رواية في قبضة الشيخ عثمان الفصل الخامس 5 بقلم سمية رشاد
الفصل الخامس
في قبضة الشيخ عثمان
انتفض واقفًا حينما استمع إلى طرقات هادئة على باب غرفته، فحتمًا لن تكون الطرقات هذه لأحدٍ سواها، كادت أن تعود إلى غرفتها مرة أخرى إلا أن سرعته القياسية في الخروج فاجئتها لتجده واقفًا أمامها يطالعها بتساؤل وقلق.
لم تجد بدلًا مما جاءت لأجله فسألته وهي ترفع أمامه بعض أدوات التزيين بينما عيناها ترمقانه بعتاب
- هذه الأشياء.. لماذا أجدها في غرفتي؟!
تطلع إليها قليلًا بأعين مندهشة قبل أن يجيبها
- ماذا.. هذه الأدوات بغرفة كل عروس وحتمًا الخالة عايدة أتت بها كي لا ينقصك شيء
- ولكن.. لمَ سمحت لها أن تأتي بهذه الأشياء المحرمة إلى بيتنا؟
بدون مجهود استنتج عقله أن أبيها قد حرم عليها استخدام أدوات الزينة فقال بهدوء
- ومن أخبرك أنها أدوات محرمة؟
طالعته بعدم فهم لما يقوله.. أينفي الآن أن استخدامها حرام وهي التي توقن بحرمتها من أبيها ليتابع صمتها الذي أخبره بغرق عقلها في التفكير ثم تابع
- استخدام أدوات الزينة ليس حرامًا ولكن الحرام في الأمر هو وضعها أمام من لم يستحق ذلك أي غير محارمك.. أما أنا فزوجك بل وضعك للزينة أمامي شيء حسن ولا أرى فيه شيء فلما تغضبين لهذه الدرجة التي جعلتك تطالعيني باتهام لا أقبله؟
هزت رأسها مدافعة بنفي لكلمة اتهام تلك التي قالها وإن كانت حقًا قد شعرت بها إلا أنها خجلت من أن تعلنها صراحة فنهض واقفًا بعدما كان قد خرج إلى غرفة الجلوس برفقتها أثناء حديثه معها ثم دلف إلى الغرفة مرة ثانية وأغلق الباب خلفه ليبتسم بمكر وهو يتذكر ملامحها المنصدمة حيال غضبه المصطنع.
ظلت تتابع باب الغرفة الذي أغلقه خلفه، تشعر بالندم الشديد لشكها الذي أصدرته تجاهه، فهي تعلم أنه شيخ البلدة، يحكم بين الناس بتعاليم الشرع، فكيف يخطيء في أمر كهذا؟ لعل والدها فقط هو من كان يخشى عليها الاعتياد على هذا الأمر فحرَّمه تمامًا.
مرت ساعتان كاملتان وهي جالسة بمكانها دون أن تدري ماذا عليها أن تفعل.. تشعر بالملل الشديد لا تعلم ماذا عليها أن تفعل، فعلى الأقل في منزل أبيها كانت تشغلها أعمال البيت الشاقة فلم تشعر بالوقت أما هنا فجميع الأشياء جاهزة حتى الطعام فالثلاجة ممتلئة به، فكرت أن تستأذن منه وتذهب للأسفل ترافق والده وترى إن كان يحتاج شيئًا يشعرها بالتسلية إلا أنها تراجعت عن تلك الفكرة وهي تتذكر وجهه العابس وغضبه السريع منذ ساعات.
استمعت إلى صوت باب غرفته يُفتح فالتفتت سريعًا إليه لتجده يشيح بوجهه إلى الناحية الأخرى بعدم اهتمام فشعرت بالضيق ولم تدرِ ماذا عساها أن تفعل، جلس على المقعد المقابل لها ثم فتح التلفاز الذي لم تكن تعرف كيف تديره وسرعان ما قلب بين قنواته ليستقر في النهاية على إحدى قنوات الكارتون التي ما لبثت وأن جذبت انتباهها لتتابع ما يحدث أمامها بانبهار شديد.
كان يعلم أنها لم تكن تعلم ما يذاع بالتلفاز بل ربما هذه المرة الأولى التي تراه بها لذا حرص على إدارته أمام عيناها كي تستخدمه فيها بعد في عدم وجوده إن أرادت فعل شيء.
نهض واقفًا ثم هتف بهدوء وهو واقفًا على باب البيت
- سأنزل للاطمئنان على أبي وأجاوره قليلًا
أومأت بإيجاب وعيناها تلتهم ما يذاع على الشاشة أمامها بنهم شديد.
بعد ما يقارب الساعتين عاد إليها مرة أخرى ليجدها مازالت على حالها ولم يتغير بها سوى تلك النظرات المترددة التي ترمقه بها بين الفينة والأخرى.
جاورها في الجلوس ليجدها تهتف بكلمات مترابطة وكأنها تحفظها منذ أن تركها
- أعتذر لم يكن عليّ فعل ذلك.. بإمكانك أن تعاقبني كيفما شئت.
لوهلة تعجب من مبادرتها في الحديث إليه وما لبث أن تلونت حدقتيه وهو يسألها بغموض
- وما كيفية ذاك العقاب الذي تتغنين به؟
لتجيبه بصوت بدا إليه مشبعًا بالخوف والقهر
- تضربني أو تجعلني أصوم أسبوعًا أو حتى أصلي خمسون ركعة أي عقاب شئت سأفعله.
شعر بالغضب الشديد من تلك الأشياء التي ترددها على مسامعه دون تردد وكأنها أمر طبيعي بين الناس ليقول بصوت أخفى الغضب منه
- ذاك الضرب الذي تعرضينه علي ليس من أفعالي.. فأنا رجل يا مارية وأنت إنسانة ولستِ حيوان لأعاقبك بالضرب فحتى الحيوان لا ينبغي أن يعاقب بهذه الطريقة.. وأما الصيام فهذا أمر تفعلينه لله وليس بأمر مني فليس علي أن أجبرك على صوم ولو يوم واحد إن لم يكن ذاك الصيام فرضًا.. وكذلك الصلاة لا تفعل لبشر بل لله فقط.
استمعت إلى كلماته التي تشبه إلى حد كبير كلمات شقيقها التي كانت تزجره عليها لمعارضته أبيهم ولم تدرِ ماذا عساها أن تفعل، تشعر بالحيرة الشديدة من كلامهم المعارض لأبيها فنطقت بتيهٍ كبير
- ولكن كان أبي يقرر واحدًا من تلك الأشياء إذا أخطأت.
زفر بقوة بعدما نطقت بما يعلمه حقًا ليقول
- أبيك يعلم أن هذه الأشياء ليست مقررة في الشرع ولكن كان يفعلها معك وأنا لا شأن لي بأن أتدخل بعقاب رجل لابنته حتى وإن كان مخطئًا.. ولكن واجب علي أن أردعه على ذاك الخطأ فأنا كبير البلدة وشيخها المسؤول عن ما يخص أمور الدين ولن أقبل أن يستغل أحد للدين بهذه الطريقة.
لا تعلم لما شعرت بالرهبة تتخذ قلبها رفيقًا بعدما استمعت إلى صوته القوي وهو يخبرها أنه كبير البلدة وكأنه بذلك يذكرها ألا تتهاون معه.. لتبتلع ريقها بخوف وهي تسأله بقلة حيلة
- ولكنني لا أريدك أن تظل مخاصمًا لي هكذا وأعجز عن التفكير في كيفية مصالحتك فهلا أخبرتني بالطريقة التي ينبغي علي أن أتعامل مع غضبك بها.
شعور بالضيق تملك قلبه وهو يشعر بهذه الرسمية التي تتحدث معه بها بالإضافة إلى ارتجاف أناملها الذي يراه واضحًا كبدو الشمس ولكنه أخفى ذاك الشعور بداخله وهو يستدعي المكر كي يحتل معالم وجهه
- ستراضين قلبي بأي طريقة أُخبرك بها؟!
أومأت إليه سريعًا بإيجاب وهي تشعر بأنها وصلت لمبتغاها فاتسعت ابتسامته قبل أن يشير بإصبعه على إحدى وجنتيه
عقدت حاجبيها بعدم فهم من إشارته تلك لترتفع ضحكاته الماكرة وهو يقول موضحًا
- هذه الطريقة التي تروقني وتجعل قلبي يقبل الصلح بل ويكون راضيًا كل الرضا.
ازداد عبوسها وهي تشعر بالعجز لعدم فهمها لما يشير إليه فرسم الجدية على معالم وجهه وهو يقول ببطء وكأنه يشرح لها ما يقول
- قبلة على إحدى وجنتي أو الاثنتين لن أمانع هذه الطريقة المضمونة للصلح
لتتسع عيناها بقوة وتلتهب وجنتاها بحمرة شديدة وبالأخص بعدما التقطت ابتسامته العابثة التي يحاول إخفاؤها برسم الجدية على وجهه فنهضت واقفة مرة واحدة ليشعر بنبضات قلبه تتسارع بعنف وكأنها في سباق مميت ويلملم قدمه اليسرى التي كان يمدها أمامه كي تستطيع الوصول إليه لتفاجئة وهي تنطق بتساؤل
- إذا لا يوجد غير هذه الطريقة كي تقبل بمحاولتي في إرضاؤك؟
أومأ إليها بإيجاب وهو موقن من أنها على شفا حرف من التنفيذ لتصدمه بقولها
- فلتبقَ غاضبًا.
ليتابع مغادرتها منصدمًا من عبارتها التي لم يتوقع أبدًا أن تفاجئه بها، بل لم يعتقد أن هناك أحد بهذه القرية قادرًا على قولها لتأتي هذه الصغيرة وتفعل إحدى العجائب دون أن يرمش لها جفن ليقول هامسًا بعدما اختفت من أمام نظره
- أليس أنت من طمئنتها من جانبك وأخبرتها أن الدنيا إن اجتمعت لأذاها فلن تفعل أنت.. فلتشرب يا كبير.. اشرب يا حبيبي.
بعد عدة ساعات في منزل الحُكم
صوت عثمان القوي كان يصدح ليرتج بين جدران البيت بينما مسعود جالسًا أمامه يشعر بالتوتر من تلك الهيبة الذي يفرضها الآخر على كل من يراه وبالأخص وهو يجلس هنا في مقعده الكبير وكأنه ملك عرش البلاد وليس شيخًا لقرية لا يتعدى أفرادها الخمسة آلاف، انتبه من حالة التفكير التي كان غارفًا بداخلها على صوت الآخر الذي صدح يسأله
- أخبرني يا شيخ مسعود هل النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بناته إن أخطأن بالصيام أو بالعديد من الركعات أو حتى بالضرب
ارتبك مسعود وهو يشعر بالغيظ الشديد من ابنته التي ما برحت أن تزوجته وبدأت في شكواها له لينتبه على نظرات عثمان المنتظرة إجابته فأجابه بتبجح المخطئين
- أتعد أوامري لابنتي بالصيام والصلاة شيئًا خاطئًا يا شيخ عثمان، بل واستمعت لشكوى النساء وجئت تعد لي محاكمة على شيء لم أخطيء بفعله؟!
ليجيبه عثمان برزانته المعهودة
- أولًا لم تشكوني إليك بل علمت عن طريق القدر ما أنت تفعله وليكن بعلمك أني هنا لست زوج ابنتك كي تحدثني بهذه الطريقة فأنا هنا الشيخ عثمان ولن أقبل لأحد أن يتهاون في احترامي.. ثانيًا أنا المسؤول عن أمور الدين في القرية ولن أترك أحدًا يبتدع فيه أمرًا إلا وقد منعته خاصة وأنا كنت ممن دعوته للدخول في الاسلام
لتلين نبرته قليلًا وهو يقول برفق الداعي
- يا شيخ مسعود أنا دعوتك للدخول في الاسلام عندما التمست فيك الصلاح، بل وكنت أراك مسلمًا بلا إسلام فأردت أن تفوز باتباع الدين الصحيح الذي كنت قد أخبرتك بتعاليمه وكلفت رسولي لتعليمك جميع الأحكام فلما بعدما مرت أكثر من عشر سنوات تحيد عن الطريق الصحيح وتبتدع أمورًا في الدين ليست من أفعال النبي في شيء بل هي بدعة محدثة وأريدك أن تبتعد عن فعلها
تطلع إليه مسعود قليلًا وهو حقًا يشعر بالامتنان لهذا الرجل الذي أنقذه من الظلمات إلى النور وجعله يسلك الاسلام طريقًا في كل أموره حتى أسماء أبناءه قد غيرها لاسم النبي وإحدى أزواجه، ليغوص عقل مسعود في التفكير بتلك الأيام الجميلة التي كانت في بداية الإسلام والتعاليم البسيطة التي كان يسير عليها كما علمه عثمان ورسوله، تلك التي كانت تخالف إلى درجة كبيرة ما يتبعه في هذه الأيام بسبب أصدقاءه الذين ضللوا عقله بالكثير من الأفكار المتشددة ليفيق من شروده وهو يفصح بما يؤرق عقله
- أنا أخاف يا شيخ... أخاف أن أتهاون في شيء فأفعل ذنبًا وأنا الذي كنت كافرًا وارتكبت الكفر والفجور فلا أريد أن أفعل ذنوبًا أخرى فيتعدى عدد السيئات لأعمالي الصالحة فأجد نفسي غارفًا بجهنم
تنهد عثمان بقوة بعدما فهم ما يدور بعقل هذا الرجل الذي لا يعلم من مليء عقله بهذا الكلام فسلك مسلكا آخر للحديث وهو يقول
- يا شيخ مسعود أم تقرأ القرآن بل وتحفظ آياته التي تتحدث عن قبول التوبة بل أنت الآن ربما تعد أفضل مني فإن كانت توبتك صادقة فالله تعالى رحيم ووعدنا بأنه سيقبل التوبة عن عباده... ثم أنت الآن لا تسير على الشرع بل تغالي يا شيخ وتعسر على نفسك وعلى من حولك فلما كل هذا؟! الدين يسر وليس عسر.. ديننا سهل جميل فلما تجعله قاسيًا يا رجل.. ارفق بنفسك يا شيخ ولا تعذبها فالله لن يرضى بذلك أبدًا
شرد مسعود في كلماته فتابع عثمان وهو يقترب منه ليربت على كتفه بعدما استشعر منه الميل للصلاح
- أنا أدعوك لتحضر دروس الدين كل جمعة بعد صلاة العشاء نجلس في مسجد"الرحمن" وأقوم بشرح ما يجب وما يجوز وما يحرم علينا في أمور الدين وأظن أنك تحتاج للحضور معنا فما رأيك؟
أومأ إليه موافقًا بلهفة فهو ذاته قد أصابه الإرهاق لما يفعله بذاته، بل بدأ الشيطان يوسوس له فجعله يحمل شعورًا سيئا للدين فقال عثمان وهو يراه يستعد للمغادرة
- وأمرًا آخر أردت التشديد عليه... ابنتك أبدًا لن تشكوك لي بل لم تذكرك سوى بالخير
أومأ إليه مسعود وهو يلتفت مغادرًا بعدما قال
- حتى إن فعلت.. فلها الحق.
تململت روح مارية بضيق يغزوها بعدما فشلت في تشغيل التلفاز لتلمع أعينها بسعادة وهي تراودها فكرة غزو الشقة واحتلال كل ركن من أركانها بعيناها، فمن يصدق أنها مرّ عليها كل هذا الوقت دون أن تعلم ما بالشقة سوى الغرفة الوحيدة التي تسكنها، فحتى غرفة المعيشة والمطبخ اللذان دخلتهما عدة مرات لم تستطع التمعن بهم بطريقة جيدة.
سلطت نظراتها على أولى الغرف المغلقة التي كانت تثير فضولها لتفتح بابها من مقبضه بسهولة وما لبثت أن اتسعت أعينها بانبهار شديد وهي تتفحص تلك المقاعد التي وصفتها بالفخامة بألوانها التي تتنوع بين الأسود الحالك ولون السمن الذي تناغم مع الأسود بطريقة جعلتهما خاطفان للأنظار، ارتفعت أعينها على حائط الغرفة الملون أيضًا بلون السمن لتنتقل إلى الستائر التي امتزجت بين اللونين وابتسامة فرحة تعلو ثغرها وعقلها يحاول الاقتناع بأن كل هذا الذي لم تعتقد أبدًا أنها ستراه في حياتها بشقتها هي ملكيتها الخاصة.
أغلقت باب الغرفة لتدور بأنحاء البيت بحماس شديد وسرعان ما تثاقلت أنفاسها وهي توجه أنظارها إلى الغرفة الأخيرة التي يسكنها، تلونت وجنتيها بحمرة وهي تتذكر كلماته بأنه سيسكن هذه الغرفة مؤقتًا إلى أن ينتقل ليرافقها بفراشها، لا تعلم كيف سيحدث هذا الشيء وهي التي تتوقف نبضات قلبها كلما خطرت على بالها الفكرة فكيف إذا نفذها، بسملة تلقائية خرجت من شفتيها وهي تضغط على المقبس وسرعان ما لفظت بأحد التعبيرات التي تدل على إعجابها وعيناها تقع على الأسرة التي هي بحجم أسرَّة الأطفال ولكنها تختلف عنها في الشكل فهذه تميل إلى ألوان الشباب أكثر من كونها غرفة أطفال وهذا ما جعلها تتسم بكل هذه الرقَّة، انتقلت بأنظارها إلى عباءته المعلقة على حامل الملابس بأناقة وكأنه تفنن في تعليقها، دارت بأعينها في جميع أنحاء الغرفة قبل أن تسرع مغادرة وهي تستمع إلى صوته الذي يعلو بالأسفل لتعلم أن وقت قدومه قد آن فأسرعت تنضم إلى فراش غرفتها ولكن لم يتركها تهنأ بعزلتها وهو يردد اسمها عدة مرات بنبرته التي أربكت قلبها.
يتبع..
في قبضة الشيخ عثمان
انتفض واقفًا حينما استمع إلى طرقات هادئة على باب غرفته، فحتمًا لن تكون الطرقات هذه لأحدٍ سواها، كادت أن تعود إلى غرفتها مرة أخرى إلا أن سرعته القياسية في الخروج فاجئتها لتجده واقفًا أمامها يطالعها بتساؤل وقلق.
لم تجد بدلًا مما جاءت لأجله فسألته وهي ترفع أمامه بعض أدوات التزيين بينما عيناها ترمقانه بعتاب
- هذه الأشياء.. لماذا أجدها في غرفتي؟!
تطلع إليها قليلًا بأعين مندهشة قبل أن يجيبها
- ماذا.. هذه الأدوات بغرفة كل عروس وحتمًا الخالة عايدة أتت بها كي لا ينقصك شيء
- ولكن.. لمَ سمحت لها أن تأتي بهذه الأشياء المحرمة إلى بيتنا؟
بدون مجهود استنتج عقله أن أبيها قد حرم عليها استخدام أدوات الزينة فقال بهدوء
- ومن أخبرك أنها أدوات محرمة؟
طالعته بعدم فهم لما يقوله.. أينفي الآن أن استخدامها حرام وهي التي توقن بحرمتها من أبيها ليتابع صمتها الذي أخبره بغرق عقلها في التفكير ثم تابع
- استخدام أدوات الزينة ليس حرامًا ولكن الحرام في الأمر هو وضعها أمام من لم يستحق ذلك أي غير محارمك.. أما أنا فزوجك بل وضعك للزينة أمامي شيء حسن ولا أرى فيه شيء فلما تغضبين لهذه الدرجة التي جعلتك تطالعيني باتهام لا أقبله؟
هزت رأسها مدافعة بنفي لكلمة اتهام تلك التي قالها وإن كانت حقًا قد شعرت بها إلا أنها خجلت من أن تعلنها صراحة فنهض واقفًا بعدما كان قد خرج إلى غرفة الجلوس برفقتها أثناء حديثه معها ثم دلف إلى الغرفة مرة ثانية وأغلق الباب خلفه ليبتسم بمكر وهو يتذكر ملامحها المنصدمة حيال غضبه المصطنع.
ظلت تتابع باب الغرفة الذي أغلقه خلفه، تشعر بالندم الشديد لشكها الذي أصدرته تجاهه، فهي تعلم أنه شيخ البلدة، يحكم بين الناس بتعاليم الشرع، فكيف يخطيء في أمر كهذا؟ لعل والدها فقط هو من كان يخشى عليها الاعتياد على هذا الأمر فحرَّمه تمامًا.
مرت ساعتان كاملتان وهي جالسة بمكانها دون أن تدري ماذا عليها أن تفعل.. تشعر بالملل الشديد لا تعلم ماذا عليها أن تفعل، فعلى الأقل في منزل أبيها كانت تشغلها أعمال البيت الشاقة فلم تشعر بالوقت أما هنا فجميع الأشياء جاهزة حتى الطعام فالثلاجة ممتلئة به، فكرت أن تستأذن منه وتذهب للأسفل ترافق والده وترى إن كان يحتاج شيئًا يشعرها بالتسلية إلا أنها تراجعت عن تلك الفكرة وهي تتذكر وجهه العابس وغضبه السريع منذ ساعات.
استمعت إلى صوت باب غرفته يُفتح فالتفتت سريعًا إليه لتجده يشيح بوجهه إلى الناحية الأخرى بعدم اهتمام فشعرت بالضيق ولم تدرِ ماذا عساها أن تفعل، جلس على المقعد المقابل لها ثم فتح التلفاز الذي لم تكن تعرف كيف تديره وسرعان ما قلب بين قنواته ليستقر في النهاية على إحدى قنوات الكارتون التي ما لبثت وأن جذبت انتباهها لتتابع ما يحدث أمامها بانبهار شديد.
كان يعلم أنها لم تكن تعلم ما يذاع بالتلفاز بل ربما هذه المرة الأولى التي تراه بها لذا حرص على إدارته أمام عيناها كي تستخدمه فيها بعد في عدم وجوده إن أرادت فعل شيء.
نهض واقفًا ثم هتف بهدوء وهو واقفًا على باب البيت
- سأنزل للاطمئنان على أبي وأجاوره قليلًا
أومأت بإيجاب وعيناها تلتهم ما يذاع على الشاشة أمامها بنهم شديد.
بعد ما يقارب الساعتين عاد إليها مرة أخرى ليجدها مازالت على حالها ولم يتغير بها سوى تلك النظرات المترددة التي ترمقه بها بين الفينة والأخرى.
جاورها في الجلوس ليجدها تهتف بكلمات مترابطة وكأنها تحفظها منذ أن تركها
- أعتذر لم يكن عليّ فعل ذلك.. بإمكانك أن تعاقبني كيفما شئت.
لوهلة تعجب من مبادرتها في الحديث إليه وما لبث أن تلونت حدقتيه وهو يسألها بغموض
- وما كيفية ذاك العقاب الذي تتغنين به؟
لتجيبه بصوت بدا إليه مشبعًا بالخوف والقهر
- تضربني أو تجعلني أصوم أسبوعًا أو حتى أصلي خمسون ركعة أي عقاب شئت سأفعله.
شعر بالغضب الشديد من تلك الأشياء التي ترددها على مسامعه دون تردد وكأنها أمر طبيعي بين الناس ليقول بصوت أخفى الغضب منه
- ذاك الضرب الذي تعرضينه علي ليس من أفعالي.. فأنا رجل يا مارية وأنت إنسانة ولستِ حيوان لأعاقبك بالضرب فحتى الحيوان لا ينبغي أن يعاقب بهذه الطريقة.. وأما الصيام فهذا أمر تفعلينه لله وليس بأمر مني فليس علي أن أجبرك على صوم ولو يوم واحد إن لم يكن ذاك الصيام فرضًا.. وكذلك الصلاة لا تفعل لبشر بل لله فقط.
استمعت إلى كلماته التي تشبه إلى حد كبير كلمات شقيقها التي كانت تزجره عليها لمعارضته أبيهم ولم تدرِ ماذا عساها أن تفعل، تشعر بالحيرة الشديدة من كلامهم المعارض لأبيها فنطقت بتيهٍ كبير
- ولكن كان أبي يقرر واحدًا من تلك الأشياء إذا أخطأت.
زفر بقوة بعدما نطقت بما يعلمه حقًا ليقول
- أبيك يعلم أن هذه الأشياء ليست مقررة في الشرع ولكن كان يفعلها معك وأنا لا شأن لي بأن أتدخل بعقاب رجل لابنته حتى وإن كان مخطئًا.. ولكن واجب علي أن أردعه على ذاك الخطأ فأنا كبير البلدة وشيخها المسؤول عن ما يخص أمور الدين ولن أقبل أن يستغل أحد للدين بهذه الطريقة.
لا تعلم لما شعرت بالرهبة تتخذ قلبها رفيقًا بعدما استمعت إلى صوته القوي وهو يخبرها أنه كبير البلدة وكأنه بذلك يذكرها ألا تتهاون معه.. لتبتلع ريقها بخوف وهي تسأله بقلة حيلة
- ولكنني لا أريدك أن تظل مخاصمًا لي هكذا وأعجز عن التفكير في كيفية مصالحتك فهلا أخبرتني بالطريقة التي ينبغي علي أن أتعامل مع غضبك بها.
شعور بالضيق تملك قلبه وهو يشعر بهذه الرسمية التي تتحدث معه بها بالإضافة إلى ارتجاف أناملها الذي يراه واضحًا كبدو الشمس ولكنه أخفى ذاك الشعور بداخله وهو يستدعي المكر كي يحتل معالم وجهه
- ستراضين قلبي بأي طريقة أُخبرك بها؟!
أومأت إليه سريعًا بإيجاب وهي تشعر بأنها وصلت لمبتغاها فاتسعت ابتسامته قبل أن يشير بإصبعه على إحدى وجنتيه
عقدت حاجبيها بعدم فهم من إشارته تلك لترتفع ضحكاته الماكرة وهو يقول موضحًا
- هذه الطريقة التي تروقني وتجعل قلبي يقبل الصلح بل ويكون راضيًا كل الرضا.
ازداد عبوسها وهي تشعر بالعجز لعدم فهمها لما يشير إليه فرسم الجدية على معالم وجهه وهو يقول ببطء وكأنه يشرح لها ما يقول
- قبلة على إحدى وجنتي أو الاثنتين لن أمانع هذه الطريقة المضمونة للصلح
لتتسع عيناها بقوة وتلتهب وجنتاها بحمرة شديدة وبالأخص بعدما التقطت ابتسامته العابثة التي يحاول إخفاؤها برسم الجدية على وجهه فنهضت واقفة مرة واحدة ليشعر بنبضات قلبه تتسارع بعنف وكأنها في سباق مميت ويلملم قدمه اليسرى التي كان يمدها أمامه كي تستطيع الوصول إليه لتفاجئة وهي تنطق بتساؤل
- إذا لا يوجد غير هذه الطريقة كي تقبل بمحاولتي في إرضاؤك؟
أومأ إليها بإيجاب وهو موقن من أنها على شفا حرف من التنفيذ لتصدمه بقولها
- فلتبقَ غاضبًا.
ليتابع مغادرتها منصدمًا من عبارتها التي لم يتوقع أبدًا أن تفاجئه بها، بل لم يعتقد أن هناك أحد بهذه القرية قادرًا على قولها لتأتي هذه الصغيرة وتفعل إحدى العجائب دون أن يرمش لها جفن ليقول هامسًا بعدما اختفت من أمام نظره
- أليس أنت من طمئنتها من جانبك وأخبرتها أن الدنيا إن اجتمعت لأذاها فلن تفعل أنت.. فلتشرب يا كبير.. اشرب يا حبيبي.
بعد عدة ساعات في منزل الحُكم
صوت عثمان القوي كان يصدح ليرتج بين جدران البيت بينما مسعود جالسًا أمامه يشعر بالتوتر من تلك الهيبة الذي يفرضها الآخر على كل من يراه وبالأخص وهو يجلس هنا في مقعده الكبير وكأنه ملك عرش البلاد وليس شيخًا لقرية لا يتعدى أفرادها الخمسة آلاف، انتبه من حالة التفكير التي كان غارفًا بداخلها على صوت الآخر الذي صدح يسأله
- أخبرني يا شيخ مسعود هل النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بناته إن أخطأن بالصيام أو بالعديد من الركعات أو حتى بالضرب
ارتبك مسعود وهو يشعر بالغيظ الشديد من ابنته التي ما برحت أن تزوجته وبدأت في شكواها له لينتبه على نظرات عثمان المنتظرة إجابته فأجابه بتبجح المخطئين
- أتعد أوامري لابنتي بالصيام والصلاة شيئًا خاطئًا يا شيخ عثمان، بل واستمعت لشكوى النساء وجئت تعد لي محاكمة على شيء لم أخطيء بفعله؟!
ليجيبه عثمان برزانته المعهودة
- أولًا لم تشكوني إليك بل علمت عن طريق القدر ما أنت تفعله وليكن بعلمك أني هنا لست زوج ابنتك كي تحدثني بهذه الطريقة فأنا هنا الشيخ عثمان ولن أقبل لأحد أن يتهاون في احترامي.. ثانيًا أنا المسؤول عن أمور الدين في القرية ولن أترك أحدًا يبتدع فيه أمرًا إلا وقد منعته خاصة وأنا كنت ممن دعوته للدخول في الاسلام
لتلين نبرته قليلًا وهو يقول برفق الداعي
- يا شيخ مسعود أنا دعوتك للدخول في الاسلام عندما التمست فيك الصلاح، بل وكنت أراك مسلمًا بلا إسلام فأردت أن تفوز باتباع الدين الصحيح الذي كنت قد أخبرتك بتعاليمه وكلفت رسولي لتعليمك جميع الأحكام فلما بعدما مرت أكثر من عشر سنوات تحيد عن الطريق الصحيح وتبتدع أمورًا في الدين ليست من أفعال النبي في شيء بل هي بدعة محدثة وأريدك أن تبتعد عن فعلها
تطلع إليه مسعود قليلًا وهو حقًا يشعر بالامتنان لهذا الرجل الذي أنقذه من الظلمات إلى النور وجعله يسلك الاسلام طريقًا في كل أموره حتى أسماء أبناءه قد غيرها لاسم النبي وإحدى أزواجه، ليغوص عقل مسعود في التفكير بتلك الأيام الجميلة التي كانت في بداية الإسلام والتعاليم البسيطة التي كان يسير عليها كما علمه عثمان ورسوله، تلك التي كانت تخالف إلى درجة كبيرة ما يتبعه في هذه الأيام بسبب أصدقاءه الذين ضللوا عقله بالكثير من الأفكار المتشددة ليفيق من شروده وهو يفصح بما يؤرق عقله
- أنا أخاف يا شيخ... أخاف أن أتهاون في شيء فأفعل ذنبًا وأنا الذي كنت كافرًا وارتكبت الكفر والفجور فلا أريد أن أفعل ذنوبًا أخرى فيتعدى عدد السيئات لأعمالي الصالحة فأجد نفسي غارفًا بجهنم
تنهد عثمان بقوة بعدما فهم ما يدور بعقل هذا الرجل الذي لا يعلم من مليء عقله بهذا الكلام فسلك مسلكا آخر للحديث وهو يقول
- يا شيخ مسعود أم تقرأ القرآن بل وتحفظ آياته التي تتحدث عن قبول التوبة بل أنت الآن ربما تعد أفضل مني فإن كانت توبتك صادقة فالله تعالى رحيم ووعدنا بأنه سيقبل التوبة عن عباده... ثم أنت الآن لا تسير على الشرع بل تغالي يا شيخ وتعسر على نفسك وعلى من حولك فلما كل هذا؟! الدين يسر وليس عسر.. ديننا سهل جميل فلما تجعله قاسيًا يا رجل.. ارفق بنفسك يا شيخ ولا تعذبها فالله لن يرضى بذلك أبدًا
شرد مسعود في كلماته فتابع عثمان وهو يقترب منه ليربت على كتفه بعدما استشعر منه الميل للصلاح
- أنا أدعوك لتحضر دروس الدين كل جمعة بعد صلاة العشاء نجلس في مسجد"الرحمن" وأقوم بشرح ما يجب وما يجوز وما يحرم علينا في أمور الدين وأظن أنك تحتاج للحضور معنا فما رأيك؟
أومأ إليه موافقًا بلهفة فهو ذاته قد أصابه الإرهاق لما يفعله بذاته، بل بدأ الشيطان يوسوس له فجعله يحمل شعورًا سيئا للدين فقال عثمان وهو يراه يستعد للمغادرة
- وأمرًا آخر أردت التشديد عليه... ابنتك أبدًا لن تشكوك لي بل لم تذكرك سوى بالخير
أومأ إليه مسعود وهو يلتفت مغادرًا بعدما قال
- حتى إن فعلت.. فلها الحق.
تململت روح مارية بضيق يغزوها بعدما فشلت في تشغيل التلفاز لتلمع أعينها بسعادة وهي تراودها فكرة غزو الشقة واحتلال كل ركن من أركانها بعيناها، فمن يصدق أنها مرّ عليها كل هذا الوقت دون أن تعلم ما بالشقة سوى الغرفة الوحيدة التي تسكنها، فحتى غرفة المعيشة والمطبخ اللذان دخلتهما عدة مرات لم تستطع التمعن بهم بطريقة جيدة.
سلطت نظراتها على أولى الغرف المغلقة التي كانت تثير فضولها لتفتح بابها من مقبضه بسهولة وما لبثت أن اتسعت أعينها بانبهار شديد وهي تتفحص تلك المقاعد التي وصفتها بالفخامة بألوانها التي تتنوع بين الأسود الحالك ولون السمن الذي تناغم مع الأسود بطريقة جعلتهما خاطفان للأنظار، ارتفعت أعينها على حائط الغرفة الملون أيضًا بلون السمن لتنتقل إلى الستائر التي امتزجت بين اللونين وابتسامة فرحة تعلو ثغرها وعقلها يحاول الاقتناع بأن كل هذا الذي لم تعتقد أبدًا أنها ستراه في حياتها بشقتها هي ملكيتها الخاصة.
أغلقت باب الغرفة لتدور بأنحاء البيت بحماس شديد وسرعان ما تثاقلت أنفاسها وهي توجه أنظارها إلى الغرفة الأخيرة التي يسكنها، تلونت وجنتيها بحمرة وهي تتذكر كلماته بأنه سيسكن هذه الغرفة مؤقتًا إلى أن ينتقل ليرافقها بفراشها، لا تعلم كيف سيحدث هذا الشيء وهي التي تتوقف نبضات قلبها كلما خطرت على بالها الفكرة فكيف إذا نفذها، بسملة تلقائية خرجت من شفتيها وهي تضغط على المقبس وسرعان ما لفظت بأحد التعبيرات التي تدل على إعجابها وعيناها تقع على الأسرة التي هي بحجم أسرَّة الأطفال ولكنها تختلف عنها في الشكل فهذه تميل إلى ألوان الشباب أكثر من كونها غرفة أطفال وهذا ما جعلها تتسم بكل هذه الرقَّة، انتقلت بأنظارها إلى عباءته المعلقة على حامل الملابس بأناقة وكأنه تفنن في تعليقها، دارت بأعينها في جميع أنحاء الغرفة قبل أن تسرع مغادرة وهي تستمع إلى صوته الذي يعلو بالأسفل لتعلم أن وقت قدومه قد آن فأسرعت تنضم إلى فراش غرفتها ولكن لم يتركها تهنأ بعزلتها وهو يردد اسمها عدة مرات بنبرته التي أربكت قلبها.
يتبع..