رواية شظايا الكلمات الفصل الثلاثون 30 بقلم جهاد وجيه
شظايا الكلمات
الفصل الثلاثون ( قبل الأخير)
السعادة: كَلمة مِن سَبعة أحرُف تُهب للجميع بلا أية استثناءات مع اختلاف طُرقها لكلٍ منا وهيئتها التي تُشعرنا بها، من رحمة الله علينا أن يُعطينا إياها بعد ليالٍ وأيام طال بها الحزن حتى بات أنيسًا مُرحب به؛ تدور الحياة حول الحصول عليها بـجميع توابعها من الراحة والسَكينة والسلام ولكننا لا نعلم أنها مُقدرة مهما طال غيابها سيأتي يومًا وتشرق شمسًا هينة بـأشعتها، مُبهرة بـقوتها تزيل غُبار اللحظات التي أخلفتها التعاسة
نهض « ثائر» وجذب جسدها بـعناقٍ غير آدمي بالمرة ودفن وجهها المُبلل بالدموع لـموضع قلبه وأحاطها جيدّا وبدأ بتهدئتها كـطفلته الوحيدة وهمس بعد أن هدأ نحيبها:
_ والله قبل ما قلبي يفكر يجي عليكي هدوس عليه لأجل ما أشوف دموعك في يوم بسببي يا حياة روحي وهِبة قلبي وروحي
بادلته بـقوة مماثلة تتأمل تقاسم تلك الأفكار التي تزاحم عقلها وتمنعها من الشعور بالسعادة معه! قبضت أناملها على منامته بـخجل عندما انتبهت لـوضعهم، استشعر « ثائر» حرارة أنفاسها تلفح عنقه لـتُطيح بـقواعد صبره ورزانته وحمحم بـبسمة ملطفة عندما لاحظ ارتباكها الجلي:
_ مش هتخليني أصلي بيكِ؟
أيسألها عن حلمٍ طال تحقيقه؟ أحقًا ينتظر إجابتها التي تفوهت بها عينيها قبل جوفها؟ لم يسعفها لسانها للنطق وإنما احتضنت كفه بـخجل تحسه على النهوض وإقامتها للصلاة، وقفت خلفه بـقلبٍ من فرط الفرحة ظنته سيتوقف ولن تلومه! صدقًا لا لوم على قلبٍ ذاق حلاوة اللقاء بعد مرارة البُعد والجفاء، لاعِتاب ولا خِصام لـفؤادٍ أغدقه الشوق والحنين أعوامًا وها هو ينبض بـوتيرة لا تتتاسب مع عملة الآدمي...
وجدت شفتيها رُغمًا عنها تبتسم باتساع عندما وَقعت نَبرة صوته القوية والخَشنة والحانية تتلو آيات القرآن بـخشوعٍ وتأني كـداعية قضى عمره بين الإقامة والدعوة!! أهناك فِتنة بالرجال أيضًا؟! أهم مِثل النساء يمتلكون الإغراء؟! هذا ما فكرت به بـغياهب عقلها الصغير عندما انتهوا من الصلاة وجلس قِبالتها يناظرها بـحنينٍ وشوق ينبعثان من حدقتيه البدعتين التي تتساءل هل يتغير لونهما بـتغير مزاجه وحالته!؟ فـهي تبدو لها الآن سوداء وأحيانًا تراها كـقدحين من القهوة الخالصة!! هذا الرجل سيصيبها بالجنون من فرط اكتشافه لا محالة!!
ابتسم « ثائر» وداخله يتراقص فرحة ورضا لـرؤيتها بين يدية لا حائل بينهم، عبثت ملامحه بـمكرٍ ودهاء لـشرودها الدائم بـملامحها والذي فضح شوقها المماثل لـشوقه وتمتم بـخبث:
_ ما كفاية نظرات وهمسات وندخل على العملي علطول!!
سقط فكها من حديثه الوقح الذي لم تتخيله منه مطلقًا وهزت رأسها عدة مرات تنفي تصديق أذنيها ما سمعته ورفرفت بأهدابها بـتوتر، فتحت فمها ثم أغلقته تنوي الحديث ولكنه رأف بها وليته لم يفعل وهمس بـعبث:
_ ما هو بصراحة مقدرش اشوف الإغراء دا كله واسكت دا حتى عيب في حقي!!
عن أي إغراء يتحدث ذلك الأعمى وهي ترتدي إسدال الصلاة ولم يرى شعرها للآن حقًا إن رأتها « وردة» لـأرسلت خُفها بـوجهها يترك بصمته الشهيرة لـتذكرها دومًا عندما تنوي ارتداء ملابس محتشمة لزوجها!! تناست وجوده ولم تشعر سوى بـهزة جانبها وكأنها على فراشٍ وثير!! مهلًا!! هي حقًا على الفراش وهو جانبها يطالعها بنظراته التي لا ترحمها ولكن السؤال كيف أتت لهنا وأين كان عقلها اللعين عندما أتت!!! الإجابة أتتها متغنجة من بين شفتيه مع بسمة خبيثة:
_ لقيتك سرحانه فيا كالعادة فقولت استغل الفرص، أصلي استغلالي أووي في الحاجات دي
تبع حديثه بـغمزها وقحة واقترب منها أكثر وسط ترددها وبداخلها تلعن قلبها الذي أوقعها بالحب ولا تعلم لما كل هذا الخوف!! هي واثقة به كـما لو كان نفسها ولكن خوفها هو الأكبر من بينهم!! تلكأت الكلمات بـجوفها ولكنها خرجت على أي حال هامسة:
_ أنا جعانة
ناظرها « ثائر» بـمعنى " حقًا"!! وتابع اقترابه منها متمتمًا بسخرية:
_ يشيخه فكرت القطة أكلت لسانك من قِلة الكلام
انفرج ثغرها عن بسمة خفيفة وأمام نظراته العابثة وجدت ضحكاتها يتردد صداها بالغرفة من حولهم وهو يتابعها بـهيامٍ وعشقٍ كأن أسمى آمانية تتجسد أمامه حية، يعلم أنها خائفة وللحق هو بذاته خائف عليها من نفسه التي تشتاقها حد النخاع، لها كل الحق بذلك القلق، تنهد بـمرح ورفع أصابعه لـتعبث بـحجابها لـيفك عقدة ويتمتم بـغيظ:
_ يعني أنا دافع ومكلف فرح وشقه وفستان ومفاجأة وخطة وفي الآخر ألاقي إسدال وطرحة سودااا!!!
تهكم بـمرح على نفسه وغمغم بـمزاح:
_ أنتِ عليكي طار أو ندر! قوليلي أنا في مقام جوزك بردو!
ضحكت « هبه» بـقوة على مزاحه الجديد عليها وراحت تتأمله بـعشق وعينيها تطوف على ثائر ملامحه الوسيمة بداية من خصلاته الناعمة التي تلامس جبهته بـحميمية شديدة ومرورًا بعينيه وأنفه الشامخ وشفتيه الحادتين وللحق وجدت داخلها دافع يأمرها بمبادرة تقبيله!! نهرت نفسها بشدة وابتلعت لعابها بتوجس وغمغمت بـغيظ:
_ بقولك أنا جعانه يا ثائر
اللعنة على ما يدور بـعقل « ثائر» الآن وهي تتأمله كـغريقٍ وجد ضالته ونجاته وعينيها ترسل له دعوة خاصة بالاقتراب دون تردد ولكنه لن يجازف بـتخويفها منه مهما بلغ عشقه لها لن يقترب دون رغبة وإرادة منها..
ولكن لا مانع من هدنة بسيطة أليس كذلك أيها العاشق المُلتاع! وقد كان رفع جسده يحيط جسدها بين ذراعيه بـحنانٍ جارف وسط نظراتها المترددة واقترب بـشدة يأخذ قسطًا من الراحة بـقربها وينهل من نعيم وجودها جانبه ويروى شوق أيامه الماضية لها دون اعتراضٍ منها!! بل ارتفعت وتيرة أنفاسه عندما أحاطت عنقه بـكفيها الصغيرين وسقط حجابها لتتمرد خصلاتها الناعمة وتصدت بسمتها الخجولة شفتيه، ابتعد عنها على مضدّ وسحب شهيقًا طويل وزفره مع تنهيدة حارة من بين شفتيه مستندًا جسده على الفراش ومعتدلًا بجلسته جاذبًا رأسها تتوسط صدره بـأريحة شديدة مغمضًا عينيه بـراحة لم يألفها طيلة أيامه، طبع قبلة ممتنة وراضية بل ومُنتشية على خصلاتها التي تنفس سلامه النفسي بـقربها وعمس بـعشقٍ صادق:
_ عمري ما هجبرك على حاجه ولا أنتِ مضطره تيجي على نفسك عشاني، أنا عارف إنك خايفه ومتوتره بس صدقيني أنا راضي بقربك مهما كان شكله وهفضل صابر ولو العمر كله يا هبه، مستحيل في يوم هاجي عليكِ أو أجرحك!
أغمضت عينيها وراحة غريبة دبت بـسائر جسدها بعدما ظهر تصلب عضلاتها جليًا إليه وهذا ما دفعه للإبتعاد عنها يترك لها مساحة كافية، لفت ذراعيها بإحكام حول جسده تضمه إليها لتعبر عن امتنانها وحبها الخالص له هامسة بـحشرجة طفيفة:
_ مهما اتكلمت أو قولت عمري ما هعرف أوصفك يا ثائر، أنا محظوظه إنك بتحبني كل الحب دا، شكرًا لكل حاجه عملتها ولسه بتعملها عشاني، شكرًا لوجودك ودعمك ليا وثقتك فيا، شكرًا أووي
ربت بـحب على خصلاتها واغمض عينيه يستدعي النوم ولكن عينيه أبت النوم قبل مطالعتها والتصديق أنها بجواره فعادت لتبزخ من مقلتيه واردف بـعشق لن يقل يومًا بل سيتضاعف:
_ عاوزك بس تطمني! أنا جنبك ومهما حصل هفضل جانبك وفي ضهرك وهدعمك، اسمك بقا مربوط باسمي زي ما قلبك ربط قلبي بـحبه وروحك ضمتني، عاوزك جنبي يا هبه
حينها فرت دمعة وحيدة من عينيها شكرًا وامتنانًا لخالقها على تلك السعادة التي وهبها إياها دون حول ولا قوة منها، بقرب ذلك الرجل عرفت معنى القوة والصلابة والحنان بل والحب الذي يضعها به، دفنت وجهها بـصدره تخبر قلبها أن تلك الدقات التي تُنصت لها ما هي إلا نبضات من عشقت ومن أعاد إحياءك من جديد بـشخصية جديدة وبداية تستحق المحاربة....
************************
مضت الليلة سريعًا على الجميع وخصوصًا هي وهي تنتظر الغد على أحر من الجمر كـمظلومٍ ينتظر خبر براءته، سعادتها أمس لم تُضاهى وهي ترى رفيقتها تُزف على من تحب بـفرحة عارمة، تعوض الله أتٍ لا جدال فيه مهما طالت قسوة وغشاوة الأيام لن يحيل بينه وبين صاحبه حائل حقًا
تناولت تنهيدة من أعمق ما بداخلها من توتر وخرجت من المرحاض المُلحق بـغرفته التي تمكث بها معه حتى تنتهي جرعته لليوم، مسحت على وجهها بـراحة عندما وصلت إليها ملامحه المُسترخية التي أوضحت تجلي الراحة عليه، تحركت لتجلس جانبه وسحبت كفه لتطبع قبلة حانية عليه وفتحته على مهلٍ وحاوطت شِطر وجهها به بـضعف هامسة:
_ الدكتور طمني وقالي إن العلاج استجابته عالية، عارفه إنك بتعاني بس عشان خاطري حاول المرة دي كمان، المشوار طويل أوي ومش عاوزه أكون لواحدي من غيرك، لو العالم كله جنبي هفصل وحيدة بدونك، أنتَ غير الكل يا براء، متخذلنيش وخليك جنبي
عاودت تقبيل كفه ووضعته بحنان على الفراش مُتبعة رأسها خلفه تتونس به من غياب عينيه وغيابه عن الواقع بنومه المتقطع ولكن ما لم تحسبه هو همسه الخافت باسمها ورفرفت أهدابه الكثيفة التي تحوي عينيه الساحرتين، تيقظت أعصابها لـصوته المتعب فرفعت رأسها تطالعه بقلق واضح بدده هو بـبسمة مطمئنة وتربية خفيفة على رأسها وغمغم بـمرح زائف:
_ يعني الواحد وهو نايم مش رحماه من صوتك
ابتسمت رغمًا عنها لمرحه الذي يدعيه لمساعدتها على الخروج من حزنها ومن الواضح أنه استمع لحديثها معه، تنهدت بـمرارة وتمتمت بـعبث منصطنع:
_ عشان تفضل فاكر إني وارك وراك مهما روحت ولا جيت أنا قدرك ونصيبك
تمتم « براء» بـتهكم وسخرية:
_ عارف وهل يخفى القرد!
صححها تلقائيًا عندما رمقته بـنظرة غاضبة حانقة وتمتم:
_ هل يخفى القمر بردو يا روحي
هزت رأسها برضا وتفاخر ورفعت حاجبها بـكبرياء مغمغمة:
_ ايوا كدا رجاله متجيش غير بالسك...
برم « براء» شفتيه بـتهكم وطالعها بـتوجس:
_ وانتو حريم مفترية مبترحموش محدش بيعرف ياخد معاكوا حق ولا باطل
هزت « وردة» كتفيها ببراءة وأسبلت أهدابها بـلطف مزيف وهمست بدلال:
_ احنا!! دا احنا ملاااااااك....
تحدث مصححًا بـغيظ:
_ هلاااااااك.... هلاااك يا روحي خدي بالك من تسقيط الحروف دا عشان بيعمل أزمة الأيام دي
أشربت بـعنقها ناحيته وضيقت عينيها بتحفز شديد مردفة بتحذير:
_طب نام بقا بدل ما أقلب عليك وأعرفك الهلاك على أصوله
كتم « براء» ضحكته على مظهرها الغاضب وعينيها المحذرتين وعض شفتيه مردفًا:
_ أنا هالك فيك يا بطل يا حلو أنتَ
أين غضبها؟ وأين ضيقها؟ أكان هناك ما يغيظها منه؟ هذه هي الأنثى تنجرف خلف معذب قلبها عندما يتعلق الأمر بالمغازلة والدلال!! نكست رأسها بخجل بينما صدحت ضحكاته هو حتى أدمعت عيناه من تبدل حالتها الشرسة المدافعة لتلك الهادئة، أين لسانها الذي يتعدى طولها بمراحل!! ابتلع ضحكاته عندما ناظرته بـغيظ وهي تصك على أسنانها بعنف كلبؤة تنتظر نيل فريستها وهمست بـمدح وحب:
_ والله بحب أعصبك وأشوف تحويلك عشان بتبقي قمر وشبه الوردة في دلالها وغضبها
حسنًا سامحته بل وعفت عنه واقتربت مقبلة وجنتيه وسط بسمته واحتضانه لها بيده الواحدة وأغمضت عينيها مستندة على كفه مردفة بهمس ناعس:
_ نام شوي عشان ترتاح وتكمل الجرعة لسه اليوم طويل
ابتسم بحب عندما استمع لصوت انتظام انفاسها مع بقاء بسمتها الجميلة تزين وجهها النائم وتنفس براحة متذكرًا فرحتها عندما أخبرها بتغير الطبيب لموعد جرعته ليتثنى لهم حضور زفاف صديقتها « هبه» وهو في الحقيقة من طلب ذلك من الطبيب بل واصر عليه وحقًا يكفيه رؤية فرحتها بذلك وتهلل ملامحها التي أضاءت مع سماعها الخبر، تستحق كل السعادة والحب، القلب ضائع بلا وجهة عندما يتحيز الأمر لها يغلبه هيامه وعشقه لها فـيتحرك دون مناظرة أي عواقب أو نتائج
***********************
تحركت « أثير» بنعاس لغرفة الصغير « حمزه» النائم لتوقظه للذهاب للمدرسة وتعرف صعوبة تلك المهمة بل واستحالتها بعد تأخر نومهم أمس فبعد عودتهم من الزفاف ظل يلهو مع « رحمه» كثيرًا وعلى مضدّ تركها بعدما أوضحت رغبتها في النوم، اقتربت من فراشه وجلست جانبه مغمضة عينيها التي تحمل بقايا النعاس وهزته بـرفق هاتفة باسمه عدة مرات ولم يستجب لها بل لم يتحرك قيد أنملة وهو يجثو على معدته ينعم بنومٍ هادئ وهي هنا تترك فراشها لأجله كم هو ماكر هذا الصغير! عضت على شفتيه بـغيظ ونهضت تنوي جعل والدة يوقظه ولكن لفت انتباهها بلل وسادته أسفل رأسه فـانحنت تتفقدها باهتمام ولكن ما لم تتوقعه هو شحوب نلامح الصغير وغزارة عرقة الذي بلل وسادته وتناثر بوضوح على بقية أطرافه المخفية في الفراش!! وضعت يديها على جبهته تتفقد حرارته بـقلق وفزعت عندما استشعرت ارتفاع حرارته وهرولت للمرحاض تجهزه وعادت لـتحمله بين يديه بـحنانٍ واهتمام وهي تهمس باسمه بلوعة وقلق وبدأت عينيها بذرف العبرات عندما لم يستجب لمحاولاتها إفاقته وهمسها المترجي له!!
بعد فترة خرجت تسانده بعد عوته لوعيه بعد تحميمه بالماء البارد وإعطاؤه بعد مخفضات الحرارة لحين وصول الطبيب الذي هاتفته قبل دخولها للمرحاض، بـعقلٍ شارد دثرته بالفراش وقبلت جبينه وتحركت ناحية زوجها لتوقظه تزمنًا مع وصول الطبيب لفحصه...
_ مفيش داعي للقلق دا مجرد نزلة برد والمدام اتصرفت صح ولحقت الوضع، دي أدوية مخفضة للحرارة ولاحتقان الزور بإذن الله بعدها هيبقى بخير
ودع « راكان» الطبيب وعاد ليجلس جانب صغيره النائم ويطمئن زوجته الشاردة، ابتسمت « أثير» بتوتر له ونهضت متعللة بـالذهاب لجامعتها التي لم تطأها قدمها منذ اشهر فقدت عددها!!
طالعها « راكان» بريبة من ملامحها المقتضبة التي رسمتها تخفي خلفها توترها وما اقلقه هو احتقان وجهها بـحمرة قانية وهي تنظر للصغير وتتبدل نظراتها للحزن الخالص، لم يشأ اعتراض طريقها بعدما غفى «حمزه» واتطمأنت عليه!!
قبضت على حقيبتها بـعنف تعبث بها عن بعض القوة للعدو نحو ما ينتظرها وداخلها متزعزع كمن فقد طريقه، نظرت حولها بريبة من ذلك المكان الذي تخطوه للمرة الثانية بفضل تلك المرأة ابتي سلبت سعادتها ذات يوم وجعلتها بـدائرة خالصة من الحزن وها هي تترك أثر سُمها القاتل بين طيات حياتها من خلال الصغير الذي صدمها حقًا ما رأته به... هذا المكان كفيل بـسب اغواره القاسية بفؤادها النقي، المكان الذي يحاوط الجاني والمجني عليه ولا يعلم حقيقتهم سوى خالقهم فقط... إنه السجن ...
************************
سحبت « هبه» نفسها ببطء من بين ذراعيه وعينيها تلمع بـعشقٍ تتساءل هل سيقل يومًا؟ أم يتضاعف لـيغرقها به؟! توجهت للمطبخ بعد أداء فرضها وتغير ثيابها لـمنامة بيتية مُريحة قصيرة تصل لما بعد ركبتيها بـقليل وتركت لخصلاتها البنية العنان للتتمرد على طول ظهرها ووقفت تتمايل بدلالٍ وهي تدندن بعض الاغاني القديمة وتتحرك بـهمة ونشاط تنهي إعداد الفطور له بقلبٍ يثور بهجة وسعادة لا تسعه مطلقًا!!
_ صباح الجمال على اللي واخده العقل والبال
كان هذا صوته المتحشرج الناعس الذي صُب بـقوة بمضغتها التي دوت بها طبول المشاعر تُدق بلا هوادة أو توقف، التفتت له وبسمتها تعدو إليه وغمغمت بـرقة:
_ صباح الخير على اللي بوجوده طل الخير والسلام
ضحك « ثائر» باستمتاع لحديثها الذي أسعده كثيرًا واعتبره هدنة مقدمة منها تقدمها له وهو يدفن وجهه بـين خصلاتها الحريرية ويده تضم جسدها له سعيدًا بمبادرتها وتخليها عن تحفظها الزائد وهمس بـشجن:
_ والله السلام حل على أرضي بـاستعمارك ليه
مُهلك، فاتن، ساحر وخطير عليها من أين ينتقي كلماته التي يُعجز قلبها عن مجاراته والرد عليه فيكتفي بالخجل والتمتع بقربه وبغزله العاشق!! رفرفت بأهدابها عدة مرات في توتر وهمست:
_ هحضر الفطار على ما تصلي وتاخد دوش
مط شفتيه بتتحسر وتمتم بـعبث:
_ لا أنا عاوز افطر الأول
تخصرت أمامه غير مراعية تصلب جسده من فعلتها التي جسمت ثوبها ليحتضن جسدها أكثر تحت أنظاره الجائعة وكشف عن ما اخفاه من قدميها ببذخ وتمتم بـعند:
_ لا مفيش فطار ولا كلام قبل ما تصلي
حُبًا بالله يا إمرأة كفاكِ دلالًا على فؤادي الضعيف فما أنا إلا صريع عشقكِ المُحرم وتمردكِ الشاسع فـلطفًا!! هز رأسه ينفض أفكاره التي لو راته لأوقعتها فاقدة للوعي وهمس بالقرب مت اذنيها:
_ مش ذنبي أن نومك خفيف وفوتي الفجر ومفكرة الناس كلها زيك يا حلوتي
أخرسها بل واسكت هواجس عقلها وابتلعت كلمتها ونكست رأسها بخجل لم يسمح لها هو به ورفع ذقنها متشربًا قُرب طلتها منه وهمس بـنبرة متوحشة بالمشاعر:
_ براحه على قلبي عشان هو استوى بما فيه الكفاية
ابتسمت « هبه» بشجاعة وخطت تجاهه أكثر رافعة يديها تحاوط عنقه بـدلالٍ ورقة هامسة:
_ حد قاله يتعب كدا!
ضيق « ثائر» عينيه من مخزى الحديث وغاص ببحور عينيها يستنتج الإجابة بنفسه وما كان منه إلا أنا انحنى ليحملها بين يديها خارجًا مت المطبخ وسط ضحكاتها الخجلة وتوعده لها، وضعها على الفراش بعناية كـرضيعٍ يخشى عليها واقترب حد تقاسموا الأنفاس وتناسجت الأرواح وأبحر عشقهم لينهل من رحيق قربها المرضي له ويبحث بذاته عن عشقها الذي تخبره به عينيها، ضم جسدها بقوة له يرغب بـدفنها داخله لـيستحيل للعالم رؤيتها وهو يهمس لها بـمدى شوقه وحبه الجارف له وهي تُرحب بـبساطة بما يقدمه دون اعتراض!!
***************************
فُتح الباب أمامها لـتظهر مصب أوجاعها وبئر مخاوفها ومنبع قلقها!! تظهر بجسدها الضعيف ووجهها الشاحب وشفتيها الجافتين؛ تجر أقدامها من يدفع خيبته وحسرته للحاق به متقدمة منها تجالسها بـهدوء وكأنها تتوقع زياراتها بل وتدري سبب قدومها، تأهبت ملامح « أثير» للقادم والتفت تواجهها واشتعلت عينيها بـتحفز لقتلها بأية لحظة وصاحت بـغضب:
_ أنتِ السبب صح!!؟ اللي في جسمه دا بسببك!!!
ما كان من «ميار» سوى إماءة ضعيفة بالموافقة ونظرة نادمة بعدها أخرجت صوتها المتحشرج:
_ طمنيني عنه... هو بخير
أجابتها « أثير» بلا تردد بقسوة:
_ بخير عشان بعيد عنك، عشان ربنا رحمه منك ومن شرك وحقدك!!!
هزت « ميار» رأسها بتأكيد على حديثها الصحيح وشخصت عينيها بالفراغ تستذكر ما مر عليها من أيام قاست بها الهوان والذل وتقاسمت حسىرتها مع فلذة كبدها الوحيد وهمست بندم:
_ لما سافرت من هنا كنت مقررة مرجعش، فوقت وعرفت إني ضيعت شرفي وحياتي في حياة شخص عمري ما هكون ولا حتى هامش فيها، حبيت راكان واتمنيته بس حكمة ربنا كانت أكبر مني ومن شري، كنت مسافرة لوجهه معرفهاش ولا مكان محدد لقتني على بلد غريبة بعادات أغرب ومعتقدات أقسى ومع الأيام انجرفت وراها وبقيت من ضمنها واتعايشت معاها وبقيت من أم لطفل لا يتعدى عمره شهور لـعاهرة بتتنقل من سرير راجل للتاني بدون تفكير في نهايتها المهم توفر حياة لابنها!!!
رأت الاشمئزاز جليًا على ملامح مستمعتها فابتسمت بسخرية للقادم وأكملت:
_ اللي جاي هيخليكي تقرفي أكتر مني... مكنش هاممني غير أن ابني يبعد عن هنا وأوفر ليه حياة كويسه برا عشان متأكده إن راكان مش هيقبله لأنه مش أكتر من غلطه، نسيت حياتي هنا وبدأت بداية زبالة في عالم بشع ضريبة وجودي فيه هو جسمي، ومرت الأيام والسنين وحمزه كان مع مربيه جبتها ليه لما كمل 8 سنين، كانت لطيفه، جميلة، محترمه، حنينه وكل دا كان في الأول واتحول الطفل اللي مكنش بيبطل ضحك لواحد تاني ساكت، خايف، قلقان، علطول نايم، رافض يشوفني اتحول لاداة متعة لواحده مريضة!!
تجلت الصدمة على ملامح « أثير» وفرغ فاهها عندما تابعت الأخرى:
_ كانت مريضة ومتعتها الاطفال الصغيرة اللي تقدر تسيطر عليهم وتسمع منهم اللي هي عوزاه وبعد ما لقيت ابني بيضيع مني سألتها سبب تغيره وأنكرت واتهربت مكنش قدامي غير إني ادور وراها لحد ما عرفت إن حمزه مش أول ضحية ليها بالعكس دا أول ضحية تطلع من تحت إيديها فيها الروح!!! وقتها شوفت جسمه!! كله جروح وندبات قديمه وضرب قديم ملحقش يخف وجديد لسه بيرسم المه وهو!! هو خايف والهلع معنى اللي شوفته عليه
تعلثمت حروفها وطغت مرارة ما رأت عليها وأكملت بعدما توالت دموعها:
_ دمرته بإيدي.... شوفته بيبكي من الوجع بعد ماهي مشيت وقتها عرفت مدى حقارتي ووساختي....شوفت كرهه ليا في عيونه.... هو ضحية زي ما أنا كنت.....
أوقفتها « أثير» عن الاستمرار وتبرئة نفسها ونهضت بـغضب عارم تدفعها بعنف بعدما فقدت صبرها:
_ ضحية!!! أنتِ ضحية!!! حرمتي ابن من ابوه وحطمتيه وتقولي ضحية!!! كسرتيه في الوقت اللي مفروض يشوف حلاوة الدنيا وتقولي ضحية!!! أنتِ واحدة أنانية مريضة زيك زيها، أنا مش قادرة أوصفك ولا حتى ادعي عليكي، أنا بكرهك بحجم كل وجع هو شافه وكل صرخه خرجت منه، أنتِ شيطان ملوش ملة ولا دين.... ربنا ينتقم منك
_ أثير أنا عندي الإيدز
تصلبت قدمي « أثير» عن الحراك وهزت رأسها ترفض تصديقها ولكنها أكملت بـحسرة وحرقة:
_ ربنا بياخد حقه... مفيش كلام يبرر اللي ابني شافه بسببي بس وحياة راكان عندك متخلهوش يكرهني!! خليه لما يفتكرني يدعيلي ويضحك!!! قوليوا إني كنت بحبه وعملت كدا عشانه وصدقت شيطاني.... قوليلوا ماما بتحبك يا حمزه وسامحها وراكان ملوش ذنب في أي حاجه، خليه لما يفتكرني يدعيلي مش يكره حتى يشوف صورتي
لم يسعفها قلبها للمزيد فهرولت للخارج تلعن تسرعها الذي ات بها لهنا ولكن عندما رأت جسد الصغير الملئ بالندبات والجروح التي لم تطيب بعد طاف عقلها حول تلك المرأة لمعرفة الحقيقة الكاملة وليتها لم تأتِ بل ليتها لم ترى لتسمع وتري بشاعة ذلك العالم وقسوته على طفلٍ لم يتجاوز العاشرة بعد ويلقى كل ذلك العناء والحجود من قلوب البشر بل بالاصح منزوعين القلوب، هل كان العالم من البداية بكلذلك الجفاء والكره أم أن البشر هم من صنعوا منه ما عليه الآن!! أكانت بداية الخليقة بكل ذلك الألم والبشاعة أم أن الانسان بـفطرته الجاحدة والبغيضة هو من بدلها!!!
****************************
اسبوعين من النعيم كانا حياتهما تسبح به، لا مكان للحزن بعد الآن طالما هم جنبًا إلى جنب، جلست « هبه» بشرفة غرفتهم والتي كانت غرفتها بالسابق تنظر للطريق من أسفل وتطالع المارة وعلى وجهها بسمة عاشقة تستذكر لحظاتهم السعيدة وكم غلفها بعشقه ورفضه القاطع للابتعاد عنها حتى نزوله للعمل من أمس كان يرفضه ويصر على البقاء باحضانها، ضحكت بخجل وأخفت وجهها بين كفيها ودلفت للداخل تنوي تنفيذ ما وجهها عقلها له ولا سبيل للتوقف أو الابتعاد عن ذلك الأمر قبل انهاؤه، ربما تكون على خطأ ولكن يجب عليها بدأ حياة جديدة بعيدة عن قواقع الماضِ الأليم، انتهت من ارتداء ثيابها وخرجت من البيت بترقب وقلق وتحاول بث الطمأنينة داخله بانها لن تتأخر ستعود سريعًا قبل رجوعه من العمل ولن يكتشف الأمر، لقد عرفت مُسبقًا أنه هنا وهذا جزاؤه وقدره مت البداية ولن تستمع لقلبها وتشفق على رجلٍ مثله!! تحركت قدميها للداخل تنظر بوجوه العابرين والجالسين منهم من كسى الحزن قلبه ليظهر على محياه ومتهم من بلغت جرائمه حدًا يكفي لحرق العالم!! منهم من فقد نفسه والنهاية بين قضبانٍ حديدية تمنعه عن رؤية الشمس والدفء أسفل اشعتها ومنهم من تغلب على هواه ولكن لم يجابه ظلم البشر وأُلقى مظلومًا بين ظلمات السجن!!!!
تابعت تقدمه منها بفتور وقسوة حتى جلس على بُعدٍ مناسب وتمتم:
_ جايه تشمتي؟ ولا تواسي
أجابته بقوة:
_ الاتنين واحدة لناس بنحبهم والتانية لناس بنكرههم وأنتَ ملكش مكانه اصلاً عشان أحس نحيتك بأي واحدة منهم
ابصرها بـقوة وتمتم:
_ اومال إيه جابك يا هبه السجن لراجل دمرك على حد نظراتك!
لعين، حقير، مريض، وحاقد يعترف بتدميره لها بل ويتفاخر بما اقترفه بحقها!! جحدته بقرف وتمتمت:
_ ليه؟! ليه عملت كل دا رغم إنك محبتنيش؟! ليه دمرتني بالشكل دا؟! ليييه
ابتسم بوحشية وصاح بتحفز:
_ عشان كنتي معايا واللي معايا ميروحش لغيري غير بموتي، انا سبتك شهور طول ماكنتِ لواحدك بس أول ما قرب منك شوفتي بنفسك، اللي معايا دا حقي ومبسبش حقي حتى لو زهدته وهدفعك التمن غالي أنتِ وهو مش السجن اللي هيمنعني عنك أو عنه
تحكمت بأعصابها بصعوبة وادعت القوة مردفة:
_ بس أنا بقيت معاه! وأنت هنا بفضله!! وبسبب وساختك!!! عرفت قيمتك فين!!! شوفت رحمة ربنا بيا!!! شوفت انتقامه ليا!! رينا هيمنعك هو أكبر من جبروتك ومرضك وغلك
هز « فاضل» كتفه وتمتم ببساطة:
_ مش مهم دلوقت المهم إن صورتك قدامه هتفضل مكسورة طول العمر حتى لو كدب عليكي بعكس كدا؟! بقيتي كسر بالنسبة ليه!!
لو أخبرها قبل زواجها بل وقبل ذلك لوافقته وأيدته لكن الآن!! ابتسمت بـزهو وصاحت ب،ثقة:
_ دا بيعمله الناقصين المرضى اللي زيك!! اللي ملهومش لا غالي ولا عندهم ضمير ولا يعرفوا إن في حاجه اسمها نضافة وسماحة نفس!! بيعمل كدا اللي عاشوا طول حياتهم يستمدوا سعادتهم الكدابة من وجع وكسر الغير، عارف أنتَ عمرك ما هتتغير ولا قلبك هينضف هتفضل طول عمرك وسخ!!! حقارتك عدت الحدود وجبروتك بس رحمة ربنا قريبة بيا وعدله هيجي وصدقني هتتمنى لحظة لو الزمن يرجع بيك تاني
لم يبدو عليه الانصات او الفهم او ربما التأثر بما قالته بل كان يعبث بثيابه وبعدما انتهت عقد ذراعيه أمام صدره وتمتم:
_ هو أنتِ لسه عندك طولة بال للمحاضرات دي؟! يعني مزهقتيش؟! وبالنسبة للدكر بتاعك عارف إنك جاية تقابلي طليقك في السجن ولا....
قاطعته بصفعة بثت بها حقها وشياطينها التي تحوم حولها وأودعت غضبها وما ذرفته بسببه وللعجيب لم يبدو عليها الخوف او التردد من قسوة ملامحه وغصبه الذي استعره بل تحركت مبتعدة عنه واردفت بثقه:
_ جوزي دا راجل واللي زيك أخرهم يبصوا ليه من بعيد ويتحسروا على الرجولة اللي مش عندهم، نهايتك قربت وافتكر كلامي مهما بلغ حجود القلب بيكون نذير للنهاية
غادرت وتركته خلفها غير مبالي بما قالت ولكن غضبه يتفاقم بسبب صفعتها له وحديثها عن زوجها بكل تلك الثقة والقوى التي لم يراها به من قبل بينما خرجت هي تتنفس الهواء النقي تاركة خلفها الماضِ بكل أوجاعه وظُلمته متعهدة ببداية لا مثيل لها لحياتها معه ولن يعكر صفو حياتهم أي شئ!! وولكن ما ينتظرها سيكون أكبر من أن تتوقعه فهي تصرفت كما أملاها عقلها ولم تحسب عواقب ذلك معه!!
***********************"*""
وصلت « أثير» البيت بعد وقتٍ طويل من السير الشارد ودلفت مباشرة لـغرفة « حمزه» تتفقده وقبلته بعدما اطمأنت عنه وخرجت، سارت نحو غرفتها ترغب بالنوم قليلًا ليتوقف عقلها عن التفكير بكل ما استمعت له وخلق الاعذار لـ «ميار»!!! دلفت للغرفة وتوجهت للخزانة تخرج ملابسها ولكنها شهقت بـصدمة وعنف عندما وجدت « راكان» يجلس على المقعد المجاور للخزانة ينتظرها وملامحه لا تُفسر، تجاهلت وجوده مجبرة بسبب تعبها وتوجهت للمرحاض وبعد فترة خرجت نحو الفراش ولكن قبضته منعتها وهتف بها بقلق:
_ كنتِ فين ومالك تعبانه كدا لي
هزت رأسها نافية وفكت قبضته مربتة على كفه وهمست بـضعف:
_ كنت في الجامعه، مفيش مرهقة شوية بس هنام وهبقى تمام
يعلم أنها تكذب وكان ينوي مجاراتها ولكن تعبها ما دفع غضبه لينال منها ويصيح بحدة:
_ متكدبيش أنتِ مروحتيش الجامعه.. كنتي فين يا أثير
لن تخبره مهما فعل وهذا قرارها ولن تخبر أحد بل ستدفن ذلك السر باعمق روحها وتمضي نحو تطهير الصغير من دَنس والدته وتترك له الجزء الجيد عنها بذاكرته فقط!!
رفعت أنظارها له لترى غضبه ينهش ملامحه والقلق يتطاير من قزحيتيه وتمتمت بـوهن:
_ كنت عند وردة روحنا للدكتور عشان جوزها تعبان وهي معادها مع دكتور النسا النهاردة ومعرفتش اسيبها لواحدها
لم يبدو عليه الإقناع ولكنه أمام تعبها وافق على حديثها فتابعت هي تستغل الوضع مكملة بإرهاق:
_ معلش يا راكان أنا تعبانه شوي ممكن أنام ولما نقوم نتكلم؟!
هز رأسه موافقًا وتركها وغادر بينما هي بقت تنظر في أثره وتفكر في كذبتها التي اختلقتها لتنجو من ذلك البئر الذي وضعت ذاتها به ولا نجاة منه وسيظل ذلك السر يؤرق نومها كثيرًا تعلم، دمعت عينيها تأثرًا بحالة صغيرها وهرولت لغرفته تحتمي به من أفكارها القلقة عليها واحتضنت جسده النائم بين ذراعيها وعقلها يؤكد لها عدم تصديق زوجها لها ولكنها على أية حال استسلمت للنوم
***************************
وصلت « هبه» للبيت وما صدمها حقًا هو تواجد « ثائر» بانتظارها وأعصابها المقتضبة بل وملامحه الجامدة تخبرها أن القادم ليس بجيد، تقدمت من جلسته تسأله بـتوتر:
_ وصلت امتى يا حبيبي؟
أبصرها « ثائر» بـجمود وتمتم بـبرود:
_ من شوي
تعجبت من برودة رده فتابعت بـمرح:
_ هغير وأحضرلك الغدا
رد عليها بـاقتضاب:
_ مليش نفس
ابتلعت لعابها من هول ما وصلت إليه أفكارها أن يكون له معرفة بذهابها لذلك المكان ولكنها تغاضت عن ذلك ووضعت ككفيها على كتفه بـحب وهي تدنو منه هامسة بمرح:
_ ليه بس يا حبيبي دا أنا حتى عملالك كل الأكل اللي بتحبه
نفض يدها عنه وكأنه يشمئز منها وابتعد متوجهًا لغرفته متمتمًا بغموض:
_ ويا ترى لحقتي تعمليه امتى قبل ما تروحي مشوارك!
زاغت أنظارها عنه وارتفع توترها من غموض كلماته التي تبطن معرفته وابتلعت لعابها الخائف متسائلة بـتوجس:
_ مشوار أيه أنا كنت في مدرسة رحمه عشان اجتماع أولياء الأمور
ضحك بشدة حتى أدمعت عيناه على كذبتها المكشوفة فهي لا تعلم أن « رحمه» أخبرته قبلها وأخبرها أنه سيذهب ولا تقلق وبالفعل ذهب ولكنها لم تكن متواجدة بل ويعرف أين كانت ولكن ما يؤلمه هو لما!! لما فعلت به هذا!! مهما كانت رغبتها تلك المرة لن يسامحها على فعلتها التي طعنته لها، لن ينساق خلف قلبه وينصت له وينسى فعلتها!! هي المته كثيرًا وهو لم يجرؤ على فعلها ولو لمرة لكن هنيئًا لها تلك المرة فـفؤاده أعلن عصيانه وغضبه منها.....
الفصل الثلاثون ( قبل الأخير)
السعادة: كَلمة مِن سَبعة أحرُف تُهب للجميع بلا أية استثناءات مع اختلاف طُرقها لكلٍ منا وهيئتها التي تُشعرنا بها، من رحمة الله علينا أن يُعطينا إياها بعد ليالٍ وأيام طال بها الحزن حتى بات أنيسًا مُرحب به؛ تدور الحياة حول الحصول عليها بـجميع توابعها من الراحة والسَكينة والسلام ولكننا لا نعلم أنها مُقدرة مهما طال غيابها سيأتي يومًا وتشرق شمسًا هينة بـأشعتها، مُبهرة بـقوتها تزيل غُبار اللحظات التي أخلفتها التعاسة
نهض « ثائر» وجذب جسدها بـعناقٍ غير آدمي بالمرة ودفن وجهها المُبلل بالدموع لـموضع قلبه وأحاطها جيدّا وبدأ بتهدئتها كـطفلته الوحيدة وهمس بعد أن هدأ نحيبها:
_ والله قبل ما قلبي يفكر يجي عليكي هدوس عليه لأجل ما أشوف دموعك في يوم بسببي يا حياة روحي وهِبة قلبي وروحي
بادلته بـقوة مماثلة تتأمل تقاسم تلك الأفكار التي تزاحم عقلها وتمنعها من الشعور بالسعادة معه! قبضت أناملها على منامته بـخجل عندما انتبهت لـوضعهم، استشعر « ثائر» حرارة أنفاسها تلفح عنقه لـتُطيح بـقواعد صبره ورزانته وحمحم بـبسمة ملطفة عندما لاحظ ارتباكها الجلي:
_ مش هتخليني أصلي بيكِ؟
أيسألها عن حلمٍ طال تحقيقه؟ أحقًا ينتظر إجابتها التي تفوهت بها عينيها قبل جوفها؟ لم يسعفها لسانها للنطق وإنما احتضنت كفه بـخجل تحسه على النهوض وإقامتها للصلاة، وقفت خلفه بـقلبٍ من فرط الفرحة ظنته سيتوقف ولن تلومه! صدقًا لا لوم على قلبٍ ذاق حلاوة اللقاء بعد مرارة البُعد والجفاء، لاعِتاب ولا خِصام لـفؤادٍ أغدقه الشوق والحنين أعوامًا وها هو ينبض بـوتيرة لا تتتاسب مع عملة الآدمي...
وجدت شفتيها رُغمًا عنها تبتسم باتساع عندما وَقعت نَبرة صوته القوية والخَشنة والحانية تتلو آيات القرآن بـخشوعٍ وتأني كـداعية قضى عمره بين الإقامة والدعوة!! أهناك فِتنة بالرجال أيضًا؟! أهم مِثل النساء يمتلكون الإغراء؟! هذا ما فكرت به بـغياهب عقلها الصغير عندما انتهوا من الصلاة وجلس قِبالتها يناظرها بـحنينٍ وشوق ينبعثان من حدقتيه البدعتين التي تتساءل هل يتغير لونهما بـتغير مزاجه وحالته!؟ فـهي تبدو لها الآن سوداء وأحيانًا تراها كـقدحين من القهوة الخالصة!! هذا الرجل سيصيبها بالجنون من فرط اكتشافه لا محالة!!
ابتسم « ثائر» وداخله يتراقص فرحة ورضا لـرؤيتها بين يدية لا حائل بينهم، عبثت ملامحه بـمكرٍ ودهاء لـشرودها الدائم بـملامحها والذي فضح شوقها المماثل لـشوقه وتمتم بـخبث:
_ ما كفاية نظرات وهمسات وندخل على العملي علطول!!
سقط فكها من حديثه الوقح الذي لم تتخيله منه مطلقًا وهزت رأسها عدة مرات تنفي تصديق أذنيها ما سمعته ورفرفت بأهدابها بـتوتر، فتحت فمها ثم أغلقته تنوي الحديث ولكنه رأف بها وليته لم يفعل وهمس بـعبث:
_ ما هو بصراحة مقدرش اشوف الإغراء دا كله واسكت دا حتى عيب في حقي!!
عن أي إغراء يتحدث ذلك الأعمى وهي ترتدي إسدال الصلاة ولم يرى شعرها للآن حقًا إن رأتها « وردة» لـأرسلت خُفها بـوجهها يترك بصمته الشهيرة لـتذكرها دومًا عندما تنوي ارتداء ملابس محتشمة لزوجها!! تناست وجوده ولم تشعر سوى بـهزة جانبها وكأنها على فراشٍ وثير!! مهلًا!! هي حقًا على الفراش وهو جانبها يطالعها بنظراته التي لا ترحمها ولكن السؤال كيف أتت لهنا وأين كان عقلها اللعين عندما أتت!!! الإجابة أتتها متغنجة من بين شفتيه مع بسمة خبيثة:
_ لقيتك سرحانه فيا كالعادة فقولت استغل الفرص، أصلي استغلالي أووي في الحاجات دي
تبع حديثه بـغمزها وقحة واقترب منها أكثر وسط ترددها وبداخلها تلعن قلبها الذي أوقعها بالحب ولا تعلم لما كل هذا الخوف!! هي واثقة به كـما لو كان نفسها ولكن خوفها هو الأكبر من بينهم!! تلكأت الكلمات بـجوفها ولكنها خرجت على أي حال هامسة:
_ أنا جعانة
ناظرها « ثائر» بـمعنى " حقًا"!! وتابع اقترابه منها متمتمًا بسخرية:
_ يشيخه فكرت القطة أكلت لسانك من قِلة الكلام
انفرج ثغرها عن بسمة خفيفة وأمام نظراته العابثة وجدت ضحكاتها يتردد صداها بالغرفة من حولهم وهو يتابعها بـهيامٍ وعشقٍ كأن أسمى آمانية تتجسد أمامه حية، يعلم أنها خائفة وللحق هو بذاته خائف عليها من نفسه التي تشتاقها حد النخاع، لها كل الحق بذلك القلق، تنهد بـمرح ورفع أصابعه لـتعبث بـحجابها لـيفك عقدة ويتمتم بـغيظ:
_ يعني أنا دافع ومكلف فرح وشقه وفستان ومفاجأة وخطة وفي الآخر ألاقي إسدال وطرحة سودااا!!!
تهكم بـمرح على نفسه وغمغم بـمزاح:
_ أنتِ عليكي طار أو ندر! قوليلي أنا في مقام جوزك بردو!
ضحكت « هبه» بـقوة على مزاحه الجديد عليها وراحت تتأمله بـعشق وعينيها تطوف على ثائر ملامحه الوسيمة بداية من خصلاته الناعمة التي تلامس جبهته بـحميمية شديدة ومرورًا بعينيه وأنفه الشامخ وشفتيه الحادتين وللحق وجدت داخلها دافع يأمرها بمبادرة تقبيله!! نهرت نفسها بشدة وابتلعت لعابها بتوجس وغمغمت بـغيظ:
_ بقولك أنا جعانه يا ثائر
اللعنة على ما يدور بـعقل « ثائر» الآن وهي تتأمله كـغريقٍ وجد ضالته ونجاته وعينيها ترسل له دعوة خاصة بالاقتراب دون تردد ولكنه لن يجازف بـتخويفها منه مهما بلغ عشقه لها لن يقترب دون رغبة وإرادة منها..
ولكن لا مانع من هدنة بسيطة أليس كذلك أيها العاشق المُلتاع! وقد كان رفع جسده يحيط جسدها بين ذراعيه بـحنانٍ جارف وسط نظراتها المترددة واقترب بـشدة يأخذ قسطًا من الراحة بـقربها وينهل من نعيم وجودها جانبه ويروى شوق أيامه الماضية لها دون اعتراضٍ منها!! بل ارتفعت وتيرة أنفاسه عندما أحاطت عنقه بـكفيها الصغيرين وسقط حجابها لتتمرد خصلاتها الناعمة وتصدت بسمتها الخجولة شفتيه، ابتعد عنها على مضدّ وسحب شهيقًا طويل وزفره مع تنهيدة حارة من بين شفتيه مستندًا جسده على الفراش ومعتدلًا بجلسته جاذبًا رأسها تتوسط صدره بـأريحة شديدة مغمضًا عينيه بـراحة لم يألفها طيلة أيامه، طبع قبلة ممتنة وراضية بل ومُنتشية على خصلاتها التي تنفس سلامه النفسي بـقربها وعمس بـعشقٍ صادق:
_ عمري ما هجبرك على حاجه ولا أنتِ مضطره تيجي على نفسك عشاني، أنا عارف إنك خايفه ومتوتره بس صدقيني أنا راضي بقربك مهما كان شكله وهفضل صابر ولو العمر كله يا هبه، مستحيل في يوم هاجي عليكِ أو أجرحك!
أغمضت عينيها وراحة غريبة دبت بـسائر جسدها بعدما ظهر تصلب عضلاتها جليًا إليه وهذا ما دفعه للإبتعاد عنها يترك لها مساحة كافية، لفت ذراعيها بإحكام حول جسده تضمه إليها لتعبر عن امتنانها وحبها الخالص له هامسة بـحشرجة طفيفة:
_ مهما اتكلمت أو قولت عمري ما هعرف أوصفك يا ثائر، أنا محظوظه إنك بتحبني كل الحب دا، شكرًا لكل حاجه عملتها ولسه بتعملها عشاني، شكرًا لوجودك ودعمك ليا وثقتك فيا، شكرًا أووي
ربت بـحب على خصلاتها واغمض عينيه يستدعي النوم ولكن عينيه أبت النوم قبل مطالعتها والتصديق أنها بجواره فعادت لتبزخ من مقلتيه واردف بـعشق لن يقل يومًا بل سيتضاعف:
_ عاوزك بس تطمني! أنا جنبك ومهما حصل هفضل جانبك وفي ضهرك وهدعمك، اسمك بقا مربوط باسمي زي ما قلبك ربط قلبي بـحبه وروحك ضمتني، عاوزك جنبي يا هبه
حينها فرت دمعة وحيدة من عينيها شكرًا وامتنانًا لخالقها على تلك السعادة التي وهبها إياها دون حول ولا قوة منها، بقرب ذلك الرجل عرفت معنى القوة والصلابة والحنان بل والحب الذي يضعها به، دفنت وجهها بـصدره تخبر قلبها أن تلك الدقات التي تُنصت لها ما هي إلا نبضات من عشقت ومن أعاد إحياءك من جديد بـشخصية جديدة وبداية تستحق المحاربة....
************************
مضت الليلة سريعًا على الجميع وخصوصًا هي وهي تنتظر الغد على أحر من الجمر كـمظلومٍ ينتظر خبر براءته، سعادتها أمس لم تُضاهى وهي ترى رفيقتها تُزف على من تحب بـفرحة عارمة، تعوض الله أتٍ لا جدال فيه مهما طالت قسوة وغشاوة الأيام لن يحيل بينه وبين صاحبه حائل حقًا
تناولت تنهيدة من أعمق ما بداخلها من توتر وخرجت من المرحاض المُلحق بـغرفته التي تمكث بها معه حتى تنتهي جرعته لليوم، مسحت على وجهها بـراحة عندما وصلت إليها ملامحه المُسترخية التي أوضحت تجلي الراحة عليه، تحركت لتجلس جانبه وسحبت كفه لتطبع قبلة حانية عليه وفتحته على مهلٍ وحاوطت شِطر وجهها به بـضعف هامسة:
_ الدكتور طمني وقالي إن العلاج استجابته عالية، عارفه إنك بتعاني بس عشان خاطري حاول المرة دي كمان، المشوار طويل أوي ومش عاوزه أكون لواحدي من غيرك، لو العالم كله جنبي هفصل وحيدة بدونك، أنتَ غير الكل يا براء، متخذلنيش وخليك جنبي
عاودت تقبيل كفه ووضعته بحنان على الفراش مُتبعة رأسها خلفه تتونس به من غياب عينيه وغيابه عن الواقع بنومه المتقطع ولكن ما لم تحسبه هو همسه الخافت باسمها ورفرفت أهدابه الكثيفة التي تحوي عينيه الساحرتين، تيقظت أعصابها لـصوته المتعب فرفعت رأسها تطالعه بقلق واضح بدده هو بـبسمة مطمئنة وتربية خفيفة على رأسها وغمغم بـمرح زائف:
_ يعني الواحد وهو نايم مش رحماه من صوتك
ابتسمت رغمًا عنها لمرحه الذي يدعيه لمساعدتها على الخروج من حزنها ومن الواضح أنه استمع لحديثها معه، تنهدت بـمرارة وتمتمت بـعبث منصطنع:
_ عشان تفضل فاكر إني وارك وراك مهما روحت ولا جيت أنا قدرك ونصيبك
تمتم « براء» بـتهكم وسخرية:
_ عارف وهل يخفى القرد!
صححها تلقائيًا عندما رمقته بـنظرة غاضبة حانقة وتمتم:
_ هل يخفى القمر بردو يا روحي
هزت رأسها برضا وتفاخر ورفعت حاجبها بـكبرياء مغمغمة:
_ ايوا كدا رجاله متجيش غير بالسك...
برم « براء» شفتيه بـتهكم وطالعها بـتوجس:
_ وانتو حريم مفترية مبترحموش محدش بيعرف ياخد معاكوا حق ولا باطل
هزت « وردة» كتفيها ببراءة وأسبلت أهدابها بـلطف مزيف وهمست بدلال:
_ احنا!! دا احنا ملاااااااك....
تحدث مصححًا بـغيظ:
_ هلاااااااك.... هلاااك يا روحي خدي بالك من تسقيط الحروف دا عشان بيعمل أزمة الأيام دي
أشربت بـعنقها ناحيته وضيقت عينيها بتحفز شديد مردفة بتحذير:
_طب نام بقا بدل ما أقلب عليك وأعرفك الهلاك على أصوله
كتم « براء» ضحكته على مظهرها الغاضب وعينيها المحذرتين وعض شفتيه مردفًا:
_ أنا هالك فيك يا بطل يا حلو أنتَ
أين غضبها؟ وأين ضيقها؟ أكان هناك ما يغيظها منه؟ هذه هي الأنثى تنجرف خلف معذب قلبها عندما يتعلق الأمر بالمغازلة والدلال!! نكست رأسها بخجل بينما صدحت ضحكاته هو حتى أدمعت عيناه من تبدل حالتها الشرسة المدافعة لتلك الهادئة، أين لسانها الذي يتعدى طولها بمراحل!! ابتلع ضحكاته عندما ناظرته بـغيظ وهي تصك على أسنانها بعنف كلبؤة تنتظر نيل فريستها وهمست بـمدح وحب:
_ والله بحب أعصبك وأشوف تحويلك عشان بتبقي قمر وشبه الوردة في دلالها وغضبها
حسنًا سامحته بل وعفت عنه واقتربت مقبلة وجنتيه وسط بسمته واحتضانه لها بيده الواحدة وأغمضت عينيها مستندة على كفه مردفة بهمس ناعس:
_ نام شوي عشان ترتاح وتكمل الجرعة لسه اليوم طويل
ابتسم بحب عندما استمع لصوت انتظام انفاسها مع بقاء بسمتها الجميلة تزين وجهها النائم وتنفس براحة متذكرًا فرحتها عندما أخبرها بتغير الطبيب لموعد جرعته ليتثنى لهم حضور زفاف صديقتها « هبه» وهو في الحقيقة من طلب ذلك من الطبيب بل واصر عليه وحقًا يكفيه رؤية فرحتها بذلك وتهلل ملامحها التي أضاءت مع سماعها الخبر، تستحق كل السعادة والحب، القلب ضائع بلا وجهة عندما يتحيز الأمر لها يغلبه هيامه وعشقه لها فـيتحرك دون مناظرة أي عواقب أو نتائج
***********************
تحركت « أثير» بنعاس لغرفة الصغير « حمزه» النائم لتوقظه للذهاب للمدرسة وتعرف صعوبة تلك المهمة بل واستحالتها بعد تأخر نومهم أمس فبعد عودتهم من الزفاف ظل يلهو مع « رحمه» كثيرًا وعلى مضدّ تركها بعدما أوضحت رغبتها في النوم، اقتربت من فراشه وجلست جانبه مغمضة عينيها التي تحمل بقايا النعاس وهزته بـرفق هاتفة باسمه عدة مرات ولم يستجب لها بل لم يتحرك قيد أنملة وهو يجثو على معدته ينعم بنومٍ هادئ وهي هنا تترك فراشها لأجله كم هو ماكر هذا الصغير! عضت على شفتيه بـغيظ ونهضت تنوي جعل والدة يوقظه ولكن لفت انتباهها بلل وسادته أسفل رأسه فـانحنت تتفقدها باهتمام ولكن ما لم تتوقعه هو شحوب نلامح الصغير وغزارة عرقة الذي بلل وسادته وتناثر بوضوح على بقية أطرافه المخفية في الفراش!! وضعت يديها على جبهته تتفقد حرارته بـقلق وفزعت عندما استشعرت ارتفاع حرارته وهرولت للمرحاض تجهزه وعادت لـتحمله بين يديه بـحنانٍ واهتمام وهي تهمس باسمه بلوعة وقلق وبدأت عينيها بذرف العبرات عندما لم يستجب لمحاولاتها إفاقته وهمسها المترجي له!!
بعد فترة خرجت تسانده بعد عوته لوعيه بعد تحميمه بالماء البارد وإعطاؤه بعد مخفضات الحرارة لحين وصول الطبيب الذي هاتفته قبل دخولها للمرحاض، بـعقلٍ شارد دثرته بالفراش وقبلت جبينه وتحركت ناحية زوجها لتوقظه تزمنًا مع وصول الطبيب لفحصه...
_ مفيش داعي للقلق دا مجرد نزلة برد والمدام اتصرفت صح ولحقت الوضع، دي أدوية مخفضة للحرارة ولاحتقان الزور بإذن الله بعدها هيبقى بخير
ودع « راكان» الطبيب وعاد ليجلس جانب صغيره النائم ويطمئن زوجته الشاردة، ابتسمت « أثير» بتوتر له ونهضت متعللة بـالذهاب لجامعتها التي لم تطأها قدمها منذ اشهر فقدت عددها!!
طالعها « راكان» بريبة من ملامحها المقتضبة التي رسمتها تخفي خلفها توترها وما اقلقه هو احتقان وجهها بـحمرة قانية وهي تنظر للصغير وتتبدل نظراتها للحزن الخالص، لم يشأ اعتراض طريقها بعدما غفى «حمزه» واتطمأنت عليه!!
قبضت على حقيبتها بـعنف تعبث بها عن بعض القوة للعدو نحو ما ينتظرها وداخلها متزعزع كمن فقد طريقه، نظرت حولها بريبة من ذلك المكان الذي تخطوه للمرة الثانية بفضل تلك المرأة ابتي سلبت سعادتها ذات يوم وجعلتها بـدائرة خالصة من الحزن وها هي تترك أثر سُمها القاتل بين طيات حياتها من خلال الصغير الذي صدمها حقًا ما رأته به... هذا المكان كفيل بـسب اغواره القاسية بفؤادها النقي، المكان الذي يحاوط الجاني والمجني عليه ولا يعلم حقيقتهم سوى خالقهم فقط... إنه السجن ...
************************
سحبت « هبه» نفسها ببطء من بين ذراعيه وعينيها تلمع بـعشقٍ تتساءل هل سيقل يومًا؟ أم يتضاعف لـيغرقها به؟! توجهت للمطبخ بعد أداء فرضها وتغير ثيابها لـمنامة بيتية مُريحة قصيرة تصل لما بعد ركبتيها بـقليل وتركت لخصلاتها البنية العنان للتتمرد على طول ظهرها ووقفت تتمايل بدلالٍ وهي تدندن بعض الاغاني القديمة وتتحرك بـهمة ونشاط تنهي إعداد الفطور له بقلبٍ يثور بهجة وسعادة لا تسعه مطلقًا!!
_ صباح الجمال على اللي واخده العقل والبال
كان هذا صوته المتحشرج الناعس الذي صُب بـقوة بمضغتها التي دوت بها طبول المشاعر تُدق بلا هوادة أو توقف، التفتت له وبسمتها تعدو إليه وغمغمت بـرقة:
_ صباح الخير على اللي بوجوده طل الخير والسلام
ضحك « ثائر» باستمتاع لحديثها الذي أسعده كثيرًا واعتبره هدنة مقدمة منها تقدمها له وهو يدفن وجهه بـين خصلاتها الحريرية ويده تضم جسدها له سعيدًا بمبادرتها وتخليها عن تحفظها الزائد وهمس بـشجن:
_ والله السلام حل على أرضي بـاستعمارك ليه
مُهلك، فاتن، ساحر وخطير عليها من أين ينتقي كلماته التي يُعجز قلبها عن مجاراته والرد عليه فيكتفي بالخجل والتمتع بقربه وبغزله العاشق!! رفرفت بأهدابها عدة مرات في توتر وهمست:
_ هحضر الفطار على ما تصلي وتاخد دوش
مط شفتيه بتتحسر وتمتم بـعبث:
_ لا أنا عاوز افطر الأول
تخصرت أمامه غير مراعية تصلب جسده من فعلتها التي جسمت ثوبها ليحتضن جسدها أكثر تحت أنظاره الجائعة وكشف عن ما اخفاه من قدميها ببذخ وتمتم بـعند:
_ لا مفيش فطار ولا كلام قبل ما تصلي
حُبًا بالله يا إمرأة كفاكِ دلالًا على فؤادي الضعيف فما أنا إلا صريع عشقكِ المُحرم وتمردكِ الشاسع فـلطفًا!! هز رأسه ينفض أفكاره التي لو راته لأوقعتها فاقدة للوعي وهمس بالقرب مت اذنيها:
_ مش ذنبي أن نومك خفيف وفوتي الفجر ومفكرة الناس كلها زيك يا حلوتي
أخرسها بل واسكت هواجس عقلها وابتلعت كلمتها ونكست رأسها بخجل لم يسمح لها هو به ورفع ذقنها متشربًا قُرب طلتها منه وهمس بـنبرة متوحشة بالمشاعر:
_ براحه على قلبي عشان هو استوى بما فيه الكفاية
ابتسمت « هبه» بشجاعة وخطت تجاهه أكثر رافعة يديها تحاوط عنقه بـدلالٍ ورقة هامسة:
_ حد قاله يتعب كدا!
ضيق « ثائر» عينيه من مخزى الحديث وغاص ببحور عينيها يستنتج الإجابة بنفسه وما كان منه إلا أنا انحنى ليحملها بين يديها خارجًا مت المطبخ وسط ضحكاتها الخجلة وتوعده لها، وضعها على الفراش بعناية كـرضيعٍ يخشى عليها واقترب حد تقاسموا الأنفاس وتناسجت الأرواح وأبحر عشقهم لينهل من رحيق قربها المرضي له ويبحث بذاته عن عشقها الذي تخبره به عينيها، ضم جسدها بقوة له يرغب بـدفنها داخله لـيستحيل للعالم رؤيتها وهو يهمس لها بـمدى شوقه وحبه الجارف له وهي تُرحب بـبساطة بما يقدمه دون اعتراض!!
***************************
فُتح الباب أمامها لـتظهر مصب أوجاعها وبئر مخاوفها ومنبع قلقها!! تظهر بجسدها الضعيف ووجهها الشاحب وشفتيها الجافتين؛ تجر أقدامها من يدفع خيبته وحسرته للحاق به متقدمة منها تجالسها بـهدوء وكأنها تتوقع زياراتها بل وتدري سبب قدومها، تأهبت ملامح « أثير» للقادم والتفت تواجهها واشتعلت عينيها بـتحفز لقتلها بأية لحظة وصاحت بـغضب:
_ أنتِ السبب صح!!؟ اللي في جسمه دا بسببك!!!
ما كان من «ميار» سوى إماءة ضعيفة بالموافقة ونظرة نادمة بعدها أخرجت صوتها المتحشرج:
_ طمنيني عنه... هو بخير
أجابتها « أثير» بلا تردد بقسوة:
_ بخير عشان بعيد عنك، عشان ربنا رحمه منك ومن شرك وحقدك!!!
هزت « ميار» رأسها بتأكيد على حديثها الصحيح وشخصت عينيها بالفراغ تستذكر ما مر عليها من أيام قاست بها الهوان والذل وتقاسمت حسىرتها مع فلذة كبدها الوحيد وهمست بندم:
_ لما سافرت من هنا كنت مقررة مرجعش، فوقت وعرفت إني ضيعت شرفي وحياتي في حياة شخص عمري ما هكون ولا حتى هامش فيها، حبيت راكان واتمنيته بس حكمة ربنا كانت أكبر مني ومن شري، كنت مسافرة لوجهه معرفهاش ولا مكان محدد لقتني على بلد غريبة بعادات أغرب ومعتقدات أقسى ومع الأيام انجرفت وراها وبقيت من ضمنها واتعايشت معاها وبقيت من أم لطفل لا يتعدى عمره شهور لـعاهرة بتتنقل من سرير راجل للتاني بدون تفكير في نهايتها المهم توفر حياة لابنها!!!
رأت الاشمئزاز جليًا على ملامح مستمعتها فابتسمت بسخرية للقادم وأكملت:
_ اللي جاي هيخليكي تقرفي أكتر مني... مكنش هاممني غير أن ابني يبعد عن هنا وأوفر ليه حياة كويسه برا عشان متأكده إن راكان مش هيقبله لأنه مش أكتر من غلطه، نسيت حياتي هنا وبدأت بداية زبالة في عالم بشع ضريبة وجودي فيه هو جسمي، ومرت الأيام والسنين وحمزه كان مع مربيه جبتها ليه لما كمل 8 سنين، كانت لطيفه، جميلة، محترمه، حنينه وكل دا كان في الأول واتحول الطفل اللي مكنش بيبطل ضحك لواحد تاني ساكت، خايف، قلقان، علطول نايم، رافض يشوفني اتحول لاداة متعة لواحده مريضة!!
تجلت الصدمة على ملامح « أثير» وفرغ فاهها عندما تابعت الأخرى:
_ كانت مريضة ومتعتها الاطفال الصغيرة اللي تقدر تسيطر عليهم وتسمع منهم اللي هي عوزاه وبعد ما لقيت ابني بيضيع مني سألتها سبب تغيره وأنكرت واتهربت مكنش قدامي غير إني ادور وراها لحد ما عرفت إن حمزه مش أول ضحية ليها بالعكس دا أول ضحية تطلع من تحت إيديها فيها الروح!!! وقتها شوفت جسمه!! كله جروح وندبات قديمه وضرب قديم ملحقش يخف وجديد لسه بيرسم المه وهو!! هو خايف والهلع معنى اللي شوفته عليه
تعلثمت حروفها وطغت مرارة ما رأت عليها وأكملت بعدما توالت دموعها:
_ دمرته بإيدي.... شوفته بيبكي من الوجع بعد ماهي مشيت وقتها عرفت مدى حقارتي ووساختي....شوفت كرهه ليا في عيونه.... هو ضحية زي ما أنا كنت.....
أوقفتها « أثير» عن الاستمرار وتبرئة نفسها ونهضت بـغضب عارم تدفعها بعنف بعدما فقدت صبرها:
_ ضحية!!! أنتِ ضحية!!! حرمتي ابن من ابوه وحطمتيه وتقولي ضحية!!! كسرتيه في الوقت اللي مفروض يشوف حلاوة الدنيا وتقولي ضحية!!! أنتِ واحدة أنانية مريضة زيك زيها، أنا مش قادرة أوصفك ولا حتى ادعي عليكي، أنا بكرهك بحجم كل وجع هو شافه وكل صرخه خرجت منه، أنتِ شيطان ملوش ملة ولا دين.... ربنا ينتقم منك
_ أثير أنا عندي الإيدز
تصلبت قدمي « أثير» عن الحراك وهزت رأسها ترفض تصديقها ولكنها أكملت بـحسرة وحرقة:
_ ربنا بياخد حقه... مفيش كلام يبرر اللي ابني شافه بسببي بس وحياة راكان عندك متخلهوش يكرهني!! خليه لما يفتكرني يدعيلي ويضحك!!! قوليوا إني كنت بحبه وعملت كدا عشانه وصدقت شيطاني.... قوليلوا ماما بتحبك يا حمزه وسامحها وراكان ملوش ذنب في أي حاجه، خليه لما يفتكرني يدعيلي مش يكره حتى يشوف صورتي
لم يسعفها قلبها للمزيد فهرولت للخارج تلعن تسرعها الذي ات بها لهنا ولكن عندما رأت جسد الصغير الملئ بالندبات والجروح التي لم تطيب بعد طاف عقلها حول تلك المرأة لمعرفة الحقيقة الكاملة وليتها لم تأتِ بل ليتها لم ترى لتسمع وتري بشاعة ذلك العالم وقسوته على طفلٍ لم يتجاوز العاشرة بعد ويلقى كل ذلك العناء والحجود من قلوب البشر بل بالاصح منزوعين القلوب، هل كان العالم من البداية بكلذلك الجفاء والكره أم أن البشر هم من صنعوا منه ما عليه الآن!! أكانت بداية الخليقة بكل ذلك الألم والبشاعة أم أن الانسان بـفطرته الجاحدة والبغيضة هو من بدلها!!!
****************************
اسبوعين من النعيم كانا حياتهما تسبح به، لا مكان للحزن بعد الآن طالما هم جنبًا إلى جنب، جلست « هبه» بشرفة غرفتهم والتي كانت غرفتها بالسابق تنظر للطريق من أسفل وتطالع المارة وعلى وجهها بسمة عاشقة تستذكر لحظاتهم السعيدة وكم غلفها بعشقه ورفضه القاطع للابتعاد عنها حتى نزوله للعمل من أمس كان يرفضه ويصر على البقاء باحضانها، ضحكت بخجل وأخفت وجهها بين كفيها ودلفت للداخل تنوي تنفيذ ما وجهها عقلها له ولا سبيل للتوقف أو الابتعاد عن ذلك الأمر قبل انهاؤه، ربما تكون على خطأ ولكن يجب عليها بدأ حياة جديدة بعيدة عن قواقع الماضِ الأليم، انتهت من ارتداء ثيابها وخرجت من البيت بترقب وقلق وتحاول بث الطمأنينة داخله بانها لن تتأخر ستعود سريعًا قبل رجوعه من العمل ولن يكتشف الأمر، لقد عرفت مُسبقًا أنه هنا وهذا جزاؤه وقدره مت البداية ولن تستمع لقلبها وتشفق على رجلٍ مثله!! تحركت قدميها للداخل تنظر بوجوه العابرين والجالسين منهم من كسى الحزن قلبه ليظهر على محياه ومتهم من بلغت جرائمه حدًا يكفي لحرق العالم!! منهم من فقد نفسه والنهاية بين قضبانٍ حديدية تمنعه عن رؤية الشمس والدفء أسفل اشعتها ومنهم من تغلب على هواه ولكن لم يجابه ظلم البشر وأُلقى مظلومًا بين ظلمات السجن!!!!
تابعت تقدمه منها بفتور وقسوة حتى جلس على بُعدٍ مناسب وتمتم:
_ جايه تشمتي؟ ولا تواسي
أجابته بقوة:
_ الاتنين واحدة لناس بنحبهم والتانية لناس بنكرههم وأنتَ ملكش مكانه اصلاً عشان أحس نحيتك بأي واحدة منهم
ابصرها بـقوة وتمتم:
_ اومال إيه جابك يا هبه السجن لراجل دمرك على حد نظراتك!
لعين، حقير، مريض، وحاقد يعترف بتدميره لها بل ويتفاخر بما اقترفه بحقها!! جحدته بقرف وتمتمت:
_ ليه؟! ليه عملت كل دا رغم إنك محبتنيش؟! ليه دمرتني بالشكل دا؟! ليييه
ابتسم بوحشية وصاح بتحفز:
_ عشان كنتي معايا واللي معايا ميروحش لغيري غير بموتي، انا سبتك شهور طول ماكنتِ لواحدك بس أول ما قرب منك شوفتي بنفسك، اللي معايا دا حقي ومبسبش حقي حتى لو زهدته وهدفعك التمن غالي أنتِ وهو مش السجن اللي هيمنعني عنك أو عنه
تحكمت بأعصابها بصعوبة وادعت القوة مردفة:
_ بس أنا بقيت معاه! وأنت هنا بفضله!! وبسبب وساختك!!! عرفت قيمتك فين!!! شوفت رحمة ربنا بيا!!! شوفت انتقامه ليا!! رينا هيمنعك هو أكبر من جبروتك ومرضك وغلك
هز « فاضل» كتفه وتمتم ببساطة:
_ مش مهم دلوقت المهم إن صورتك قدامه هتفضل مكسورة طول العمر حتى لو كدب عليكي بعكس كدا؟! بقيتي كسر بالنسبة ليه!!
لو أخبرها قبل زواجها بل وقبل ذلك لوافقته وأيدته لكن الآن!! ابتسمت بـزهو وصاحت ب،ثقة:
_ دا بيعمله الناقصين المرضى اللي زيك!! اللي ملهومش لا غالي ولا عندهم ضمير ولا يعرفوا إن في حاجه اسمها نضافة وسماحة نفس!! بيعمل كدا اللي عاشوا طول حياتهم يستمدوا سعادتهم الكدابة من وجع وكسر الغير، عارف أنتَ عمرك ما هتتغير ولا قلبك هينضف هتفضل طول عمرك وسخ!!! حقارتك عدت الحدود وجبروتك بس رحمة ربنا قريبة بيا وعدله هيجي وصدقني هتتمنى لحظة لو الزمن يرجع بيك تاني
لم يبدو عليه الانصات او الفهم او ربما التأثر بما قالته بل كان يعبث بثيابه وبعدما انتهت عقد ذراعيه أمام صدره وتمتم:
_ هو أنتِ لسه عندك طولة بال للمحاضرات دي؟! يعني مزهقتيش؟! وبالنسبة للدكر بتاعك عارف إنك جاية تقابلي طليقك في السجن ولا....
قاطعته بصفعة بثت بها حقها وشياطينها التي تحوم حولها وأودعت غضبها وما ذرفته بسببه وللعجيب لم يبدو عليها الخوف او التردد من قسوة ملامحه وغصبه الذي استعره بل تحركت مبتعدة عنه واردفت بثقه:
_ جوزي دا راجل واللي زيك أخرهم يبصوا ليه من بعيد ويتحسروا على الرجولة اللي مش عندهم، نهايتك قربت وافتكر كلامي مهما بلغ حجود القلب بيكون نذير للنهاية
غادرت وتركته خلفها غير مبالي بما قالت ولكن غضبه يتفاقم بسبب صفعتها له وحديثها عن زوجها بكل تلك الثقة والقوى التي لم يراها به من قبل بينما خرجت هي تتنفس الهواء النقي تاركة خلفها الماضِ بكل أوجاعه وظُلمته متعهدة ببداية لا مثيل لها لحياتها معه ولن يعكر صفو حياتهم أي شئ!! وولكن ما ينتظرها سيكون أكبر من أن تتوقعه فهي تصرفت كما أملاها عقلها ولم تحسب عواقب ذلك معه!!
***********************"*""
وصلت « أثير» البيت بعد وقتٍ طويل من السير الشارد ودلفت مباشرة لـغرفة « حمزه» تتفقده وقبلته بعدما اطمأنت عنه وخرجت، سارت نحو غرفتها ترغب بالنوم قليلًا ليتوقف عقلها عن التفكير بكل ما استمعت له وخلق الاعذار لـ «ميار»!!! دلفت للغرفة وتوجهت للخزانة تخرج ملابسها ولكنها شهقت بـصدمة وعنف عندما وجدت « راكان» يجلس على المقعد المجاور للخزانة ينتظرها وملامحه لا تُفسر، تجاهلت وجوده مجبرة بسبب تعبها وتوجهت للمرحاض وبعد فترة خرجت نحو الفراش ولكن قبضته منعتها وهتف بها بقلق:
_ كنتِ فين ومالك تعبانه كدا لي
هزت رأسها نافية وفكت قبضته مربتة على كفه وهمست بـضعف:
_ كنت في الجامعه، مفيش مرهقة شوية بس هنام وهبقى تمام
يعلم أنها تكذب وكان ينوي مجاراتها ولكن تعبها ما دفع غضبه لينال منها ويصيح بحدة:
_ متكدبيش أنتِ مروحتيش الجامعه.. كنتي فين يا أثير
لن تخبره مهما فعل وهذا قرارها ولن تخبر أحد بل ستدفن ذلك السر باعمق روحها وتمضي نحو تطهير الصغير من دَنس والدته وتترك له الجزء الجيد عنها بذاكرته فقط!!
رفعت أنظارها له لترى غضبه ينهش ملامحه والقلق يتطاير من قزحيتيه وتمتمت بـوهن:
_ كنت عند وردة روحنا للدكتور عشان جوزها تعبان وهي معادها مع دكتور النسا النهاردة ومعرفتش اسيبها لواحدها
لم يبدو عليه الإقناع ولكنه أمام تعبها وافق على حديثها فتابعت هي تستغل الوضع مكملة بإرهاق:
_ معلش يا راكان أنا تعبانه شوي ممكن أنام ولما نقوم نتكلم؟!
هز رأسه موافقًا وتركها وغادر بينما هي بقت تنظر في أثره وتفكر في كذبتها التي اختلقتها لتنجو من ذلك البئر الذي وضعت ذاتها به ولا نجاة منه وسيظل ذلك السر يؤرق نومها كثيرًا تعلم، دمعت عينيها تأثرًا بحالة صغيرها وهرولت لغرفته تحتمي به من أفكارها القلقة عليها واحتضنت جسده النائم بين ذراعيها وعقلها يؤكد لها عدم تصديق زوجها لها ولكنها على أية حال استسلمت للنوم
***************************
وصلت « هبه» للبيت وما صدمها حقًا هو تواجد « ثائر» بانتظارها وأعصابها المقتضبة بل وملامحه الجامدة تخبرها أن القادم ليس بجيد، تقدمت من جلسته تسأله بـتوتر:
_ وصلت امتى يا حبيبي؟
أبصرها « ثائر» بـجمود وتمتم بـبرود:
_ من شوي
تعجبت من برودة رده فتابعت بـمرح:
_ هغير وأحضرلك الغدا
رد عليها بـاقتضاب:
_ مليش نفس
ابتلعت لعابها من هول ما وصلت إليه أفكارها أن يكون له معرفة بذهابها لذلك المكان ولكنها تغاضت عن ذلك ووضعت ككفيها على كتفه بـحب وهي تدنو منه هامسة بمرح:
_ ليه بس يا حبيبي دا أنا حتى عملالك كل الأكل اللي بتحبه
نفض يدها عنه وكأنه يشمئز منها وابتعد متوجهًا لغرفته متمتمًا بغموض:
_ ويا ترى لحقتي تعمليه امتى قبل ما تروحي مشوارك!
زاغت أنظارها عنه وارتفع توترها من غموض كلماته التي تبطن معرفته وابتلعت لعابها الخائف متسائلة بـتوجس:
_ مشوار أيه أنا كنت في مدرسة رحمه عشان اجتماع أولياء الأمور
ضحك بشدة حتى أدمعت عيناه على كذبتها المكشوفة فهي لا تعلم أن « رحمه» أخبرته قبلها وأخبرها أنه سيذهب ولا تقلق وبالفعل ذهب ولكنها لم تكن متواجدة بل ويعرف أين كانت ولكن ما يؤلمه هو لما!! لما فعلت به هذا!! مهما كانت رغبتها تلك المرة لن يسامحها على فعلتها التي طعنته لها، لن ينساق خلف قلبه وينصت له وينسى فعلتها!! هي المته كثيرًا وهو لم يجرؤ على فعلها ولو لمرة لكن هنيئًا لها تلك المرة فـفؤاده أعلن عصيانه وغضبه منها.....