رواية في قبضة الشيخ عثمان الفصل الثاني 2 بقلم سمية رشاد
الفصل الثاني
(في قبضة الشيخ عثمان)
استمعت "مارية" إلى صيحات والدها الناطقة باسمها، ارتسمت الابتسامة على ثغرها بمجرد قدومه، فعلى الرغم مما يفعله معها إلا أنها لا تقدر إلا على الشعور بالسعادة والراحة كلما قدم، فقسوة والدها عليهما هي وشقيقها في كثير من الأحيان لا ينفيان كونه يحنو عليهما في أحيان أخرى بل ولا يترك لهما مطلبًا في شيء يريدانه إلا وجلب لهما ما يريدون، فقط لو يتوقف عن تلك القسوة التي تخص أحكام الدين التي يقول شقيقها أنه يغالي فيها سيكون أبٌ رائع.
خرجت إلى أبيها لتهرول إليه تقبل يداه كلما دلف إلى البيت فابتسم إليها وربت على ظهرها بحنو وهو ينحني ليجلس على المقعد القديم فجلست بجواره وهي تسأله برفق يليق بملامح وجهها الهادئة
- أتريد شيئًا آتي لك به يا أبي
هزَّ رأسه بنفي ثم شرع في قول ما دعاها لأجله
- بلى، أريد أن أخبرك أن هناك من تقدم لخطبتك وأنا أراه أكثر من مناسب بالنسبة لنا، بل هذا من كنت أتمنى أن تقترني بمن مثله وها هي أمنيتي قد حققها الله لي.
ارتعشت شفتيها بخوف تملك من أوصالها رغمًا عنها بينما لسانها قد عجز عن الرد فوجدت شقيقها يخرج من إحدى الغرف سائلًا بترقب لا ينفك عن تلك النظرة الساخرة التي بات يرمق والدهما بها
- ومن ذاك سعيد الحظ وشريف النسب الذي تتحدث عنه يا أبى
لتجد والدها ينظر إليه بضيق شديد قبل أن تتبدل نظرته إلى الفخر الشديد
- عبدالعزيز بن الشيخ علي
لتجد حدقتي شقيقها توسعتا على آخرهما قبل أن يسأله بصدمة كبرى
- من؟ أتريد أن تزوج شقيقتي لذاك الذي يتزوج القاصرات ثم نستمع لخبر وفاتهن بعد عدة أيام؟! على چثتي أن أتركك لترمي بشقيقتي بين أنياب الهلاك.
انتفضت بفزع على كلمات شقيقها وهي لا تعلم من ذاك عبدالعزيز الذي يتحدثون عنه لتجد أبيها ينهر شقيقها مدافعًا عن الآخر
-وما الخطأ الذي ارتكبه؟! الرجل يتزوج على سنة الله ورسوله، ثم ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم متزوجًا بمن هي بمثل عمرهن إذًا لم يخطيء بل اقتدى بالرسول صلى الله عليه وسلم
اكفهر وجه محمد من كلمات أبيه قبل أن يجيبه بصوتٍ هاديء على عكس مراجل الغضب التي تتعارك بداخله
- النبي لم يدخل بالسيدة عائشة سوى بعدما بلغت وشابت حسنا فباتت تطيق النكاح دون ضرر على صحتها، النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل حينها إلا ما كان شائعًا في قومه، أخبرني أبي! كيف بالله عليك لم ينتقد أحد من كفار قريش النبي صلى الله عليه وسلم لزواجه من عائشة رغم صغرها على الرغم من أنهم كانوا يتصيدون له الأخطاء؟ أتعلم لماذا؟ لأن هذا الأمر كان طبيعيًا حينها بل قيل في روايات بعض العلماء أنها كانت مخطوبة قبل النبي صلى الله عليه وسلم لمطعم بن عدي، ثم عصرنا هذا ليس كعهد النبي صلى الله عليه فقد كان في شبه الجزيرة العربية الزواج للصغيرات طبيعيًا بسبب درجة الحرارة التي كانت تفرض على بدنهن فرضًا أن ينضج قبل أوانه فلم يكن يضرهن الزواج حينها أما الآن فالفتيات التي يأتي بهن عبدالعزيز من يراهن يظنهن أطفال في السابعة من عمرهن ثم يا أبي ألم تستمع للأحاديث المنتشرة عنه وعن أبيه بأنه يكفِّر كل من ارتكب معصية؟ فكيف بالله عليك أن تزج بشقيقتي في زيجة كهذه بل وتفخر بها هكذا؟!
نهض أبيه واقفًا ثم طرق بعصاه أرضًا ليقول بقوة
- ليس لك دخل في هذا الأمر، فهذه ابنتي ولن تخافها أكثر مني ثم ألم يبقَ سوى العيال ليتحدثون عن زينة الرجال... اذهب من وجهي يا قليل الحياء ولا تقف تناحر أمام وجهي هكذا مرة ثانية وإلا أعدت تربيتك من جديد.
شعر محمد بالضيق من كلمات والده المقللة من شأنه
- أخبرتك وسأعيدها على مسامعك ثانية يا أبي لن تتزوج مارية من هذا إلا على چثتي، شقيقتي لن تخرج من هذا البيت إلا لرجلٍ سويّ لا تشوبه شائبة.
- فلنرى كلمة من ستنفذ يا صغير
قالها أبيه بتحدي وابتسامة أثارت استفزازه فارتسمت على شفتيه هو الآخر ابتسامة عريضة قبل أن يقول بغموض
- لنرى يا أبي.
بعدما انصرف الاثنان نظرت مارية إلى أثرهن بخوفٍ شديد وجميع ثناياها ترتجف وخاصة بعدما استمعت كلمات أخيها المنتشرة عن ذاك الذي يبغيه أبيها له، تخشى أن يكون شقيقها صادقًا هذه المرة فتقع هي في بئر أوهام أبيها غارقة دون القدرة على الخروج منه سوى جثة هامدة.
ارتفعت ضحكات عثمان أثناء جلوسه مع الخالة " عايدة" تلك التي يستأجرها أسبوعيًا لتقوم بتنظيف البيت له ولأبيه، فهو إن كان يرتب أسرَّتهم ويزيل الغبار من على الأرضية كل ليلة إلا أن هذا لا يكفي فبيتهم حتمًا يحتاج لامرأة كي يظل في بهائه الذي عليه دائمًا وحقًا لم تقصر الخالة عايدة في ذلك، فهي دائمًا ما تقوم بوظيفتها على أكمل وجه بل أحيانًا ما تشفق عليهم وتقوم بطهي عدة أنواع من الأطعمة لهم وتضعها في براد البيت كي يقوم بتسخينها.
نظرت المرأة إليه بضيق مصطنع وهي تزجره بعتاب
- غضبت عليك يا عثمان.. أتسخر من كلامي وأنا التي جئت إليك بزينة بنات البلدة لتتزوج بها.
اتسعت ابتسامته وهو يحاول كبح ضحكاته كي لا يغضبها حقًا ثم أجابها بمرح
- وما الجديد يا خاله.. فأنت بكل أسبوع حتى لو انتهيتِ قبل قدومي تنتظرينني لتطلعيني في اليوم الواحد على العشرون من بنات البلدة لأتقدم لخطبتهن.. أصدقيني القول هل قام أحدهم بشكوتي لك كي ترغبين في زواجي بهذه الطريقة الملحة؟!
شهقت المرة بصدمة مصطنعة ثم نهضت واقفة بضيق ككل مرة وهي تهتف أثناء مغادرتها
- أنا المخطئة ولن أحدثك ثانية أتشكك بذمتي... لماذا كل هذا لأني أريد أن أطمئن عليك لكوني أشعر بك كأبنائي، لن أحادثك ثانية يا عثمان أبدا لن أفعل.
أومأ إليها بإيجاب وهو يعلم أنها لن تفعل ما تقول ليجدها في أقل من الدقيقة تعود إليه مرة ثانية لتسأله بلهفة
- حسنا تذكرت.. أخبرني ما رأيك في ابنة الشيخ مسعود؟ هذه الفتاة نعم الفتيات بل لم يرها أغلب أبناء القرية، أنا بذاتي لم أرها سوى مرة واحدة حينما كانت مريضة ودعاني والدها لتنظيف بيتهم، أقسم لك الفتاة كالبدر في مظهرها فقط والدها صعب المراس ولكن لا ضير من هذا الأمر فالفتاة هي ما تهمنا على كل حال
هز رأسه عدة مرات وهو يتمتم
- لا فائدة منكِ لا فائدة.. اذهبِي يا خالة فأبناؤك بحاجتك في هذا الوقت
استغفرت بسرها قبل أن ترمقه بضيق وتهمس أثناء ذهابها بتحسر
- ابق هكذا حتى تشيب وتضيع من سنون عمرك وحيدًا دون زوجة وأبناء.. والله الفتاة أخشى أن تضيع من بين يداك هي كالقمر يا عثمان كالقمر.
نظر في أثرها مبتسمًا بصبر على هذه المرأة التي تتناسى منصبه دائمًا وتزجره كأنه طفل صغير غير مدركة لشخصية ذاك الذي تنهره بيسر وهو من يقدر على قلب قريتها رأسًا على عقب
شرد عقله في الاسم الذي استمع إليه منها منذ قليل، ذاك الرجل مسعود الذي قدم إليه ولده محمد منذ عدة أيام ليقف أمامه متردد وهو يخبره أنه يريده في شيء ما ثم غادر معتذرا مخبرًا إياه بأنه سيأتي إليه بمرة ثانية ليظل الشاب يشغل تفكيره عدة ساعات قبل أن يترك الأمر ويقنع عقله بأنه إن احتاج إليه فلن يردعه رادع فجميع أبناء القرية يعلمون أنه لا يترك ضعيفًا إلا آزره.
بعد مرور عدة أيام
استمعت مارية إلى شجار عنيف بين شقيقها ووالدها حتى أنها استمعت إلى صوت لطمة قوية تتمنى لو أنها أخطأت في فهمها لها إلا أنها بعدما خرجت مهرولة إلى الخارج صُدمت بوجه شقيقها شديد الحمار وغصب والدها البادي على وجهه وهو يطرد شقيقها خارجا ناعتًا إياه بالفاسق ليصدع صوت محمد الذي زعق عاليًا قبل أن يأخذ الباب بقوة خلفه
- لن يأتي أحد ليتزوج بشقيقتي بعد أسبوع كما تقول شقيقتي لن تتزوج بهذا الذي تتغنى بحسنه وهو أبعد ما يكون عن الحسن لن أرمي من بمثابة أمي كي أرضيك، والله لن أفعل حتى لو قتلتني، وسأفعل كل ما بوسعي كي أنقذ شقيقتي من بين يديه حتى ولو اقتضى بي الأمر لأفتعل له فضيحة أمام أهله وزوجته يا من تريد تزويجها لمن يبتغيها زوجة ثانية.
نظرت مارية إلى أبيها بعتاب دون أن تنطق بحرف فزعق بها بغضب شديد
- اغربي عن وجهي أنتِ الأخرى وإلا أشبعتك ما لم أتمكن من فعله له .
التفتت بخيبة متجهة إلى غرفتها ودموعها تجد سبيلها فوق وجنتيها لتنتحب بتيهٍ وقلة حيلة وعقلها لا يتوقف عن التفكير بينما قلبها لا يقدر سوى على امتطاء الخوف والتشبث برقبته.
توجه محمد إلى من قرر اللجوء إليه إذا تعثر عليه الأمر وها هو يقف أمام البيت الذي اتخذه عثمان مأوى لكل أبناء قريته، نظر الخفير الذي كان يقف أمام البيت لمحمد بتساؤل فلم يتركه محمد لفضوله وهو يسأله بصوت مازال الغضب مسيطرًا عليه
- أشيخنا بالداخل؟
طالعه الرجل بتردد من حالته تلك قبل أن يجيبه بتلك الإجابة التي أقرها عليه عثمان لكل من يلجأ إليه
- بالطبع هو بالداخل وإن لم يكن فبإمكانك الذهاب إلى بيته
هز محمد رأسه إليه بإيجاب قبل أن يخبره بنبرة هادئة قليلًا عن سابقتها
- حسنًا، أخبره بأني أريد مساعدته في أمر ما
أومأ الخفير رأسه إليه قبل أن يشير إليه برأسه ليتبعه فانصاع محمد له ولم تمض ثوانٍ إلا وبات واقفًا أمام عثمان الذي كان جالسًا على مقعده بهيبة ووقار يليقان به وكأنها خلفا ليتشح بهما.
نظر عثمان بتمعن إلى ذاك الشاب الذي أثار فضوله للمرة الثانية ثم سأله بصوت يبعث الطمأنينة في النفوس
- أفضِ إليّ بما يؤرق فؤادك يا فتى
نظر محمد إلى أثر الخفير الذي ترك مجلسهما بعدما استمع لصوت عثمان ثم التفت إليه مرة أخرى ليقول برجاء حاول إخفاؤه
- عدني أولًا بأنك لن تخذلني إن وجدت الحق يتسرب من بين كلماتي.
ابتسم عثمان على كلماته التي أعجبته قبل أن يجيبه بقوة
- أعدك
ليردف محمد بعدما زفر براحة
- أريدك أن تعلم أولاً أني لم آتِ لشكوة من يعز عليّ شكوته إلا لجوره على من هو أعز منه.
أوما إليه عثمان بصمت ليفسح له المحال في متابعة حديثه فتابع محمد بتساؤل
- ما رأيك في عبدالعزيز بن الشيخ علي إن تقدم لخطبة شقيقتك
أجابه عثمان بثبات دون أن يبدي أي تعابير على وجهه
- إن كنت تسأل لمجرد الحديث عنه لنغتابه فلن تجد ما تبحث عنه عندي ولتعود حيثما جئت.. أما إن جئت تأخذ رأيي في شاب تقدم لخطبة كريمتكم فلن أبخل عليك برأيي
تطلع إليه محمد قليلا بإعجاب قبل أن يجيبه
- بل جئت لقولك الثاني فأنا لست فاسقًا لأدور في البلدة أتحدث عن أولادها دون سبب.
أومأ إليه عثمان بهدوء ليجيبه
- كلمة حق أنا لا أرتضيه لأي من فتيات القرية وليس شقيقتي فقط وأظنك تعرف برأيي قبل قدومك فهو بالكاد خرج من عقوبته التي كنت قد فرضتها عليه بعد زواجه الأخير والجميع يعلم بذلك، فأخبرني ما السبب الرئيسي الذي جئت إلي من أجله
تنهد محمد بقوة قبل أن يجيبه
- لقد أصبت القول، ذاك شبيه الرجال يريد الزواج من شقيقتي بل ووالدي وافق على هذا الأمر وحكم بالزواج بعد أسبوع وأنا أخشى على شقيقتي منه ولا اقوى على منع أبي.
تنهد عثمان بقوة قبل أن يجيبه بهدوء
- إن كانت شقيقتك موافقة فمن أنا لأمنع الأمر
هز محمد رأسه عدة مرات بالنفي قبل أن يجيبه
- شقيقتي لا تقول لوالدي سوى سمعًا وطاعة.. هي لا دراية لها بأحوال الناس أتصدقني إن أخبرتك أنها لم تطأ الشارع منذ عدة سنوات بسبب اعتقادها أن خروج النساء يعد حرامًا وأبي من أقنعها بذلك، يصعب عليّ أن أخبرك بهذا الأمر ولكن والدي يحرم الكثير من الأمور التي أحلها الله لنا ويقنع شقيقتي بذلك وهي توافقه لعدم اختلاطها بأحد سوانا وبالطبع لن تصدقني وتطعن في كلام أبي.
- لا حول ولا قوة إلى بالله.. حسنًا بإمكاننا استدعاء والدك وشقيقتك اليوم وتوضيح الأمر لها ولأبيك أيضًا ونخبرها بأخلاق عبدالعزيز التي لا تتوافق بمن وصانا النبي من الزواج منه ثم ندع القرار لها.
أومأ إليه محمد مقتنعًا بكلامه ولكن هناك ما أشعره بالخوف من موقف شقيقته السلبية حيال قرارات أبيها فهو لا يثق برفض شقيقته حتى وإن علمت بأخلاق الآخر مادام والدها موافقًا وإن كانت موافقتها عكس رغبتها الداخلية وسرعان ما انتفض قائلا
- وكيف ستأتي شقيقتي إلى هنا وتخبرها بالأمر فأبي لا يقبل بخروجها من البيت حتى إن أمرته فسيقدم لك الكثير من الحجج ويرفض أمر قدومها إلى هنا
- إذا سآتي إليكم قبل الغروب ولتستمع إليّ حتى إن كان سماعها لي من وراء حجاب.
أومأ محمد موافقًا قبل أن يقول
- حسنا بانتظارك أمام البيت بعد صلاة العصر
أومأ إليه عثمان مبتسمًا ليخرج محمد راضيًا بحديثهمًا معًا بينما نظر عثمان إلى أثره قبل أن يهمس بمرح
- طارت عروس الخالة عايدة
في تمام الخامسة عصرًا
كان محمد يجلس بمكان قريب من بيتهم حيث تتبين له رؤية القادم إليه فهو لا يقدر على الدخول خوفًا من صياح أبيه وطرده مرة ثانية وأيضًا لا يقوى على عدم الحضور عندما يأتي الشيخ عثمان، انتفض واقفًا حينما وجده يقترب من بيتهم بعبائته البيضاء تلك وعمامته التي لا يستغنَ عنها مهما حدث، فاقترب مهرولًا ليستقبله أمام البيت قبل أن يطرق بابه، ابتسم عثمان بوجهه قبل أن يسأله عن أبيه فأخبره أنه بالداخل ثم طرقه عدة مرات حتى استمع إلى صوت والده
توتر قليلًا خشية من أن يزجره أبيه أمام الشيخ عثمان وبالفعل هذا ما كان سيحدث إلا أن رؤية والده لعثمان جعلت الكلمات تتوقف في حلقه من فرط صدمته
- السلام عليكم يا شيخ مسعود
تنحنح قليلًا قبل أن يسيطر على صدمته ليجيب بسعادة ممزوجة برهبة من هذا الرجل الذي لا يعلم سبب قدومه
- أحقًا ما أرى أمامي! الشيخ عثمان يأتي لزيارتي أنا تفضل يا شيخنا تفضل
قال كلماته الأخيرة مهللًا وهو يفسح له المجال للدخول
جلس عثمان بصمت على المقعد الذي أشار عليه مسعود ليجلس بجوارهم محمد الذي تجاهله والده تجاهلًا تامًا فقاطع عثمان صمتهم قائلًا
- لعلك تتساءل يا أبا محمد عن سبب قدومي
لا يعلم مسعود بماذا يجيبه وخاصة بأن أمر زياراته لبيوت القرية نادرًا الحدوث فأجابه بهدوء
- أمر زيارتكم شيء مشرف للغاية ولكن كما قلت يراودني الفضول لمعرفة سبب زيارتكم الكريمة وأتمنى أن يكون خير
صمت عثمان قليلًا ليبدأ حديثه قائلًا بقوة
- أخبرني ولدكم بأنك عازمًا على زواج كريمتكم لعبد العزيز بن الشيخ علي وأرادني أن أخبرك برأيي في هذا الأمر وبالطبع أنت أعلم برأيي فيه بل وبرأي أبناء القرية جميعهم به وعلى الرغم من ذلك وافقت، فبناء على طلب محمد أنا أطلب من ابنتك الحضور لتوضيح الأمر لها بصفتي ولي أمر القرية بما فيها ابنتك.
- وكيف تريد لابنتي أن تحضر مجلس الرجال أترضاها لشقيقتك يا شيخ عثمان.
فأجابه عثمان بتروي
- وإن كنت لا أرى بجلوسها بكامل سترها عيبًا فزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بكامل ثيابهن دون أن يمنعهم النبي من ذلك ولن تكون أحرص من رسول الله على أمور الدين إلا أنني سأراعي غيرتك وأطلب منك أن تجعل ابنتك تستمع كلماتي وهي تجلس بأي مكان بالبيت وليس بالأمر الهام أن تظهر أمامي.
لو كان هذا الذي يجلس أمامه رجلًا آخر لم يكن مسعود ليستمع إليه كما الآن إلا أن الرجل الذي يجلس أمامه ليس أي رجل، فهذا أكثر شخص يقدره مسعود وكيف لا وهو من كان سببًا في دخوله للدين الإسلامي بعدما كان متشحًا بثوب ديانة أخرى
نظر إليه مسعود مترددًا قبل أن يقول لمحمد بغيظ وضيق
- اجعل شقيقتك تجلس في الغرفة الخارجية لتستمتع إلى حديثنا يا محمد
نهض محمد متجهًا إلى الداخل دون أن ينطق بشيء وسرعان ما عاد إليهم مرة أخرى ليخبرهم أن ما أرادوه قد تم ليصدح صوت عثمان عاليا وهو يتحدث بسلالة
- أردت أن أخبرك يا شيخ مسعود أن هذا عبدالعزيز الذي جاء ولدك يسألني عن رأيي به ليس صالحًا للزواج من ابنتك، فهو ليس ذاك الزوج الذي وصانا النبي صلى الله عليه وسلم لنرتضيه لفتياتنا فهو ليس كفؤًا لها وبالتالي لا يجوز إرغامها على الزواج منه، أما إن كانت ابنتك موافقة على هذا الزواج فنصيحتي لها أن تفكر قليلًا بالأمر فهو وإن كان يستتر خلف عباءة التدين والالتزام فهو والله أبعد ما يكون عن ذلك والله على ما أقول شهيد.
لم يجد مسعود شيئًا ليقوله بعد كلمات عثمان، بل شعر بالحرج مما كان ينتوي على فعله، فالشيخ علي كان قد أقنعه بولده بل وجعله يراه أحد الصالحين على الرغم من سمعته السيئة بين الناس وأن لا أحد في البلدة أكثر التزامًا من ولده فصاح مسعود بما يضيق صدره
- ولكنه أفضل من غيره يا شيخ عثمان بل لا أجد أحدًا في القرية أفضل منه ليتزوج بابنتي ويتقي الله فيها.
غضب عثمان من كلماته الأخيرة خاصة وهو يعلم أن قريته بها الكثير من الشباب الملتزمين فهو بذاته يجاورهم دائمًا بالمسجد ولكنه تحلى بالهدوء وهو يجيبه
- كيف هذا يا شيخ مسعود فقريتنا تصنف بين قرى المدينة بأكثر قرية بحفظ أبناؤها لكتاب الله وعملهم به بل وأنا أحرص دائمًا على القيام بدورات دينية لتثقيف الشباب في أمور الدين وأرى على ذلك إقبالًا كثيرًا.
لم يجد مسعود شيئًا ليجيبه به إلا أنه في النهاية صارحه بما يخفيه بقلبه
- ولكنهم لا يرضون بابنتي زوجة يا شيخ عثمان فأنا قد عرضت على بعضهم الزواج منها ورفضوا قبل أن يرونها فلم أجد غير عبدالعزيز.. وها أنت حاضرًا أترضى بمن مثل بنتي زوجة لك؟
صعق عثمان من كلمات الرجل القبيحة في حق ابنته بل وشعر بالشفقة على تلك التي حتمًا قسمتها كلمات أبيها ليجيبه بما يحاول التهوين به عليها
- حتما لم توفق في اختيارهم يا شيخ مسعود، وعن حديثك الآخر فلما لا أقبل بمثلها وأنا لا أسمع في حقها سوى كل خير.
ليفاجئه مسعود قائلًا بتحدي
- إذًا أنا أطلبك للزواج من ابنتي يا شيخ عثمان فهل تقبل بابنتي زوجة لك؟
صمت مفاجيء خيم على الأجواء ليكون محمدًا أول من تحدث وهو يندفع صائحًا بغضب
- ماذا تقول يا أبي؟ كيف تفعل هذا بشقيقتي وتبخس من قدرها هكذا فوالله لو كان الأمر بيدي لجعلتها ملكة على من بالأرض جميعًا.
لم يعيره مسعود أي اهتمام بل صبَّ كل اهتمامه على عثمان الذي تلونت نظراته بالغموض قبل أن يهتف قائلًا بما جعل أعينهم تتسع على آخرها
- نعم أقبل.
يتبع.
(في قبضة الشيخ عثمان)
استمعت "مارية" إلى صيحات والدها الناطقة باسمها، ارتسمت الابتسامة على ثغرها بمجرد قدومه، فعلى الرغم مما يفعله معها إلا أنها لا تقدر إلا على الشعور بالسعادة والراحة كلما قدم، فقسوة والدها عليهما هي وشقيقها في كثير من الأحيان لا ينفيان كونه يحنو عليهما في أحيان أخرى بل ولا يترك لهما مطلبًا في شيء يريدانه إلا وجلب لهما ما يريدون، فقط لو يتوقف عن تلك القسوة التي تخص أحكام الدين التي يقول شقيقها أنه يغالي فيها سيكون أبٌ رائع.
خرجت إلى أبيها لتهرول إليه تقبل يداه كلما دلف إلى البيت فابتسم إليها وربت على ظهرها بحنو وهو ينحني ليجلس على المقعد القديم فجلست بجواره وهي تسأله برفق يليق بملامح وجهها الهادئة
- أتريد شيئًا آتي لك به يا أبي
هزَّ رأسه بنفي ثم شرع في قول ما دعاها لأجله
- بلى، أريد أن أخبرك أن هناك من تقدم لخطبتك وأنا أراه أكثر من مناسب بالنسبة لنا، بل هذا من كنت أتمنى أن تقترني بمن مثله وها هي أمنيتي قد حققها الله لي.
ارتعشت شفتيها بخوف تملك من أوصالها رغمًا عنها بينما لسانها قد عجز عن الرد فوجدت شقيقها يخرج من إحدى الغرف سائلًا بترقب لا ينفك عن تلك النظرة الساخرة التي بات يرمق والدهما بها
- ومن ذاك سعيد الحظ وشريف النسب الذي تتحدث عنه يا أبى
لتجد والدها ينظر إليه بضيق شديد قبل أن تتبدل نظرته إلى الفخر الشديد
- عبدالعزيز بن الشيخ علي
لتجد حدقتي شقيقها توسعتا على آخرهما قبل أن يسأله بصدمة كبرى
- من؟ أتريد أن تزوج شقيقتي لذاك الذي يتزوج القاصرات ثم نستمع لخبر وفاتهن بعد عدة أيام؟! على چثتي أن أتركك لترمي بشقيقتي بين أنياب الهلاك.
انتفضت بفزع على كلمات شقيقها وهي لا تعلم من ذاك عبدالعزيز الذي يتحدثون عنه لتجد أبيها ينهر شقيقها مدافعًا عن الآخر
-وما الخطأ الذي ارتكبه؟! الرجل يتزوج على سنة الله ورسوله، ثم ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم متزوجًا بمن هي بمثل عمرهن إذًا لم يخطيء بل اقتدى بالرسول صلى الله عليه وسلم
اكفهر وجه محمد من كلمات أبيه قبل أن يجيبه بصوتٍ هاديء على عكس مراجل الغضب التي تتعارك بداخله
- النبي لم يدخل بالسيدة عائشة سوى بعدما بلغت وشابت حسنا فباتت تطيق النكاح دون ضرر على صحتها، النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل حينها إلا ما كان شائعًا في قومه، أخبرني أبي! كيف بالله عليك لم ينتقد أحد من كفار قريش النبي صلى الله عليه وسلم لزواجه من عائشة رغم صغرها على الرغم من أنهم كانوا يتصيدون له الأخطاء؟ أتعلم لماذا؟ لأن هذا الأمر كان طبيعيًا حينها بل قيل في روايات بعض العلماء أنها كانت مخطوبة قبل النبي صلى الله عليه وسلم لمطعم بن عدي، ثم عصرنا هذا ليس كعهد النبي صلى الله عليه فقد كان في شبه الجزيرة العربية الزواج للصغيرات طبيعيًا بسبب درجة الحرارة التي كانت تفرض على بدنهن فرضًا أن ينضج قبل أوانه فلم يكن يضرهن الزواج حينها أما الآن فالفتيات التي يأتي بهن عبدالعزيز من يراهن يظنهن أطفال في السابعة من عمرهن ثم يا أبي ألم تستمع للأحاديث المنتشرة عنه وعن أبيه بأنه يكفِّر كل من ارتكب معصية؟ فكيف بالله عليك أن تزج بشقيقتي في زيجة كهذه بل وتفخر بها هكذا؟!
نهض أبيه واقفًا ثم طرق بعصاه أرضًا ليقول بقوة
- ليس لك دخل في هذا الأمر، فهذه ابنتي ولن تخافها أكثر مني ثم ألم يبقَ سوى العيال ليتحدثون عن زينة الرجال... اذهب من وجهي يا قليل الحياء ولا تقف تناحر أمام وجهي هكذا مرة ثانية وإلا أعدت تربيتك من جديد.
شعر محمد بالضيق من كلمات والده المقللة من شأنه
- أخبرتك وسأعيدها على مسامعك ثانية يا أبي لن تتزوج مارية من هذا إلا على چثتي، شقيقتي لن تخرج من هذا البيت إلا لرجلٍ سويّ لا تشوبه شائبة.
- فلنرى كلمة من ستنفذ يا صغير
قالها أبيه بتحدي وابتسامة أثارت استفزازه فارتسمت على شفتيه هو الآخر ابتسامة عريضة قبل أن يقول بغموض
- لنرى يا أبي.
بعدما انصرف الاثنان نظرت مارية إلى أثرهن بخوفٍ شديد وجميع ثناياها ترتجف وخاصة بعدما استمعت كلمات أخيها المنتشرة عن ذاك الذي يبغيه أبيها له، تخشى أن يكون شقيقها صادقًا هذه المرة فتقع هي في بئر أوهام أبيها غارقة دون القدرة على الخروج منه سوى جثة هامدة.
ارتفعت ضحكات عثمان أثناء جلوسه مع الخالة " عايدة" تلك التي يستأجرها أسبوعيًا لتقوم بتنظيف البيت له ولأبيه، فهو إن كان يرتب أسرَّتهم ويزيل الغبار من على الأرضية كل ليلة إلا أن هذا لا يكفي فبيتهم حتمًا يحتاج لامرأة كي يظل في بهائه الذي عليه دائمًا وحقًا لم تقصر الخالة عايدة في ذلك، فهي دائمًا ما تقوم بوظيفتها على أكمل وجه بل أحيانًا ما تشفق عليهم وتقوم بطهي عدة أنواع من الأطعمة لهم وتضعها في براد البيت كي يقوم بتسخينها.
نظرت المرأة إليه بضيق مصطنع وهي تزجره بعتاب
- غضبت عليك يا عثمان.. أتسخر من كلامي وأنا التي جئت إليك بزينة بنات البلدة لتتزوج بها.
اتسعت ابتسامته وهو يحاول كبح ضحكاته كي لا يغضبها حقًا ثم أجابها بمرح
- وما الجديد يا خاله.. فأنت بكل أسبوع حتى لو انتهيتِ قبل قدومي تنتظرينني لتطلعيني في اليوم الواحد على العشرون من بنات البلدة لأتقدم لخطبتهن.. أصدقيني القول هل قام أحدهم بشكوتي لك كي ترغبين في زواجي بهذه الطريقة الملحة؟!
شهقت المرة بصدمة مصطنعة ثم نهضت واقفة بضيق ككل مرة وهي تهتف أثناء مغادرتها
- أنا المخطئة ولن أحدثك ثانية أتشكك بذمتي... لماذا كل هذا لأني أريد أن أطمئن عليك لكوني أشعر بك كأبنائي، لن أحادثك ثانية يا عثمان أبدا لن أفعل.
أومأ إليها بإيجاب وهو يعلم أنها لن تفعل ما تقول ليجدها في أقل من الدقيقة تعود إليه مرة ثانية لتسأله بلهفة
- حسنا تذكرت.. أخبرني ما رأيك في ابنة الشيخ مسعود؟ هذه الفتاة نعم الفتيات بل لم يرها أغلب أبناء القرية، أنا بذاتي لم أرها سوى مرة واحدة حينما كانت مريضة ودعاني والدها لتنظيف بيتهم، أقسم لك الفتاة كالبدر في مظهرها فقط والدها صعب المراس ولكن لا ضير من هذا الأمر فالفتاة هي ما تهمنا على كل حال
هز رأسه عدة مرات وهو يتمتم
- لا فائدة منكِ لا فائدة.. اذهبِي يا خالة فأبناؤك بحاجتك في هذا الوقت
استغفرت بسرها قبل أن ترمقه بضيق وتهمس أثناء ذهابها بتحسر
- ابق هكذا حتى تشيب وتضيع من سنون عمرك وحيدًا دون زوجة وأبناء.. والله الفتاة أخشى أن تضيع من بين يداك هي كالقمر يا عثمان كالقمر.
نظر في أثرها مبتسمًا بصبر على هذه المرأة التي تتناسى منصبه دائمًا وتزجره كأنه طفل صغير غير مدركة لشخصية ذاك الذي تنهره بيسر وهو من يقدر على قلب قريتها رأسًا على عقب
شرد عقله في الاسم الذي استمع إليه منها منذ قليل، ذاك الرجل مسعود الذي قدم إليه ولده محمد منذ عدة أيام ليقف أمامه متردد وهو يخبره أنه يريده في شيء ما ثم غادر معتذرا مخبرًا إياه بأنه سيأتي إليه بمرة ثانية ليظل الشاب يشغل تفكيره عدة ساعات قبل أن يترك الأمر ويقنع عقله بأنه إن احتاج إليه فلن يردعه رادع فجميع أبناء القرية يعلمون أنه لا يترك ضعيفًا إلا آزره.
بعد مرور عدة أيام
استمعت مارية إلى شجار عنيف بين شقيقها ووالدها حتى أنها استمعت إلى صوت لطمة قوية تتمنى لو أنها أخطأت في فهمها لها إلا أنها بعدما خرجت مهرولة إلى الخارج صُدمت بوجه شقيقها شديد الحمار وغصب والدها البادي على وجهه وهو يطرد شقيقها خارجا ناعتًا إياه بالفاسق ليصدع صوت محمد الذي زعق عاليًا قبل أن يأخذ الباب بقوة خلفه
- لن يأتي أحد ليتزوج بشقيقتي بعد أسبوع كما تقول شقيقتي لن تتزوج بهذا الذي تتغنى بحسنه وهو أبعد ما يكون عن الحسن لن أرمي من بمثابة أمي كي أرضيك، والله لن أفعل حتى لو قتلتني، وسأفعل كل ما بوسعي كي أنقذ شقيقتي من بين يديه حتى ولو اقتضى بي الأمر لأفتعل له فضيحة أمام أهله وزوجته يا من تريد تزويجها لمن يبتغيها زوجة ثانية.
نظرت مارية إلى أبيها بعتاب دون أن تنطق بحرف فزعق بها بغضب شديد
- اغربي عن وجهي أنتِ الأخرى وإلا أشبعتك ما لم أتمكن من فعله له .
التفتت بخيبة متجهة إلى غرفتها ودموعها تجد سبيلها فوق وجنتيها لتنتحب بتيهٍ وقلة حيلة وعقلها لا يتوقف عن التفكير بينما قلبها لا يقدر سوى على امتطاء الخوف والتشبث برقبته.
توجه محمد إلى من قرر اللجوء إليه إذا تعثر عليه الأمر وها هو يقف أمام البيت الذي اتخذه عثمان مأوى لكل أبناء قريته، نظر الخفير الذي كان يقف أمام البيت لمحمد بتساؤل فلم يتركه محمد لفضوله وهو يسأله بصوت مازال الغضب مسيطرًا عليه
- أشيخنا بالداخل؟
طالعه الرجل بتردد من حالته تلك قبل أن يجيبه بتلك الإجابة التي أقرها عليه عثمان لكل من يلجأ إليه
- بالطبع هو بالداخل وإن لم يكن فبإمكانك الذهاب إلى بيته
هز محمد رأسه إليه بإيجاب قبل أن يخبره بنبرة هادئة قليلًا عن سابقتها
- حسنًا، أخبره بأني أريد مساعدته في أمر ما
أومأ الخفير رأسه إليه قبل أن يشير إليه برأسه ليتبعه فانصاع محمد له ولم تمض ثوانٍ إلا وبات واقفًا أمام عثمان الذي كان جالسًا على مقعده بهيبة ووقار يليقان به وكأنها خلفا ليتشح بهما.
نظر عثمان بتمعن إلى ذاك الشاب الذي أثار فضوله للمرة الثانية ثم سأله بصوت يبعث الطمأنينة في النفوس
- أفضِ إليّ بما يؤرق فؤادك يا فتى
نظر محمد إلى أثر الخفير الذي ترك مجلسهما بعدما استمع لصوت عثمان ثم التفت إليه مرة أخرى ليقول برجاء حاول إخفاؤه
- عدني أولًا بأنك لن تخذلني إن وجدت الحق يتسرب من بين كلماتي.
ابتسم عثمان على كلماته التي أعجبته قبل أن يجيبه بقوة
- أعدك
ليردف محمد بعدما زفر براحة
- أريدك أن تعلم أولاً أني لم آتِ لشكوة من يعز عليّ شكوته إلا لجوره على من هو أعز منه.
أوما إليه عثمان بصمت ليفسح له المحال في متابعة حديثه فتابع محمد بتساؤل
- ما رأيك في عبدالعزيز بن الشيخ علي إن تقدم لخطبة شقيقتك
أجابه عثمان بثبات دون أن يبدي أي تعابير على وجهه
- إن كنت تسأل لمجرد الحديث عنه لنغتابه فلن تجد ما تبحث عنه عندي ولتعود حيثما جئت.. أما إن جئت تأخذ رأيي في شاب تقدم لخطبة كريمتكم فلن أبخل عليك برأيي
تطلع إليه محمد قليلا بإعجاب قبل أن يجيبه
- بل جئت لقولك الثاني فأنا لست فاسقًا لأدور في البلدة أتحدث عن أولادها دون سبب.
أومأ إليه عثمان بهدوء ليجيبه
- كلمة حق أنا لا أرتضيه لأي من فتيات القرية وليس شقيقتي فقط وأظنك تعرف برأيي قبل قدومك فهو بالكاد خرج من عقوبته التي كنت قد فرضتها عليه بعد زواجه الأخير والجميع يعلم بذلك، فأخبرني ما السبب الرئيسي الذي جئت إلي من أجله
تنهد محمد بقوة قبل أن يجيبه
- لقد أصبت القول، ذاك شبيه الرجال يريد الزواج من شقيقتي بل ووالدي وافق على هذا الأمر وحكم بالزواج بعد أسبوع وأنا أخشى على شقيقتي منه ولا اقوى على منع أبي.
تنهد عثمان بقوة قبل أن يجيبه بهدوء
- إن كانت شقيقتك موافقة فمن أنا لأمنع الأمر
هز محمد رأسه عدة مرات بالنفي قبل أن يجيبه
- شقيقتي لا تقول لوالدي سوى سمعًا وطاعة.. هي لا دراية لها بأحوال الناس أتصدقني إن أخبرتك أنها لم تطأ الشارع منذ عدة سنوات بسبب اعتقادها أن خروج النساء يعد حرامًا وأبي من أقنعها بذلك، يصعب عليّ أن أخبرك بهذا الأمر ولكن والدي يحرم الكثير من الأمور التي أحلها الله لنا ويقنع شقيقتي بذلك وهي توافقه لعدم اختلاطها بأحد سوانا وبالطبع لن تصدقني وتطعن في كلام أبي.
- لا حول ولا قوة إلى بالله.. حسنًا بإمكاننا استدعاء والدك وشقيقتك اليوم وتوضيح الأمر لها ولأبيك أيضًا ونخبرها بأخلاق عبدالعزيز التي لا تتوافق بمن وصانا النبي من الزواج منه ثم ندع القرار لها.
أومأ إليه محمد مقتنعًا بكلامه ولكن هناك ما أشعره بالخوف من موقف شقيقته السلبية حيال قرارات أبيها فهو لا يثق برفض شقيقته حتى وإن علمت بأخلاق الآخر مادام والدها موافقًا وإن كانت موافقتها عكس رغبتها الداخلية وسرعان ما انتفض قائلا
- وكيف ستأتي شقيقتي إلى هنا وتخبرها بالأمر فأبي لا يقبل بخروجها من البيت حتى إن أمرته فسيقدم لك الكثير من الحجج ويرفض أمر قدومها إلى هنا
- إذا سآتي إليكم قبل الغروب ولتستمع إليّ حتى إن كان سماعها لي من وراء حجاب.
أومأ محمد موافقًا قبل أن يقول
- حسنا بانتظارك أمام البيت بعد صلاة العصر
أومأ إليه عثمان مبتسمًا ليخرج محمد راضيًا بحديثهمًا معًا بينما نظر عثمان إلى أثره قبل أن يهمس بمرح
- طارت عروس الخالة عايدة
في تمام الخامسة عصرًا
كان محمد يجلس بمكان قريب من بيتهم حيث تتبين له رؤية القادم إليه فهو لا يقدر على الدخول خوفًا من صياح أبيه وطرده مرة ثانية وأيضًا لا يقوى على عدم الحضور عندما يأتي الشيخ عثمان، انتفض واقفًا حينما وجده يقترب من بيتهم بعبائته البيضاء تلك وعمامته التي لا يستغنَ عنها مهما حدث، فاقترب مهرولًا ليستقبله أمام البيت قبل أن يطرق بابه، ابتسم عثمان بوجهه قبل أن يسأله عن أبيه فأخبره أنه بالداخل ثم طرقه عدة مرات حتى استمع إلى صوت والده
توتر قليلًا خشية من أن يزجره أبيه أمام الشيخ عثمان وبالفعل هذا ما كان سيحدث إلا أن رؤية والده لعثمان جعلت الكلمات تتوقف في حلقه من فرط صدمته
- السلام عليكم يا شيخ مسعود
تنحنح قليلًا قبل أن يسيطر على صدمته ليجيب بسعادة ممزوجة برهبة من هذا الرجل الذي لا يعلم سبب قدومه
- أحقًا ما أرى أمامي! الشيخ عثمان يأتي لزيارتي أنا تفضل يا شيخنا تفضل
قال كلماته الأخيرة مهللًا وهو يفسح له المجال للدخول
جلس عثمان بصمت على المقعد الذي أشار عليه مسعود ليجلس بجوارهم محمد الذي تجاهله والده تجاهلًا تامًا فقاطع عثمان صمتهم قائلًا
- لعلك تتساءل يا أبا محمد عن سبب قدومي
لا يعلم مسعود بماذا يجيبه وخاصة بأن أمر زياراته لبيوت القرية نادرًا الحدوث فأجابه بهدوء
- أمر زيارتكم شيء مشرف للغاية ولكن كما قلت يراودني الفضول لمعرفة سبب زيارتكم الكريمة وأتمنى أن يكون خير
صمت عثمان قليلًا ليبدأ حديثه قائلًا بقوة
- أخبرني ولدكم بأنك عازمًا على زواج كريمتكم لعبد العزيز بن الشيخ علي وأرادني أن أخبرك برأيي في هذا الأمر وبالطبع أنت أعلم برأيي فيه بل وبرأي أبناء القرية جميعهم به وعلى الرغم من ذلك وافقت، فبناء على طلب محمد أنا أطلب من ابنتك الحضور لتوضيح الأمر لها بصفتي ولي أمر القرية بما فيها ابنتك.
- وكيف تريد لابنتي أن تحضر مجلس الرجال أترضاها لشقيقتك يا شيخ عثمان.
فأجابه عثمان بتروي
- وإن كنت لا أرى بجلوسها بكامل سترها عيبًا فزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بكامل ثيابهن دون أن يمنعهم النبي من ذلك ولن تكون أحرص من رسول الله على أمور الدين إلا أنني سأراعي غيرتك وأطلب منك أن تجعل ابنتك تستمع كلماتي وهي تجلس بأي مكان بالبيت وليس بالأمر الهام أن تظهر أمامي.
لو كان هذا الذي يجلس أمامه رجلًا آخر لم يكن مسعود ليستمع إليه كما الآن إلا أن الرجل الذي يجلس أمامه ليس أي رجل، فهذا أكثر شخص يقدره مسعود وكيف لا وهو من كان سببًا في دخوله للدين الإسلامي بعدما كان متشحًا بثوب ديانة أخرى
نظر إليه مسعود مترددًا قبل أن يقول لمحمد بغيظ وضيق
- اجعل شقيقتك تجلس في الغرفة الخارجية لتستمتع إلى حديثنا يا محمد
نهض محمد متجهًا إلى الداخل دون أن ينطق بشيء وسرعان ما عاد إليهم مرة أخرى ليخبرهم أن ما أرادوه قد تم ليصدح صوت عثمان عاليا وهو يتحدث بسلالة
- أردت أن أخبرك يا شيخ مسعود أن هذا عبدالعزيز الذي جاء ولدك يسألني عن رأيي به ليس صالحًا للزواج من ابنتك، فهو ليس ذاك الزوج الذي وصانا النبي صلى الله عليه وسلم لنرتضيه لفتياتنا فهو ليس كفؤًا لها وبالتالي لا يجوز إرغامها على الزواج منه، أما إن كانت ابنتك موافقة على هذا الزواج فنصيحتي لها أن تفكر قليلًا بالأمر فهو وإن كان يستتر خلف عباءة التدين والالتزام فهو والله أبعد ما يكون عن ذلك والله على ما أقول شهيد.
لم يجد مسعود شيئًا ليقوله بعد كلمات عثمان، بل شعر بالحرج مما كان ينتوي على فعله، فالشيخ علي كان قد أقنعه بولده بل وجعله يراه أحد الصالحين على الرغم من سمعته السيئة بين الناس وأن لا أحد في البلدة أكثر التزامًا من ولده فصاح مسعود بما يضيق صدره
- ولكنه أفضل من غيره يا شيخ عثمان بل لا أجد أحدًا في القرية أفضل منه ليتزوج بابنتي ويتقي الله فيها.
غضب عثمان من كلماته الأخيرة خاصة وهو يعلم أن قريته بها الكثير من الشباب الملتزمين فهو بذاته يجاورهم دائمًا بالمسجد ولكنه تحلى بالهدوء وهو يجيبه
- كيف هذا يا شيخ مسعود فقريتنا تصنف بين قرى المدينة بأكثر قرية بحفظ أبناؤها لكتاب الله وعملهم به بل وأنا أحرص دائمًا على القيام بدورات دينية لتثقيف الشباب في أمور الدين وأرى على ذلك إقبالًا كثيرًا.
لم يجد مسعود شيئًا ليجيبه به إلا أنه في النهاية صارحه بما يخفيه بقلبه
- ولكنهم لا يرضون بابنتي زوجة يا شيخ عثمان فأنا قد عرضت على بعضهم الزواج منها ورفضوا قبل أن يرونها فلم أجد غير عبدالعزيز.. وها أنت حاضرًا أترضى بمن مثل بنتي زوجة لك؟
صعق عثمان من كلمات الرجل القبيحة في حق ابنته بل وشعر بالشفقة على تلك التي حتمًا قسمتها كلمات أبيها ليجيبه بما يحاول التهوين به عليها
- حتما لم توفق في اختيارهم يا شيخ مسعود، وعن حديثك الآخر فلما لا أقبل بمثلها وأنا لا أسمع في حقها سوى كل خير.
ليفاجئه مسعود قائلًا بتحدي
- إذًا أنا أطلبك للزواج من ابنتي يا شيخ عثمان فهل تقبل بابنتي زوجة لك؟
صمت مفاجيء خيم على الأجواء ليكون محمدًا أول من تحدث وهو يندفع صائحًا بغضب
- ماذا تقول يا أبي؟ كيف تفعل هذا بشقيقتي وتبخس من قدرها هكذا فوالله لو كان الأمر بيدي لجعلتها ملكة على من بالأرض جميعًا.
لم يعيره مسعود أي اهتمام بل صبَّ كل اهتمامه على عثمان الذي تلونت نظراته بالغموض قبل أن يهتف قائلًا بما جعل أعينهم تتسع على آخرها
- نعم أقبل.
يتبع.