اخر الروايات

رواية شظايا الكلمات الفصل الخامس 5 بقلم جهاد وجيه

رواية شظايا الكلمات الفصل الخامس 5 بقلم جهاد وجيه 

الفصل الخامس
شظايا الكلمات

«أحدهم قَبضَ بكفيه على خافقي ليُريحه من قتامة العالم، أحدهم خُلق ليسكن ثنايا كياني الضعيف فأحببت الكون لأجله، هو فقط ولو بعد مئة عامٍ من الظلام... هو وقلبه...»

صاعقة جعلته يلتف ناحية الصغيرة بنظرات مُبهمة حول ما تفوهت به، كيف أنها من شوه شقيقتها؟! من المؤكد أنها تمزح بحديثها معه، ابتسم بتوتر وتمتم: أكيد بتهزري يا رحمه

حينها ابتسمت « هبه» ابتسامتها الشاحبة وتحسست شطر وجهها الأيسر من أسفل نقابها وتمتمت: لا... رحمه ملهاش ذنب دا نصيبي

هزت « رحمه» رأسها بنفيٍ وإصرارٍ وتحدثت بتأكيد: لا أنا اللي وقعت الزيت المغلي عليكي وأنتِ قاعده في المطبخ وأنا اللي بسببه بقيتي بتسمعي كلام زي السِم من ناس مريضه

قاطعتها « هبه» بلهجة حادة فزعت على اثرها: رحمه اقفلي الموضوع دا

كان يتابع نظراتهم المتألمة والحزينة والمعاتبة وقلبه يتحرك على جمرٍ من حزنه على ما عانوه، فتاتين بشبابهم تُركوا لأمواج البِحار الغادرة لتقذفهم كيفما تشاء، نهض بهدوءٍ معتذرًا منهم ليترك لهم حرية الحديث والعتاب.....
بقت الفتاتين ترمقان بعضهم نظراتٍ آسفه وحل الصمت لبضع لحظاتٍ قاطعته « رحمه» بنبرة باكية: أنا آسفه يا هبه

هزت « هبه» رأسها بشرودٍ واقتربت محتضنة شقيقتها وتمتمت بألمٍ: متتأسفيش يا قلب هبه دا نصيب ومكتوب وبعدين حتى لو مكنتش قاعده في طريقك وأنتِ شايلة الزيت كنت هتحرق بطريقة تانية

علا صوت نشيج كلاً منهما وصوت تهشم قلوبهم الصامتة، بكت كلتاهما بعنفٍ لأجل نفسها ولأجل شقيقتها، لما تركهم والديهم ليعانوا كل ذلك؟! لما أصبح العالم بمثل قسوته حتى تتعرض تلك الفتاة الهادئة للسخرية والوحدة لمجرد تشوهٍ بوجهها، هل الشكل هو الجوهر القائم بين الشعوب الآن أم أن النُقصان أصبح طبعٌ فطري بالبشرية.....

وسط مزحتك ستُلقى كلمة كافية لحرق كيان شخصٍ مُستمعٌ إليك، وسط تفاخرك ستتباهى بإلقاء نظرة استحقارية لشخصٍ سيقضي ليلته بكاءً بسببك، احذر من ندبات القلوب التي تُخلفها لأنك ستُحاسب بيومٍ لا ظُلم به على كل قلبٍ قد حطمته وكل دِمعة ذرفتها عينٌ بفضلك

************************
وضعت شالها الثقيل على كتفيها وتركت خصلاتها للرياح لتؤرجحها كما تشاء، تركتها حُرة عكس روحها المُقيدة، مضى يومان منذ تحدثت معه ولم تلتقى به صدفة، كانت قاسية وحادة معه وكأنها تلومه على حبها الغامض له، لقد كان قدومه على قلبها كالشتاء بهذا العالم، حاد، قارص، كثيف ومؤلم، أغمضت عينيها بسلامٍ سامحة لنسمات الهواء الباردة تلفح صفحات وجهها الشاحب، قطع انسجامها صوت هاتفها ليُعلن عن رسالة، فتحت الرسالة والتي كان محتواها
« لم يعد قلبي بخيرٌ منذ رحيل قلبك المَرح عنه، باتت نبضاتي ثقيلة ومستعصيه، لما حل الشتاء بقلبي باكرًا هذا العالم؟! هل لأن قلبك رحل عني وتركني وسط الازقة أبكي ندمًا؟!»

لا تعرف هوية المُرسل، لم تهتم لتعرف لأنه وببساطة يؤكد شعورها اليومي وكأن المُرسل يعلم خبايا قلبها، يصف ما يُحدثه الألم بها، أصبحت وحيدة، صديقتها الوحيدة غادرتها وهو رغم ما يفعله لها إلا انه غادرها، منذ البداية كانت وحيدة وكم من الصعب قول ذلك، تُخفي ضعفها وقنوطها خلف قِناع قوتها المزيف وتحديها للجميع، ترغب بقلبٍ يضم قلبها ليخبره أن كل ما تتمناه سيأتي وإن طال ولكنها تشعر بالخواء والبرودة التي تتدرج لأواصلها!!!....

*****************************
عن تلك التي تعيش مراهقتها بخطوات خفيفة كرفرفة الفراشاتِ، عن قلبها الطاهر الذي سيُدنس بفعل رجلاً غامض، تعيش أسعد لحظاتها معه، يحادثها كثيراً، يشاركها اهتماماته، يقص عليها يومه، هي بالأخير فتاة لم تقع بالحب من قبل فمع أول دقة لقلبها ستنساق خلفه راكضة لوجهة مجهولة، أول همسه، لمسة، نظرة، وبسمة يراها القلب يُدمن وجودها وتصبح كمخدرًا يومياً له لكن قلبها لم يتعرف لأعراض الإنسحاب بعد!

*************************
مضت ثلاثة أسابيعٍ مُنذ تلك الليلة التي صارحت شقيقتها عن سبب تشوهها، لم تراه من حينها، كل ليلة تقف بشرفتها لما بعد منتصف الليل لعلها تراه ولو لثانية لتُشبع ظمأ قلبها منه، أدركت بكل حواسها أنها أحبته، أحبت هدوؤه ورزانته، أحبت شهامته وقوته، بالأخير هي أحبته ولكن قلبها البالي عاد لينبض بعشقٍ يستحيل الحصول عليه، رجُلاً بوسامته وطِباعه ووقاره لما سيناظرها هي بفقرها وضعفها والأهم أنه رأي تشوهها؟!

أما عن رفيقتها الوحيدة «وردة» فهي باتت تشعر بحجم ألم قلبها، شاردة، جامدة وشاحبة طوال الوقت، لم تُحبذ سؤالها عن السبب لعلمها به، كم بات يؤلم الحب العاشقين ويُرهق قلوب المُتيمين يا عزيزتي

ابتسمت بتهكم ثم عضت شفتيها بقوة لتمنع نحيبها، لقد ارتدت النِقاب قبل حادثة تشوهها بإسبوعين وكأن قلبها كان يعلم أنها ستُجبر على ارتدائه ما بقى لها، ثلاثة أربعة أعوامٍ منبوذة منذ ذلك اليوم المشؤم عندما دلفت شقيقتها « رحمه» صاحبة الست أعوامٍ لتعبث بالمطبخ وأحرقت إصبعها ولم تنتبه أنها حركت حَلة الزيت المغلي لتقع عليها وتصبح لعنتها الكُبرى ووصمة بشعة بوجهها، لقد كانت جالسة أسفل مقود الغاز تُقطع بعض الخضروات وينتهي الأمر بها لهنا؟!

_ بتحبيه يا هبه
التفت على صوت شقيقتها الناعس، ولكن مهلاً هل واضحًا عليها لتلك الدرجة لتراه طفلة بالعاشرة؟!

اقتربت منها وساعدتها وهمست بخفوتٍ: حتى لو بحبه مينفعش

ربتت الصغيرة بكفها الحاني فوق وجنتي شقيقتها وتمتمت وكأنه إمرأة ناضجة: لو بيحبك هيجيلك

ابتسمت « هبه» بتكلف وطبعت قبلة خفيفة فوق جبهتها ودثرتها جيداً بالفراش....

مضت نصف ساعة قضتها هي بالتفكير به، قطع شرودها طرقاتٍ مميزة خفق قلبها لها، توترت بجلستها وحاولت تهدئة خافقها الثائر، ارتدت خِمارها ونقابها ووقفت خلف الباب وكأنها مُقدمة على فصلٍ نهائي بحياتها، فتحت الباب وبسمة عريضة تتسع أسفل نقابها وهتفت بلهفة فشلت بردعها: عامل إيه

ابتسم « ثائر» بسعادة مثلها ووضع يده بجيب بنطاله واستند على حافة الباب وأردف بشغفٍ: بقيت بخير دلوقت، وأنتِ؟

نبرة صوته جعلتها تتنهد بقوة وتغمض عينيها براحة ثم تمتمت بسلامٍ: بقيت في أحسن حال دلوقت

ابتسم حتى ظهرت نواجذه وتمتم برجاء: ماما عاوزه تتعرف عليكي

توترت وذهبت أنفاسها، شعرت لوهلة أنها مُقدمة على حدثٍ تاريخي، مضت بعض الدقائق ولم يتفوه كلاهما، هو يقدر ما تفكر به وهي عاجزة عن إعطاؤه الرد الذي ينتظره، أخيراً بعد بضع دقائق حمحمت بارتباكٍ: تمام، مفيش مشكلة

رغبت لو تسأله عن سبب غيابه عنها، ودت لو لها سُلطة عليها لتلومه على عدم حضوره الي يُريحها، سارت خلفه بعد أن اطمأنت لنوم شقيقتها وقلبها يقرع كطبولٍ بساحة الحرب، ابتسمت بتوتر عندما رأت إمرأة كسى الزمن على ملامحها ولكنها ما زالت تحتفظ بجمالها، عينيها كعيني« ثائر» نفس اللمعة والبريق الذي اختطفها منذ الطلة الأولى، جلست جانبها بخجلٍ بعدما استقبلتها برحابة صدر.....

جلس يتابع نظرات والدته الثاقبة لها، منذ متى ووالدته بتلك الدقة؟! يعلم ما يجول بخاطرها أو ربما يخافه؟! ابتسم بمرحٍ وتمتم: دي بقا يا ستي ماما نجاة، ست كدا مش هتلاقي منها اتنين

ابتسمت « هبه» بتوتر وهمست بخفوتٍ: ربنا يديمهالك

اقتربت « نجاة» من هبه وضمتها بقوة لصدرها حركة كتلك ارجفت قلب « هبه» المُفتقد للحنان والأمومة منذ عشرة أعوام، وجهت نظرها ل « ثائر» وهتفت بأمر: روح اعمل لينا اتنين عصير يا واد ومتكترش سكر لأن سكري عالي منك

ابتسم « ثائر» بسماجة وهتف: مبعرفش

ضيقت « نجاة» عينيها ورطبت شفتيها ثم هتفت بإيجازٍ: اتنين عصير يا ثائر

ضحكت « هبه» بمرح على نظرات « ثائر» المُغتاظة وفمه المزموم وعقدة حاجبيه بينما رفعت « نجاة» رأسها بكبرياءٍ وشددت من ضمها ل « هبه».....

ما إن اختفى« ثائر» حتى ابتسمت « نجاة» بوداعة وربتت فوق رأس « هبه» وتمتمت بحنانٍ: ارفعي نقابك يا غالية خليني املي عيوني منك

حركة تلقائية منها تمسكت بطرف نِقابها وهزت راسها بنفيٍ وترقرقت الدموع بمقلتيها، لا تعلم كيف ستواجه نظرات تلك المرأة التي اشعرتها ولو لدقائق برائحة أمها المتوفاة، أغمضت عينيها للحظاتٍ وبهدوءٍ وتروى رفعته، لم تفتح عينيها ولم تنبث بحرفٍ واحد وإنما اكتفت بتلك الدموع التي تهبط بغزارة فوق خديها، دموعها تصل مباشرة لقلبها لتحرق جُدران تحملها للواقع القاسي الذي فُرضَ عليها، شعرت بأنامل خفيفة تمسح دموعها، فتحت عينيها بتباطؤ لترى نظرة مُشجعة من تلك المرأة البشوشة ...

_ بسم آلَلَهّ مشاء الله ملامحك جميلة يا هبه

ابتسمت بتوتر لمدحها المُجامل وكادت أن تُخفض نقابها ولكن نظرة الرفض التي تلقتها من « نجاة» جعلتها تتراجع وتبتسم بتوتر....

رمقتها « نجاة» بنظرة شاملة وعطوفة وأمسكت أناملها بين كفيها وهتفت : احكيلي حكايتك يا هبه

طالعتها هبه بنظرة حزينة أشفقت عليها « نجاة» منها ومسحت بأناملها دموعها، لم تتردد بأن تقص عليها ما خلفه الزمن بها ثم ابتسمت هبه بتهكم وتنفست بعمقٍ وتمتمت: حكايتي عادية، بنت زي أي بنت أهلي ماتوا وأنا عندي 18 سنه أمي ماتت وهي بتولد أختي وبعدها أبويا، فضلت تسع سنين عايشه في بيتنا اللي في المنصورة بربي أختي وبشتغل في شركة صغيرة لواحد معرفة عمي، عدت الأيام وأختي الصغيرة كبرت وأنا بكبر معاها، في يوم عادي كنت قاعدة بقطع شوية خضار في أرضية المطبخ، دخلت « رحمه» أختي تلعب وأنا كنت سرحانه ومخدتش بالي منها، حطت صوبعها في طاسة الزيت اللي كانت على النار واتلسعت، جت تجري وقعت الطاسة عليا، كان عندها وقتها 6 سنين طفلة ملهاش ذنب، عدت الأيام وسني كبر وداخله على 28 سنه ولسه متجوزتش، ربك يشاء وأحب وقتها، حبيت واحد، كان واخدني مجرد صورة للناس كان ابن مدير الشركة اللي بشتغل فيها، طبعاً كان حلم بالنسبة ليا، وفجأة الحلم اتحقق ومامته شافتني وعرضتني عليه ورغم إني منتقبة مطلبش يشوفني ولا مرة لا هو ولا مامته، اتجوزنا، من أول يوم جواز ليا وجحيمي بدأ، ضرب، إهانه، ذُل، حبس، خيانه، تنمر، قرف، اشمئزاز وعذاب، شوفت الجحيم معاه، كان هيقتلني وقتها أمه خافت عليه فهربتني، جابتني هنا، وشافتلي شغل وحمدت ربنا إني بعدت عنه، مكنش فيه مجال اطلب الطلاق لأنه ممضيني على وصلات تسجني وكنت خايفه على اختي، بعدت، عدى خمس شهور ومشفتوش، كنت بتعذب في الشغل ودوقت المر ورغم كدا مبسوطة إني بعيد عنه، لحد من شهر لقاني وقتها ثائر كان جاي يطمن على رحمه اختي لأنه كان عملها حادثة واتسبب في كسر رجلها والباقي أكيد هو عرفه لحضرتك....

تساقطت دموعها وعلا صوت نشيجها تزامُنًا مع ارتجافة جسدها وقضمها لشفتيه بقوة تدميها وهمست بمرارة وحرقة: والله قولت ليه إني عندي تشوه، مخبتش عليه والله، قلبي كان متعلق بأمل ولو صغير إنه يبادلني حبي ليه، من فرحاي محسبتش عواقب الجوازة دي، أنا مش كدابة زي ما هو بيقول، أنا أبويا مربيني صح والله ومبعرفش أكدب

صمتت قليلاً وقلبها ينزف دمًا لما تقصه بمرارة وعلا صوتها بقهرة: والله ما كنت محتاجه غير بس حد يكون سند ليا ولأختي وعندي استعداد أفديه بعمري، هو استغلني وذلني وأنا كنت ضعيفة فسكت، أنا لحد دلوقت بشوفوا بكوابيسي وهو بيعذبني، أنا مليش ذنب في التشوه دا ولا أختي ليها ذنب دا قدري ونصيبي ووالله راضية بيه ومش معترضة بس البشر مؤذين ونظراتهم بشعة، أنا عانيت ولسه بعاني واللي مصبرني أختي « رحمه»

تساقطت دموع السيدة « نجاة» عليها وجذبتها بقوة بين أحضانها الدافئة لعلها تضمد ولو جرحًا بسيطًا من جروحها الغائرة ابتي تعمقت وصولاً لروحها الفانية، شددت من ضمها لها وتمتمت برجاء ٍ وتأكيدٍ: العالم ميستهلش قلبك دا والله، النفوس المريضة هي اللي بتدور على الشكل والمظهر والجسم، ملكيش ذنب في شكلك ولا لونك ولا اي حاجه ومحدش عارف مين فينا عند ربنا أفضل، طليقك المريض دا هيتعاقب اشد عقاب صدقيني، عدالة ربنا فوق الكون كله، أنتِ جميلة رغم كل شيء يا هبه والله

***************************

أما عن تلك الوردة التي ذبلت أطرافها وسقطت تفترش التربة الطينية بشحوبها قد انعزلت عن العالم، من عملها لغرفتها متجاهلة العالم بأسرة، نقص وزنها وظهر بوضوحٍ الحزن جليًا على ملامحها، حتى تلك الرسائل التي كانت تجعلها تبتسم ولو بحزنٍ انقطعت عنها، صُفت وحيدة بنهاية الامر، احتضنت نفسها على الفراش ودموعها تتساقط بقوة بصمت، تشعر بنهاية لهفتها وشغفها، ألم قلبها يزداد سوءً وتلك النغزة التي تصل لأعمق ما بها تجعلها ترغب بالصراخ حتى تنجرح أحبالها الصوتية، رفعت رأسها ببطء عندما استمعت لصوت خطواتٍ تقترب منها، لن تُخفي حزنها عن أحدٍ الآن تُريد ضمة والدتها والبكاء بين ذراعيها، أحست بذراعين حنونين يلتفان حولها لكنها لم تقاوم بل رفعت رأسها لترى والدتها تبكي لبكاؤها، ارتمت بقوة تشكوها ألمها وألم قلبها الحزين....

« أحببت قلباً لا يراني يا أمي، أحببت قلبًا جعل قلبي يبكي ندمًا، أحببت قلبًا حطم فؤاد صغيرتك، أحببت من لا يرغبني ومن تركني كنجمة منفردة وسط سماءٍ مُظلمة بنهاية الليل القاسي، أحببته ويا ليت قلبي المسكين ما أحبه يا أمي، ليت قلبي الصغير نهرني عنه ولم يركض عشقًا خلفه، ليت ألم قلبي يتوقف ولو للحظة لالتقط أنفاسي النافرة مني بسلامٍ، ليتني ما أحببت قلبًا لا يُبالي بقلب طفلتك يا أمي»

****************************
وقف على أعتاب المطبخ قابضًا بقسوة فوق الكأس الزجاجي بيده، نيرانٍ كل ما يراه هو نيران تتعالى بداخله، سمح لنفسه بالاستماع لها وليته لم يفعل، هو بالأصل ابتعد عنها كل تلك المدة حتى ينفي تعلقه بها والآن فؤاده ينبض بين جنبات صدره كمضخة كهربائية، صوت شهقة والدته وصرختها جعلاه ينتبه للدماء التي تقطر بغزارة من كفه، كيف لم يستمع لصوت تهشم الكأس؟! كيف لم يشعر بالألم الذي أحدثه الزجاج بكفه؟! ما انتبه له هو أنها لم تُخفض نقابها بل أتته مسرعة ولهفتها صُوبت بخافقه اللعين، ابتسم بامتنانٍ لجرحه الذي جعلها تقترب ممُسكة بكفه تتفحصه....

رفع رأسه لوالدته المُبتسمة بغموضٍ ونظراتها تثقبهم ثم تمتم بهدوء: اهدوا مفيش حاجه دا جرح صغير

رفعت « هبه» راسها بحدة لها وكفه كذلك وأشارت له ثم اردفت بغضبٍ وقلق: دا صغير؟! إيدك اللي كلها دم دي وتقول صغير؟! إزاي محستش بالوجع دا عقلك كان فين وقتها؟!

ابتسم بشغفٍ لقلقها عليه وخوفها وأردفت بثباتٍ: جوايا وجع أكبر خلاني محسش بالألم دا

هزت رأسها بلا فائدة منه ودارت بنظرها للسيدة « نجاة» وتمتمت بطلب: ممكن علبة الإسعافات؟!

اكتفت « نجاة» بهزة خفيفة وتبعتهم بعينيها الثاقبتين وهما يخرجان للصالون....

جلست جواره تتفحص جرحه الملئ بالدماء وترقرقت الدموع بمقلتيها وتمتمت برجاء: جرحت نفسك كدا إزاي يا ثائر

يا الله على نبرتها التي أخترقته وجعلته يقبض على ركبته بقوة حتى لا ترتفع وتضمها لصدره بقوة ليشعر بأنها جواره، هز رأسه بخفة وتمتم: دا جرح صغير كنت سرحان وغصب عني الكاس اتكسر متقلقيش

هبطت دمعة وحيدة من بُنيتيها وحينها فقط انتبهت أنها نسيت أن تُخفض نقابها مما جعلها تشهق بعنفٍ وتهز رأسها بنفيٍ وتصرخ: يالهوي إزاي نسيته دا

ابتسم هو على ارتباكها وخجلها الفطري اللذيذ وطريقتها المرتعشة بإنزال نقابها وتمتم: شكلك حلو من غيره يا هبه

صعدت الدماء لوجهها وشعرت بحرارة لذيذة تدب بقلبها مما جعلها تبتسم بخجلٍ وتشيح بنظرها عنه وتبتسم بخفة لوالدته القادمة وتتناول منها علبة الإسعافات، بعناية وهدوءٍ بدأت بتنظيف جرحه وتطهيره ثم تغطيته جيداً ورفعت عينيها لتصدم بعيناه اللامعتين وبسمته المُريحة التي جعلت قلبها ينخلع من قفصها الصدري ليتمنى ضمة منه، نفضت تلك الأفكار عنها ونهضت بخفة وتمتمت: حمد الله على السلامة وخد بالك بعد كدا

ثم وجهت نظرها للسيدة « نجاة» واعطتها نظرة ممتنة وأردفت: شكرا جداً لحضرتك وعلى الراحه اللي عيشتها الليلة معاكي

نهضت « نجاة» من جلستها وضمتها براحة لصدرها وهمست بأذنيها بتأكيد : متشكرنيش أنا في مقام مامتك من هنا ورايح وأي حاجه تحتاجيها متتردديش تطلبيها مني يا هبه

نهض « ثائر» ودنى منهم ليستمع لهمسهم وأردف بحنقٍ: بتتهامسوا في إيه يا أمي مش سامع

لكزته والدته بخفة في صدره وأردفت بثقة: متتدخلش بينا يا واد أنت

رفع حاجبه الأيمن بتعجب من لهجتها الصادقة وهتف: يعني هبه خطفتك مني دلوقتي ولا إيه؟

ابتسمت « هبه» وربتت فوق كف السيدة « نجاة» وهتفت بمودة: أكيد مش هقدر اخد مكانك عندها

ابتسمت السيدة « نجاة» باستفزاز ووجهت حديثها ل « هبه»: ملكيش دعوة بالواد العاق دا يا حبيبتي، خلي بالك من نفسك وزي ما قولتلك

ثم رمقته بنظرة مُشمئزة وتمتمت: وانت واقف كدا على فين يا أخرة صبري

رفع « ثائر» كتفيه بلا مبالاة وابتسم بغرورٍ وتحدث: هوصل هبه لشقتها يا امي

اقتربت منه والدته وبحركة خاطفة قبضت على خصلاته وهتفت: شقتها اللي قصادنا اللي بينا وبينها ميكملش اتنين متر؟!

تخلص بصعوبة من براثين والدته وركض مبتعداً عنها وهتف بسماجة: ايوا عشان النور ممكن يقطع وكدا يا حاجه وأنتِ صاحبة نظر بردو

سارت هبه خلفه وضحكاتها المرحة تصل له ليخفق قلبه الثائر بقوة بين صدره العضلي ويبتسم بسعادة لا إرادية لضحكتها العفوية

وقفت « هبه» بتوتر منتظرة حديثه أو ذهابه ولكنه عكس ما توقعت فقط ينظر لها!! بشغف، بحالمية، بعشق!!! نفضت رأسها عندما وصلت لتلك النقطة ولوحت بيديها أمام وجهه وهتفت: ثائر؟؟؟


رسم الجدية فوق محياه وأردف بنبرة رجولية طاغية: عاملة إية دلوقت؟!

عدلت من خِمارها بحرجٍ واردفت: بقيت في أفضل حال والفضل ليك

ابتسم بثقة وود حملها والدوران بها حتى يبتسم قلبه كما شفتاه ولكنه تحدث براحة وصلت لها: أتمنى من كل قلبي

خجلها تعدى كل الخطوط مما جعلها ترفع عينيها له وتقبض فوق بابها وتهتف بتعلثم: تصبح على خير

ابتسم بسلامٍ حتى ظهرت أسنانه البيضاء ومسح بحرجٍ على خصلاته وأردف: وأنتِ من أهل الخير يا هبه

***************************

صباحٌ جديد اختفت به بعض أوجاع الأمس وظهرت بطُرقنا بعض العثرات الجديدة وربما بعض الابتسامات!

وقفت بتوتر تنتظر خروجه من المحاضرة ومن الثانية والاخرى ترمق « مي» وشلتها البغيضة نظراتٍ جامدة، ابتسمت بسعادة عندما رأته بطلته الجذابة يقترب منها، كم بدى وسيمًا اليوم! بقميصه الأبيض وچاكيته الرمادي وبنطاله الأسود وشعره المُصفف بعناية جعلوه اشبه ببطلٍ خرج لتوه من رواية قديمة، كادت أن تقترب منه ولكنها تراجعت بخوف عندما رأت « مي» تقترب بخطواتٍ مدللة بحجة سؤال تجهله في المحاضرة التي لم تحضرها هي، جحظت عينيها عندما رأت أصابع تلك الحقيرة التي تسير بخفة فوق ذراعه وهو منشغلاً بحل سؤالها، تقدمت خطواتها ولكنها تراجعت مجدداً لتكتفي ببعض الدموع التي تلمع بعينيها، أشاحت بوجهها بعيداً عنهم حتى لا تصل نيرانها لهم بينما هي عاجزة، مرة اخرى تفوز عليها «مي» بجدارة وتثبت لها قوتها وأنوثتها وشكلها الفاتن، نجحت بجدارة بأن توضح لها حجمها ومدى ضألتها، تعثرت خطواتها وكادت أن تصتدم بالأرض لولا ذراعه، نظر لها نظرة جامدة جعلتها تبتلع ريقها واعتدلت بوقفتها وتمتمت: أنت زعلان مني في حاجه؟!

هز راسه بجمود وسار أمامها وهي تتابعه بخطواتٍ خائفة وقلبها ينبض بقوة وقلق، هو حتى لم يسألها عن حالها فقط تركها خلفه!!...

ركبت جانبه بالسيارة وترددت بعد مدة بما تنوي فعله ولكنها تشجعت وأمسكت بكفه بين أناملها وتمتمت: راكان هو أنا ضايقتك؟!

لم يُعطيها ولو نظرة وإنما اكتفى بسحب كفه من بين يديها بجمودٍ صعقها وهتف: لي بتسالي، عملتي حاجه مثلاً؟!

ابتلعت غصة مؤلمة بحلقها وهزت راسها والدموع تتجمع بعينيها وتحدثت: أنتَ بتعاملني كدا لي، مبحبش حد يعاملني كدا

ضحك بتهكم وأوقف السيارة على جانب الطريق والتف لها وهمس بقسوة: ولما مش بتحبي حد يعاملك كدا سبتيها تقرب مني ليه ووقفتي تغلي ومدافعتيش عن حقك فيا هاااا ردي عليااااا ومتعيطيش

ارتعدت من صوته وأغمضت عينيها وتساقطت دموعها وتمتمت: كنت خايفه تحرجني قدامك يا راكان

قبض بقسوة على معصمها وقد نفذ صبره منها وصاح بغضبٍ: هتفضلي لأمتى خايفة؟! هتفضلي لامتي بتخافي تواجهي وتهربي؟! ليه شايفه نفسك أقل من الكل؟! اترجيتك تسيبي نفسك وتواجهي الناس وبردو بتتخبي، اعملك إيه تااااني، مين هي مي ولا غيرها عشان تخافي منهم، ليه ضعيفه بالشكل دااااا، ليييي

هزت رأسها بنفيٍ وصرخت به بحرقة ولم تكف دموعها عن السقوط: نزلني، نزلني امشي وسيبني، أنت زيك زيهم، عاوزني امشي وراك، أنت متفرقش عنهم حاجه، نزلنيييي بالله

صك على أسنانه بغضبٍ قارص وهز راسه بنفي وصاح بصوتٍ جوهري: أنا زيهم!!! أنا اللي جنبك وعاوزك بأفضل حال زيهم!!! أنا اللي حبيتك وبترجاكي زيهم!!!! ليه ديما حاطه نفسك في خانة إنك اقل من حد؟ ليه بتعيطي من أقل كلمه وتهربي؟! ليييه سايبه نفسك ليهم ومش بتدافعي عن قلبك؟! لييييه قوليلي لييييه

فاض بها الأمر ونفضت قبضته عنها وحاولت فتح باب السيارة ولكنها كان أسرع منها وأغلقه من جانبه ولكنها همست بألمٍ جعله يكاد يبكي وجعًا عليها: راكان

هدأ غضبه وانطفأت ثورته ورمقها بنظرة حانية عكس حدته السابقة ولمعة عيناه بحزنٍ على حالها ثم جذبها بقوة ليدفن وجهها بصدره بقوة لم يشعر بها الأثنين، فقط لحظة ضعفٍ من كلاهما انصاعا بها لقلبيهما، صوت نحيبها مزقه من الداخل وجعلها يضم كامل جسدها له لتدفن وجهها بعنقه ودموعها الحارقة تهبط على رقبته، ربت على ظهرها بمحبة وأردف بعشقٍ: اهدي يا روح راكان وضي عيونه اهدي

شددت من ضمتها له وضمت جسدها بخوفٍ أكثر لجسدها وهبطت دموعها بغزارة وهمست بحرقة: احضني جامد يا راكان، جامد

أمام نبرة انهيارها جذبها بقبضة فولاذية لدرجة ألمته وقبضت أصابعه على منابت شعرها يخبأ وجهها بعنقه وجسدها يُصبح سترًا له......

***********************

فركت « وردة» عينيها بتعب من انهاكها بالعمل واراحت ظهرها على المقعد ثم استمعت لصوت طرقاتٍ جعلت قلبها يفزع من هدوؤه ولكنها استعادت ثباتها وسمحت للطارق بالدخول، صُدمت من وجوده ومظهره المُشعت وثيابه الرثة وهيئته المُذرية وتمتمت بجفاءٍ: بتعمل إيه هنا يا براء

اقترب من مكتبها بخطواتٍ بطيئة وضعيفة وخرج صوته الهامس بألم: عشانك يا ورده

نهى حديثه بسقوطه بعنفٍ فاقدًا للوعي تاركًا قلب تلك المُشتاقة التي جف حلقها تصرخ فزعًا عليه.....


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close