندما وصل ليري توقيع المخطوطة القديمه الخاصه بالمرأه الغامضه ساد الرعب وجه واتسعت عيناه وبداءت تعلؤ دقات قلبه حيث كانت ستخلع صدره من مكانه
قائلا :
" انا !! انا آدم فريد، هذا هو خط يدي، هذا توقيعي الخاااص!!"
بدأ "آدم" يفهم أن ما يحدث ليس مجرد صدفة يبدو أن حياته مرتبطة بطريقة ما بحياة "ماريا" وأعضاء الأكاديمية الرسائل واللوحات التي وجدها لم تكن سوى وسيلة لإعادة إيقاظ شيء داخله ربما موهبة أو رسالة يجب أن ينقلها.
لكن الأسئلة ظلت تتراكم في رأسه :
"كيف عرفوا عني؟ ولماذا رسمت المرأة قبل أن أعرف قصتها؟ لماذا انا، وماذا يريدون؟ "
جاء وقت العوده إلي مصر، العوده مع الكثير من الالغاز التي لا يعرف من أين، و كيف، حلها لكنه يعلم أنه لابد أن يكمل مشواره .
-----
عاد "آدم" إلى مصر منذ اسبوع مع المخطوطات واللوحة التي وجدها في الورشة وكان قد تحدث مع الدكتورة "سلمى" عبر الهاتف مسبقآ ليشاركها ما اكتشفه عندما أخبرها بكل شيء اصبحت مذهولة لكنها بدأت تربط الأحداث عن ما تعرفه عن الأساطير الفنية في فلورنسا و أقترحت له أن يحاول إعادة إحياء اللوحة غير المكتملة باستخدام الأساليب القديمة التي استخدمها فنانين عصر النهضة ربما يكون هذا هو المفتاح لكشف اللغز بالكامل.
قام "أدم" في اليوم التالي بعمل جميع المقترحات الذي قدمتها له الدكتورة "سلمي" وكانت الورشة مليئة بالفرش والألوان ويداه تعملان كأنها بها قوة خفية، وعندما أكمل اللوحة حدث شيء غريب
المرأة التي رسمها بدأت تبدو مشوشة، ملامحها تغيرت تدريجيآ، شعور غريب تملكه، وكأن اللوحة لم تكن موجودة بالشكل الذي يتذكره.
في دهشه مرسومه علي ملامحه تتردد في اذنه كلمات "سلمى":
"أحيانآ العقول المبدعة تخلق عوالم بديلة للتعامل مع ألم حقيقي قد تكون كل هذه التفاصيل انعكاسآ لصراع داخلي."
ثم بدأ "آدم" تتحول ملامحه من دهشه للشك في كل شيء،
قام بجمع الرسائل التي وجدها في القبو، محاولآ التأكد من حقيقتها لكن عندما نظر إليها مجددآ كانت فارغة مجرد أوراق بيضاء .
ظل يقلب مرارآ وتكرارآ في الغرفه عن آي شئً حقيقي ثم مسرعآ
سحب الهاتف وقام بالاتصال بالدكتورة "سلمي" ومع كل رنه تعلؤ انفاسه اكثر واكثر حتي استجاب الرد .
"سلمي" قائله : " أدم... اتمني تكون بافضل حال" .
يفرك "أدم" راسه وهو حائر في الغرفه، تقطع "سلمي" سكوته"
" أدم .. انت بخير ؟"
كان "أدم" سريع الرد حتي لا تنتهي "سلمي" من انهاء كلمتها :
"لا... لست بخير، اريد ان اتحدث، اريد ان افهم، اريد أن اتحسن"
"سلمي" لم تفهم لكنها تتمالك نفسها قائله : "حسنآ، انا في انتظارك"
اغلق الهاتف وقام بمكالمة اخري لصديقه "جاسر" لكن كان الهاتف مغلق، ثم ذهب في طريقه إلي "سلمي" .
توجه "آدم" إلى مكتب "سلمى" جلس أمامها وأخبرها بكل ما حدث منذ آخر لقاء أخبرها عن اللوحة التي تتغير والرسائل التي اختفت "سلمى" بدت قلقة لكنها حافظت على هدوئها.
ثم قالت وهي تُرتب دفاترها :
"آدم، هل فكرت يومآ أن هذه القصة بأكملها قد تكون من صنع خيالك؟ ربما العقل يحاول توجيهك لمواجهة شيء دفنته عميقآ"
كان "أدم" شارد الذهن بعيدآ حيث ينظر بطرف عيناه إلي جانبه لكنه يسمع "سلمي" جيدآ .
ثم بدأت تسأله أسئلة دقيقة عن طفولته، عن علاقته بالفن
وعن حياته العاطفية شيئآ فشيئآ، بدأ "آدم" يتذكر.
وبدا يكتشف ذكريات منسية حيث تذكر حبيبته التي كانت رسامة وكيف أثناء فتره الجامعة كان يجلس بجانبها يشاهدها ترسم امرأة تشبه المرأة التي رآها في لوحته لكنها لم تكن امرأة غامضة
بل كانت "ليلى" حبيبته ترسم نفسها.
كانت "ليلى" تعاني من مرض نفسي حاد، وقضت سنواتها الأخيرة ترسم وتتكلم مع لوحاتها كما لو كانت حية و "آدم" كان الشاهد الوحيد على تلك اللحظات.
في أحد الأيام، بينما كانت ترسم في مرسم الجامعة وهو يتأملها أصيبت بنوبة حادة وانهارت أمامه، وفاتها كانت مأساة لم يستطع نسيانها لكنها دفنت في أعماق عقله.
ثم تابعت "سلمى" حديثها:
"كيف كانت الأيام الماضية؟ هل جربت كتابة اليوميات كما اتفقنا؟"
"آدم" بنبرة هادئة، لكنه متردد:
"نعم... حاولت، لكن كلما أمسكت القلم، انتهى بي الأمر برسم وجهها بدلاً من الكتابة."
"سلمي" : "وجهها؟ تقصد المرأة التي تظهر في لوحاتك؟"
"آدم" يُهز رأسه :
"نعم... لكن أعتقد أنني بدأت أتذكر الآن ،هي ليست مجرد امرأة غريبة إنها ، ليلى"
" سلمى" تميل إلى الأمام بفضول : "من هي ليلى، يا آدم؟"
" آدم " بصوت متهدج :
"كانت... كانت كل شيء بالنسبة لي، كانت تحب الفن أكثر مني، تعلمت الرسم منها لكن حياتها كانت مليئة بالظلام، وأنا لم أكن قادرآ على مساعدتها."
"سلمى" قالت بهدوء : "حدثني عنها، ماذا حدث لها؟"
"آدم" يشبك يديه ببعضهما وينظر إلى الأرض:
"كانت تعاني دائمآ، كانت تقول إن الألوان تتحدث إليها، وإن اللوحات تحمل رسائل لا يفهمها أحد كنت أعتقد أنها مجرد طريقة شاعرية لرؤية العالم، لم أفهم أن الأمر كان أعمق... وأخطر"
"سلمى" بحذر : "هل تعتقد أن معاناتها تشبه ما تمر به الآن؟"
"آدم" يرفع عينيه إليها، مرتبكًا :
"الآن أشعر بذلك وكأنني أعيش ما عاشته وكأن روحها لم تتركني، اللوحات، الهمسات، كل شيء مرتبط بها"
"سلمى" بنظره تابته :
"آدم، هل تعتقد أن هذه الأصوات أو الصور هي جزء من ذنبك تجاه ليلى؟"
"آدم" بغضب مفاجئ :
"بالطبع أشعر بالذنب كنت هناك عندما انهارت، ولم أستطع فعل أي شيء كنت أعلم أنها تحتاج إلى مساعدة، لكنني لم أكن شجاعآ بما يكفي."
"سلمى" بهدوء:
"الشعور بالذنب طبيعي بعد فقدان شخص نحبه، لكنك لا تستطيع تغيير الماضي ما يمكننا فعله الآن هو فهم ما يحدث لك وإيجاد طريقة للتعامل مع هذه المشاعر ربما ليلى كانت مميزة بالنسبة لك، وربما ظهورها في لوحاتك الآن هو طريقتك لإبقائها حية."
" آدم" بصوت منخفض:
"لكنني أشعر وكأنها تطلب مني شئ، كأنني مدين لها بشيء، ولا أعرف ما هو."
"سلمى" بصوتً هادئ :
"ربما هذا ما يجب أن نكتشفه معآ، أحيانآ يكون العقل مزيجآ من الذكريات والألم، ويصعب علينا فصل الحقيقة عن الخيال سنعمل على تحديد هذا الخط الفاصل لكن عليك أن تثق بأنك لست وحدك"
"آدم" بعد صمت طويل :
"أريد أن أصدق ذلك... لكني لا أعرف كيف أترك هذا كله ورائي."
"سلمى" بنبرة حازمة ولكن دافئة :
"لن نتركه سنواجهه، أحيانآ أفضل طريقة للتخلص من شبح الماضي هي مواجهته مباشرةً خطوة بخطوة وأنا هنا لأساعدك في ذلك."
نظر "آدم" إلى "سلمى" وكانت تلك أول مرة يشعر فيها أنه ربما فقط ربما، يمكنه إيجاد طريق للخروج من المتاهة التي علق فيها.
ثم انتهت الجلسه وذهب " أدم " إلي منزله ثم إلي غرفته مباشرآ
وجلس علي اطراف الفراش يتأمل في المرأه الغامضه أو "ليلى"
ثم ردد بداخله كلمات كانت تدور في عقله فقط.
"ماذا تريدين مني أن افعل؟ هل تطلبين مني مسامحه نفسي، عن إحساسي المُريب بإني كان يجب مساعدتك؟ أم تريدين معاقبتي لتركك ترحلين؟ لا أعلم لماذا كل هذا لكني أعلم إنني افتقدك كثيرآ"
ثم اطااح بنفسه علي الفراش واستلقي علي ضهره ثم اخلد بالنوم العميق