اخر الروايات

رواية وريث آل نصران الفصل الثاني والستون 62 بقلم فاطمة عبدالمنعم

رواية وريث آل نصران الفصل الثاني والستون 62 بقلم فاطمة عبدالمنعم 

بسم الله الرحمن الرحيم


فيا عجباً لمن ربيت طفلاً
أُلقّمه بأطراف البنانِ
أعلِّمه الرمايةَ كلّ يومٍ
فلما اشتدّ ساعدُه رماني
وكم علّمتُه نظْمَ القوافي
فلمّا قالَ قافيةً هجاني
أُعلّمُه الفتوّةَ كلّ وقتٍ

(لمعن ابن أوس المزني)

توترت الأجواء كثيرا بعد ما حدث، والدتها تشتعل غضبا وهي تجذبها من ذراعها بعيدا عنه... أشار "نصران" لطاهر بعينيه ففهم مقصد والده على الفور واقترب من "شهد" هامسا:
"شهد" هاتي "مريم" وتعالي نقعد في الجنينة برا ونسيبهم مع بعض شويه.

هزت رأسها موافقة، وحمد هو ربه على نوم ابنه جوار "ميرڤت" حتى لا يشهدا هذه الأجواء القادرة على إتلاف الأعصاب ببراعة.
قبل أن يتوجه مع الشقيقتين نحو الخارج أوقفته "سهام" سائلة بنبرة منخفضة:
على فين يا حبيبي؟

_هاخدهم ونخرج برا شويه، قولي لحسن يخرج ورايا، وياريت يا ماما تسيبيهم مع بعض يحلوا مشاكلهم سوا.
كانت ماهرة في تصنع الطاعة، وهي تبدي رضاها التام على ما قال ابنها، حثت ابنها الاخر على اللحاق بأخيه ثم عادت لتجلس على إحدى الأرائك وهنا خرج صوت "نصران" يقول بهدوء:
مش هنتكلم على الواقف يا ست "هادية"، اقعدي وهشوف مشكلتك وعلى عيني هحلها.

رفع " عيسى" كفه باعتراض وهو يقول:
مع احترامي لكلامك يا حاج، وللي الست "هادية" عايزه تقوله، بلاش كلام دلوقتي علشان "ملك" محتاجه ترتاح.

_ وأنا محتاج اسمع منها هي كانت فين وايه اللي حصلها؟
قالها "نصران" وعيناه لا تفارق ابنه، الأمور مرتبطة ببعضها، من فعل ذلك كان يقصد ابنه، ما حدث هو بالتأكيد طرف أساسي فيه ولكنه تراجع عند كلمات "ملك" وهي تهتف بإجهاد حقيقي:
عمو ممكن مش دلوقتي؟، أنا مش هقدر أقول ولا أحكي أي حاجه دلوقتي، وباختصار هما كانوا عايزين يسرقوني خدوا الموبايل والفلوس وكل اللي كان معايا وسابوني.

شهقت والدتها بصدمة، ليس خوفا على المقتنيات التي فُقِدت، بل خوف نبع من تخيلها لكل اللحظات المرعبة التي عاشتها ابنتها قبل قليل، بفطرتها كأم لم تستطع منع نفسها من احتضانها وهي تقول:
في داهية، مش مهم في داهية أي حاجه... المهم أنتِ يا حبيبتي.
أتبعت جملتها الأخيرة وهي تتفحص جبهة ابنتها التي وُضِع على جانب منها لاصق طبي وقبل أن تسأل عن أي شيء، لمحت في عينيها الرجاء فأردفت:
قومي يا حبيبتي نروح علشان ترتاحي.

طلب منها "نصران" معلقا على قولها:
خليها تطلع ترتاح فوق يا "هادية"... " ملك" بنتي والبيت ده بيتها قبل ما يكون بيت ابني اللي قاعد قدامك ده.

احتدت عين "سهام"، هذه النقطة خصيصا هي المأزق، أخبرها عقلها بأنها على صواب، هذا ما تسعى له " هادية" وابنتها.

مد "عيسى" يده لها قائلا:
تعالي يا "ملك" أنا هطلعك أوضة "رفيدة".

يأخذ القرار هكذا، دون انتظار رد والدتها أو قول والده مما جعل " نصران" يقول بحزم:
اقعد مكانك، لما الست "هادية" تقول الأول، ولو موافقة "تيسير" اللي هتطلعها مش انت.

أمام قول "نصران" هذا، لم تستطع "هادية" منع نفسها من الابتسام، أول رد تراه تجاه الأفعال الحمقاء التي تصدر من زوج ابنتها لذلك هتفت بهدوء حل عليها بسبب ما تفوه به رب المنزل:
انده يا حاج "تيسير" تطلعها.

هز "نصران" رأسه برضا ثم ارتفع صوته مناديا باسم "تيسير" التي أتت له مسرعة، ثم نفذت ما طلب واصطحبت الضيفة إلى غرفة "رفيدة"... وما إن وصلا حتى قالت بحماس:
والله لو اعرف انك هتباتي هنا، كنت نضفت الأوضة التانية من الصبح، معلش خليكي في أوضة الست " رفيدة" النهارده.

أعطتها "ملك" ابتسامة ممتنة، ثم جلست على الفراش، وتناولت الصورة الموضوعة على الطاولة المجاورة له، حملت الإطار وهي تتطالع الصورة بداخله، صورة جمعتهم جميعا "فريد" و "عيسى" و "طاهر" و "حسن" وأخيرا "رفيدة" التي وقفت في الأمام.
من يشاهد الصورة لا يستطيع التفريق أبدا بين "عيسى" و "فريد" لذلك لم تستطع منع نفسها من سؤال "تيسير" وهي ترفع الصورة أمام عينيها:
تعرفي تفرقي "عيسى" و "فريد" يا "تيسير"؟

ضحكت " تيسير" وهي ترد على سؤالها:
افرق ايه بس، ما أنتِ شايفه أهو يا ست "ملك" نسخة طبق الأصل... جايز في فرق بس الأستاذ "عيسى" مكانش علطول قاعد هنا علشان اعرف بالعشرة افرق بينهم، لما كان بينزل كنت بتلغبط فبقاطع الاتنين.

ابتسمت "ملك" على دعابة الواقفة أمامها، وقالت ومازالت تتأمل الصورة:
أنا بقى أعرف أفرقهم كويس أوي....
حنين خرج في زفير مطول تبعه قولها:
ربنا يرحمك يا "فريد"، يارب تكون مرتاح في مكانك.

_ الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته، كان مفيش زيه أبدا في حنيته وطيبة قلبه، والأستاذ " عيسى" كمان لما تعاشريه تعرفي انهم ميتخيروش عن بعض.. هو بس الفرق إن أستاذ "عيسى" مدردح شويه.

ضحكت "ملك" وهي تكرر خلفها:
مدردح!
ابتسمت "تيسير" ثم قالت:
اه مدردح، المهم علشان الحاج ميقولش هي راحت فين، أنا هسيبك ترتاحي بقى، لو احتاجتي أي حاجه افتحي الباب بس واندهيلي وأنا هطلعلك.

شكرتها "ملك" على ما قالته ثم تابعت انصرافها، حين تيقنت من أنها صارت وحدها هنا، أزالت حجابها بحرص شديد بسبب ألم رأسها، تمددت على الفراش دون فعل أي شيء اخر، هي فقط تحتاج للراحة، مارست سلطتها على عقلها تجبره على عدم التفكير في أي شيء أبدا وهي تغمض عينيها موفرة كل شيء لضمان نجاح محاولة النوم والاسترخاء.

في الأسفل أنصتت "هادية" بالقول للإجابة التي قالها "عيسى" حين سألت هي و "نصران" عما حدث وكيف وجدها فأجاب باختصار:
ملك محكتش أي حاجه، لما ترتاح هتحكي كل اللي عندها، أنا لاقيتها في طريق مقطوع اتبعتلي ال location بتاعه ومتاخد منها حاجتها...بس دي مش حكاية سرقه.
قال "عيسى" جملته الأخيرة غامزا لوالده ثم تابع بتوعد:
وأنا هعرف اللي عملها.
شعر "نصران" أن هناك ما يخفيه ابنه ولا يريد قوله أمام والدتها فقال:
لما "ملك" تقدر تتكلم، نفهم منها... خلينا دلوقتي نحمد ربنا انها رجعت ونبص لمشكلتكم.... اتكلمي يا ست هادية.

هتفت بانزعاج، متذكرة أدق تفاصيل ما حدث:
ها يا "عيسى"؟
وجهت نظراتها له وهي تكمل مقترحة:
تحب تحكي أنت ولا احكي أنا؟

لم تر الخوف في عينيه قط بل ضحكة واسعة وهي يخبرها:
بقى معقوله هتبقي ضيفة عندنا ونسيبك تحكي، أنتِ تقعدي برنسيسة يا ست " هادية" تشربي شايك، واحكي أنا.

أنهى "نصران" الدائر بينهما بقوله:
أنا هسمع منكم انتوا الاتنين... اتكلمي.

بدأت "هادية" في الحديث وهي تعيد ذكر ما اشتكت منه سابقا:
قولتلك قبل كده يا حاج "نصران" ابنك مبيحترمليش كلمة، اخر مره قال لملك كلام عن انه هيتمم الجوازة وهياخدها من بيت عمها على بيته هنا... استغربت علشان محدش جابلي سيرة بالكلام ده، جبته المحل وبسأله بالراحه أنا ليه معنديش علم بالكلام ده مش المفروض ابقى عارفاه، او على الأقل يبقى في تمهيد عنه منك.... كده أنا غلطانه؟

هز "نصران" رأسه نافيا، وهتف باعدا عنها أي خطأ:
لا طبعا مش غلطانة.

تابعت السرد بغضب حقيقي وهي تفصح عن بعض من تفاصيل الموقف الذي تسبب فيما حدث :
علقلي المشنقة على الكلمتين دول، قال كلام يشيله الغلط وانا مش هكرره تاني علشان هو عارف قال ايه كويس، وبقى عمال يرزع في الحاجه وهيكسر الدنيا... ولو بكدب في حرف من اللي بقوله يكدبني.

توقفت عن الحديث، لم تكذبها "سهام" أبدا، هي شهدت لحظات كهذه معه، لحظات جعلته في إحدى المرات يصيب ساقها فاقدا أي ذرة تعقل لديه.... نظر "نصران" إلى "عيسى" منتظرا رده... فتنحنح "عيسى" قبل أن يردف:
لا أنتِ صادقة، أنا فعلا يا حاج روحت كلمت "ملك" اسألها هي مستعدة لخطوه زي دي دلوقتي ولا لا، وانها لو هتحصل هاخدها من بيت عمها علشان محدش هناك يقول عليها نص كلمة تاني من الكلام اللي بيتقال هناك وانها هربانة ومتقدرش تدخل البيت ده، كنت عايز الكل يشوف انها خارجه من نفس البيت اللي سابته ومشيت، وده رد اعتبار ليها ولوالدتها أما لو عليا أنا فأنت عارف كلام الناس بالنسبالي في الزبالة.

قبل أن ينطق والده طلب "عيسى" بأدب:
من فضلك اسمعني للاخر، أنا لما اتكلمت مع ملك كنت بجس نبض مش اكتر وأكيد قبل أي خطوة رسمي في الموضوع الكلام كان هيبقى ليك الأول يا حاج، لكن أنا اتفاجئت بالست هادية جايباني المحل ومطلعاني فجأة قليل الأدب مبفهمش في الأصول فاتعصبت... غصب عني حاجه خارج إرادتي، وأنا فعلا غلطان في دي وعلشان كده...
ترك مقعده وتوجه ناحية والدة زوجته وأمام العيون المندهشة التي تتابعه، مال مقبلا رأس "هادية" وهو يقول:
حقك عليا يا ست "هادية"، متزعليش.

كيف قلب الوضع بأكمله لصالحه هكذا، لا تستطيع التصديق أبدا، طالعته بصدمة فرفع كفيه ببراءة مضيفا:
أنا قولت اني غلطت، وقومت حبيت على راسك اهو لكن طالما كل واحد هيقول اللي مزعله
استدار لوالده يسرد شكواه هو الآخر:
أنا الست "هادية" وقفالي على الواحده... هاخد "ملك" مشوار، لا متاخدهاش، من هنا لهنا بنوصل لانه خدها وساعه ورجعها، وبعدي وبقول معلش مع انه حقي... أي مشكله مهما كانت صغيرة تهددني انها هتطلقها مني، اخرهم المشكلة دي... بتتصرف بالنيابة عن "ملك"، بنتك اتسألت مره عايزاني ولا لا قالت عايزاه.
يضيف تفاصيل لم يكن والده على علم بها بكلماته:
ويوم الخناقه لما طلعتيني من المحل علشان اتعصبت، ومنعتيها تخرج ورايا، هي كانت عايزه تجيلي، أنا عايزها وهي عايزاني فبلاش تستخدمي كارت انك تضغطي عليا بيها ده علشان منوصلش كلنا لحيطه سد.

عاد لمقعده من جديد، ينتظر الرد على ما قاله... بدا مطيعا للغاية، براءة غير معتادة وهو يجلس هكذا بابتسامة وديعة جعلت " سهام" تحدث نفسها قائلة:
اه منك.

نطق "نصران" موجها حديثه للجالسه أمامه تنتظر قول منصف منه:
أنا محضرتش اللي حصل في المحل، ولا انتوا حكيتوا بالتفصيل الكلام اللي اتقال بينكم، لكن مهما كان اللي حصل واللي اتقال هو ملهوش حق يتعصب عليكي وغلطان، و"عيسى" طالما قال انا غلطت يبقى عارف انه غلط، أنا مش هقبل من شكوى غير لما اسمع ايه يرضيكي وانفذه.

قبل أن تسرد ما يرضيها نبهها "نصران":
إلا حاجه واحده مش هنفذهالك، إن تحددي مصير علاقته ببنتك وتقوليله يطلقها وهي مش عايزه ده، بنتك حره تختار احنا علينا النصيحة وبس...

_ وأنا مأمنش على بنتي معاه لو اتعصب عليها بنفس الطريقة اللي اتعصب بيها في المحل.
شاركت " سهام" في الحوار متصنعه تلطيف الأجواء، ولكن التصنع بدا مكشوفا للغاية وهي تقول:
يا ست هادية الطلاق أبغض الحلال، هما لسه اتجوزوا علشان نطلقهم؟... بس هي برضو ليها حق يا حاج، أم وخايفة على بنتها و.....

توقفت حين لاحظت ابتسامة "عيسى" الساخرة التي تزين جانب ثغره وهو يكشف محاولاتها الخفية لإفساد الزيجة، قال "نصران" من جديد مراضيا "هادية":
قوليلي ايه اللي يطمنك يا ست " هادية" وأنا اعمله.

_ نأجل الجوازه دي شويه، اتأكد فيها إنه حاله بينصلح وانه هيحترم الكلمة اللي بقولها.
قولها هذا لم يتوقع "نصران" أبدا أن يكون رد ابنه عليه:
راضي... وأنا راضي باللي قولتيه.
ثم استدار بعينيه لوالده يتابع:
بس متجيش الفترة دي تمنعها عني، وتحددلي اخرج معاها امتى، واشوفها الساعه كام، اعتبريها يا ستي فترة تعارف واللي فات ده كله محصلش، وأنا مبعملش حاجه حرام احنا كاتبين الكتاب....

اعترضت تقول بلهجة مستنكرة:
عايزني اسيبلك الدنيا سايبة اياك، وتاخدها وترجعلي بيها وش الفجر ولا ايه بالظبط؟

هتف "نصران" ناهيا الشجار قبل أن يبدأ:
زي ما "عيسى" قال يا ست "هادية" نبدأ من أول وجديد، على الأقل "ملك" تاخد عليه اكتر، وانت يا "عيسى"، ملك ترجع بيتهم الساعه عشرة، أي وقت تاخدها فيه تبقى عامل حسابك انها هترجع في الوقت ده.

وجه " نصران" نظراته لهادية مضيفا:
وهو مش مقطع الخروجات اوي، ده وراه هم ما يتلم اطمني.... ولو عمل حاجه تاني من اللي بتضايقك ولو بتقلقك على بنتك معاه،
ليكِ عندي ان اللي هتقوليه مهما كان هو ايه هيحصل... راضية كده يا ست "هادية"؟

صمتت ثوان ثم نطقت في الأخير بهدوء:
خلاص يا حاج " نصران".

سألها "عيسى" بضحك:
أبوس دماغك تاني؟

ضحك "نصران" وكذلك "سهام" التي أجبرت شفتيها على رسم ابتسامة، ثم ترك هو مقعده مجددا ومال على رأسها من جديد ليقول قبل أن يقبلها:
بوست دماغها مرتين اهو، علشان تعرف بس ان ابنك مفيش منه وهي بتفتري عليه.

رفعت عيناها له ترمقه بانزعاج، فأشار لوالده عليها مستشهدا:
شايف البصه، اعمل ايه أنا تاني بقى ؟

_ خلاص يا هاديه حقك عليا المره دي... "عيسى" زي ابنك، ولا ايه يا "سهام"؟
قال هذا " نصران" مما جعل "سهام" تسرع قائلة بابتسامة:
أيوه طبعا، وفي غلاوة عيالي أنا كمان، أنا ما شوفته هو وفريد الله يرحمه غير عيالي.

عند هذه النقطة خصيصا تحول كليا، اختفت ضحكته تماما ثم هتف ونظراته تحيط بالجميع:
لا معلش يا حاج، أنا بالنسبالي أمي كانت واحده وبس، وراحت خلاص الله يرحمها، والأم ٱصلها غالية وبتوجع أوي فمفيش حاجه اسمها زي أمي، ولا حد ليه فضل عليا يخليني اقوله انت زي أمي، غير "ميرڤت" وحتى دي عارفة اني مبحبش حد يحط نفسه جنب أمي.

وجعها حقا، ترى "سهام" أمامها صورة ممن أحبته بصدق وهو صغير وأفنت أعوام كثيرة ترعاه، كان ابن لها، لم تر "فريد" يوما ابن زوجها بل كانت تشعر في كل ثانية أنها والدته، ترى صورته الآن تقف أمامها قائلة أن لا أحد يستحق أن يكون مثل أمه، يسلبها كل ما منحها إياه فقيدها، فتحترق هي، التمعت عيناها بالدموع ولهذا استأذنت لتنصرف بقولها:
عن اذنكم.

اضطربت الأجواء وقد سدد "نصران" لابنه نظرات معاتبة ولكنها لم تؤثر... كانت لا شيء أمام ألمه، مما جعل "هاديه" تقول:
معلش قولها متزعلش، هو الواحد في حتة أمه دي بيبقى حساس أوي... همشي أنا بقى.

_ "طاهر" هيوصلكم يا ست "هادية"، والصبح هبعتلك " ملك"...
وافقت على مضض وقام هو يتبعها حتى البوابة الخارجية، وما إن تأكد أنهما ابتعدا عنه حتى وصاها:
و اعتبريه ابنك يا "هادية" حتى لو هو معتبركيش أمه.

لم تخذل الرجاء في نبرته، فهزت رأسها موافقة قبل أن تتحرك مغادرة من هنا، تبحث عن ابنتيها، حيث شاركت "مريم" منذ لحظة خروجها شقيقتها في الجلوس مع "طاهر"، وتجنبت الحديث مع " حسن" تماما... حاول مره والثانية وحين لم تستجب توجه إلى المرسم الخاص به، فغفت على الأريكة التي جلست عليها في منتصف الحديقة، أراحت رأسها على مسند الأريكة الخلفي، فاقترح "طاهر":
صحيها يا " شهد" تنام فوق.

_ بلاش علشان ماما متضايقش.
كانت نبرتها حزينة مما جعله يسألها باهتمام:
مالك يا "شهد"... انا عارف انك كنتي بتعيطي علشان
" ملك" بس هي الحمد لله رجعت وكويسه.

مسحت بأصابعها دموعها قبل أن تنزل من عينيها أكثر، فناداها "طاهر" بنبرة أثرت فيها:
"شهد".

استدارت تنظر له، فقال بلينه الذي أجبرها على الاستجابة:
قومي نتمشى شويه...
وقبل أي اعتراض قال:
ومتخافيش هنتمشى هنا مش هنبعد.

قامت معه، كانت تسير بشرود، ورأسها مرفوع للأعلى تتأمل بعينيها السماء حتى قال هو:
شكلك بيبقى حلو أوي وأنتِ بتعيطي.... بتبقي مؤثرة كده، تصعبي على الواحد.

فلتت ضحكه منها على مزاحه حتى أكد لها:
مبهزرش على فكره، شكلك حلو وأنتِ بتعيطي.

ابتسمت وهي تقول له:
أنا عارفه على فكره إن شكلي بيكون حلو في كل وقت.

أطلق صفيرا عاليا وقد علت ضحكاته وهو يعلق على قولها المغتر:
ياه على التواضع، حاسبي تواضعك بينقط علينا يا نجمة.

شاركته الضحك وهي تنظر إلى الأرض الزراعية جوارها فكرر طلبه:
ممكن اعرف بقى النجمة اللي بتعيط مخصوص علشان جمهورها يشوفها حلوه، كانت بتعيط ليه من شويه؟... أكيد مبتعملش ده علشان أشوفها حلوه أنا شايفاها حلوه طول الوقت.

ابتسمت بخجل وقد احمرت وجنتيها فأبعدت الارتباك عنها سريعا وهي تسأله:
يهمك تعرف؟

_ أكيد يهمني يا " شهد".
تنهدت عاليا وهي تسمع إجابته التي لم تخيب ظنها أبدا فبدأت في القول وشريط ذكرياتها يبدأ العرض في رأسها:
لما ماما جابتني، كانت "كوثر" مرات عمي لسه والده "علا"، كانت أمي معاها " ملك" بس، "ملك" اللي رغم صغرها كانت حنية الدنيا فيها، الوقت ده كان الوقت اللي أبويا بدأ فيه يخسر، وبقت كلمة من عمي توديه وكلمه منه تجيبه، أبويا مخسرش غير لما رمى ودنه لسم عمي... أنا مشبعتش منه حنيه يا "طاهر"
نزلت دموعها وهي تكمل بوجع:
انا كنت بحس انه حنين، بس معايا انا بالذات كنت بحسه بيمثل الحنية دي.
شرد عقلها في لحظات قديمة ذكرتها بماضي لم تحبه أبدا وهي تتابع:
"كوثر" كانت بتغير من امي، وطبعا بنتها اللي راسها براسي لازم تبقى أحسن مني، لما لقتني أشطر منها في المدرسة بدأت كل شويه تعملي مشكلة علشان تقعدني منها، هي من ناحية، وجوزها من ناحية... جوزها اللي راح يقنع ابويا انه انا مش وش تعليم، ونوفر الفلوس احسن، الحال مبقاش زي الأول...واني مش فالحه في دراسة والدليل اهو كل يوم مشكلة.... كان نفسي ابويا يقفلهم، يقولهم لا ... كان نفسي ميسمعلهمش،
لا يُنزل "طاهر" عينيه من عليها، بدا عليه التأثر جليا فاحتضنت عيناه بخاصتها تخبره بوجع:
أنا سمعت بودني أبويا وهو بيقول لأمي انه هيقعدني من المدرسة، شوفتها بعيني وهي ناقص توطي على رجله تبوسها علشان ميعملش كده وهو مش سامعلها، كنت صغيرة وبجرى استخبى في "مريم" اللي اصغر، محدش كان بيطبطب عليا بعد أمي غير "ملك"....
" ملك" هي اللي كانت بتنزل تتخانق مع "علا" علشاني، كانت بتحب تسرح شعري مع انها مبتعرفش تسرح أصلا.... لما حسيت انها في خطر كل حاجه اتجمعت في دماغي، يمكن أنا دايما بتشاف أقوى من "ملك"، بس اللي محدش يعرفه اني بستقوى بيها.

صرحت له وقد ظهر الامتعاض على وجهها من كل لحظة مقيتة تذكرتها:
أنا عيشت أيام وحشه أوي في بيت عمي، أنا لحد دلوقتي عندي فوبيا من الضلمة بسبب ان كوثر خلتني راجعه زمان من برا وخدتني رمتني في الأوضة اللي جنب البيت، رمت عيلة صغيرة وقفلت عليها ومصعبش عليها عياطها، ولا صريخها، الكام ساعه اللي سابتني فيهم في الأوضة دي بقوا عقدة معايا لحد دلوقتي، ضحكت ساخرة وهي تتذكر ما نعتها والدها به:
أبويا كان علطول يقول ان عياري فالت، وكلمتي من دماغي، بيتهيألي لو كان عاش لحد ما شافني كبيرة كده كان زمانه قاتلني، عارف لما مات أنا زعلت عليه علشان ساعات كان طيب حتى لو كان بيضحك عليا في اللحظات اللي كان طيب فيها....

حاول تهدئتها بقوله:
أنا مش هقولك انسي كل ده، علشان عارف انه مش هيتنسي، بس هقولك ان اللي بيتعرض بحاجات صعبه كتير وبيقدر يكون " شهد" ... ده بيبقى جواه حاجات كتير حلوه تستاهل انه يعيش علشانها، ومتستاهلش انها تضيع تحت رجلين حاجات وحشة عاشها في الماضي.

هزت رأسها وهي تمسح دموعها، وتهتف بابتسامة: كلامك حلو، وحبك لابنك أحلى
عند هذه النقطة خصيصا نظر لعينيها وسمع إضافتها:
أنا حبيت "طاهر" اللي حسيت معاه بمشاعر اتاخدت مني بالغصب زمان، حبيت الراجل اللي بيحب ابنه ومستعد يهد الدنيا كلها علشانه، واللي عمل علشاني كده برضو، اوعى يا "طاهر" في يوم تخليني اندم، اوعى تضيع النظرة الحلوه اللي بشوفها في عينك لما تبصلي.

ابتسم على جملتها الأخيرة ثم قال مطمئنا:
العين مبتحضنش غير اللي بتحبه، وأنا عيني حضنتك من يوم ما رميتي نفسك بين ايديا في بيت عمك، من يوم ما روحت اجيب "شهد" المجنونة اللي شاربة برتقان، وخطفت الورد من ايدي... حضنتك لما شوفتك يوم ما جيت اتقدملك، وشوفت شقاوتك وأنتِ بتضحكي وأنتِ خارجالنا، مش هقدر أفرط فيكِ يا "شهد"، يمكن مشوفتيش مني غير الحلو بس، ومقابلتيش عيوبي، بس حتى لو شوفتيها واعترضتي هتفضلي معايا بالعافية.

تنهيده حاره صدرت منها تبعها ضحكتها الشقية وهي تقول باعتراض:
أنا محدش يقدر يغصبني على فكره.

أشار على نفسه يقول بثقة:
أنا أقدر.
هزت رأسها بغير اكتراث تخبره:
ولا تقدر يا كابتن مهما حاولت... كان غيرك أشطر.

ضحك وهو يردد بإعجاب:
لا تعجبني ثقتك، بس أنا أشطر من غيري يا عيون الكابتن.
بادلته الضحكة باخرى ساخرة وهي تسأله:
وهتغصبني ازاي بقى ؟

هتف بنبرة أسرتها تحديدا وهو ينطق اسمها:
بالحنية، كله بالحنية يا " شهد".
وافقت باستسلام وهي تصارحه بما جعل ضحكاته تزداد:
لا بالطريقة دي أنت عندك حق فعلا أنت تقدر... أنا اتثبتت خلاص.
توقفا عن الضحك حين سمعا صوت شجار يأتي من الخلف فأسرعا في العودة، حيث عند رحيلهم ظلت مريم على نومتها حتى شعرت بشيء ما على وجهها، فتحت عينيها بضيق لتجد "حسن" يجلس جوارها على الأريكة محركا فرشة الرسم على وجهها، ما إن استيقظت حتى رمقته بغضب وهي تبعد كفه بالفرشة سائلة:
أنت بتعمل ايه؟

سألها "حسن" بضجر:
مالك يا "مريم"؟... أنا عملت حاجه ضايقتك؟

_ حسن، سؤال واحد بس لو سمحت وعايزاله اجابه محددة، أنت عرفت كام واحده قبل كده؟
انتبه لها وما إن سمع السؤال حتى هتف:
هتعملي عليهم سحب ولا ايه يعني مش فاهم؟

ردت عليه بانفعال:
لا... بس ابقى عارفه، مين بقى فيكوا اللي كان بيلعب بالتاني بالظبط؟
انتظرت رده حتى أتاها الجواب الذي جعل الاستنكار يكسو وجهها:
كل الكلام ده يا " مريم" ملهوش لزمة، أنا معرفتش في حياتي غيرك.
أعطته نظرة نارية وهي تقول له:
أنت كداب يا "حسن".
مما جعله يتراجع قائلا:
ومروه وتلاته اخرين.

سألته متصنعه عدم السماع:
كام؟
فأردف مصححا:
أو خمسه أنا مبعدش يعني.
تبع جملته بضحكاته العالية ثم هتف:
أنا معرفتش غيرك يا مريم، وحكيتلك انك انتِ الوحيده اللي قدرت احبها بعد البنت اللي حبتها وماتت... ومعرفتش احب حد تاني.

هزت رأسها تقول بعينين ثاقبتين:
أنا هصدقك يا " حسن"، هصدقك بس لو طلعت كداب هتبقى خسرتني للأبد.
رفعت سبابتها متابعة بتحذير:
ومتتكلمش معايا تاني خالص لحد ما اخلص امتحانات من فضلك، وعلشان انا وعدت ماما اني مش هكلمك.

ظهر في عينيه الحزن وهو يتابعها أثناء الحديث، حاول اعتراض طريقها وهو يراها تقوم طالبا منها الانتظار ولكن وصل "طاهر" وشقيقتها التي قالت:
هو كان في ايه؟... سمعنا صوت زعيق؟

رفع "حسن" الفرشة مبررا:
كانت الفرشة ضايعة وبدور عليها، وفي الاخر لقيت حد راميها في الجنينة
يعلم "طاهر" أن أخيه في نقطة ضياع ٱدواته الخاصة لا يعرف للهدوء طريق لذا اعترض على أسلوبه بقوله:
طب ابقى اهدى شويه خضتنا، ابقى اشتري غيرها لو ضاعت بدل ما تقعد تزعقلنا كده.

خرجت "هادية" فذهبت "مريم" إليها وتبعتها "شهد"، أخذهم " طاهر" إلى سيارته، حاولت "مريم" جاهدة ألا تنظر إلى "حسن" ولكن هربت نظراتها ناحيته فلمحت العتاب في عينيه مما جعلها تشعر بالتخبط بالإضافة إلى حزنها الشديد.

★***★***★***★***★***★***★

في غرفته، تمدد على الفراش وغرق في النوم ولم يستيقظ رغم محاولات "تيسير" المتعددة، لقد عانى "عيسى" حقا في الليلة السابقة، وخصوصا في نقاشه الحاد مع والده الذي لا يريد تذكر أي شيء منه الآن... وخاصة أن معاناة اليوم أكبر، استيقظ أخيرا وجذب جواله لينظر الساعه فوجدها الثانية ظهرا، كان سيعيده لمكانه ولكنه وجد رسائل عديدة من صديقه على تطبيق المحادثات، صديقه الذي أرسل له مقطعا صوتيا الليلة السابقه يسأله بانفعال:
هو انا المفروض ارن كام مره علشان ترد؟... أنا كنت في مصيبة وعايزك.

ضغط "عيسى" على زر تشغيل المقطع الصوتي الذي يحوي رد صديقه ليسمعه يقول:
ياعم والله انا مسحول من امبارح، فجأة امبارح الصبح لقيت الخط بتاعي اتوقف لا وكمان ايه حد اشتراه، روحت الفرع احاول اعرف المشكلة فين، قالولي ان دي مش مشكلتهم علشان انا مكنتش مسجله اصلا... وانا فعلا من كام سنه لما اشتريته مكنتش مسجله، حاولت اتصل باللي خده علشان اشوف صرفة التليفون مقفول، فاتقفلت انا باقي اليوم، بس مصيبة ايه اللي بتقول عليها؟

كان سيرد لكنه سمع صوت "تيسير" المتذمر وهي تدق البوابة:
يا أستاذ عيسى الحاج نصران بيقولك اصحى.

تجاهلها متأففا من إصرارها بانزعاج وهو يضع الوسادة على وجهه فقالت:
وعلى فكره الست "ملك" مشيت.

هذا فقط ما جعله يهب تاركا فراشه، ولم يؤثر فيه سوى علمه برحيلها.

**********************************************

وأخيرا تضمها الطمأنينة في منزلها من جديد، حاولت والدتها جاهدة الاستفسار عما حدث وكانت اجابتها واحده أنها تركت القرية وخرجت لشراء بعض الأشياء من مكان ما، فتم اختطافها، وحين فاقت وجدت أنهم سرقوا كل شيء وفروا، وتركوها وحيدة في مكان لم يغثها من وحدته سوى "عيسى".

_ طب واللي في دماغك ده؟
كان هذا سؤال "هادية" عن الجرح في رأس ابنتها فأجابت بصدق:
كنت بجري منهم ووقعت على وشي.
احتضنتها والدتها، لقد عاشت لحظات سيئة، خشت فقدها ألف مره في الثانية، ابتسمت "ملك" على حنان والدتها ثم أشارت "هاديه" على الأكياس قائلة:
الأكياس دي "عيسى" قالي انها بتاعتك... واداهملي وأنا ماشيه.

تذكرت على الفور، إنها الأشياء التي ابتاعها لها في الطريق وخاصة ووالدتها تتابع:
أنا مرضتش افتحهم، علشان حسيت انه هو اللي جايبهم، شوفيهم انتي بقى.

هزت رأسها توافق قول أمها:
أيوه هو جابلي حاجات لما خرجنا من المستشفى، بس انا مخدتش منهم غير الطرحه.

دخلت "شهد" وتبعتها "مريم" التي تحدثت بتوسل:
وأرجوكي تفتحيهم، علشان أنا و"شهد" فضولنا منيمناش من امبارح بسبب اننا عايزين نعرف فيهم ايه وامك مش راضية.

جذبت "ملك" الكيس البلاستيكي وأخرجت ما به، لتجده ثوب غلب عليه اللون الزيتوني وقد زُيِن بظهور بيضاء صغيرة على نواحي متفرقة منه، جذبت "مريم" الفستان من يد شقيقتها تقول بضحكة واسعه:
ايه الفستان الحلو اللي بينده عليا ده؟

أنتشلته "شهد" من يدها هاتفه باعتراض:
ينده عليكِ ايه يا بتاعه أنتِ، وبعدين ده فستان خروج عادي، مش سواريه، وأنا أكتر واحده بخرج فيكم فيبقى أنا أول لبسه.

جذبت "هادية" الرداء منهم وأعطته لابنتها الكبرى وهي تهددهم متوعدة:
أنا هربيكوا.

فتحت "ملك" الحقيبة الأخري لتجد فيها ما جعل "شهد" تشهق بفرح وهي تجذب واحده من الكثير الموجود بالكيس:
تفاح بالعسل.
أمسكت بالعصا السفلية وبدأت في إزالة الورقة البلاستيكية لتناول الثمرة المغطاه بالعسل وهي تغمز لشقيقتها ضاحكه:
يا عم يا عم.

طلبت "مريم" من والدتها بإصرار:
ماما أنا عايزه اتخطف، وتبعتوا حد ينقذني من اللي بعد ما بيطمنوا على الواحد بيشتروله حاجات.
ضحكن على قولها، وأخذت ملك الرداء تضعه داخل الكيس البلاستيكي من جديد مبتسمة، خبأته داخل خزانتها وما إن عادت لهن حتى قالت "هادية":
أنا نازله المحل، لو عايزه تاكلي هنا يا ملك كلي، عايزة تيجي معايا تحت انزليلي، كده كده مريم راحه درسها علشان امتحانها اللي بعد بكرا، وشهد هتنزل تجبلي حاجات.

وافقت على قول والدتها وهي تحاول كتم ضحكة على همس شقيقتها المتذمر:
يادي "شهد" وسنين "شهد"، أنتوا يجرالكم حاجه لو ريحتوا "شهد" شويه.

_ بتقولي حاجه يا "شهد"؟
سألتها والدتها وقد عادت خطوتين للخلف وأرجعت رأسها لابنتها التي هتفت بابتسامة صفراء:
بقولهم فين البنطلون التلجي علشان انزل اشتري اللي امي حبيبة قلبى عايزاه.

ضحكت " ملك" و شاركتها "مريم" الضحك وهن يسمعن قول والدتهن المحذر لشقيقتهن:
بحسب.

نزلت "هادية"، وتبعتها " ملك" إلى الأسفل بعد أن أحضرت كوبا من الشاي، و شطيرة تتناولها جواره... توقفت عن مضغ أول قطعه تناولتها عند قول والدتها بعتاب:
ايه بقى اللي حصل امبارح ده؟

لم تكد تجيب حتى وجدا "عيسى" أمامهما وقد دخل المكان الذي تم إخراجه منه سابقا بالإجبار، دخله وجذب مقعد مجاور لملك وهو يحدث "هادية" بابتسامة واسعه أثارت غيظها:
مساء الخير.

ردت عليه "هادية" وظهر في صوتها جليا تأثير أفعاله الاستفزازية:
مساء النور.

اتجهت ناحية الطاولة الجانبية لتصنع له الشاي، فاستطاع هو الانفراد ليتحدث بأريحية سائلا:
حاسه انك أحسن النهارده؟

هزت "ملك" رأسها بتأكيد، ثم أعطته ابتسامة ناطقة بامتنان:
شكرا على الفريسكا...بس ليه الفستان؟

رفع كتفيه يهتف ببراءة:
فستانك كان عليه تراب كتير من البهدلة، جبت ده قولت علشان لو عازت تغير اللي لابساه، بس أنتِ مبصتيش اصلا.

_ وكنت هغير فين بقى؟
استفسرت فأجاب ضاحكا:
في عربيتي طبعا.

أتت والدتها التي تدخلت تسأله:
مالها عربيتك، هي حصلها حاجه هي كمان امبارح؟

ضحكت " ملك" وخاصة حين أجاب والدتها بغيظ:
لا محصلهاش حاجه.

_هتشرب ايه؟
سألته "هادية" فتصنع التفكير ثم قال:
قهوة وياريت تكون مظبوط، وسيبي البن ياخد راحته على الاخر على النار، وأهم حاجه تكون من ايدك..ده لو مش هتعبك.

يريد إبعادها عن الدكان، حتى تصعد لأعلى، فإذا طلب احتساء الشاي ستضع الماء في السخان الكهربائي المتواجد هنا لذا رفعت هادية سبابتها محذره:
اسمع...احنا قرب العصر، والناس راحه جاية من قصاد الدكان، أي حركه من حركاتك أنا مش هشتكي لحد، أنا هقفل الباب ده
أشارت لباب الدكان وتابعت:
وأطلع الجنان كله عليك.

_ ماما عنيفة أوي يا "ملك"، الأمهات مكانتش كده خالص... ايه اللي جرا في الدنيا؟
سأل الجالسة جواره بمشاكسة ضاحكا، فلم تستطع " هادية" منع ابتسامتها وهي تقول:
لما اطلع اعملك القهوة يا بن الحاج "نصران".

تيقن من أنها اختفت من أمامهما تماما حتى طلب منها بهدوء:
احكيلي كل اللي حصل امبارح بالتفصيل... ومن غير ولا حرف ناقص.

استعدت نفسيا للسرد فشجعت نفسها على قص ما حدث، ثم أخذت نفس عميق أتبعته بقولها:
أنا " بشير" بعتلي مسدج قالي فيها إنه عايز يقابلني علشان حاجه مهمه بخصوصك، وإنه هيستناني برا على الطريق.

كرر خلفها وقد ظهر الانكار جليا على تقاسيمه وفي نظراته لها:
بشير مين، ويستناكي فين!.... "بشير" صاحبي انا؟
هزت رأسها مؤكده:
أيوه والله، من رقمه اللي أنت مديهوني لما قولتلي لو احتاجت حاجه وأنت في القاهرة وملقتكش اكلمه وهو هيوصلك.

تابعت سرد كل شيء منذ لحظة خطفها حتى أتى إليها وأضافت جديد بقولها:
كان في واحد فيهم معاه كاميرا بيصور، وكان بيجيلهم رسايل على التليفون بعدها بلاقيهم بيتصرفوا، اخر حاجه لما ادوني الحقنة ونقلوني من المكان اللي كنت فيه لمكان ابعد وأنت جيت، هو ده كل اللي فاكراه.

أخرج "هاتفه" فوجد صديقه نشط على تطبيق التواصل الاجتماعي، لذلك فتح تطبيق المحادثات وضغط على زر المكالمة وأخبرها:
قولي لبشير انت بعتلي رساله امبارح وكنت عايزني في حاجه بخصوص عيسى كنت عايز ايه؟

لم تعلم ماذا يفعل، وضع الهاتف على أذنها وقد فتح مكبر الصوت ليسمع صديقه يقول:
ايه يا بني مبتردش عليا ليه؟

أشار لها لتتحدث فهتفت بتردد:
مساء الخير يا أستاذ "بشير" أنا "ملك".

_ عيسى فيه حاجه؟
كانت أول جمله تصدر منه بعد سماع صوتها، صدرت بخوف حقيقي بان في نبرته، لم يشك في صديقه لحظه، تعود أن يضع الجميع في دائرة الاتهام، لم يستثن إلا قلة كان صديقه منهم، ولكنه يريد أن يسمع رأي صديقه فيما سيقال.

حدثت " ملك" بشير مطمئنة:
لا متقلقش عيسى بخير، أنا بس كنت عايزه أسألك ايه الموضوع المهم اللي بخصوص عيسى، اللي بعتلي علشانه مسدج امبارح وقولتلي اخرج اقابلك؟

أخذ لحظات يحاول فيها إدراك ما قالته، وسريعا ما نفى كل ما تفوهت به:
ايه الكلام ده!... محصلش حاجه من دي، أنا رقمي اصلا مش معايا من امبارح... لو "عيسى" عندك اديهولي.

تناول "عيسى" الهاتف منها ثم سمعته يقول مخبرا صديقه:
اللي بعت المسدج استخدم رقمك، وقال لملك انه هيستناها على الطريق في حاجه مهمه بخصوصي على أساس إنه أنت، وبكده عرف يخرجها برا البلد وياخدها، ملك اتخطفت امبارح.

مكيدة تُدبر لهما جعلت "بشير" يسب من فعلها بانفعال فحثه "عيسى":
تروح النهاردة الفرع تاني يا " بشير" ، اعمل معاهم مشكله ومتمشيش من هناك غير لما تعرف... الخط اتسجل باسم مين.

_ طب ورقم "ملك"، جابوه منين؟
سأل " بشير" مما جعل "عيسى" يطالعها، لمع في ذهنه شيء ما فسألها:
أنتِ عامله account الفيس بوك برقمك؟
أخبرته بصحة ما قاله فتابع:
عامله hide للرقم ولا لا؟

شعرت بالحيرة ثم هتفت:
مش فاكره.

أخبر صديقه أنه سيتصل به مجددا، توجه إلى صفحته الشخصية على تطبيق التواصل الاجتماعي، بحث عن اسمها في مربع البحث حتى ظهرت له، دخل إلى صفحتها ثم الإعدادات ليجد رقمها واضحا للجميع في خانة البريد الالكتروني مما جعله ينطق باستنكار:
هو ايه ده يا "ملك" أنا عايز افهم
ضرب على الطاولة أمامه بغضب متابعا:
الزفت الرقم مش معموله Hide ليه؟

أوقفته عن الحديث تهتف بغضب مماثل:
متزعقليش كده، أنا قولتلك إني ممكن أكون مخدتش بالي.

تأفف بانزعاج شديد ثم أغلق الهاتف ووضعه على الطاولة، فتركت مقعدها وهمت لتتركه وترحل لكنه جذب ذراعها سائلا:
رقمك كنتي مدياه لحد غير أنا واخواتك؟

سحبت ذراعها وهي تقول نافية:
لا ما ادتهوش لحد، ومش عايزه أي حد يكلمني تاني
قالت جملتها الأخيرة وقد انهارت أعصابها تماما وهي تتابع:
أنتوا محدش فيكم حاسس باللي فيا، كل واحد عايز يعرف ايه وليه وامتى وبس، ومش مهم نفسيتي أنا.

تذكر حديث الطبيب عن الحالة النفسية وأهميتها ولكنه لم يستطع منع نفسه من أن يجعلها تقف مجددا بالإجبار لتصبح في مواجهته وهو يلقي على مسامعها:
كلامك ده مش صح، و أنتِ عارفه كويس إنه مش صح، أنا لما بعاتبك بيكون علشان مصلحتك، أي عيل في ابتدائي لو جه يعمل account النهارده أول حاجه هيعملها انه يخفي الرقم من على الأكونت علشان ميبقاش ظاهر للكل، مش حفلة هي.... اللي عمل كده ممكن يكون جاب رقمك بسهولة من الأكونت وعرف يخدعك ويدينا احنا الاتنين على قفانا، علشان سيبناله باب يعمل كده.

نزلت والدتها بالقهوة، ولاحظت الغضب الظاهر على وجه كل منهما ولكن قبل أن تسأل هتف "عيسى":
أنا ماشي، وهاخد " ملك" معايا شويه، وهرجعها كمان ساعه.

كانت ستبدي اعتراضها ولكنه وعدها:
ساعه واحده بس، ولو اتأخرت هتكون ساعه ونص وهرجعهالك.

وافقته، أما ابنتها فكانت في حيرة ما بين الرفض والقبول قطعها هو حين جذب يدها:
يلا يا ملك.

قضت الطريق معه متذمره، لم ترض أبدا عن تعنيفه لها، الأخطاء الصغيرة بالنسبه له جرم كبير، وصلا إلى المكان المقصود، بقت تطالع المكان من السيارة بحذر مما جعله يقول ضاحكا:
انزلي انا مش خاطفك،
بعد أن نزلت بتردد سحبها من ذراعها معدلا على جملته السابقة:
أو نقدر نقول خاطفك ساعه ونص.

بعد جملته الأخيرة توقفت بخوف مما جعله يحثها على السير مردفا بضحك:
متخافيش يا ملك وامشي يلا.

كلماته وعد لذلك تحركت خلفه، دخلت إلى مكان أشبه بصالة رياضية صغيرة، لكن كل ما بها شبه متهالك، وكأنه هجرها الجميع ولما يعد يأتي لها أحد... سألت وهي تتأمل المكان من حولها:
احنا جايين هنا ليه؟

_ جايين هنا علشان تتعلمي.
لم تفهم شيء، فقط وجدته يتحرك ناحيتها سائلا:
انا واحد جاي عايز اخطفك دلوقتي... هتعملي ايه؟

لم تستطع كتم ضحكاتها، ووجدت نفسها تقول ما ستفعله بصراحة:
هصوت وألم عليك الناس.

ابتسم وهو يسألها:
ولو مفيش ناس.

رفعت كتفيها تقول الحل الوحيد لديها:
هطلع اجري، بس غالبا هتلحقني... مفيش مره جريت من حد إلا ولحقني.

اقترب منها بخطوات متمهلة وهو يلقي على مسامعها ما جعلها تنصت لشعورها بأن القادم مهم:
أنا واحد نيتي وحشه ناحيتك، وبقرب منك وأنتِ حاسه إني هعملك حاجه وطلعتي صح فعلا وانا جاي اخطفك او اعمل أي حاجه.... أول حاجه قبل الجري طالما أنا جايلك بوشي، يبقى تثبتي رجلك على الأرض... كانت ترتدي سروال من الجينز الواسع فمالت تنظر لساقيها ولم تفهم ما يقول، فأشار على قدمها اليسرى:
ثبتي دي كويس.

ثنى ساقه وارتفعت ركبته وكأنه سيسدد ركلة لأحدهم، فشعرت بالتشتت ولكنه نبهها:
لا "ملك" ركزي وبصي كويس.

رجلك الشمال ثابته على الأرض، و رجلك اليمين تعملي بيها زي ما عملت بالظبط... تتنى رجلك وترفعي ركبتك وتضربي، رجلك اللي ثابتة متترفعش علشان متقعيش، وخليكِ سريعة ومتخافيش.

انتبهت لكل ما يقوله جيدا، فأشار لها بعينيه يحثها:
يلا جربي كده كأنك هتضربي حد.

فعلتها ولكن كانت حركتها بطيئة، شجعها معلقا:
براڤو، بس بسرعه أكتر، اللي جاي عليكِ ده مش هيستناكي.

بالفعل بدأت السرعة تزداد شيء فشيء حتى شعر أنها تستطيع فعلها بطريقة شبه جيدة خاصة وهو يزيد من حماسها بقوله:
الحركة دي تشل اللي قدامك، وتديكي فرصة لو في خطر تهربي.

_ طب افرض اللي قدامي ده مقرب مني لدرجة اني مقدرش ارفع رجلي؟
نبهها بقوله:
علشان كده قولت خليكِ سريعه، ونفرض ده حصل...
ثنى ذراعه ثم فرد كفه أمامها ثم فرد ذراعه المثني مره واحده وكفه ما زال على حالته ليصبح وكأنه يضرب شخص أمامه:
بايدك علطول واضربي بس مناخيره، وتخلي كف ايدك مفرود وبعد ما تضربي باليمين اديه واحده كمان بالشمال علشان تبقى جامدة وتعرفي تتصرفي.
بدأت في محاولة تقليده حيث ثنت ذراعها وفردت كفها ثم مدت ذراعها فجأة للأمام وهي تتخيل وكأنها تدفع أحد في أنفه بكفها المفرود.

علق على الأداء بقوله:
اسرع يا "ملك"، واعملي بعد الضربة الاولى التانية علطول.
أخذت تحاول وتكرر مرارا أمام عينيه حتى رضى عن صنعها فهتف:
كده كويس.... نفرض مقدرتيش تعملي دي ولا دي
طالعته كتلميذ ينتظر شرح المعلم وقد راق لها الوضع كثيرا على الرغم من غرابة الأمر مما جعلها تتابع الشرح بضحكة واسعة، فتوقف يسألها:
أنتِ بتضحكي على ايه؟

_ أصل أنا لما ببقى متحمسة بضحك.
اختفت ضحكتها تماما حين اقترب منها، المسافة بينهما ليست كبيرة أبدا...تجمدت مكانها، حاولت ممارسة واحده من الحركتين ولكنه كان قريب أكثر من اللازم فصاح مشيرا على قدميها:
تثبتي رجلك الأرض كويس، ولما تلاقي نفسك خلاص هتعطلي تستخدمي كوعك.
وكأن أحدهم يقف أمامه مباشرة ويرفع هو كوعه ليصطدم بذقنه... علق على الحركة:
بكوعك في دقنه، في رقبته، في فكه... أي حته المهم تجيبيه.

بدأت في ممارسة الحركة لتبدو وكأنها تصدم أحدهم بكوعها في فكه، كررتها عدة مرات ... اقترب ليمر من جوارها سائلا:
ولو أنا جايلك من الجنب؟

_ أدورلك؟
اقترحت فطالعها باستنكار وهو يقول منشطا دفاعاتها:
بكوعك يا ملك من الجنب.... أنا جايلك من الجنب ادي بكوعك كده لورا بحيث تيجي في وشي.

ثنت ذراعها ليصبح كوعها موجها للخلف ثم أخذت تدفع به للخلف، ابتسم برضا... ثم اقترب ليصبح خلفها وقيدها مسرعا من خصرها سائلا:
لو أنا جيت من وراكي ومسكتك كده؟

تلك الحركة البغيضة، هي نفسها التي استخدمها "شاكر" لتقييدها يوم أن قطع الطريق عليهما وأبرح من معه "عيسى" ضربا.

ابتلعت غصة مريرة في حلقها، وشعرت وكأن الأنفاس تتركها... أحس بما يحدث فهمس جوار أذنها:
خليكِ ثابتة، قوية، متخافيش.... خدي نفس.

ٱخذت نفس عميق، ثم سمعته يقول:
لما أنا امسكك كده... تميلي بوزنك كله على قدام علطول

كان يقيدها من الخلف وقد حاوط ذراعيه معدتها، فمالت بكامل وزنها للأمام فشعرت بأن هناك مساحه خلفها فقال مسرعا:
تستغلي ده بسرعه، وتضربي بكوعك على ورا يمين وشمال .... حاولت فعلها ولكنه علق:
كده انتي بتفرفري في الأرض، كده أنتِ فرخه يا ماما ودبحناها مش واحده بتحاول تخلص نفسها.

ضحكت ثم هتفت بغيظ:
اعمل ايه يعني؟

_ بكوعك يا "ملك" يمين وشمال، قربي اكتر، بالفعل شعرت أن كوعها سيلامس جانب وجهه وهنا علق:
وتقومي بسرعه مدوره وتانية ركبتك وضرباه.

طلبت منه برجاء:
طب ممكن كفاية كده النهارده، ونبقى نعيد الحركه دي المره الجاية علشان منساش؟

حررها قائلا:
جربي طيب اللي اتعلمتيهم.

لم تعلم ماذا تفعل، شعرت بالتوتر ثم هتفت:
بصراحه أنا نسيت اللي اتعلمناهم.

_ نعم عيدي تاني كده؟
كررت بجديه:
يا "عيسى" نسيت الله... استنى لما اتدرب عليهم شويه في البيت.

اقترب منها، أصبح أمامها تماما عينيه تحتضن عينيها وهو يسألها غامزا:
قولتيلي ايه بقى علشان مسمعتش؟

تجمدت أطرافها، وعيناها لا تفارق عينيه الصافيتين، غرقت في بحورهما، وفي أسره حيث كان قريبا للغاية، شعرت بالخطر الشديد وهي تراه يميل على وجهها فجحظت عيناها، ورفعت كوعها تضربه فأتت الضربة في فكه، حينها فقط استطاعت الهرولة من أمامه، وقفت عند البوابة تشاهده وقد نجحت في إبعاده بما علمه لها منذ قليل فحرك رأسه هاتفا بإعجاب:
لا شاطرة.

استدارت تتجه نحو الخارج وقد علا وجهها ضحكة واسعة وهي تشعر بالفخر والحماس، الشعور بالظفر، ولكنه فجأة قيدها من الخلف، حاولت التصرف كما علمها ولكنها لم تتقن هذا التمرين لذا همس حوار أذنها مؤنبا:
لا ده طلع فعلا أعلِّمه الرمايةَ كلّ يومٍ
فلما اشتدّ ساعدُه رماني

ثبتت مكانها فتابع حديثه:
وبما انك لسه متعلمتيش الحركة دي يا "ملاك"
مال بجانب وجهه ليقبل وجنتها فاتسعت عيناها ليختم هو وهو يحررها:
فلما تبقى تتعلميها، ابقى امنعيني المره الجايه.

وقفت أمامه، بوجه غزته الحمرة، ولكنها على حين غره ثبتت قدمها اليسرى على الأرضية، وثنت ساقها الأيمن لترفع ركبتها تركله في معدته بغتة.

لم يتوقعها منها أبدا، ولكنها تتلمذ على يده، مما جعله يسأل ساخرا وهو يضع يده على مكان ضربتها:
في ملاك يضرب الضربة دي يا "ملك"؟
طالعته بتحدي وقد ظفرت في الأخير، ضحك وهو يرى حماسها الشديد... وهو يرى أنها ستتغلب على مخاوفها لأنه على يقين أنه أستاذ لا يُعوض أبدا، ولن تنساه أبدا.

يُتب


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close