رواية حرر هواك فالحب بات معلنا الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم تسنيم المرشدي
«حرِر هَواكَ فٕالحُب بَاتَ مُعلنا»
« الفصل الثاني والثلاثون»
***
"أنت مين"
تسائل يوسف بذُعر تملكه لكنه تحلى بالثبات والحدة في نبرته حتى لا يُستهان به، وبنبرة غلظة صاح الآخر:
_ أني بردك اللي مين، أني يا سيدي بواب العمارة، أنتِ مين وبتعمل إيه إهنه؟
تنهد يوسف ببعض الراحة وأجابه بجدية:
_ أنا يوسف الراوي، صاحب الشقة
حمحم الرجل بحرج وقد تراجع عن حدة صوته:
_ أني آسف يا بيه، بس الجيران سمعوا صوت صراخ في الشجة وجالولي أشوف الصوت ديه مصدره إيه فجيت جري
أماء يوسف بتفهم وأردف بصوته الرخيم:
_ حصل خير يا عم..
"خدامك راضي يا بيه"
هتف بها الحارس فاستنكر يوسف تقليله من شأنه وعاتبه وهو يربت على كتفه:
_ متقولش كدا يا راجل يا طيب، أنت على راسي، وبعدين أنا مش بيه أنا يوسف عادي..
ابتسم له الرجل قبل أن يردد:
_ ودي تيچي كيف ديي، الناس مجامات بردك يا يوسف بيه
استاء يوسف من ترديده لتلك الكلمة وصاح بتهكم:
_ يا سيدي لو لازم ألقاب يعني قولي يا يوسف باشا..
تفاجئ الحارس برده فانفجر يوسف ضاحكاً وعدل على حديثه:
_ بهزر معاك، أنا زي إبنك قولي يا يوسف وبس
"الموضوع هيبجى صعب عليا، طب أسمح لي أناديك بأستاذ يوسف"
هتف الحارس فأراد يوسف إنهاء الحوار:
_ اللي يريحك يا عم راضي..
أنهى جملته فانتبه لنداء لينة المتوجس من خلفه:
_ يوسف..
التفت إليها وأشار لها بالإقتراب قائلاً:
_ تعالي يا لينة، دا عم راضي البواب
عرف يوسف عن هويتها حينما رأى التساؤلات في عيني الحارس:
_ لينة مراتي ياعم راضي
رحب بها راضي بترحيب حافل:
_ يا أهلاً وسهلاً يا ست الدار
عقدت لينة حاجبيها وتبادلت النظرات مع يوسف الذي أوحى إليها بإشارة من عينيه أن تجاري الأمر فقالت هي مختصرة:
_ أهلاً بحضرتك
حمحم راضي وبصوت خشن تسائل بفضول:
_ أومال ليه معتعش إهنه طلاما متچوز؟
أوضح له يوسف حقيقة زواجهما:
_ إحنا عاقدين لسه ياعم راضي وان شاءالله الفرح قريب، عشان كدا جينا نتفرج ونشوف هنبدأ فيها منين
بإبتسامة طيبة صاح الآخر متمنياً لهما التوفيق:
_ ربنا يوفجكم ويسرلكم أموركم يارب، والشجة تنور بيكم جريب
"اللهم آمين"
عقب يوسف على دعائه ثم نظر إلى فتاته وقال:
_ ها نمشي؟
أومات هي بتلهف فهي تريد المغادرة سريعاً، ودع يوسف الحارس الذي رافقهما إلى الأسفل ثم استقلا السيارة وتحركا مبتعدين عن المكان، أخرجت لينة زفيراً وقالت:
_ أنا كنت مرعوبة يا يوسف، هو إزاي معاه مفتاح ويدخل أي شقة كدا من غير إذن صحابها؟
"طبيعي يكون معاه مفتاح طلاما الشقة لسه فاضية، عشان لو قدر الله حصل فيها حاجة يقدر يسيطر على الوضع، بس الوضع هيتغير أكيد بعد ما نسكن فيها"
أخبرها يوسف فهتفت هي سؤالها بحماس:
_ أيوة يعني هنسكن فيها امتى برده؟
قهقه يوسف وعلق مازحاً:
_ يابت أنتِ واقعة للدرجة دي، اتقلي حبة، سبيلي فرصة أنا اللي أقول عايز اتجوزك
عقدت ذراعيها عند صدرها وهاجمته بحُنق:
_ وأنت إن شاءالله مش عايز ولا إيه؟
أسرع يوسف في نفي حدسها بقوله:
_ هو أنا أطول برده..
رمقته بطرف عينيها ولم تروق لها كلماته، مد يوسف يده والتقط يدها ثم طبع قُبلة عليها مردداً:
_ طيب أثبت لك إزاي إني بحبك وبتمنى اليوم اللي أكون فيه أنا وأنتِ لوحدنا؟
عضت هي على شفاها، تفكر فيما ستخبره ثم رددت:
_ شوف أنت بقى هتثبت لي إزاي
غمز إليها فهو مُلم بما تريد سماعه وقال ببسمة جذابة:
_ انسي إني أقول اللي عايزة تسمعيه، لما أفكر الأول..
سحبت يدها وأعادت عقدهما ثم هتفت بتحدٍ:
_ براحتك، بس متبقاش تزعل بقى
"أزعل من إيه؟"
سألها بفضول فأجابت وهي تتابع الطريق:
_ هتشوف بنفسك..
لم يعقب يوسف، حتماً ذلك هراء ليس إلا، وصلا إلى منطقتهم وصف سيارته ثم رافقها إلى الأعلى، لم يتبادلا الأحاديث حتى اختفت هي خلف باب غرفتها سريعاً، فتركها يوسف على راحتها حتى لا تفاتحه في الأمر قبل أن يعطيه حقه في التفكير.
***
ركل الباب بعنف وصاح بعصبية بالغة:
_ أنا عايز أعرف طول القاعدة بتتكلمي معاه في إيه؟
تعجبت من سؤاله ناهيك عن ثورته المبالغة وردت بهدوء يشوبه الغرابة من أمره:
_ في إيه يا بلال الموضوع مش مستاهل كل دا
ازداد غضبه أضعافاً وصاح عالياً:
_ هو إيه اللي مش مستاهل؟ دا أنا كل ما عيني تقع عليكي ألاقيكي بتكلميه!
عدلت إيمان على حديثه:
_ هو اللي بيكلمني مش انا..
بلهجة لا تسمح النقاش هدر:
_ هتفرق يعني؟
بتلقائية قالت:
_ تفرق طبعاً، أنا موجهتش كلام ليه ولا لغيرو، هو اللي كل شوية سؤال شكل، ويحكي لي عن نفسه وحياته مع مراته وعلى فكرة بقى واضح جداً إن دي شخصيته يعني مش بيكلمني متعمد مثلاً، لأن نظرت أختك وجملتها لما قالتلي استلمي بقى مش هتخلصي النهاردة يدل على إن دي طبيعته..
برفض تام لتلك المبررات الواهية هدر:
_ مليش دعوة شخصيته ولا زفت، ليا دعوة إنك كنتي بتتكلمي معاه، وأنتِ عارفة إني مش بطيقه!
تأففت إيمان وارتفعت نبرتها مثله تماماً ولم تخضع لإتهامه:
_ أنت عايزني أعمل إيه لما يوجه ليا كلام، أبص النحية التانية ومردش قدام أهلك اللي هيقولوا عليا قليلة الذوق؟!
"كنتي تعملي أي حاجة ولا تتكلمي معاه"
كان بلال يضغط عليها كثيراً وهي قليلة الحيلة لا تنجح في إقناعه بشتى الطرق، اقتربت من أحد المزهريات حين نفذ صبرها ثم قامت بإلقائها فتناثرت أشلائها في زوايا متفرقة.
رمقها بلال بنظرات مشتعلة وصاح بغضب وهو يبحث عن مزهرية أخرى:
_ طب أهو
أردف جملته وهو يلقي بالمزهرية أرضاً فتحطمت هي الأخرى، لم يتوقفا عن الصراخ أمام بعضهما حتى طُرق الباب فتوجه بلال لفتحه والغضب يتوهج من عينيه، تفاجئ بوجود والديه، الذي انهالا عليه بالأسئلة:
_ إيه الزعيق دا؟
وإيه صوت التكسير دا؟
في إيه مالكم يولاد؟ والعديد من الأسئلة التي حاصرت بلال.
بنبرة أمرة هدر السيد سمير متسائلاً:
_ ممكن أفهم صوتك جايب لآخر البيت ليه؟
نكس بلال رأسه بخذي وحاول ضبط صوته حتى لا يكون وقحاً مع أبيه وقال:
_ مفيش، شدينا شوية
تدخلت شهيرة مستنكرة رده:
_ شديتو إيه بس، دا البيت اتكسر..
كانت إيمان تقف رافضة وجودهما، فلقد فُضحت تماماً، أوصدت عينيها بضيق، اقتربت منها شهيرة وربتت على ظهرها بحنو قائلة:
_ شكلكم اتحسدتوا والله
أخذ سمير بلال على جانب وعاتبه بنبرة خشنة:
_ الراجل صوته ميخرجش برا بيته، لكن اللي يعلي صوته دا ويسمع الناس عليه ميسواش ٣ نكلة في سوق الرجالة، حل مشاكلك من غير ما تسمع حد عليكم، أول وآخر مرة أسمع لك أنت ولا هي صوت، مفهوم؟
أماء بلال بطاعه بينما نادى سمير على زوجته بحدة:
_ يلا يا شهيرة، عشان ننزل هما هيعرفوا يحلو مشاكلهم لوحدهم
أماءت بقبول ثم همست لايمان:
_ أهدى واستغفري يا حبيبتي دا شيطان ودخل بينكم
ارتعبت شهيرة حين صاح سمير أمراً:
_ قولت يلا يا شهيرة
"حاضر جيت أهو"
هتفت بها شهيرة وهي تهرول للخارج، لكنها لم تغادر قبل قول ما لديها لولدها بنبرة سريعة:
_ راضوا بعض متناموش زعلانين
أنهت جملتها ثم أغلقت الباب خلفها، بينما وجه بلال نظريه عليها فرأى عتابها الذي يتوهج في عينيها، أولاته ظهرها وأسرعت نحو الغرفة، وبدأت تخلع ثيابها وعبراتها تتساقط خجلاً من والديه الذي رأوهم على حالتهم تلك.
لم يقف بلال مكانه وتوجه إليها، ولج غرفة الملابس واقترب منها محاولاً تلطيف ما قام بتعكيره:
_ أنا أسف، بس أنا بغير عليكي أوي وخصوصاً من..
قاطعته إيمان بابتعادعها عنه محذرة إياه:
_ أبعد عني..
لم يقبل بأمرها وعاد إليها مجبرها على الالتفاف إليه ثم قيد حركة ذراعيها بوضعه لهما خلف ظهرها وأردف كلماته بخفوت:
_ والله بغير عليكي من الهوى، وأنا عصبي ولما بتعصب مبشوفش قدامي، متزعليش بقى
أخفضت رأسها رافضة محادثته، فأعاد محاولاته بلطف:
_ ممكن تقدري غيرتي عليكي لو سمحتي!
صوبت إيمان بصرها عليه وهدرت من بين أسنانها:
_ أسلوبك اللي يوصلنا للي وصلنا ليه دا مش غيرة!
وضعت إصبعها على صدره وواصلت بحُنق:
_ دا شك!
حررت جسدها من بين قبضته بكل قوتها وأولاته ظهرها متذمرة، وقف بلال مذهولاً من ظنها به، لم يتقبله قط وعاد إليها ثم وقف مقابلها وقال:
_ أنتِ عبيطة صح؟
قلبت عينيها مستاءة فهتف هو:
_ يمكن الأسلوب غلط بس مش شك يا إيمان
نفخت إيمان بضجر بائن حينما تذكرت وجود والديه وصاحت منفعلة:
_ أنا مضايقنيش في الموضوع كله غير وجود أهلك! صوتك كان عالي لدرجة إنهم طلعوا بسببه، منظري كان وحش جداً قدامهم، طالعين على صوت ابنهم وهو بيزعق لي!!
أوف بجد كل ما بفتكر بتعصب أكتر
أحاط بلال خصرها وبندم واضح هدر:
_ بجد أسف، هحاول أسيطر على عصبيتي بعد كدا
انحنى على شفتيها مقبلاً إياها بنعومة ثم ردد من بين قُبلاته:
_ خلاص بقى أخر مرة..
بعد عدة محاولات نجح بلال في تبخر غضبها، تراجعت إيمان وبتحدٍ أمرته:
_ لو عايزني مبقاش زعلانة روح لم اللي اتكسر برا
شهق بلال وصاح رافضاً للأمر:
_ نعم؟ أنتِ فاكراني عشان قولت آسف أبقى عيل توتو وألم اللي اتكسر؟ دا أنتِ بتحلمي..
بعد قليل صدحت ضحكات إيمان وهي تشاهده يجمع حطام المزهريات، طالعها بغيظ وبنبرة مستاءة هتف:
_ لو مكنتيش تحلفي بس
ازداد ضحكها وهي تردد من بينه:
_ بس أنا محلفتش!
رمقها بلال للحظات قبل أن يردد بصدمة:
_ إيه دا بجد، محلفتيش؟!
أماءت بتأكيد فزفر بضيق وتابع جمعه لأشلاء المزهرية دون إضافة المزيد، جاورته إيمان وساعدته في جمع بقية الحطام المتناثر حتى انتهوا منه، أحضرت المكنسة الكهربائية وقامت بتنظيف الأرضية لتضمن عدم وجود المزيد.
تفاجئت إيمان بغلق بلال للمكنسة وقبل أن تلتفت لتعلم السبب كانت تحلق في الهواء، صرخت بخفة وعاتبته على تصرفه المفاجئ:
_ نفسي تبطل تعمل كدا، بتخض
"سلامتك من الخضة"
قالها بلال ساخراً فهتفت سؤالها:
_ أنت موديني فين؟
أجابها وهو يدلف الغرفة:
_ هعاقبك عشان تحرمي تعلي صوتك عليا
اتسعت حدقتيها بذهول هاتفة مستاءة:
_ أنا اللي عليت صوتي؟ وسمعت أهلك علينا، أيوة صح..
وضعها على الفراش ولم يعير حديثها إهتمام فلقد تاه بين عشقه معاها حتى أجبرها على تناسي الأمر ومبادلته مشاعره.
في الطابق الأول،
جلست شهيرة تندب:
_ فاتهم دلوقتي لسه بيتخانقوا، هو أنا مش عارفة إبني ودماغه!
تأفف سمير حينما فشل أن ينام وصاح بنبرة مختنقة:
_ ياستي نامي بقى هما حرين مع بعض
رمقته بعدم راحة ورددت:
_ الهدوء دا مش مطمني..
انتفضت من مكانها هاتفة بقلق:
_ أطلع أطمن عليهم؟
انتفض سمير من مكانه وبعصبية مبالغة هدر:
_ أقسم بالله يا شهيرة إن ما جيتي نمتي لمعكنن عليكي، هما عيال صغيرة؟ أنا طلعت بس لما صوتهم كان عالي وخلاص خلصنا مش كل شوية هنط لهم
نفخت بضجر ثم توجهت إلى الفراش، أولاته ظهرها لكن لم يأتيها النعاس فعقلها منشغل مع الآخرين.
***
صباحاً،
خرج يوسف من غرفته بعد أن ارتدى ثياب عمله، توجه إلى الردهة حيث صوت نساء المنزل، انحنى على والدته وقبل جبينها مردداً:
_ صباح الخير..
رددن عليه التحية في آن واحد:
_ صباح النور
اقترب من فتاته وكذلك طبع قُبلة على خصلاتها ثم عاتبها بلطف:
_ مش قولت بلاش قلع طرحة برا الأوضة؟
بعفوية أوضحت له:
_ زياد مش هنا هلبسها ليه بقى؟
مال يوسف برأسه يميناً ويساراً مصدراً طقطقة عنقه، ثم استند على كتف لينة متسائلاً باهتمام:
_ زياد فين؟
تولت والدته مهمة الرد:
_ بيخلص ورق الجيش يا حبيبي
"أنت كسلان كدا ليه؟"
تسائلت لينة مستفسرة فرد هو بنبرة تكاد تسمع:
_ مش عارف مليش مزاج أعمل أي حاجة النهاردة..
مالت لينة برأسها وسألته بفضول:
_ ها، فكرت؟
تصنع يوسف جهله وسألها بجدية:
_ في إيه؟
تأففت لينة بنفاذ صبر ثم وجهت حديثها إلى السيدة ميمي مستاءة من عدم مبالاة يوسف:
_ يرضيكي يا ماما أقوله تعالى نتجوز وهو يقولي سبيني أفكر؟!
تفاجئت ميمي بطلبها ورددت باهتمام:
_ وأنتِ مستعجلة على إيه لسه قدامك بدري
قهقه يوسف عالياً وصاح:
_ دا اللي بقوله، بس مين يفهم
تذمرت لينة وعقدت ذراعيها عند صدرها بينما تحدثت ميمي بحكمة:
_ طيب أنتِ إيه اللي خلاكي تفكري في كدا؟
رفع يوسف عينيه عليها بسعادة لوقوعها في ذاك الموقف وردد بتحدٍ:
_ قوليلها بقى
غمز إليها فشعرت لينة أنها محاصرة، حمحمت وحاولت إبعادها عن الأسباب:
_ بغض النظر عن الأسباب يعني، ينفع يقولي أنا اللي أطلب وهو يقولي هفكر؟
حاولت ميمي إقناعها بكلماتها:
_ يا حبيبتي الدراسة والجواز كل واحد فيهم مسؤولية كبيرة أوي ما بالك بقى بالإتنين مع بعض، وأنتِ خبرتك لسه قليلة، هتلاقي نفسك فجاءة مسؤولة عن مذاكرة وبيت وراجل مش هتقدري توفقي صدقيني..
أخذ يوسف زجاجة المياه من أمامه ليرتشف القليل بينما لم تقتنع لينة بما قالته وأردفت هي وجهة نظرها:
_ بس هو قالي ميهموش لا طبخ ولا مسؤولية ولا حتى حقوقه كراجل...
شرق يوسف بعدما وقعت كلماتها على أذنيه، توقفت لينة عن الحديث وضربت ظهره بقوة حتى يسترد روحه، طالعها يوسف بذهول ثم همس من بين أسنانه المتلاحمة:
_ إيه اللي أنتِ بتقوليه دا؟؟
لم تعي أي نقطة علق عليها فهتفت:
_ بحاول أوريها إن مفيش مشكلة!
حرك يوسف رأسه مستنكراً عدم مبالاتها لما وضعتهما فيه، نهض عن الأريكة وأردف كلماته دون أن يواجه عيناي والدته:
_ أنا نازل الشغل..
وسرعان ما اختفى خلف الباب، عادت لينة إلى السيدة ميمي بنظراتها متسائلة بغرابة:
_ هو ماله؟
ابتسمت ميمي وسألتها بتلقائية:
_ أنتِ عارفة يا لينة إيه هي الحقوق دي؟
نظرت للأعلى تفكر ثم عادت بنظريها إليها وأشارت على عُقلة من إصبعها قبل أن تردف:
_ قد كدا..
لم تمنع ميمي قهقهتها العفوية ثم أشارت على إصبع لينة بالكامل قبل أن تقول:
_ طيب تعالي لما أعرفك حبة قد كدا..
أجبرت لينة أذنيها على الإستماع جيداً بينما بدأت تخبرها السيدة ميمي بما تجهله هي.
***
تبعته إيمان إلى الخارج، فتح بلال الباب فتفاجئ بوقوف والدته، رحب بها ودعاها للداخل قائلاً:
_ تعالي..
مررت بصرها بين بلال وإيمان وتسائلت بفضول:
_ ها صالحتها؟
ردد هو ممازحاً:
_ أيوة عاقبتها
عقدت حاجبيها بغرابة ورددت:
_ نعم
"بقولك صالحتها"
عدل بلال على ما قاله، فأمأت والدته بتفهم بينما حاولت إيمان إخفاء ضحكتها، نظر إليها بلال وغمز إليها ثم وجه حديثه لها:
_ مش أنا عاقبتك؟
اتسعت حدقتاها بذهول فهتف معدلاً كلمته:
_ قصدي صالحتك؟
اكتفت بإيماءة من رأسها وهي تكاد تنفجر ضحكاً، حركت شهيرة رأسها باستنكار لتصرفاته البلهاء وهتفت مستاءة:
_ أنت مالك ياواد مش مجمع أنت بتقول إيه ليه؟ والله شكلها هي اللي عاقبتك بجد
تفاجئ بلال بردها وصاح رافضاً لما قالته للتو:
_ لا لا مسمحلكيش!
"متسمحش بإيه"
تسائلت شهيرة بحاجبان معقودان بينما تدخلت إيمان بقربها منهما ثم حاوطت ذراع بلال ودفعته للخارج مرددة:
_ يلا يا حبيبي مع السلامة مش ناقصين لخبطة في الكلام
مال بلال عليها وهمس بكلماته:
_ تيجي أقولها صالحتك إزاي؟
نفخت إيمان بنفاذ صبر ثم هتفت وهي تحرر يدها من ذراعه:
_ يوم سعيد ياروحي يلا باي باي
أغلقت الباب في وجهه فصاح هو من الخارج:
_ عشان تطمن بس
لم تستطيع تمالك ضحكها فتسائلت شهيرة عن سبب غرابة ولدها:
_ هو ماله النهاردة؟
اقتربت منها إيمان مجيبة إياها بتلعثم:
_ ها، سيبك منه، بلال أوقات بيعمل حاجات غريبة
رافقتها شهيرة للداخل وتناولن بعض الأحاديث النسائية التي لا تنتهي أبداً.
***
في العمل، يجلس يوسف في مكتبه يراسل فتاته التي لا تكف عن السؤال والضغط عليه، حتى نفذ صبره وأرسل لها:
"بليل هقولك رأيي الأخير، بس مش عايز كلام في الموضوع دا من هنا لبليل"
لينة: "تمام"
ترك يوسف هاتفه ثم خرج يتفقد أحوال المكان، اقترب من أحدهم وربت على ظهره داعماً إياه:
_ عاش يا عيسى، أخبارك إيه
بإمتنان قال:
_ بخير يا ريس
"الأمور ماشية معاك كويس"
تسائل يوسف مهتماً لأمره، فأجابه عيسى برضاء تام:
_ الحمدلله، أنا بحوش دلوقتي عشان أأجر شقة على قدي وأبدأ أجهز فيها
ابتسم له يوسف قبل أن يردف:
_ ربنا يعينك، لو احتجت لحاجة أنا موجود
"تسلم يا أستاذ يوسف"
قالها عيسى بلطف بينما توجه يوسف إلى علي المنشغل في هاتفه، اقترب منه بخطوات حذرة ثم لكزه في ظهره هاتفاً:
_ قفشتك، بتعمل إيه؟
شعر علي بالذُعر وسرعان ما أخفى هاتفه فلاحظ يوسف فعلته، فلم يمرق الأمر بسهولة:
_ ممم، بتعمل إيه كدا وخبيت الموبايل لما جيت؟
بتلعثم ردد علي:
_ ها؟
غمز له يوسف وقلد نبرته المرتجفة:
_ ها، قول يا حبيبي قول شكلك وراك مصيبة
أسرع علي في نفي ظنه بقوله:
_ لا والله ولا مصيبة ولا حاجة، دا أنا بكلم كيندا
قطب يوسف جبينه متسائلاً بفضول مخالط للاهتمام:
_ كيندا!! مين دي؟
حك علي مؤخرة رأسه بإرتباك حرج ثم عرفه من هي بتردد:
_ دي بنت عمي..
"ممم بنت عمك قولتلي"
قالها يوسف بنبرة هادئة مريبة، لكزه يوسف في صدره قبل أن يسأله:
_ بتحبها؟
تفاجئ علي بسؤاله وبدأت أعراض التوتر تظهر على تقاسيمه فأعاد يوسف حديثه بثقة:
_ يبقى بتحبها..
تقوس ثغر علي بإبتسامة خجولة ثم راود عقله سؤالاً فتجهمت تعابيره ولم يتردد في سؤال يوسف بلهفة:
_ يوسف أنت قولت لـ لينة على سفري؟
نفى يوسف بحركة من رأسه وأردف:
_ لا مقولتش مش المفروض أنا اللي أعرفها، بس واجب عليك تعرفها وتعرفها من بدري كمان عشان متتفاجئش، كفاية مرة عملناها وفضل ضميري يأنبني طول مدة غيابك وكل ما كانت بتسأل عنك..
زفر علي وقال بقلة حيلة:
_ أكيد هعرفها، أصلاً معتش قدامي وقت، دا أنا المفروض أمشي على آخر الأسبوع عشان أأكد التقديم، لاني يدوب قدمت إلكتروني بس
تفهم يوسف أمره واستاذن منه ليتابع عمله، بينما عاد علي يتراسل مع ابنة عمه مرةٍ أخرى.
***
حل المساء، عاد يوسف إلى المنزل في وقتٍ متأخر، وقف في المرر الفاصل بين الغرف يطالع باب فتاته، متسائلاً ما أن غفت أم مازالت مستيقظة، لم يفكر كثيراً فلقد فُتح بابها وظهرت من خلفه بعينين متورمتان.
تملك القلق من يوسف وسار نحوها متسائلاً عن سبب حالتها:
_ في إيه مالك؟
وما أن وقع سؤاله على أذنيها حتى جهشت في البكاء، ضمها يوسف لصدره وملس على خصلاتها محاولاً تهدئتها:
_ بس يا لينة إهدى حصل إيه لكل دا؟
حاولت التحدث لكن بكائها منعها، أخذ يوسف نفساً وقال:
_ تعالى لما ندخل جوا..
ولج بها غرفتها ثم جلس كليهما على الفراش وأعاد هو سؤاله:
_ ممكن أعرف حصل إيه؟
من بين شهقاتها أجابته بنبرة غير مفهومة:
_ علي.. هيسافر
زفر يوسف بضجر فالأن علم الأمر، أخرج تنيهدة واسترسل بصوته الرخيم:
_ حياته هناك يا لينة، دراسته وصحابه يمكن عاش حياة صعبة بس في الآخر اتعود على البلد دي، وهو شاب ذكي هيعرف يتأقلم هناك في كل الأحوال والظروف
لم تقتنع بما قاله وأشارت على ذاتها بحسرة قبل أن تردف:
_ طب وأنا، مفكرش فيا؟ مفكرش إنه هيسيبني تاني؟ دا أنا ما صدقت إنه رجع، يقوم يمشي وكأني مش موجودة، دا حتى مسألنيش أنا محتجاه ولا لأ، دا بلغني بس أنه هيسافر كمان كام يوم، من امتى فكر بأنانية كدا؟ هو دا علي اللي حماني من ٨سنين، دا اللي حضني وطمني وقت ما ماما وأحمد ماتو! اتغير وبقى غريب، حاسة إني معرفوش، بقى بعيد أوي عني لدرجة إني معتش بحس بيه من جوايا زي الأول..
كلماتها مست قلب يوسف وحزن لأجلها، لكنه لم يريد أن تحدث فجوة بينهما فقال وهو يتحسس وجنتها برقة:
_ يمكن تفكري إنها أنانية عشان اختار نفسه، بس لو فكرتي للحظة هتلاقي إن قعاده هنا عشانك ظلم..
فغرت لينة فاها كما اتسعت حدقتاها بذهول فأوضح يوسف ما وراء حديثه:
_ يا لينة أنتِ أصلاً مش قاعدة معاه، وخلاص كليتك هتبدأ أول الأسبوع وفيما بعد أنا وأنتِ هنتجوز والمسؤولية عليكي هتزيد، يعني مش هتلاقي وقت تفكري في حد غير نفسك لو افتكرتيها وسط الزحمة اللي هتكوني فيها، وهو هيفضل لوحده، ومهما حاولتي تكوني معاه، غصب عنك الظروف هتمنعك وهتلاقيكي مقصرة في حقه، فليه بقى تجبريه يقعد هنا طلاما مش هتقدري توفقي بينه وبين مسؤولياتك
وبعدين أنا هعمل كل اللي في أيدي عشان تفضلوا على تواصل، ويمكن وقتها هتقربوا من بعض أكتر من إنه يكون معاكي في نفس البلد..
هدأ بكائها وهي تفكر في حديث يوسف، فلم تجد هناك مشكلة بعد، تنهدت ثم دعت له:
_ ربنا يوفقه..
تقوس ثغر يوسف ببسمة وضمها إلى صدره وهتف بهُيام:
_ بحبك وأنتِ عاقلة كدا
ابتسمت هي وتراجعت للخلف، أسبلت في عينيه لبرهة وهسمت برقة:
_ سيني سيفورم يوسف
أستند يوسف على جبينها وهمس أمام شفتيها:
_ سيني سيفورم لينة
تفاجئت لينة من تصريحه وبلهجة كثيراً ما تعشقها، ابتعدت عنه وهللت بسعادة:
_ أنت قولت إيه؟
غمز إليها بمشاكسة ورفض إعادة ما قاله:
_ هي بتطلع مرة واحدة بس
بتلهف لسماعها مرة أخرى أردفت متوسلة:
_ بليز قولها تاني دا أنا ما صدقت نطقت حاجة تركي
أراد يوسف إلهائها عما تريده فقال:
_ أقولك حاجة أحسن منها..
أومأت فتابع هو:
_ أنا موافق نتجوز!
انتفضت لينة من مكانها ناهيك عن شهقتها التي دوت في الغرفة وصاحت بدون تصديق:
_ قول والله
قهقه يوسف وقال:
_ والله
قفزت عليه دون سابق إنذار صارخة بعدم تصديق فأرغمته على التمدد بسبب تصرفها المفاجئ، حتى اعتلته هي، شعرت بفداحة ما فعلته وكادت أن تنهض إلا أنه رفض ذلك وتمسك بها جيداً.
خفق قلبهما بقوة وهما يتبادلان النظرات في وضعٍ قريب كالذي باتا عليه، وبحركة سريعة من يوسف كان قد عكس وضعهما فبات هو في الأعلى، وضع ذراعيها أعلى رأسها وقيد حركتهما ثم انحنى عليها ليأخذ ما تحثه عليه غريزته.
***
بعد مرور عدة أيام، كان الجميع في مطار القاهرة، يودعون علي قبل مغادرته، لم تستطيع الإبتعاد عنه، فكيف تترك قطعة من روحها، عبراتها تتساقط على قميصه دون توقف.
"خلاص يا لينة الطيارة هتفوته"
قالها يوسف لربما تتركه، رفعت لينة عينيها على أخيها وحذرته بقولها:
_ إياك متكلمنيش، وقت ما توصل وقبل ما تنام وبعد ما تصحى وكل وقت تكلمني تطمني عليك، مفهوم
ابتسم لها وقال بطاعة:
_ حاضر والله، بس بطلي عياط بقى
ابتعدت عنه ثم هتفت بعِدة وصايا له:
_ كُل كويس، ونام كويس، ولو احتجت لحاجة كلمني على طول، وأنا هخلص إجراءات بيع البيت بالتوكيل اللي عملتهولي وهحولك نصيبك على طول عشان متحتاجش لحد أبداً
ملس علي بحنو على وجهها ثم قبل جبينها وقال:
_ خلي بالك أنتِ على نفسك
أماءت بقبول، فاقترب يوسف منه وعانقه بحرارة:
_ توصل بالسلامة يا علوة، كلمنا على طول أول ما توصل
بنبرة ممتنة أردف:
_ الله يسلمك يا حبيبي، إن شاء الله
جاء دور زياد الذي ودعه وكذلك السيدة ميمي وبلال، ودعوه بحرارة ثم غادر علي واختفى داخل المطار، فجهشت لينة باكية، لقد اشتاقت إليه قبل مرور خمس دقايق فماذا ستفعل فيما بعد؟
أحتضن يوسف يدها وردد بصوته الرخيم:
_ خلاص بقى لي لي هو دا اللي اتفقنا عليه؟
زمت شفتيها بحزن شديد ورددت:
_ مقدرتش أشوفه ماشي وأمسك نفسي، الفراق دا وحش أوي
انفجرت باكية فحثها يوسف على العودة إلى السيارة:
_ طيب يلا وقفتنا هنا ملهاش لازمة..
استقل يوسف السيارة، رافقته والدته ولينة، بينما رافق زياد بلال في سيارته حتى لا يعود بمفرده، مر وقت ساد الصمت فيه، قبل أن يقطعه يوسف بقوله:
_ بجد مش فاهم ليه مُصرين تبيعو البيت؟
مسحت لينة على عينيها وأخبرته عن سبب بيعهما للمنزل خاصتهم:
_ علي محتاج فلوس عشان المشروع اللي عايز يعمله هناك وعشان يقدر يصرف على نفسه لوقت ما المشروع يمشي، دا غير إني محتاجة حاجات كتير ولازم أجيبها معتش حاجة على الفرح..
نفخ يوسف بعدم إعجاب لآخر ما أردفته وعاتبها مستاءً وهو يطالعها من المرأة الأمامية:
_ وأنتِ طلبتي حاجة وأنا مجبتهاش يا لينة؟
أسرعت في إنكار ذلك بقولها:
_ لا طبعاً، صدقني أنا محتاجة حاجات كتيرة أوي ومش حابة أضغط عليك كل شوية طلبات عشان هكون سخيفة جداً ولو سمحت متضغطش عليا أنا هكون مرتاحة كدا
أخرج تنيهدة ولم يعقب، فإذا كان ذلك سيريحها فليكن ما تريد، تابع طريقه بانتباه حتى وصلا إلى منطقتهم.
صعدا إلى منزلهم ثم وجه يوسف حديثه إلى فتاته أمراً إياها:
_ يلا روحي نامي لك ساعتين قبل ما تصحي للكلية
ابتسمت بعذوبة وتحدثت بلهفة:
_ متحمسة أوي
علق يوسف ساخراً:
_ حلوة فرحة البدايات دي، عايز أشوف الحماس دا بعد مع أول شهر
تذمرت لينة وعاتبته:
_ أول مرة تحبطني في حاجة أكون متحمسة ليها
قهقه يوسف وردد من بين ضحكاته:
_ مش عايز أغشك، وتقعدي ترسمي أحلام وردية في الكلية وياعيني متلاقيهاش
تشدقت بعدم إعجاب وأولاته ظهرها وهي تردد:
_ بكرة أخيب ظنك وهتشوف، تصبح على خير
"طب مفيش تصبيرة قبل النوم"
قالها يوسف بتمني فأردفت لينة دون أن تنظر إليه:
_ لا مفيش، عشان تبقى تحبطني كويس
نظرت إليه بتحدٍ قبل أن توصد بابها بينما هتف يوسف متوعداً:
_ ماشي..
***
في الصباح الباكر، أمسك يدها وطبع قُبلة عليها وتمنى لها التوفيق:
_ ربنا يوفقك يا حبيبي، كل ما تلاقي نفسك فاضية كلميني طمنيني عليكي
"أكيد"
أردفتها لينة ثم تفقدت المكان من خلف بحماس شديد، عادت بنظريها إليه وقالت مودعة:
_ باي
ودعها يوسف بيده فترجلت من السيارة وولجت بخطاها الحيوية إلى مبنى الجامعة، بحثت عن أسمها حتى وجدت مكانها، ثم أرسلت رسالة إلى يوسف أنها بخير وفي مكانها الأن.
انتهت أول محاضرة وتفاجئت بأخيها يهاتفها، أجابت على الفور وابتسمت بسعادة حين ظهرت صورته على شاشة هاتفها وهللت:
_ وصلت امتى؟
أجابها بنبرة متعبة:
_ يدوب لسه واصل الشقة اللي قاعد فيها مع زمايلي، حبيت أكلمك الأول قبل ما أنام
كان علي يلاحظ المارة من خلفها فسألها بفضول:
_ أنتِ فين؟
عكست لينة الكاميرا لتريه معالم جامعتها بوضوح قبل أن تخبره بمكانها:
_ أنا في الكلية
أعادت وضعية الكاميرا عليها وسألته بإهتمام:
_ هتبدأ امتى؟
رد عليها بتلقائية:
_ الأسبوع الجاي
"تمام يا..."
لم تنهي لينة جملتها بعد حتى تفاجئت بتطاول أحد الشباب عليها بعدما التقط منها الهاتف:
_ ما تفرجينا معاكي يا عسل
لم تستطيع لينة إعطاء رد فعل، فلازالت متفاجئة بما حدث، هرولت نحوه وبنبرة أمرة هتفت:
_ هات الموبايل
رفع الشاب ذراعيه للأعلى رافضاً إعطائه لها وهدر بسماجة:
_ لو طولتيه خديه
فغر فاهه فظهرت أسنانه السوداء والتي تدل على تعاطيه للمخدرات، كانت لينة تخشاه كثيراً فلم تتعرض للتطاول بتلك الوقاحة من قبل، لم يكن في يدها سوى استسماحه لعله يعطيها هاتفها:
_ لو سمحت هات الموبايل..
غمز إليه وهتف بمشاغبة:
_ لأ
تأففت هي ثم صاحت بانفعال شديد:
_ هاتي الموبايل وإلا هـ..
قاطعها الشاب بإقترابه منها بوقاحة وتسائل بخفوت:
_ وإلا إيه؟ هتعيطي؟
كان على متابعاً لما يحدث من خلال المكالمة ولم يستطيع فعل شيء فأنهى المكالمة على الفور ثم هاتف يوسف سريعاً..
"حمد لله على السلامة يا علوة"
قالها يوسف فور إجابته، بينما أسرع علي في إخباره بما وقع على أذنيه:
_ سيبك مني يا يوسف، أنا كنت بكلم لينة وفجاءة الصورة اختفت وتقريباً حد شد منها الموبايل ومش راضي يرجعولها..
انتفض يوسف من على كرسي مكتبه هاتفاً بحنق:
_ نعم؟ مين دا؟
من بين أنفاسه اللاهثة هدر:
_ معرفش بس شكله كدا عيل شمال..
أغلق يوسف الهاتف وهرول بخطاه إلى الخارج، أثناء وصول بلال الذي تعجب من هرولة يوسف ناهيك عن ملامحه التي لا تبشر بالخير، تبعه للخارج متسائلاً بقلق:
_ في إيه يا يوسف، بتجري كدا ليه؟
لم يجيبه فلم يكن يرى أمامه، استقل سيارته وانطلق بها، لم يقف بلال مكانه وانطلق خلفه حتماً وقعت كارثة حتى يثور هكذا.
وصل يوسف إلى مكان الجامعة، لم يتوقف عن الإتصالات على هاتف لينة، تابع اتصالاته باحثاً عنها في الأرجاء، لكن كيف سيعثر عليها من بين ذاك الحشد الكبير.
وقف في منتصف المكان يدور حول نفسه لعل عينيه تقع عليها، نفخ بضيق وتمتم وهو ينظر للهاتف بغضب شديد:
_ ردي بقى ردي..
"أنا أهو يا يوسف"
قالتها هي من خلفه، فاستدار إليها ورأى لمعة عينيها التي أكدت له بكائها، زفر أنفاسه وبهدوء ما يسبق العاصفة سألها:
_ مبترديش عليا ليه؟
أجابته بنبرة مهزوزة:
_ كنت عند العميد..
"تعالي وريني الحيوان اللي عمل كدا"
قالها يوسف بعدم صبر، بينما تفاجئت هي بمعرفته للأمر وتسائلت مستفسرة:
_ أنت عرفت منين؟
خرج يوسف عن صمته وبعصبية بالغة صاح:
_ هو دا وقته؟! فين الحيوان دا
لم تريد لينة خلق مشكلة أخرى وهتفت:
_ خلاص يا يوسف الموضوع خلص، العميد خلاه يعتذر لي وحذره لو عمل كدا تاني هيتفصل
أوصد يوسف عينيه لبرهة يحاول التحلي بالصبر، فذلك الهراء التي تتفوه به يزيد غضبه ليس إلا، أعاد فتح عينيه ونظر إليها والشر يتطاير من عينيه:
_ مش هعيد سؤالي تاني، هو فين؟
وجهت لينة بصرها خلف يوسف على نقطة ما، فاستدار حيث تنظر حتى وقعت عيناه على شاب يطالعها بسخط، فأراد التأكد من هويته حيث سألها:
_ هو دا؟
"أيوة"
أجابت مختصرة فأمرها يوسف قائلاً:
_ طب ارجعي مدرجك
اقتربت منه رافضة الذهاب لأي مكان وسألته يتوجس:
_ أنت هتعمل إيه؟
لم يجيبها بل تركها وغادر الجامعة، استقل سيارته ولم يتحرك حتى يظهر ذاك الدنيء ويلقنه درساً قاسياً لن ينساه طوال حياته.
خرج بلال من سيارته وتوجه إلى يوسف ثم استند بمرفقه على النافذة المجاورة له وسأله مستفسراً:
_ أنت واقف عندك ليه؟
وقعت الفريسة في مصيدتها، خرج الشاب من باب الجامعة برفقة بعض الشباب، تحرك يوسف خلفهم وكذلك بلال الذي تبعه، استغل يوسف وقوفهم في مكان خالٍ من المارة ثم زاد من سرعته ووقف أمامهم مانعاً إياهم من مواصلة سيرهم.
ترجل من السيارة تاركاً بابها مفتوح، توجه نحو ذاك الشاب مباشرةً، أمسكه من تلابيب قميصه ودفعه بقوة حتى تمدد بجسده العلوي على سيارته.
لكمه يوسف بعنف في وجهه ولم يتوقف حتى سالت الدماء من فمه، تدخلا بقية الشباب محاولين فض ذاك الإشتباك، وصل بلال في الوقت ذاته ومنعهم من الوصول إلى صديقه وصاح بنبرة أمرة:
_ أرجع يالا منك ليه
بينما تابع يوسف ضربه للشاب الذي تسائل بنبرة منهكة:
_ أنت مين؟ وعايز مني إيه؟
أخفض يوسف نظريه على يديه وسأله بحدة:
_ أنهى أيد فيهم اللي اتمدت وخدت الموبايل؟
"موبايل إيه"
سأله بعدم فهم، بينما أمسك يوسف بيُمناه بكل ما أوتي من قوة وأجابه من بين أسنانه بغضب:
_ الموبايل اللي شديتو من إيدها يا حيلتها
زاد يوسف من ضغطه حتى سمع صوت كسر عظام يده، أوة الآخر بألم شديد، تركه يوسف وحذره بنبرة لا تحتمل النقاش:
_ صدقني هقلع لك عينك الاتنين لو بصت لها تاني!
انسحب يوسف وكذلك بلال فركضا الشباب على صديقهم بينما أنطلقا الآخرين بسيارتهما، هاتف بلال يوسف ليعلم منه ما الأمر:
_ هو في إيه يابني وإيه اللي حصل من شوية دا؟
بنبرة حادة أجابه:
_ واحد غلط وكان لازم يتعلم الأدب، سيبك أنت، أنت إيه اللي خلاك تيجي ورايا؟
بتهكم في نبرته قال:
_ أنتِ عايزني أشوفك بتجري بالمنظر دا ومجيش وراك، وكويس إني جيت كان فاتك أنت اللي مضروب لو مبعدتش العيال دي عنك
أطلق يوسف قهقهة ساخرة منه قبل أن يردد:
_ ماشي يا خفيف..
أنهى معه المكالمة ثم هاتف لينة التي رفضت مكالمته على الفور، ثم أرسلت إليه رسالة:
"أنا في محاضرة"
أرسل لها يوسف رده في رسالة أخرى:
"هتخلصي امتى؟"
لينة: لسه معرفش
يوسف: اعرفي وعرفيني قبل ما تخرجي من المحاضرة
لينة: تمام
أنتبه يوسف على بلال الذي يحاول تخطيه فرفض ذلك، شكل بسمة على شفتيه وزاد من سرعته فازداد حماس بلال وزاد من سرعة سيارته لكي يتخطى يوسف، حاول جاهداً أن يتخطاه لكن الآخر كان يغلق أمامه جميع السُبل لكي يظل خلفه، حتى ظهرت سيارة نقل فجاءة أمام يوسف...
« الفصل الثاني والثلاثون»
***
"أنت مين"
تسائل يوسف بذُعر تملكه لكنه تحلى بالثبات والحدة في نبرته حتى لا يُستهان به، وبنبرة غلظة صاح الآخر:
_ أني بردك اللي مين، أني يا سيدي بواب العمارة، أنتِ مين وبتعمل إيه إهنه؟
تنهد يوسف ببعض الراحة وأجابه بجدية:
_ أنا يوسف الراوي، صاحب الشقة
حمحم الرجل بحرج وقد تراجع عن حدة صوته:
_ أني آسف يا بيه، بس الجيران سمعوا صوت صراخ في الشجة وجالولي أشوف الصوت ديه مصدره إيه فجيت جري
أماء يوسف بتفهم وأردف بصوته الرخيم:
_ حصل خير يا عم..
"خدامك راضي يا بيه"
هتف بها الحارس فاستنكر يوسف تقليله من شأنه وعاتبه وهو يربت على كتفه:
_ متقولش كدا يا راجل يا طيب، أنت على راسي، وبعدين أنا مش بيه أنا يوسف عادي..
ابتسم له الرجل قبل أن يردد:
_ ودي تيچي كيف ديي، الناس مجامات بردك يا يوسف بيه
استاء يوسف من ترديده لتلك الكلمة وصاح بتهكم:
_ يا سيدي لو لازم ألقاب يعني قولي يا يوسف باشا..
تفاجئ الحارس برده فانفجر يوسف ضاحكاً وعدل على حديثه:
_ بهزر معاك، أنا زي إبنك قولي يا يوسف وبس
"الموضوع هيبجى صعب عليا، طب أسمح لي أناديك بأستاذ يوسف"
هتف الحارس فأراد يوسف إنهاء الحوار:
_ اللي يريحك يا عم راضي..
أنهى جملته فانتبه لنداء لينة المتوجس من خلفه:
_ يوسف..
التفت إليها وأشار لها بالإقتراب قائلاً:
_ تعالي يا لينة، دا عم راضي البواب
عرف يوسف عن هويتها حينما رأى التساؤلات في عيني الحارس:
_ لينة مراتي ياعم راضي
رحب بها راضي بترحيب حافل:
_ يا أهلاً وسهلاً يا ست الدار
عقدت لينة حاجبيها وتبادلت النظرات مع يوسف الذي أوحى إليها بإشارة من عينيه أن تجاري الأمر فقالت هي مختصرة:
_ أهلاً بحضرتك
حمحم راضي وبصوت خشن تسائل بفضول:
_ أومال ليه معتعش إهنه طلاما متچوز؟
أوضح له يوسف حقيقة زواجهما:
_ إحنا عاقدين لسه ياعم راضي وان شاءالله الفرح قريب، عشان كدا جينا نتفرج ونشوف هنبدأ فيها منين
بإبتسامة طيبة صاح الآخر متمنياً لهما التوفيق:
_ ربنا يوفجكم ويسرلكم أموركم يارب، والشجة تنور بيكم جريب
"اللهم آمين"
عقب يوسف على دعائه ثم نظر إلى فتاته وقال:
_ ها نمشي؟
أومات هي بتلهف فهي تريد المغادرة سريعاً، ودع يوسف الحارس الذي رافقهما إلى الأسفل ثم استقلا السيارة وتحركا مبتعدين عن المكان، أخرجت لينة زفيراً وقالت:
_ أنا كنت مرعوبة يا يوسف، هو إزاي معاه مفتاح ويدخل أي شقة كدا من غير إذن صحابها؟
"طبيعي يكون معاه مفتاح طلاما الشقة لسه فاضية، عشان لو قدر الله حصل فيها حاجة يقدر يسيطر على الوضع، بس الوضع هيتغير أكيد بعد ما نسكن فيها"
أخبرها يوسف فهتفت هي سؤالها بحماس:
_ أيوة يعني هنسكن فيها امتى برده؟
قهقه يوسف وعلق مازحاً:
_ يابت أنتِ واقعة للدرجة دي، اتقلي حبة، سبيلي فرصة أنا اللي أقول عايز اتجوزك
عقدت ذراعيها عند صدرها وهاجمته بحُنق:
_ وأنت إن شاءالله مش عايز ولا إيه؟
أسرع يوسف في نفي حدسها بقوله:
_ هو أنا أطول برده..
رمقته بطرف عينيها ولم تروق لها كلماته، مد يوسف يده والتقط يدها ثم طبع قُبلة عليها مردداً:
_ طيب أثبت لك إزاي إني بحبك وبتمنى اليوم اللي أكون فيه أنا وأنتِ لوحدنا؟
عضت هي على شفاها، تفكر فيما ستخبره ثم رددت:
_ شوف أنت بقى هتثبت لي إزاي
غمز إليها فهو مُلم بما تريد سماعه وقال ببسمة جذابة:
_ انسي إني أقول اللي عايزة تسمعيه، لما أفكر الأول..
سحبت يدها وأعادت عقدهما ثم هتفت بتحدٍ:
_ براحتك، بس متبقاش تزعل بقى
"أزعل من إيه؟"
سألها بفضول فأجابت وهي تتابع الطريق:
_ هتشوف بنفسك..
لم يعقب يوسف، حتماً ذلك هراء ليس إلا، وصلا إلى منطقتهم وصف سيارته ثم رافقها إلى الأعلى، لم يتبادلا الأحاديث حتى اختفت هي خلف باب غرفتها سريعاً، فتركها يوسف على راحتها حتى لا تفاتحه في الأمر قبل أن يعطيه حقه في التفكير.
***
ركل الباب بعنف وصاح بعصبية بالغة:
_ أنا عايز أعرف طول القاعدة بتتكلمي معاه في إيه؟
تعجبت من سؤاله ناهيك عن ثورته المبالغة وردت بهدوء يشوبه الغرابة من أمره:
_ في إيه يا بلال الموضوع مش مستاهل كل دا
ازداد غضبه أضعافاً وصاح عالياً:
_ هو إيه اللي مش مستاهل؟ دا أنا كل ما عيني تقع عليكي ألاقيكي بتكلميه!
عدلت إيمان على حديثه:
_ هو اللي بيكلمني مش انا..
بلهجة لا تسمح النقاش هدر:
_ هتفرق يعني؟
بتلقائية قالت:
_ تفرق طبعاً، أنا موجهتش كلام ليه ولا لغيرو، هو اللي كل شوية سؤال شكل، ويحكي لي عن نفسه وحياته مع مراته وعلى فكرة بقى واضح جداً إن دي شخصيته يعني مش بيكلمني متعمد مثلاً، لأن نظرت أختك وجملتها لما قالتلي استلمي بقى مش هتخلصي النهاردة يدل على إن دي طبيعته..
برفض تام لتلك المبررات الواهية هدر:
_ مليش دعوة شخصيته ولا زفت، ليا دعوة إنك كنتي بتتكلمي معاه، وأنتِ عارفة إني مش بطيقه!
تأففت إيمان وارتفعت نبرتها مثله تماماً ولم تخضع لإتهامه:
_ أنت عايزني أعمل إيه لما يوجه ليا كلام، أبص النحية التانية ومردش قدام أهلك اللي هيقولوا عليا قليلة الذوق؟!
"كنتي تعملي أي حاجة ولا تتكلمي معاه"
كان بلال يضغط عليها كثيراً وهي قليلة الحيلة لا تنجح في إقناعه بشتى الطرق، اقتربت من أحد المزهريات حين نفذ صبرها ثم قامت بإلقائها فتناثرت أشلائها في زوايا متفرقة.
رمقها بلال بنظرات مشتعلة وصاح بغضب وهو يبحث عن مزهرية أخرى:
_ طب أهو
أردف جملته وهو يلقي بالمزهرية أرضاً فتحطمت هي الأخرى، لم يتوقفا عن الصراخ أمام بعضهما حتى طُرق الباب فتوجه بلال لفتحه والغضب يتوهج من عينيه، تفاجئ بوجود والديه، الذي انهالا عليه بالأسئلة:
_ إيه الزعيق دا؟
وإيه صوت التكسير دا؟
في إيه مالكم يولاد؟ والعديد من الأسئلة التي حاصرت بلال.
بنبرة أمرة هدر السيد سمير متسائلاً:
_ ممكن أفهم صوتك جايب لآخر البيت ليه؟
نكس بلال رأسه بخذي وحاول ضبط صوته حتى لا يكون وقحاً مع أبيه وقال:
_ مفيش، شدينا شوية
تدخلت شهيرة مستنكرة رده:
_ شديتو إيه بس، دا البيت اتكسر..
كانت إيمان تقف رافضة وجودهما، فلقد فُضحت تماماً، أوصدت عينيها بضيق، اقتربت منها شهيرة وربتت على ظهرها بحنو قائلة:
_ شكلكم اتحسدتوا والله
أخذ سمير بلال على جانب وعاتبه بنبرة خشنة:
_ الراجل صوته ميخرجش برا بيته، لكن اللي يعلي صوته دا ويسمع الناس عليه ميسواش ٣ نكلة في سوق الرجالة، حل مشاكلك من غير ما تسمع حد عليكم، أول وآخر مرة أسمع لك أنت ولا هي صوت، مفهوم؟
أماء بلال بطاعه بينما نادى سمير على زوجته بحدة:
_ يلا يا شهيرة، عشان ننزل هما هيعرفوا يحلو مشاكلهم لوحدهم
أماءت بقبول ثم همست لايمان:
_ أهدى واستغفري يا حبيبتي دا شيطان ودخل بينكم
ارتعبت شهيرة حين صاح سمير أمراً:
_ قولت يلا يا شهيرة
"حاضر جيت أهو"
هتفت بها شهيرة وهي تهرول للخارج، لكنها لم تغادر قبل قول ما لديها لولدها بنبرة سريعة:
_ راضوا بعض متناموش زعلانين
أنهت جملتها ثم أغلقت الباب خلفها، بينما وجه بلال نظريه عليها فرأى عتابها الذي يتوهج في عينيها، أولاته ظهرها وأسرعت نحو الغرفة، وبدأت تخلع ثيابها وعبراتها تتساقط خجلاً من والديه الذي رأوهم على حالتهم تلك.
لم يقف بلال مكانه وتوجه إليها، ولج غرفة الملابس واقترب منها محاولاً تلطيف ما قام بتعكيره:
_ أنا أسف، بس أنا بغير عليكي أوي وخصوصاً من..
قاطعته إيمان بابتعادعها عنه محذرة إياه:
_ أبعد عني..
لم يقبل بأمرها وعاد إليها مجبرها على الالتفاف إليه ثم قيد حركة ذراعيها بوضعه لهما خلف ظهرها وأردف كلماته بخفوت:
_ والله بغير عليكي من الهوى، وأنا عصبي ولما بتعصب مبشوفش قدامي، متزعليش بقى
أخفضت رأسها رافضة محادثته، فأعاد محاولاته بلطف:
_ ممكن تقدري غيرتي عليكي لو سمحتي!
صوبت إيمان بصرها عليه وهدرت من بين أسنانها:
_ أسلوبك اللي يوصلنا للي وصلنا ليه دا مش غيرة!
وضعت إصبعها على صدره وواصلت بحُنق:
_ دا شك!
حررت جسدها من بين قبضته بكل قوتها وأولاته ظهرها متذمرة، وقف بلال مذهولاً من ظنها به، لم يتقبله قط وعاد إليها ثم وقف مقابلها وقال:
_ أنتِ عبيطة صح؟
قلبت عينيها مستاءة فهتف هو:
_ يمكن الأسلوب غلط بس مش شك يا إيمان
نفخت إيمان بضجر بائن حينما تذكرت وجود والديه وصاحت منفعلة:
_ أنا مضايقنيش في الموضوع كله غير وجود أهلك! صوتك كان عالي لدرجة إنهم طلعوا بسببه، منظري كان وحش جداً قدامهم، طالعين على صوت ابنهم وهو بيزعق لي!!
أوف بجد كل ما بفتكر بتعصب أكتر
أحاط بلال خصرها وبندم واضح هدر:
_ بجد أسف، هحاول أسيطر على عصبيتي بعد كدا
انحنى على شفتيها مقبلاً إياها بنعومة ثم ردد من بين قُبلاته:
_ خلاص بقى أخر مرة..
بعد عدة محاولات نجح بلال في تبخر غضبها، تراجعت إيمان وبتحدٍ أمرته:
_ لو عايزني مبقاش زعلانة روح لم اللي اتكسر برا
شهق بلال وصاح رافضاً للأمر:
_ نعم؟ أنتِ فاكراني عشان قولت آسف أبقى عيل توتو وألم اللي اتكسر؟ دا أنتِ بتحلمي..
بعد قليل صدحت ضحكات إيمان وهي تشاهده يجمع حطام المزهريات، طالعها بغيظ وبنبرة مستاءة هتف:
_ لو مكنتيش تحلفي بس
ازداد ضحكها وهي تردد من بينه:
_ بس أنا محلفتش!
رمقها بلال للحظات قبل أن يردد بصدمة:
_ إيه دا بجد، محلفتيش؟!
أماءت بتأكيد فزفر بضيق وتابع جمعه لأشلاء المزهرية دون إضافة المزيد، جاورته إيمان وساعدته في جمع بقية الحطام المتناثر حتى انتهوا منه، أحضرت المكنسة الكهربائية وقامت بتنظيف الأرضية لتضمن عدم وجود المزيد.
تفاجئت إيمان بغلق بلال للمكنسة وقبل أن تلتفت لتعلم السبب كانت تحلق في الهواء، صرخت بخفة وعاتبته على تصرفه المفاجئ:
_ نفسي تبطل تعمل كدا، بتخض
"سلامتك من الخضة"
قالها بلال ساخراً فهتفت سؤالها:
_ أنت موديني فين؟
أجابها وهو يدلف الغرفة:
_ هعاقبك عشان تحرمي تعلي صوتك عليا
اتسعت حدقتيها بذهول هاتفة مستاءة:
_ أنا اللي عليت صوتي؟ وسمعت أهلك علينا، أيوة صح..
وضعها على الفراش ولم يعير حديثها إهتمام فلقد تاه بين عشقه معاها حتى أجبرها على تناسي الأمر ومبادلته مشاعره.
في الطابق الأول،
جلست شهيرة تندب:
_ فاتهم دلوقتي لسه بيتخانقوا، هو أنا مش عارفة إبني ودماغه!
تأفف سمير حينما فشل أن ينام وصاح بنبرة مختنقة:
_ ياستي نامي بقى هما حرين مع بعض
رمقته بعدم راحة ورددت:
_ الهدوء دا مش مطمني..
انتفضت من مكانها هاتفة بقلق:
_ أطلع أطمن عليهم؟
انتفض سمير من مكانه وبعصبية مبالغة هدر:
_ أقسم بالله يا شهيرة إن ما جيتي نمتي لمعكنن عليكي، هما عيال صغيرة؟ أنا طلعت بس لما صوتهم كان عالي وخلاص خلصنا مش كل شوية هنط لهم
نفخت بضجر ثم توجهت إلى الفراش، أولاته ظهرها لكن لم يأتيها النعاس فعقلها منشغل مع الآخرين.
***
صباحاً،
خرج يوسف من غرفته بعد أن ارتدى ثياب عمله، توجه إلى الردهة حيث صوت نساء المنزل، انحنى على والدته وقبل جبينها مردداً:
_ صباح الخير..
رددن عليه التحية في آن واحد:
_ صباح النور
اقترب من فتاته وكذلك طبع قُبلة على خصلاتها ثم عاتبها بلطف:
_ مش قولت بلاش قلع طرحة برا الأوضة؟
بعفوية أوضحت له:
_ زياد مش هنا هلبسها ليه بقى؟
مال يوسف برأسه يميناً ويساراً مصدراً طقطقة عنقه، ثم استند على كتف لينة متسائلاً باهتمام:
_ زياد فين؟
تولت والدته مهمة الرد:
_ بيخلص ورق الجيش يا حبيبي
"أنت كسلان كدا ليه؟"
تسائلت لينة مستفسرة فرد هو بنبرة تكاد تسمع:
_ مش عارف مليش مزاج أعمل أي حاجة النهاردة..
مالت لينة برأسها وسألته بفضول:
_ ها، فكرت؟
تصنع يوسف جهله وسألها بجدية:
_ في إيه؟
تأففت لينة بنفاذ صبر ثم وجهت حديثها إلى السيدة ميمي مستاءة من عدم مبالاة يوسف:
_ يرضيكي يا ماما أقوله تعالى نتجوز وهو يقولي سبيني أفكر؟!
تفاجئت ميمي بطلبها ورددت باهتمام:
_ وأنتِ مستعجلة على إيه لسه قدامك بدري
قهقه يوسف عالياً وصاح:
_ دا اللي بقوله، بس مين يفهم
تذمرت لينة وعقدت ذراعيها عند صدرها بينما تحدثت ميمي بحكمة:
_ طيب أنتِ إيه اللي خلاكي تفكري في كدا؟
رفع يوسف عينيه عليها بسعادة لوقوعها في ذاك الموقف وردد بتحدٍ:
_ قوليلها بقى
غمز إليها فشعرت لينة أنها محاصرة، حمحمت وحاولت إبعادها عن الأسباب:
_ بغض النظر عن الأسباب يعني، ينفع يقولي أنا اللي أطلب وهو يقولي هفكر؟
حاولت ميمي إقناعها بكلماتها:
_ يا حبيبتي الدراسة والجواز كل واحد فيهم مسؤولية كبيرة أوي ما بالك بقى بالإتنين مع بعض، وأنتِ خبرتك لسه قليلة، هتلاقي نفسك فجاءة مسؤولة عن مذاكرة وبيت وراجل مش هتقدري توفقي صدقيني..
أخذ يوسف زجاجة المياه من أمامه ليرتشف القليل بينما لم تقتنع لينة بما قالته وأردفت هي وجهة نظرها:
_ بس هو قالي ميهموش لا طبخ ولا مسؤولية ولا حتى حقوقه كراجل...
شرق يوسف بعدما وقعت كلماتها على أذنيه، توقفت لينة عن الحديث وضربت ظهره بقوة حتى يسترد روحه، طالعها يوسف بذهول ثم همس من بين أسنانه المتلاحمة:
_ إيه اللي أنتِ بتقوليه دا؟؟
لم تعي أي نقطة علق عليها فهتفت:
_ بحاول أوريها إن مفيش مشكلة!
حرك يوسف رأسه مستنكراً عدم مبالاتها لما وضعتهما فيه، نهض عن الأريكة وأردف كلماته دون أن يواجه عيناي والدته:
_ أنا نازل الشغل..
وسرعان ما اختفى خلف الباب، عادت لينة إلى السيدة ميمي بنظراتها متسائلة بغرابة:
_ هو ماله؟
ابتسمت ميمي وسألتها بتلقائية:
_ أنتِ عارفة يا لينة إيه هي الحقوق دي؟
نظرت للأعلى تفكر ثم عادت بنظريها إليها وأشارت على عُقلة من إصبعها قبل أن تردف:
_ قد كدا..
لم تمنع ميمي قهقهتها العفوية ثم أشارت على إصبع لينة بالكامل قبل أن تقول:
_ طيب تعالي لما أعرفك حبة قد كدا..
أجبرت لينة أذنيها على الإستماع جيداً بينما بدأت تخبرها السيدة ميمي بما تجهله هي.
***
تبعته إيمان إلى الخارج، فتح بلال الباب فتفاجئ بوقوف والدته، رحب بها ودعاها للداخل قائلاً:
_ تعالي..
مررت بصرها بين بلال وإيمان وتسائلت بفضول:
_ ها صالحتها؟
ردد هو ممازحاً:
_ أيوة عاقبتها
عقدت حاجبيها بغرابة ورددت:
_ نعم
"بقولك صالحتها"
عدل بلال على ما قاله، فأمأت والدته بتفهم بينما حاولت إيمان إخفاء ضحكتها، نظر إليها بلال وغمز إليها ثم وجه حديثه لها:
_ مش أنا عاقبتك؟
اتسعت حدقتاها بذهول فهتف معدلاً كلمته:
_ قصدي صالحتك؟
اكتفت بإيماءة من رأسها وهي تكاد تنفجر ضحكاً، حركت شهيرة رأسها باستنكار لتصرفاته البلهاء وهتفت مستاءة:
_ أنت مالك ياواد مش مجمع أنت بتقول إيه ليه؟ والله شكلها هي اللي عاقبتك بجد
تفاجئ بلال بردها وصاح رافضاً لما قالته للتو:
_ لا لا مسمحلكيش!
"متسمحش بإيه"
تسائلت شهيرة بحاجبان معقودان بينما تدخلت إيمان بقربها منهما ثم حاوطت ذراع بلال ودفعته للخارج مرددة:
_ يلا يا حبيبي مع السلامة مش ناقصين لخبطة في الكلام
مال بلال عليها وهمس بكلماته:
_ تيجي أقولها صالحتك إزاي؟
نفخت إيمان بنفاذ صبر ثم هتفت وهي تحرر يدها من ذراعه:
_ يوم سعيد ياروحي يلا باي باي
أغلقت الباب في وجهه فصاح هو من الخارج:
_ عشان تطمن بس
لم تستطيع تمالك ضحكها فتسائلت شهيرة عن سبب غرابة ولدها:
_ هو ماله النهاردة؟
اقتربت منها إيمان مجيبة إياها بتلعثم:
_ ها، سيبك منه، بلال أوقات بيعمل حاجات غريبة
رافقتها شهيرة للداخل وتناولن بعض الأحاديث النسائية التي لا تنتهي أبداً.
***
في العمل، يجلس يوسف في مكتبه يراسل فتاته التي لا تكف عن السؤال والضغط عليه، حتى نفذ صبره وأرسل لها:
"بليل هقولك رأيي الأخير، بس مش عايز كلام في الموضوع دا من هنا لبليل"
لينة: "تمام"
ترك يوسف هاتفه ثم خرج يتفقد أحوال المكان، اقترب من أحدهم وربت على ظهره داعماً إياه:
_ عاش يا عيسى، أخبارك إيه
بإمتنان قال:
_ بخير يا ريس
"الأمور ماشية معاك كويس"
تسائل يوسف مهتماً لأمره، فأجابه عيسى برضاء تام:
_ الحمدلله، أنا بحوش دلوقتي عشان أأجر شقة على قدي وأبدأ أجهز فيها
ابتسم له يوسف قبل أن يردف:
_ ربنا يعينك، لو احتجت لحاجة أنا موجود
"تسلم يا أستاذ يوسف"
قالها عيسى بلطف بينما توجه يوسف إلى علي المنشغل في هاتفه، اقترب منه بخطوات حذرة ثم لكزه في ظهره هاتفاً:
_ قفشتك، بتعمل إيه؟
شعر علي بالذُعر وسرعان ما أخفى هاتفه فلاحظ يوسف فعلته، فلم يمرق الأمر بسهولة:
_ ممم، بتعمل إيه كدا وخبيت الموبايل لما جيت؟
بتلعثم ردد علي:
_ ها؟
غمز له يوسف وقلد نبرته المرتجفة:
_ ها، قول يا حبيبي قول شكلك وراك مصيبة
أسرع علي في نفي ظنه بقوله:
_ لا والله ولا مصيبة ولا حاجة، دا أنا بكلم كيندا
قطب يوسف جبينه متسائلاً بفضول مخالط للاهتمام:
_ كيندا!! مين دي؟
حك علي مؤخرة رأسه بإرتباك حرج ثم عرفه من هي بتردد:
_ دي بنت عمي..
"ممم بنت عمك قولتلي"
قالها يوسف بنبرة هادئة مريبة، لكزه يوسف في صدره قبل أن يسأله:
_ بتحبها؟
تفاجئ علي بسؤاله وبدأت أعراض التوتر تظهر على تقاسيمه فأعاد يوسف حديثه بثقة:
_ يبقى بتحبها..
تقوس ثغر علي بإبتسامة خجولة ثم راود عقله سؤالاً فتجهمت تعابيره ولم يتردد في سؤال يوسف بلهفة:
_ يوسف أنت قولت لـ لينة على سفري؟
نفى يوسف بحركة من رأسه وأردف:
_ لا مقولتش مش المفروض أنا اللي أعرفها، بس واجب عليك تعرفها وتعرفها من بدري كمان عشان متتفاجئش، كفاية مرة عملناها وفضل ضميري يأنبني طول مدة غيابك وكل ما كانت بتسأل عنك..
زفر علي وقال بقلة حيلة:
_ أكيد هعرفها، أصلاً معتش قدامي وقت، دا أنا المفروض أمشي على آخر الأسبوع عشان أأكد التقديم، لاني يدوب قدمت إلكتروني بس
تفهم يوسف أمره واستاذن منه ليتابع عمله، بينما عاد علي يتراسل مع ابنة عمه مرةٍ أخرى.
***
حل المساء، عاد يوسف إلى المنزل في وقتٍ متأخر، وقف في المرر الفاصل بين الغرف يطالع باب فتاته، متسائلاً ما أن غفت أم مازالت مستيقظة، لم يفكر كثيراً فلقد فُتح بابها وظهرت من خلفه بعينين متورمتان.
تملك القلق من يوسف وسار نحوها متسائلاً عن سبب حالتها:
_ في إيه مالك؟
وما أن وقع سؤاله على أذنيها حتى جهشت في البكاء، ضمها يوسف لصدره وملس على خصلاتها محاولاً تهدئتها:
_ بس يا لينة إهدى حصل إيه لكل دا؟
حاولت التحدث لكن بكائها منعها، أخذ يوسف نفساً وقال:
_ تعالى لما ندخل جوا..
ولج بها غرفتها ثم جلس كليهما على الفراش وأعاد هو سؤاله:
_ ممكن أعرف حصل إيه؟
من بين شهقاتها أجابته بنبرة غير مفهومة:
_ علي.. هيسافر
زفر يوسف بضجر فالأن علم الأمر، أخرج تنيهدة واسترسل بصوته الرخيم:
_ حياته هناك يا لينة، دراسته وصحابه يمكن عاش حياة صعبة بس في الآخر اتعود على البلد دي، وهو شاب ذكي هيعرف يتأقلم هناك في كل الأحوال والظروف
لم تقتنع بما قاله وأشارت على ذاتها بحسرة قبل أن تردف:
_ طب وأنا، مفكرش فيا؟ مفكرش إنه هيسيبني تاني؟ دا أنا ما صدقت إنه رجع، يقوم يمشي وكأني مش موجودة، دا حتى مسألنيش أنا محتجاه ولا لأ، دا بلغني بس أنه هيسافر كمان كام يوم، من امتى فكر بأنانية كدا؟ هو دا علي اللي حماني من ٨سنين، دا اللي حضني وطمني وقت ما ماما وأحمد ماتو! اتغير وبقى غريب، حاسة إني معرفوش، بقى بعيد أوي عني لدرجة إني معتش بحس بيه من جوايا زي الأول..
كلماتها مست قلب يوسف وحزن لأجلها، لكنه لم يريد أن تحدث فجوة بينهما فقال وهو يتحسس وجنتها برقة:
_ يمكن تفكري إنها أنانية عشان اختار نفسه، بس لو فكرتي للحظة هتلاقي إن قعاده هنا عشانك ظلم..
فغرت لينة فاها كما اتسعت حدقتاها بذهول فأوضح يوسف ما وراء حديثه:
_ يا لينة أنتِ أصلاً مش قاعدة معاه، وخلاص كليتك هتبدأ أول الأسبوع وفيما بعد أنا وأنتِ هنتجوز والمسؤولية عليكي هتزيد، يعني مش هتلاقي وقت تفكري في حد غير نفسك لو افتكرتيها وسط الزحمة اللي هتكوني فيها، وهو هيفضل لوحده، ومهما حاولتي تكوني معاه، غصب عنك الظروف هتمنعك وهتلاقيكي مقصرة في حقه، فليه بقى تجبريه يقعد هنا طلاما مش هتقدري توفقي بينه وبين مسؤولياتك
وبعدين أنا هعمل كل اللي في أيدي عشان تفضلوا على تواصل، ويمكن وقتها هتقربوا من بعض أكتر من إنه يكون معاكي في نفس البلد..
هدأ بكائها وهي تفكر في حديث يوسف، فلم تجد هناك مشكلة بعد، تنهدت ثم دعت له:
_ ربنا يوفقه..
تقوس ثغر يوسف ببسمة وضمها إلى صدره وهتف بهُيام:
_ بحبك وأنتِ عاقلة كدا
ابتسمت هي وتراجعت للخلف، أسبلت في عينيه لبرهة وهسمت برقة:
_ سيني سيفورم يوسف
أستند يوسف على جبينها وهمس أمام شفتيها:
_ سيني سيفورم لينة
تفاجئت لينة من تصريحه وبلهجة كثيراً ما تعشقها، ابتعدت عنه وهللت بسعادة:
_ أنت قولت إيه؟
غمز إليها بمشاكسة ورفض إعادة ما قاله:
_ هي بتطلع مرة واحدة بس
بتلهف لسماعها مرة أخرى أردفت متوسلة:
_ بليز قولها تاني دا أنا ما صدقت نطقت حاجة تركي
أراد يوسف إلهائها عما تريده فقال:
_ أقولك حاجة أحسن منها..
أومأت فتابع هو:
_ أنا موافق نتجوز!
انتفضت لينة من مكانها ناهيك عن شهقتها التي دوت في الغرفة وصاحت بدون تصديق:
_ قول والله
قهقه يوسف وقال:
_ والله
قفزت عليه دون سابق إنذار صارخة بعدم تصديق فأرغمته على التمدد بسبب تصرفها المفاجئ، حتى اعتلته هي، شعرت بفداحة ما فعلته وكادت أن تنهض إلا أنه رفض ذلك وتمسك بها جيداً.
خفق قلبهما بقوة وهما يتبادلان النظرات في وضعٍ قريب كالذي باتا عليه، وبحركة سريعة من يوسف كان قد عكس وضعهما فبات هو في الأعلى، وضع ذراعيها أعلى رأسها وقيد حركتهما ثم انحنى عليها ليأخذ ما تحثه عليه غريزته.
***
بعد مرور عدة أيام، كان الجميع في مطار القاهرة، يودعون علي قبل مغادرته، لم تستطيع الإبتعاد عنه، فكيف تترك قطعة من روحها، عبراتها تتساقط على قميصه دون توقف.
"خلاص يا لينة الطيارة هتفوته"
قالها يوسف لربما تتركه، رفعت لينة عينيها على أخيها وحذرته بقولها:
_ إياك متكلمنيش، وقت ما توصل وقبل ما تنام وبعد ما تصحى وكل وقت تكلمني تطمني عليك، مفهوم
ابتسم لها وقال بطاعة:
_ حاضر والله، بس بطلي عياط بقى
ابتعدت عنه ثم هتفت بعِدة وصايا له:
_ كُل كويس، ونام كويس، ولو احتجت لحاجة كلمني على طول، وأنا هخلص إجراءات بيع البيت بالتوكيل اللي عملتهولي وهحولك نصيبك على طول عشان متحتاجش لحد أبداً
ملس علي بحنو على وجهها ثم قبل جبينها وقال:
_ خلي بالك أنتِ على نفسك
أماءت بقبول، فاقترب يوسف منه وعانقه بحرارة:
_ توصل بالسلامة يا علوة، كلمنا على طول أول ما توصل
بنبرة ممتنة أردف:
_ الله يسلمك يا حبيبي، إن شاء الله
جاء دور زياد الذي ودعه وكذلك السيدة ميمي وبلال، ودعوه بحرارة ثم غادر علي واختفى داخل المطار، فجهشت لينة باكية، لقد اشتاقت إليه قبل مرور خمس دقايق فماذا ستفعل فيما بعد؟
أحتضن يوسف يدها وردد بصوته الرخيم:
_ خلاص بقى لي لي هو دا اللي اتفقنا عليه؟
زمت شفتيها بحزن شديد ورددت:
_ مقدرتش أشوفه ماشي وأمسك نفسي، الفراق دا وحش أوي
انفجرت باكية فحثها يوسف على العودة إلى السيارة:
_ طيب يلا وقفتنا هنا ملهاش لازمة..
استقل يوسف السيارة، رافقته والدته ولينة، بينما رافق زياد بلال في سيارته حتى لا يعود بمفرده، مر وقت ساد الصمت فيه، قبل أن يقطعه يوسف بقوله:
_ بجد مش فاهم ليه مُصرين تبيعو البيت؟
مسحت لينة على عينيها وأخبرته عن سبب بيعهما للمنزل خاصتهم:
_ علي محتاج فلوس عشان المشروع اللي عايز يعمله هناك وعشان يقدر يصرف على نفسه لوقت ما المشروع يمشي، دا غير إني محتاجة حاجات كتير ولازم أجيبها معتش حاجة على الفرح..
نفخ يوسف بعدم إعجاب لآخر ما أردفته وعاتبها مستاءً وهو يطالعها من المرأة الأمامية:
_ وأنتِ طلبتي حاجة وأنا مجبتهاش يا لينة؟
أسرعت في إنكار ذلك بقولها:
_ لا طبعاً، صدقني أنا محتاجة حاجات كتيرة أوي ومش حابة أضغط عليك كل شوية طلبات عشان هكون سخيفة جداً ولو سمحت متضغطش عليا أنا هكون مرتاحة كدا
أخرج تنيهدة ولم يعقب، فإذا كان ذلك سيريحها فليكن ما تريد، تابع طريقه بانتباه حتى وصلا إلى منطقتهم.
صعدا إلى منزلهم ثم وجه يوسف حديثه إلى فتاته أمراً إياها:
_ يلا روحي نامي لك ساعتين قبل ما تصحي للكلية
ابتسمت بعذوبة وتحدثت بلهفة:
_ متحمسة أوي
علق يوسف ساخراً:
_ حلوة فرحة البدايات دي، عايز أشوف الحماس دا بعد مع أول شهر
تذمرت لينة وعاتبته:
_ أول مرة تحبطني في حاجة أكون متحمسة ليها
قهقه يوسف وردد من بين ضحكاته:
_ مش عايز أغشك، وتقعدي ترسمي أحلام وردية في الكلية وياعيني متلاقيهاش
تشدقت بعدم إعجاب وأولاته ظهرها وهي تردد:
_ بكرة أخيب ظنك وهتشوف، تصبح على خير
"طب مفيش تصبيرة قبل النوم"
قالها يوسف بتمني فأردفت لينة دون أن تنظر إليه:
_ لا مفيش، عشان تبقى تحبطني كويس
نظرت إليه بتحدٍ قبل أن توصد بابها بينما هتف يوسف متوعداً:
_ ماشي..
***
في الصباح الباكر، أمسك يدها وطبع قُبلة عليها وتمنى لها التوفيق:
_ ربنا يوفقك يا حبيبي، كل ما تلاقي نفسك فاضية كلميني طمنيني عليكي
"أكيد"
أردفتها لينة ثم تفقدت المكان من خلف بحماس شديد، عادت بنظريها إليه وقالت مودعة:
_ باي
ودعها يوسف بيده فترجلت من السيارة وولجت بخطاها الحيوية إلى مبنى الجامعة، بحثت عن أسمها حتى وجدت مكانها، ثم أرسلت رسالة إلى يوسف أنها بخير وفي مكانها الأن.
انتهت أول محاضرة وتفاجئت بأخيها يهاتفها، أجابت على الفور وابتسمت بسعادة حين ظهرت صورته على شاشة هاتفها وهللت:
_ وصلت امتى؟
أجابها بنبرة متعبة:
_ يدوب لسه واصل الشقة اللي قاعد فيها مع زمايلي، حبيت أكلمك الأول قبل ما أنام
كان علي يلاحظ المارة من خلفها فسألها بفضول:
_ أنتِ فين؟
عكست لينة الكاميرا لتريه معالم جامعتها بوضوح قبل أن تخبره بمكانها:
_ أنا في الكلية
أعادت وضعية الكاميرا عليها وسألته بإهتمام:
_ هتبدأ امتى؟
رد عليها بتلقائية:
_ الأسبوع الجاي
"تمام يا..."
لم تنهي لينة جملتها بعد حتى تفاجئت بتطاول أحد الشباب عليها بعدما التقط منها الهاتف:
_ ما تفرجينا معاكي يا عسل
لم تستطيع لينة إعطاء رد فعل، فلازالت متفاجئة بما حدث، هرولت نحوه وبنبرة أمرة هتفت:
_ هات الموبايل
رفع الشاب ذراعيه للأعلى رافضاً إعطائه لها وهدر بسماجة:
_ لو طولتيه خديه
فغر فاهه فظهرت أسنانه السوداء والتي تدل على تعاطيه للمخدرات، كانت لينة تخشاه كثيراً فلم تتعرض للتطاول بتلك الوقاحة من قبل، لم يكن في يدها سوى استسماحه لعله يعطيها هاتفها:
_ لو سمحت هات الموبايل..
غمز إليه وهتف بمشاغبة:
_ لأ
تأففت هي ثم صاحت بانفعال شديد:
_ هاتي الموبايل وإلا هـ..
قاطعها الشاب بإقترابه منها بوقاحة وتسائل بخفوت:
_ وإلا إيه؟ هتعيطي؟
كان على متابعاً لما يحدث من خلال المكالمة ولم يستطيع فعل شيء فأنهى المكالمة على الفور ثم هاتف يوسف سريعاً..
"حمد لله على السلامة يا علوة"
قالها يوسف فور إجابته، بينما أسرع علي في إخباره بما وقع على أذنيه:
_ سيبك مني يا يوسف، أنا كنت بكلم لينة وفجاءة الصورة اختفت وتقريباً حد شد منها الموبايل ومش راضي يرجعولها..
انتفض يوسف من على كرسي مكتبه هاتفاً بحنق:
_ نعم؟ مين دا؟
من بين أنفاسه اللاهثة هدر:
_ معرفش بس شكله كدا عيل شمال..
أغلق يوسف الهاتف وهرول بخطاه إلى الخارج، أثناء وصول بلال الذي تعجب من هرولة يوسف ناهيك عن ملامحه التي لا تبشر بالخير، تبعه للخارج متسائلاً بقلق:
_ في إيه يا يوسف، بتجري كدا ليه؟
لم يجيبه فلم يكن يرى أمامه، استقل سيارته وانطلق بها، لم يقف بلال مكانه وانطلق خلفه حتماً وقعت كارثة حتى يثور هكذا.
وصل يوسف إلى مكان الجامعة، لم يتوقف عن الإتصالات على هاتف لينة، تابع اتصالاته باحثاً عنها في الأرجاء، لكن كيف سيعثر عليها من بين ذاك الحشد الكبير.
وقف في منتصف المكان يدور حول نفسه لعل عينيه تقع عليها، نفخ بضيق وتمتم وهو ينظر للهاتف بغضب شديد:
_ ردي بقى ردي..
"أنا أهو يا يوسف"
قالتها هي من خلفه، فاستدار إليها ورأى لمعة عينيها التي أكدت له بكائها، زفر أنفاسه وبهدوء ما يسبق العاصفة سألها:
_ مبترديش عليا ليه؟
أجابته بنبرة مهزوزة:
_ كنت عند العميد..
"تعالي وريني الحيوان اللي عمل كدا"
قالها يوسف بعدم صبر، بينما تفاجئت هي بمعرفته للأمر وتسائلت مستفسرة:
_ أنت عرفت منين؟
خرج يوسف عن صمته وبعصبية بالغة صاح:
_ هو دا وقته؟! فين الحيوان دا
لم تريد لينة خلق مشكلة أخرى وهتفت:
_ خلاص يا يوسف الموضوع خلص، العميد خلاه يعتذر لي وحذره لو عمل كدا تاني هيتفصل
أوصد يوسف عينيه لبرهة يحاول التحلي بالصبر، فذلك الهراء التي تتفوه به يزيد غضبه ليس إلا، أعاد فتح عينيه ونظر إليها والشر يتطاير من عينيه:
_ مش هعيد سؤالي تاني، هو فين؟
وجهت لينة بصرها خلف يوسف على نقطة ما، فاستدار حيث تنظر حتى وقعت عيناه على شاب يطالعها بسخط، فأراد التأكد من هويته حيث سألها:
_ هو دا؟
"أيوة"
أجابت مختصرة فأمرها يوسف قائلاً:
_ طب ارجعي مدرجك
اقتربت منه رافضة الذهاب لأي مكان وسألته يتوجس:
_ أنت هتعمل إيه؟
لم يجيبها بل تركها وغادر الجامعة، استقل سيارته ولم يتحرك حتى يظهر ذاك الدنيء ويلقنه درساً قاسياً لن ينساه طوال حياته.
خرج بلال من سيارته وتوجه إلى يوسف ثم استند بمرفقه على النافذة المجاورة له وسأله مستفسراً:
_ أنت واقف عندك ليه؟
وقعت الفريسة في مصيدتها، خرج الشاب من باب الجامعة برفقة بعض الشباب، تحرك يوسف خلفهم وكذلك بلال الذي تبعه، استغل يوسف وقوفهم في مكان خالٍ من المارة ثم زاد من سرعته ووقف أمامهم مانعاً إياهم من مواصلة سيرهم.
ترجل من السيارة تاركاً بابها مفتوح، توجه نحو ذاك الشاب مباشرةً، أمسكه من تلابيب قميصه ودفعه بقوة حتى تمدد بجسده العلوي على سيارته.
لكمه يوسف بعنف في وجهه ولم يتوقف حتى سالت الدماء من فمه، تدخلا بقية الشباب محاولين فض ذاك الإشتباك، وصل بلال في الوقت ذاته ومنعهم من الوصول إلى صديقه وصاح بنبرة أمرة:
_ أرجع يالا منك ليه
بينما تابع يوسف ضربه للشاب الذي تسائل بنبرة منهكة:
_ أنت مين؟ وعايز مني إيه؟
أخفض يوسف نظريه على يديه وسأله بحدة:
_ أنهى أيد فيهم اللي اتمدت وخدت الموبايل؟
"موبايل إيه"
سأله بعدم فهم، بينما أمسك يوسف بيُمناه بكل ما أوتي من قوة وأجابه من بين أسنانه بغضب:
_ الموبايل اللي شديتو من إيدها يا حيلتها
زاد يوسف من ضغطه حتى سمع صوت كسر عظام يده، أوة الآخر بألم شديد، تركه يوسف وحذره بنبرة لا تحتمل النقاش:
_ صدقني هقلع لك عينك الاتنين لو بصت لها تاني!
انسحب يوسف وكذلك بلال فركضا الشباب على صديقهم بينما أنطلقا الآخرين بسيارتهما، هاتف بلال يوسف ليعلم منه ما الأمر:
_ هو في إيه يابني وإيه اللي حصل من شوية دا؟
بنبرة حادة أجابه:
_ واحد غلط وكان لازم يتعلم الأدب، سيبك أنت، أنت إيه اللي خلاك تيجي ورايا؟
بتهكم في نبرته قال:
_ أنتِ عايزني أشوفك بتجري بالمنظر دا ومجيش وراك، وكويس إني جيت كان فاتك أنت اللي مضروب لو مبعدتش العيال دي عنك
أطلق يوسف قهقهة ساخرة منه قبل أن يردد:
_ ماشي يا خفيف..
أنهى معه المكالمة ثم هاتف لينة التي رفضت مكالمته على الفور، ثم أرسلت إليه رسالة:
"أنا في محاضرة"
أرسل لها يوسف رده في رسالة أخرى:
"هتخلصي امتى؟"
لينة: لسه معرفش
يوسف: اعرفي وعرفيني قبل ما تخرجي من المحاضرة
لينة: تمام
أنتبه يوسف على بلال الذي يحاول تخطيه فرفض ذلك، شكل بسمة على شفتيه وزاد من سرعته فازداد حماس بلال وزاد من سرعة سيارته لكي يتخطى يوسف، حاول جاهداً أن يتخطاه لكن الآخر كان يغلق أمامه جميع السُبل لكي يظل خلفه، حتى ظهرت سيارة نقل فجاءة أمام يوسف...