رواية هل الضربة قاضية الفصل السادس 6 بقلم نهال عبدالواحد
(الفصل السادس)
بقلم نهال عبدالواحد
وصلت حبيبة إلى مكان تدريبها ، تدربت بعدائية شديدة؛ أخرجت غضبها، طاقتها ومعاناتها في ذلك الكيس المعلّق فضربته بكل ما أوتيت من قوة.
كانت تلكم الكيس وشريط حياتها وذكرياتها يمر أمامها، تري ما ترتيب هذه المرة؟
المئة! الألف! المليون!
حقيقةً لم يعد لديها طاقة للعد؛ فذكرياتها تلك ملازمة لها لا تتركها.
معاناة أمها في العمل مع سوء المعاملة، معاناتها هي أيضًا والحرمان من الكثير؛ حُرمت من وجود أب، من حياة كريمة، أن تحلم و تتمنى حتى بأقل الأشياء، فكانت تضطر إلى الاستغناء عن الكثير حتى لا ترهق أمها أكثر من اللازم.
أمها التي كدت وتعبت لتربيها وصارت لها الأب والأم...
الأب!
فتحدث نفسها وتعيد تساؤلاتها لماذا تركتنا؟ لماذا ذهبت واختفيت دون سؤال؟ ألم تشتاق لزوجتك يومًا؟ لقد كانت تحبك حتى آخر أيامها لدرجة تكاد تصيبني بالجنون؛ فأي حب هذا؟!
كيف استطاعت وتقبّلت أن تظل مكتوبة زوجةً لك رغم كل ما حدث؟! كيف استطاعت أن تتحدث عنك بكل خير دون حتى أن يمتعق وجهها؟!
أي حب هذا؟! اللعنة على الحب و على الرجال جميعًا!
حتى أحلامي ورغبتي في إتمام تعليمي وأصبح فتاة جامعية -وهي رغبة مشروعة- لكني حُرمت منها، لم أحققها إلا بعد تحقيقي لتلك البطولات واكتسابي لبعض الأموال فأنفقتها في التحاقي بإحدى الجامعات المفتوحة لأحصل على شهادة أعلى، أي شهادة، لكن أحلامي كانت غير ذلك.
بطولاتي!
لعبت تلك اللعبة بالصدفة البحتة؛ كنا فتاتين وحيدتين بعد وفاة أمي بمرضها اللعين ومن بعدها وفاة خالتي، وكان قد توفي زوج خالتي منذ زمن، فهاجر أيضًا قد حُرمت من الأب في سنٍ مبكرة، ربما افتقدته بعد أن وعت إليه وعاشرته، ربما هذا أصعب!
لكن هاجر متصالحة مع نفسها ومع حالها وظروفها كلها؛ فهي تشتاق لأبيها وأمها، لم تأبه لكونها لم تتعلم تعليمًا جامعيًا ولم توافق أن تكمل دراستها معي، لازالت فتاة حالمة رغم كل شيء، تحلم بالزواج وفارس الأحلام والفستان الأبيض.
لكني غيرها، تراني ساخطة كما تتهمني دائمًا!
حتى لو كنت هكذا أرى أني محقة.
التحقت لألعب لعبةً قتالية، لم يكن لديّ رغبة في لعبة بعينها، لكني وجدتُ لعبة الملاكمة متاحة أمامي فاختارتها وأجبرت هاجر أن تلعب مثلي؛ فنحن بحاجة لوسيلة حماية أنفسنا تجاه الطامعين فينا.
لم يكن لهاجر من الصبر ولا المثابرة لتواظب على التدريب ولا لعب هذه اللعبة، عكسي تمامًا فبمجرد أن بدأت بلعبها حتى أحببتها وتفوقتُ فيها بشكلٍ ملفت، وبدأت ألفت انتباه مدربيني إليّ، وبدأت ألتحق ببطولات عديدة حتى وصلت إلى بطولة الجمهورية وحصلت عليها، صحيح أنها كانت ميدالية برونزية لكنها وسام على صدري، ثم تبعتها العديد من البطولات المحلية والدولية التي التحقت فيها وحققت العديد من الميداليات البرونزية والفضية بعدها التحقت بفريق المنتخب الوطني وصرت أمثّل وطني في العديد من البطولات.
حقيقةً التحاقي بفريق المنتخب الوطني قد وفر عليّ الكثير؛ فصار هناك رُعاة رسميين هم من يتولون احتياجات اللاعبين وتوفير كل شيء لهم.
لكن حتى هذا النجاح الذي حققته نجاحًا ناقصًا، فلازالت الألعاب الفردية تعاني من التهميش في بلدي...
لازالت تفكر وتحدث نفسها، ولازالت تلكّم كيس الملاكمة المعلّق بقوة وانفعال، حتى بدأت تشعر ببعض الانهيار، وفجأة ضمت ذلك الكيس وعانقته بشدة وتمنت لو انفجرت بالبكاء؛ فلازال صدرها متكدّسًا بالهموم والآلام!
حتى جاءها صوت مدرّبها: إده يا بيبو! ده إيه التمرين الجديد ده؟!
فانتبهت لصوت المدرّب وتركت ذلك الكيس وهي تحاول جاهدة حجب كل تلك المعاناة، وقبل أن تنطق بكلمة تابعها المدرّب قائلًا: في واحد جاي يتدرب، جهّزي نفسك عشان تتعرفي عليه.
فأجابته وهي تبتعد عن كيس الملاكمة: خليه يجهز ويجي.
جلست أرضًا فخلعت قفازيها ثم فكت تلك الأربطة التي تربط بها رسغيها، ثم خبطت كفيها ببعضهما ببعض لتُنفض ما فيه من آثارٍ للبودرة، وكانت تلهث وتتلاقط أنفاسها متصببة عرقًا، فأمسكت بزجاجة الماء وبدأت تشرب...
ثم شردت في صاحب البيت وفي حالة البيت المتهالكة، فماذا لو طُردتا من البيت؟! ماذا لو هُدم البيت علي رؤسهم؟! كيف ستخرج من ذلك المأزق؟!
ليته ينتظر حتى انتهاء البطولة القادمة؛ ربما بالمال الذي ستحصل عليه تستأجر بيتًا آخر، رغم أنها ليست بأموالٍ طائلة، فهي ليست لاعبة كرة قدم!
رفعت رأسها لأعلى وهي تهمس في نفسها: إفرجها يا رب! قوينا وعنا وما تحوجناش لحد من عبيدك!
وفجأة وجدت المدرب يقف أمامها وهو يتحدث معها مشيرًا لذلك الذي يقف خلفه: يلا يا كابتن عشان تدربي، الأستاذ جهّز نفسه واستعد تمامًا.
فتابع الرجل قائلًا: معاك كابتن حبيبة القاضي، بطلة مصر وأفريقيا.
بدأت حبيبة تنهض واقفة بينما اقترب ذلك المتدرب الجديد منها مرتديًا ملابسًا وحذاءً رياضيًّا حاملًا على كتفه حقيبة رياضية.
اقترب وهو يعرّفها بنفسه قائلًا: رياض نصّار، صاحب محلات نصّار للملابس الكاجوال الرجالي.
شبّهت على ذلك الصوت فرفعت عينيها بسرعة لتتفاجأ بذلك الوسيم الذي قد رأته من قبل في المطعم، لكنها ضيقت عينيها بعدم تصديق وقد ظنت فيه كل ظنون السوء، ثم حدثت نفسها بمكرٍ داخلها لم تظهره على وجهها أن قد تحققت أمنيتي، وقد جئت بقدمك، إذن فلتذهب إلى الجحيم!
ابتسم الشاب ابتسامة عريضة ومد يده ليصافحها، بينما هي ظلت ترمقه بنظراتها، ثم تجاهلت يده الممتدة لمصافحتها وسارت لبضع خطوات في وسط قاعة التدريب المتسعة، ثم تحدثت برسمية: معاك كابتن حبيبة القاضي، هتدرّب تلات أيام في الأسبوع و مدة التمرين من ساعة ونص إلى ساعتين، والمواعيد نهارية قبل الساعة اتنين؛ لأني بعد كده ما عنديش مواعيد فاضية.
فأجابها رياض بهدوء: تمام، الكابتن قاللي واتفق معايا على كل ده.
- هتتمرن بوكس ولا كيك بوكس؟
- بوكس!
فأجابت بنفس حدتها: تمام، هنبدأ نسخّن الأول...
وقبل أي جواب منه وجدها تبدأ بالجري حول تلك القاعة الكبيرة مشيرة إليه ليلحق بها، وبالفعل لحق بها، وبعد جريا عددًا من الدورات، بدأت تقفز بقفزات مختلفة وهي تتحرك في نفس الاتجاه، ثم الجري للجانبين يمينًا و يسارًا، ثم جري مع تحريك الذراعين بحركاتٍ مختلفة.
ثم عدد من تمارين البطن والضغط ،كانت تشاركه التمارين؛ فهي في الأساس تريد أن تتدرب هي أيضًا، ولم يُسمع سوى صوت عدّاتها أو ما تأمر متدربها به.
ثم استراحة قليلة فجلسا أرضًا لشرب الماء وهما متصببان عرقًا، وبينما هو جالسًا أرضًا إذ اتجهت إلى إحدي الجوانب لتحضر بعض الأوزان المختلفة لبداية تدريب اليدين.
وبدأت بالفعل لتدريبه بتلك الأوزان، بعمل التمرين أمامه ليقوم بتقليدها، بالطبع سرعة استجابته ولياقته لم تغيبا عنها.
ثم استراحة قليلة فجلسا مجددًا لشرب بعض رشفات الماء، ثم نهضت لتعيد الأوزان مكانها وتحضر تلك الصدادات وهي أداة يمسكها المدرّب لها هيئة مستطيلة وسميكة، خامتها تشبه كيس الملاكمة ومغطاة بطبقة من الجلد، لكنها تُمسك بكل يدٍ واحدة و يقوم المتدرب بتسديد الضربات فيها باليدين كما هو الحال في لعبة الملاكمة أو اليدين والقدمين كما هو الحال في ألعاب الدفاع الأخرى.
وقفت أمامه وقد ارتدى قفازيه، بدأ يسدد الضربات وهي تقف ثابتة في مكانها ويرتفع صوتها بالعد وفي وصف كيفية الوقفة وكيفية تنظيم عملية التنفس.
ومع اتقانه الملحوظ بدأت تتحرك أثناء تسديد ضرباته فيتحرك معها، للأمام، الخلف والجانبين، ثم بدأت تزيد من سرعة حركاتها، ثم تحرك يديها الممسكتين لتلك الصدادتين وكأنها تسدد ضربات بهما وهو لازال يسدد ضرباته فيهما، ثم مع اندماجه أخذت تزيد من سرعتها لتنتقل بشرودها من جديد فتصبح حاضرة جسدًا لا عقلًا ولا روحًا، لكن وكأن تلك اليدين مبرمجة على الضربات السريعة فصارت تسرع في الحركات بتلقائية ولاوعيٍ منها، ولم تنتبه إلا من صوت صرخة!
فانتبهت لتجد رياض ملقى أرضًا على ظهره مبللًا تمامًا بالعرق، يتلاقط أنفاسه بالكاد ويصرخ بصوتٍ مبحوح وسط الأنفاس المتلاحقة: كفاية!
وكأنما أُفيقت فجأة من غيبوبة لترى حالة رياض هكذا، فقالت بهدوء ناظرة إلى الساعة: التمرين انتهى.
ثم انصرفت تجمع أشياءها واتجهت نحو الحمام دون أن تلتفت لما أحدثته فيه، فاضطر رياض للنهوض وفعل ما فعلته.
كان وجه حبيبة أثناء التدريب والذي يقسم أنها كانت شاردة بل وفي أمرٍ ليس هين، من الواضح أنها تعاني من الكثير... هكذا كان يحدّث نفسه و هو يقف تحت مرش الماء.
أما هي فلازالت تعيد اسطوانات ذكراياتها الطويلة ومعاناتها الكثيرة بلا توقف، كم تتمنى لو غسل ذلك الماء المتساقط فوق رأسها كل تلك الذكريات ومحاها تمامًا لكن هيهات!