اخر الروايات

رواية شظايا الكلمات الفصل التاسع9 بقلم جهاد وجيه

رواية شظايا الكلمات الفصل التاسع 9 بقلم جهاد وجيه 

شظايا الكلمات
الفصل التاسع

_وماذا عن ألم الهَجر؟
= كالسُمِ ينشط بالجسد فيُهلكه
_ وبالروحِ؟!
= يؤلم كنزاع العقل لاختيار الصواب والأقرب للصواب فيُشتته

هناك حيث الفراغ القاسي الممزوج ببرودة الرياح العاتية، حيث العقل المُشتت والواقع المرير، تتفقد ذاتك عدة مرات ظنًا منك بأنك لربما مُتَ وتحلل جسدك وتلك البرودة التي تتسلل إليك هي نتيجة توقف تدفق دمائك ولكن رغم ذلك لم يتوقف الألم!! لم يتوقف عن كونه عادة معنوية ومادية بداخلك، تُجبرك تلك الغِصة المريرة على إلقاء روحك بالهاوية لربما يخشاك الوجع والحزن، نقطة سوداء سُكبت بأواصِلنا مهدت السبيل للجِراح والمزيد من الندبات القوية، لن يرحل الشتاء هذا العالم إلا بفقدان الشغف، اللهفة، الحماس، النشاط والحب!!

كان الزِفاف أكثر من مُبهر لها ذكرها بزِفافِها، أعاد لها هذه الفرحة التي خُتمت بصوت صرخاتها المُتألمة حتى تقطعت أحبالها الصوتية، بخبرتها القليلة بأمور الحب أدركت مدى عشق العروسين لبعضهم البعض ولكن لما نظرة الخوف والرجاء بقدحتين بذلك المُسمى بـ « راكان» رغم حُبه الجارف الذي تقصه تعابير جسده!! أياً يكن لديها ما يكفيها لتفكر به، تلاقت نظراتها مع خاصته بثوانٍ طويلة دق قلبها بعنف لهذه العينان الساحرتين، هذا الرجل من البداية كان خطرًا شديدًا عليها ولكنها على أية حال تعشق المخاطرة!!!

خرجت خلفه بعقلٍ شارد وعينين ذابلتين كأوراق الخريف الصفراء، راقبت من نافذتها حركة السيارات السريعة والشخوص المجهول هوية قلوبهم لها، ابتسمت بسخرية من نفسها وهمست بخفوتٍ لذاتها: طريقك كله شوك والطريق اللي بدايته وجع نهايته فُراق

أفاقت على صوت احتكاك إطارات السيارة وتوقفها أمام البناية، هبطت من السيارة دون نظرة عابرة له وقلبها ينبض وكأنها بسباق مارثون، تريد الهرب والنجاة من هذه الموجة التي ستُطيح بقلبها المتهالك

منذ البداية يتابع توترها وخوفها ويستشعر حزنها بحركتها المتوترة والخائفة، لا يعرف ما دهاها تتصرف بغرابة عليه ولكن لا مجال للهرب الآن، تركها تتهرب بصمتها وشرودها طوال الطريق وهو يتابعها خِلسة بعيناه، لا يروقه حالها الذابل لا يناسبها الحزن والخوف هي خُلقت لتتوج ولن يتردد بفعل ذلك، ترجل من مقعده وأغلق السيارة واستند بجسده على مُقدمتها وهتف بأمر: استني

لم تكن المسافة التي تخطتها بعيداً عنه كبيرة ولكن صوته الحاد ونبرته الحالمة لبوادر الغضب أوقفت قدميها عن الحِراك وقبضت فوق ثوبها...

مسح على شعره بتروي وكل رغبته تنصب بجذبها بقوة لذراعيه وهذه الرغبة تتملكه حد الهوس وكم يخشى منها، تقدم منها حتى أصبح أمامها مباشرة وعيناه تلتهمها بشغفٍ وحزم وهتف بإصرار: أنا سيبتك من وقت ما جيت أخدك ومضغطش عليكي واحترمت صمتك والدموع اللي بتخبيها عني واللي حقيقي أنا جاهل سببها بس مقدرش أسيبك دلوقت، مالك يا هبه

افترست شفتيها بألم وهي تُنصت لحديثه الذي يقع عليها السوط الحاد وغمغمت بهمسٍ خافت ولكنه حزين : ليــــه؟!

جعد ملامحه بتعجب واستفهام وهز رأسه بجهل وهتف: ليه إيه؟!
ابتسمت بأمل وأغمضت عينيها للحظاتٍ ثم فتحتهم وهتفت بقوة: ليه مقدرتش تسيبني؟! ليه عاوز تعرف سبب تعبي؟! ليه خايف عليا؟! جاوبني ووقتها هقدر أجاوبك على كل أسئلتك اللي شاغله بالك

انعقد لسانه وطارت الحروف من جوفه فبلع ريقه بارتباكٍ وأشاح بنظره عن عينيها الراجيتين وتمتم بضياع: مش عارف ليه بس جوايا حابب أعرف جوايا رُكن حاسس بوجعك ورافض يسيبك فيه، عاوز اطمن عليكي مش حابب نظرة الوجع اللي مبقتش تفارق عيونك، صدقني أنا متشتت ومش عارف إجابه لكل أسئلتك دي!!

حبست دموعها الخائبة ونصب عودها الضعيف وهتفت بقوة زائفة منافية لكل الضعف المُتعايش داخلها: وقت ما تلاقي إجابتك في نفس المكان والعالم هتلاقي إجابتي

لم تنتظر رده بل جرت أقدامها بضعفٍ وخيبة أمل راغبة بوصلة من النوم لو تدوم لمئة عام أو يزيد لا ترغب بالاستيقاظ لترى نظراته المشتتة كما يزعم أو نظرات الشفقة والعطف والنفور والسخرية التي تتولد من الجميع تجاهِها، نغزات قوية تضرب جسدها بمواضع ضعفه لتزيد الأمر سوءً وترفع معدل الألم بداخلها القاتم، وصلت بالنهاية لشقتها بل عفواً شقته التي عَطَفَ عليها هي وشقيقتها بها وهي بسذاجتها وافقت بل وانصاعت له تحت مسمي الحصول على حريتها من زوجها، أغلقت الباب بضعف واستندت عليه وكتساقط الثلوج وقعت ضاممة جسدها لركبتيها وانخرطت ببكاءٍ مرير سامحة لهدنة طفيفة لقلبها من الألم الذي تذوقه وكم كان كالعلقم، علاَ صوت نحيبها تزامنًا مع ضعف جفنيها وارتجاف جسدها، شُوشَت الرؤية أمامها لا تعلم أمِن غشاوة دموعها أم من بوادر ذهابها بعالم اللاوعي والإدراك!! على كُلٍ كم هي مرحبة بذلك العالم المظلم الذي سيبتلعها عاجِلاً أم أجِلاً. …
************

من المؤسف عدم إدراكِنا لاحتياجات قلوبنا، تلجأ القلوب للهرب والجزع عندما يعلو صوت العقل بالنفور من الشخص المراد، تضعف قواتنا المُكتسبة منهم ومن ثم نبكي ندمًا وتطبًا بعودتهم، نرغب وبشدة العودة لنقطة البداية لإصلاح المزيد من الأمور ولكن عند تساقط آخر حبات الرِمال من الساعة الزجاجية يصدح العقل بالتوقف مجدداً وعندها ينتهي كل شيء بدَمعةٍ وشهقة مؤلمة....

دلف من باب شقته بخطىَ متعثرة عكس طبيعته القوية والواثقة، تمسك بالباب وانتصب واقفًا مقابل بابِها، يُقسم أنه يستمع لصوت تهشم فؤادها بيديه وتدفق الحزن لروحها، لم يكن أهِلاً بها بل بكلماته حطم المتبقي منها دون قصدٍ منه!! أغلق الباب واستند برأسه عليه وهمس بألم: لــــيــه بغبائـــي وجعتهـــا

لم ينتبه لوالدته الواقفة خلفه يبكي قلبها حزنًا على فلذة كبِدها وصغيرها الوحيد، تشعر بمرارة صوته وتلك الغِصة التي تحرق جوفه كمادة كيميائية مُلتهبة، اقتربت منه وربتت بكفها فوق كتفه بحنانٍ خالص وهتفت: تعالي

فتحت ذراعيها كطيرٍ يستعد لإنقاذ ولده الذي بدأ للتو بتعلم الطير ولكنه كان يسقط فشلاً وخوفًا، شعرت بقوة دفعت جسده لصدرها، ضمته بقوة ومسحت على ظهره بحبٍ وحنان ٍ وغمغمت بثقة: مصرحتهاش بحبك ليها ليه؟!

دفن وجهه بصدرها أكثر ولمعت الدموع بمقلتيه الحزينتين وهتف وهو يتذكر ترقرق العَبرات بحدقتيها: مكنش عندي الشجاعه الكافيه، خوفت، كنت ضايع قدامها...

أخرجته من حضنها وسارت به لأقرب أريكة، أجلسته أمامها وكورت وجهه بين يديها وهتفت بلا تردد: أنت عارف وواثق من نفسك إنك حبيتها رفضتها ليه وأنت حاسس بحبها

نظر لوالدته بتعجب من علمها بكل مشاعرهم الخفية فابتسمت بتفهم لنظراته ولكزته بكتفه وهتفت بعاطفة: أنا أمك وفهماك وأفهم عيونك وقلبك فيه إية كويس، مش عيب ولا غلط إنك تعرفها مشاعرك بس متجرحهاش، هبه متستهلش كدا، أنت خايف ليه يا حبيبي

أراح ظهره على الأريكة وأغمض عينيه بتعب وهتف بشرود: النهاردة كانت غير يا أمي، كانت حزينه ومهمومه، كانت بتشكيلي مني وإني سبب حُزنها ووجعها، سكوتها وهروبها مني كان بيقتلني، أنا مش عيل مراهق بس معاها بتحول لكدا وبنسى العالم، أنا عارف إني النهاردة خذلتها وإنها كانت مستنية ولو كلمه واحده مني بس غير كل الكلام اللي قولته بس كنت ضايع ولساني نطق بحاجات كسرتها معرفش ليه، هبه اتوغلت جوايا زي المرض اللي عارف علاجه ومش عاوزه، أنا خايف أجرحها خايف مقدرش اتعامل مع خوفها الزايد ولا كسرتها اللي استرخت فيها، أنا بقصد أبات ليالي في الشغل عشان أتهرب منها ومن عيونها اللي بتتلهف تشوفني، فاكره لما قولتيلي هتفضل عازب لامتى وقلبك ميحبش فاكره قولتلك إيه؟!

ابتسمت والدته وتحركت يديها لتمسح على خصلاته بحب وأردفت ببشاشة: قولتلي مش هتجوز غير واحده عقلي قبل قلبي عاوزها ومتلهف عليها، مش هظلم بنت ناس معايا تحت مُسمى إني مع الوقت هحبها، قولتلي أنا مش كل يوم هحب

قاطعها « ثائر» بابتسامة رائعة وأكمل بعشق: وعندي غير قلب واحد هحب بيه بنت واحده، البنت دي هبه بس قدام ضعفها بكون لأول مره متوتر ومتردد من إني أمد إيدي ليها عشان أنقذها من قوقعة الألم اللي عاشته السنين دي، هبه جميله فوق ما حروفي ولا مشاعري توصفها يا أمي

حركت السيدة « نجاة» رأسها أمامه باستنكار وهتفت وهي تدنو منه: عشان كدا مقولتلهاش إنها اطلقت من شهر فات وفاضل شهرين وعدتها تخلص! هتواجهها بكدا امتى؟! مظنش بقى ينفع تخبي أكتر من كدا

نهض بِقِلة حيلة وقبل رأس والدته بسأمٍ وتمتم بتعب: ادعيلي يا نوجا، ابنك قلبه تعبان وضايع

ربتت فوق كفه البارد بحب وأدمعت عينيها لنظرة الضياع بعيني صغيرها وهتفت بتأكيد وأمل: سلامة قلبك يا ضي عيون نوجا، بدعيلك ياابني في كل صلاة

توجه « ثائر» بخطواتٍ ضعيفة لغرفته لينعم بحمامٍ دافئ نافضًا غُبار الحزن المتربص لهذه الليلة الشنيعة بينما بقت والدته تنظر بأثره بتأثر ولوعة على ما أصاب ولدها الوحيد، رَجُلَها الوحيد الباقي لها يحترق بنيران عشقه الأول، ابتسمت بيأس وهمست بصوتٍ خافِت: بيبان الحب من شوك كل وارد مسيره ينصاب يا ضي عيني

**************

طال انتظاره لها أمام باب المرحاض، مضى أكثر من نصف ساعة على دخولها لتبديل ثيابها ولم يلوح طيفها للآن!؟ طرق عدة طرقات على باب الغرفة بنفاذ صبر وهتف بغضب: أثـــيــــر اطلعـــي بقا

سمع صوت فتح الباب وتواريها خلف الباب فجز على أسنانه وصاح بحدة وتمالك: اطلعي بقا يا زفته بتعملي إيه دا كله

ابتسمت« أثير» بسماجة وارجعت خُصلة هاربة من تسريحتها وهتفت باستفزاز: عاوز أيه يا بيبي! أله مش عروسه

افترس « راكــان» أسنانه بغضب من تصرفاتها التي تُشعل فتيل غضبه وهتف بحدة: عاوز اعمل زي الناس ثم تعالي كدا

ألقى ملابسه على الأرضية وتقدم منها جاذبًا تلابيب ثوبها الذي لم يتبين ملامحه وهتف وهي بين يديه كالجرو الخائف: عروسة إيه يا أم عروسه هنكدب على بعض ما أنتِ لعبتيها صح

أغمض عينيه بجزع ثم فتحهم فوقعت عيناه على ثوبها الأبيض الذي بالكاد يصل لقبل ركبتيها بكثيرٍ بحمالاته الرفيعة وتلك الحِبال الخلفية التي تُشكل غِطاءً لظهرها!!! حتماً سيفقد تحمله وصبره، دفعها من أمامه بحدة وهبط متناولا ملابسه وهم يستغفر، أزاحها مجدداً بقبضته وهتف بغيظٍ: روحي نامي في ليلتك اللي مش هتعدي غير بذنوب الليلة دي، روحي منك لللاه يبنت الشاملي، هو ثائر الكلب اللي باصصلي في أم الليلة الفقر دي

وضعت يديها على فمها تكتم ضحكاتها بصعوبة من وجهه الأحمر وأذناه القانيتين وأنفاسه الغاضبة، أدمعت عينيها بسبب عدم قدرتها على كتم ضحكاتها فانفجرت ضاحكة بشدة حتى تساقطت بعض دموعها الساخرة والمتشفية فيه، اقترب منها « راكــان» مسحورًا بمظهرها الفاتن وهيئتها المُغرية وهتف بلا وعي: يخربيت حلاوة ودلال أمك يشيخه أنتِ كانوا بيشربوكيِ فلاوله بدل اللبن ولا إيه

صمتت ضحكاتها من غزله الصريح وقتامة عيناه التي تزداد واتساع حدقتيه وهتفت بغرورٍ مُدلل اكتسبته مؤخرًا: تؤ لبن عادي يا روحي

ابتسم « راكـــان» بمُكرٍ وقرصها بــ خِصرها بِــ خفة وهتف بعبث: طب ما تيجي أقولك كلمه سر

شهقت « أثير» من وقاحته المُفرطة وأغمضت عينيها بخجلٍ عكس جرأتها السابقة وهتفت بحزم: ادخل خدلك شاور ونام يا راكــان وخد بالك أحسن تاخد برد

هز رأسه بسخرية وتخصر باستهزاء وهتف: واغسل سناني قبل ما أنام بالمرة يا مامي!؟

أشاحت بوجهها بعيدًا عنه وأدارت ظهرها له متناسية ثوبها بكل تفاصيله!! كاتمة ضحكاتها ولمعة عيونها المُبهرة وهتفت بكبرياء مصطنع: يلا لأن الوقت اتأخر

حملق بعينيه بزهول من ظهر قميصها المُنعدم إلا من خيطين منعكسين بعقدة صغيرة عند المنتصف كاشفًا بشرتها البيضاء الذي موقن من نعومتها ورقتها مثلها، تحركت أصابعه لتلامس بشرتها ولكنه تراجع بأخر لحظة عن فعلته ووضع المِنشفة على رأسه بحنقٍ وهتف: اللهمَّ أخزيك يا ابليس الكلب بتفكيرك القذر وأفعالك الأقذر

********************
غريبة ثم زوجة ثم والدة ومن ثم تصبح العالم بأسره، حسن اختيار الزوجة من أفضل الأرزاق التي منها الله علينا، فلن تبقى ليوم أو ليومين بل للدهر وما بعده سنتشارك بالضراء قبل السراء، هي من ستتقبل ظلمتك الداخلية وبل وتحاول أن تُنيرها بكل ذرة من قوتها....

دثرته جيداً بالفراش وضمت رأسه لصدرها وهمست بحب: ارتاح شوي جسمك محتاج راحه عشان يقدر يواصل

شعرت بهزة رأسه بالنفي بين ذراعيها فابتسمت بخفوتٍ وتحدثت بأمرٍ مرح: لما أقول ارتاح يعني ترتاح من هنا ورايح في قوانين يا أستاذ

أخرج رأسه من بين براثين قلبها الدافئ ورمقها بنظرة شغوفة ومحبة وهتف بتأكيد: يا قلب الاستاذ اللي تأمري بيه هيكون بس مش عارف اشبع منك وخايف أنام ولقدر الله

قاطعته بعنف واضعة يديها فوق شفتيه وهزت رأسها بنفيٍ هيستيري وهتفت بحزم ورجاء: لا لا بعيد الشر، أنا واثقه إن ربنا مش هيردني خايبه

قبل باطن كفها بعمق ورفع يديه لتتحسس وجهها المميز له وابتسم بعشق وغمغم بانبهار: من أول يوم شوفتك فيه وشكلك شدني زي ما يكون حواليكي تعويذه وقعتني على جدور رقبتي، طول عمرك مميزه يا ورده

تلمست كفه بكفها الصغير وتمسحت به كهرة صغيرة وهمست بحب: رغم كل مشاكلنا وخناقتنا قلبي مكنش قادر يكرهك ولا يبطل يحبك، كان بيعاندني وينهرني لما أفكر أبعد عنك، بهرب منك إليك، معرفش حبيتك ليه وأنت معندكش ولا ميزه

رمقها « براء» بغيظٍ وجعد ملامحه وهتف وهو يشد أذنها: أنا مفيش عندي ولا ميزه يا شبر ونص

بادلته « ورده» بنظرة مماثلة ولكنها ساخرة وهتفت بغرور: تنكر إنك وقعت بسبب الشبر ونص دي؟!

ترك « براء» أذنها وضحك حتى ادمعت عيناه ثم جذبها لصدره بحب ودثرها جيداً بالفراش معه وهتف بتأكيد: والله دوختني وخلتني زي المراهق اللي بيستنى نظره من حبيبته

رفعت « ورده» أحد حاجبيها باستنكار وبجرأتها المعتادة جذبته من تلابيب قميصه وهمست وأنفاسها تداهم صفحات وجهه: بذمتك في مراهق قمر كدا؟!

ثانية وأخرى لم يستوعب «براء» وقاحتها ولا أفعالها الجنونية فانفجر ضاحكًا عليها بشدة حتى ترقرقت الدموع بمقلتيه الساحرتين وهتف من بين ضحكاته: يبنتي أنتِ عليكي طلعات بتوقف قلبي والله

رفعت « ورده» رأسها بكبرياءٍ وشموخ ورمقته بنظرة شاملة ولكنها أبدلتها بعد ثوانٍ بأخرى ماكرة وغمزته بوقاحتها وهتفت بمرح: سلامة قلبك يا قرة عيني يا قمر أنتَ

ارجع «براء» ظهره على الفراش وجذبها لتتوسد صدره العضلي ولم تختفي ضحكته التي هي سببها الرئيسي وهتف براحة واطمئنان: قلبي بسلامته لأنك قريبه منه
********************
فاقت من ليلتها العصيبة على صوت طرقات الباب، لا تتذكر شيء سوى وقوعها وبكائها وتلك الغشاوة التي أصابتها ومن ثم انتهى كل شيء، نهضت بضعف وفتحت الباب، رأت نظرة شقيقتها المعاتبة على تقصيرها الذي فاض عن حده بالأيام الماضية، لقد نست وجودها عند والدة « ثائر» ليلة أمس، ساعدتها بالدخول حتى جلست بمنتصف الردهة ومازالت عينيها تلتهمها بنظرات العتاب واللوم الذي يرهقها فوق ما تعانيه من آلالامٍ جسدية ونفسية جارفة، جلست جانبها بصمت قاطعته رحمه بصوتها المتوجس: أنتِ كنتِ نايمه جنب الباب بهدومك؟!

ابتلعت « هبه» غصة الألم التي انحدرت لتقعد لسانها وحاولت إخراج حروفها ولكنها عجزت فهمست بتعب: رحمه ممكن تسيبيني دلوقت؟!

اعتدلت «رحمه» بجلستها لتقابل تهرب شقيقتها الكُبرى ونظراتها الحزينة التي تفهمتها جيداً وهتفت بإصرار: لا مش هسيبك وضعك بقى ميتسكتش عليه، بقيتي نسياني ولا كأني موجوده، تقبلت كل حاجه وقولت متضغطيش عليها بس عجبك شكلك دا؟! لبسك اللي نمتي بيه والنقاب اللي ممكن كنتي تموتي وأنتِ كاتمه نفسك بيه طول الليل ولا عينك الحمرا من كتر العياط ولا جسمك اللي بيضعف يوم عن يوم؟! راضيكي ضعفك دا؟!

أشاحت بوجهها عنها وابتسمت بسخرية، أتخبرها انها لا تعرف كيف نامت بل بالأصح غابت عن الوعي؟! أم تخبرها عن تلك القبضة ابتي تعتصر فؤادها؟! أم عن حُطامِها ليلة أمس للمرة الثانية على التوالي على يد من أحبت؟!

كعادتها نهضت ببطء ووهن ودلفت غرفتها وسط تعجب الصغيرة الغاضبة والحزينة على شقيقتها وأمها الأولى والوحيدة حتى الآن، لم تكن « هبه» لــ «رحمه» مجرد أخت بل كانت أعظم من ذلك بكثير، كانت الرفيق الأسمى والأنيس الأغلى بل الأوحد والقلب الحاني والصوت الغالي والأم المثالية والأب الألطف والعالم الأروع لها، حين تبكي تضمها وحين تبتسم تتراقص معها، نسجت لها من جسدها سعادتها وقوتها اليومي، نضجت مبكرًا لما عانته شقيقتها أمام عينيها...

****************
استيقظ بنشاط وحماس أفتقده لأيامٍ عديدة، بعد ليلة عصيبة من التفكير والتحليل اتخذ قراره، اليوم موعد إزالة جبيرة « رحمه» سيصارحها بكل ما يجيش بصدره حتى يهدأ نبض قلبه ويتوجها ملكة لبيته وأمًا لأولاده الذي يرغب بهم، بعد نصف ساعة كان يقف أمام باب شقتها بتردد، طرق الباب فآتاه صوت الصغيرة، فتحت له « رحمه» ودلف خلفها ودار بعينيه بالمكان لعله يلمحها فأخرجه من تأمله صوت الصغيرة: هبه بتلبس وجايه

مضت بضع دقائق وخرجت له، كانت غريبة على عادتها الطيبة البشوشة التي يراها من خلف نقابها ولكن اليوم هي جامدة!! حمل « رحمه» وتقدم منها حتى وصلا للسيارة، فتح لها المقعد المجاور له وما صدمه هو تجاهلها له وجلوسها جانب شقيقتها بالخلف دون أن تعيره أدنى اهتمام، علت أنفاسه بغضب من فعلتها وعدم مبالاتها لمحاولته لفت انتباهِها فصفع الباب بعنف ورمقها بنظرة حادة لم تبادله إياها، اتخذ مقعده بغضب وانطلق لوجهتهم.....
**********************
بالعاشرة صباحًا كانت « ورده» تجلس جانب والدتها ووالدها على مائدة الإفطار تشاركهم إياه وقلبها مُعلق بزوجها النائم مع الفجر، ابتسمت بخفوتٍ لتلك الزكريات القليلة التي تشاركاها معاً ولم تنتبه لنظرات والدها الماكرة لها، تحرك « بلال» بكرسيه لغرفته وهتف: ورده تعالي عاوزك في كلمتين قبل ما تروحي المستشفى

نصبت عودها وسارت خلفه بعدما طبعت قبلة سعيدة فوق رأس والدتها، دلفت الغرفة بمرح وابتسامتها تتسع مع لمعة عينيها وهتفت وهي تجلس أمام والدها: يا نعم يا حاج بلال

رمقها والدها بنظرة مشمئزة ومط شفتيه بقرف مصطنع وهتف: بقى دي منظر واحده هتتجوز وتبني بيت يا ربي

ابتسمت « ورده» بسعادة فور نطق والدها بذلك وغمزته بمكر وغمغمت بمرح: جوزني بس ومتحملش هم، بنتك قدها

صفعها « بلال» بخفة على وجنتيها وهتف بحسرة: والله ما شوفتي خمس دقايق تربية

مطت « ورده» شفتيها بغيظ وقبلت عينيها بملل وتمتمت: يا حاج جوزني بس ونتفاهم في اتربيت ولا لا دي بعدين

أعطاها والدة نظرة أخرستها وجعلتها تبلع ريقها وخفضت رأسها بخنوع وهتفت: أحلى مسا عليك يا كبير اتفضل

كاد أن يضحك من تبدل حالها ومرحها الدائم رغم علمه بخوفها على زوجها ولكنه ربت على شعرها بحنان وهتف: مبسوطه معاه؟!

رفعت رأسها ببطء وابتسمت بصفاء وهمست بنبرة تتلونها السعادة والرضا: عمري ما كنت راضيه ومبسوطه قد دلوقت يا بابا، عارفه إننا مش بناخد كل حاجه مره واحده وإن ربنا بيختار لينا الخير وراضيه بتعبه وكمان واثقه من شفاؤه لأن ربنا عمره ما رد دعوتي، براء كان خيال مش مجرد حلم بحلمه ولما عيشت الخيال دا شوفت الدنيا بتوضي زي طفل فضل طول عمره بيشوف العالم من ورا نضارته بس لما ربنا أنعم عليه وعمل عمليه شافها بألوانها الأساسية مش الباهته ولا الضبابيه، أنا راضيه

انحنى والدها طابعًا قبلة متأثرة وفخورة فوق رأس طفلته وهتف بحزمٍ وبوادر بكاء: روحي لجوزك ومتفرقهوش يا ورد الدار ورحيقه الغالي

ضحكت مع ترقرق الدموع بعينيها السوداء وابتهجت لهذا اللقب الذي أسكنه والدها بقلبه لأعوامٍ أمدية لها وغمغمت بحب: شكراً لأنك صاحبي قبل أبويا

نهضت دافنة رأسها بصدره ويديها الصغيرتين تتمسكان بقوة بقميصه من الخلف وسط دموعها الشاكرة والراضية وهمست بخفوت: شكراً

*****************
انتهت جلسة « رحمه» مع الطبيب بسلام وتم حل جبيرتها، جلست أيضا جانب شقيقتها وأبعدت نظراتها عنه، طوال الطريق كاد يصيبهم بحوادث شنيعة بسبب تبلدها وجمودها معه، قاسية هي حواء بغضبها وعتابها، أوقف السيارة أمام أحد المطاعم الفاخرة وحول نظره لها ليجدها تنظر من نافذتها بهدوء، قبض على المقود بغضب حتى أبيضت سُلمياته وهتف باستفزاز: هنتغدى هنا

خرجت عن صمتها وبرودها ولكن لم ترمش بعينيها وهتفت بثبات: لا

ترك المقود ودار بجسده ليواجه جمودها المفرط وغضبها الزائد وهتف بحدة: لا لي؟! البنت مخرجتش بقالها كتير والنهارده فكت الجبس وفرصه تتفسح شوي

لفت رأسها كإنسانٍ آلي ورمقته بنظرة فارغة وهتفت بحزم: متقررش حاجه نيابة عني، رحمه دي أختي أنا اللي أقول المناسب ليها واللي مش مناسب حضرتك مجرد واحد كان بيعطف علينا والحمد لله مش مضطر أكتر من كدا لأنها زي ما قولت من شوي فكت الجبس

هز رأسه بعدم استيعاب وابتسم بسخرية لحديثها الصادم له وهتف بتعجب: قصدك إيه؟!

ابتسمت ببرود وسلطت نظراتها عليه وهتفت بتأكيد ونبرة غير حاملة للنقاش: يعني شكراً دور حضرتك لحد كدا خلص وفرصه سعيده واتشرفت بمعرفتك، هنرجع بيتنا في الحارة وبالنسبة لطلاقي هقدر أخد حقي بنفسي وارجع وأقولك شكراً!! دي النهاية يا ثائر.....

لم يتفوه جوفه غير بعدة أحرف متعلثمة وبطيئة كبطء أنفاسه: النــــ … هـــ… اا.... يـــه!!!!


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close