رواية شظايا الكلمات الفصل التاسع والعشرين 29 بقلم جهاد وجيه
شظايا الكلمات
الفصل التاسع والعشرون
أخبرني هل ستظل دليليِ!
أجيبني هل سـتبقى سَبيلي!
حادثني هل دومًا سـتكون مُعيني!
هل يومًا سـتهجرني بين ظُلمات فؤادي!
أدومًا سـتكون قبضتك بـقوتها تحتوي ضعف أناملي المرتجفة!
ناظرني واهمس بـدفء ألقلبي الواهن نصيبًا من الراحة بـقربك!
دائمًا سـتراني إن احتاجتني واجتاحتك رغبة بـرؤيتي ولكن ألروحي ذات المطلب منكَ!
سارت بـجانبه وقلبها ينبض بقوة لكن ليس خوفًا أو قلقًا تلك المرة بل سعادة ونشوة من وجوده!! أصبحت زوجته وجانبه ولا تتمنى أكثر من ذلك! احتضنت ذراعه القريبة منها ومالت برأسها على كتفه عندما دلفت السيارة وهمست بـحب:
_ أنا لسه مش مصدقه!
تصنع «ثائر»التفكير لعدة لحظات وهتف بعدها بمكر:
_والله هو في طريقه تصدقي وأنا هموت واعملها بس بقول نخليها بعد الفرح!
فهمت مخزى حديثه فابتعدت عنه بـخجل وهمست:
_افتكرت محترم علفكرا
رطب « ثائر» شفتيه بـحركة درامية وتمتم بـوقاحة:
_ والله أنا مؤدب وزي الفل مع الكل إلا أنتِ!
عضت على شفتيها بـتوتر من تلك المشاعر ابتي تختبرها للمرة الأولى وهمست بنعومة:
_ هو إحنا هنعمل فرح!؟
هتف « ثائر» بلا تردد:
_ دا سؤال ولا جواب؟
أجابته بحب:
_ هتفرق؟!
ناظرها بـعشق واحتضن كفها وهمس بـصدق وقوة:
_ لا بس الاتنين واحد لأنه لو جواب يبقى مفيش كلام فيه بس لو سؤال يبقى الإجابه ايوه طبعًا، يعني بذمتك حد يبقى معاه قمر واتعذب واتمرمط على ما وصله كدا وميعملش فرح!!
أدمعت عينيها تأثرًا بما قال ولكنها تمتمت بهمس:
_ بس أنا مش عاوزه!
أنزل يديه من على المقود بـتعجب من حديثها الذي لـم يصدمه كثيرًا فهو توقعه!، بحثت يداه عن كفها المرتجف واحتواه بـحب وانشق ثِغره عن بـسمة دافئة وحانية وهمس بـحب:
_ وإيه يمنع الفرح؟ ليه مش عاوزه تفرحي زي البنات وتلبسي فستان أبيض وتضحكي من قلبك؟ إيه المانع إنك تسيبي قلبك يا عيوني
وحدت سبيلها الوحيد هو الضغط على كفه وكأنه جسدها وكم تتمنى ذلك حقًا أن تختبئ داخل ذراعيه، أعطت جفنيها راحة لحظية لـيمنعا دموعها من الانهمار وهمست بعد فتحهم:
_ مش حابه الفرح، كفايه عليا إنك معايا وخلاص، مليش في جو الأفراح والدوشه دي
ضيق عينيه بـتوجس ومط شفتيه بـعدم اقتناع من حديثها الغير مألوف له ولكنه هز رأسه بـتفهم وربت فوق يديها وتمتم بـحب:
_ اللي عوزاه ديمًا هيكون يا حبيبتي
ابتسمت باتساع لـحبه الذي لا يترك فرصة إلا ويجهر به لها بل وللجميع من حولهم ولا يخجل من البوح به واجتاح قلبها بهجة ورضا عما عوضها الله به وتلاقت نظراتهم لـوقت ليس بـقصير كلًا يقص حكايته التي أدخرها بـغموضها عن الآخر وداخلهم عزيمة قوية للكشف عنها ووضعها بين ثناياهم، لمعت نظراتهم بـعشق لاز معركته وها هي غنائمه من المعركة التي ضحى بالكثير للفوز بها! هي وبسمتها ووجودها وعبقها الآخاذ!!
أخفض رأسه لـيلثم باطن كفيها معًا بـقبلة مطولة بَث بها امتنانه لـقلبها وعشقه الجارف لـروحها الطيبة التي جذبته بـقوة نحوها دون محاولاتٍ منها، وجهه نظره للطريق وقاد السيارة بـسعادة بعد مدة طويلة كان يتخذها مسكنًا لأوجاعه وصمته والبُعد عن العالم الذي لا يضمها معه، بعد مدة توقف أمام بنايته ودار بـنظراته لها مردفًا بـحزم:
_ دلوقتي هنطلع نسلم على ماما ورؤى عشان وحشتيهم ونرجع على بيتك تجيبي رحمه وحاجتك وترجعي شقتنا يا هبه
وزعت نظراتها بينه وبين الطريق الفارغ رغم أنها لم تتجاوز الثامنة وتمتمت بـبسمة متوترة:
_ اللي تشوفه أنا معاك فيه
هز رأسه بـنفيٍ قاطع وغمغم بـحنان وصدق:
_ مفيش حاجه اسمها اللي تشوفه أنا بأخذ رأيك واللي أنتِ عوزاه هيمشي
ابتسمت له بـحب وترجلت من مقعدها وهو كذلك، اقترب منها مشابكًا أصابعهم معًا كرفضٍ صريح لأي مسافة ولو بسيطة بينهم! ابتسمت هي لـفعلته البسيطة ودلفت معه بـقلبٍ مطمئن
************************
تركته بـغضب ونيران هوجاء تشتعل داخلها من أفعاله الوقحة التي لا تنتهي وكأنه بئرٍ عميق يصدمها كل يومٍ بـما داخله لـدرجة تصيبها بسكتة قلبية من الممكن أن تودي بها!!، دارت حول نفسها بـحلقة مغلقة وهي تنتظر خروجه من المول التجاري كـلبؤة شرسة تنظم خطتها للنيل من فريستها والهجوم عليها!! ألم يرى نظرات الفتيات بالداخل تلتهمه بل وكادوا يُلقون بأنفسهم عليه والتقرب منه!! هي الآن ليست بين اجتباء الإطاحة به للتنفيث عن غضبها أو الصياح به حتى تهدأ! كلاهما محتوم النتيجة!! عضت على سبابتها بـغيظ من تأخره وعزمت أمرها على الدخول وجذبه بقوة وإخبار تلك الراقصات بالداخل أنه زوجها وحبيبها وهي الوحيدة صاحبة الحق بالنظر إليه والتمعن به!! التفتت خطواتها للداخل ولكنها على حين غرة اصدمت به وهو يطالعها ببسمته الباردة التي باتت إسلوبه في الفترة الأخيرة!!
لم تبتعد بل سارعت بإمساك كفه وجره خلفها للداخل السيارة وجسدها ينتفض غضبًا وداخلها ينازل البكاء بـقوة للتخفيف عنها ولكنها أبت الاستماع له وصعدت مُبدلة الأمكان لتتولى القيادة تحت نظراته الهادئة والمستمتعه!!
بعد مدة وصلا للبيت وصعدت هي كـقطارٍ فقد زمام السرعة وأصبح يجول بلا قيادة يطيح بما أمامه ودلفت غرفتهم مغلقة الباب خلفها بـقسوة تحت نظراته الصامتة وشاركه إياها الصغير!! عقد «حمزه» حاجبيه بـتعجب ومسح على وجهه من تكرار نوبات غضبها الملحوظ وهمس بخفوت لوالده:
_ نيلت إيه المرة دي يا بابا
ضحك «راكـان» بتهكم لـما قاله صغيره وانحنى لـيصل لطوله وهمس:
_ وإيه لازمتها بابا بقا يا ابن ماما!
هز الصغير كتفيه بـلا فائدة وتمتم بـلامبالاة:
_ كلها ألقاب، خلينا في موضوعنا عملت فيها إيه عشان فاضل ليها تكه وتبلعنا كدا؟
ابتسم « راكـان» بـزهو وشرع في قص ما حدث بـتفاخر على صغيره الذي ناظره بـحسرة وتمتم بـكبرياء:
_ شوفلك أوضه غير أوضتي تنام فيها الليلة ولو ملقتش عندك البلكونه شِرحه وبرحه وترد الروح حتى الجو حر وهتساعدك!!
ابتلع « راكـان» لعابه المتوجس من مخزى حديث الصغير الذي يعلمه وتمتم بنفي وكبرياء ناهضًا متوجهًا لـزوجته الحبيبة:
_ أنا مبشحتش يا واد أنتَ مراتي متقدرش تبات ليله بعيد عن حضني حتى شوف
بدأ في الطرق بـخفة حتى لا تصب جُم غضبها منه عليه وتمتم بـمهادنة وتوجس:
_ أثير حبيبتي افتحي الباب عشان نتكلم
لم يأتيه ردها فـسارع بـالحديث بـنبرة أعلى:
_ أثير افتحي عشان تعبان وعاوز أنام وأغير لبسي
التف لـ « حمزه» الماثل أمامه يمنع ضحكته الساخرة وهز كتفيه بحسرة وتمتم:
_ طِلعت بتقدر عادي!
التف بكامل جسده لـيطرق على الباب عندما فاجأته بفتحها له وإلقاء ثياب نومه بـوجهه هاتفة بـتحدي وغضب وعينيها تلمع بها شرارات الثأر:
_ أدي هدوم نومك وإياك ثم إياك أيدك تفكر تقرب من الباب دا تاني لا الليله ولا بعد كدا يا بتاع المفتوح والشفاف
أغلقت الباب بـوجهه بـحدة كادت تقتلعه ولفح هواء غضبها صفحات وجهه المصدومة من شراستها معه واستمع لـحديثها من الداخل:
_ رجالة تقصر العمر كدا!!!
ابتسم بـبلاهة وحك ذقنة النامية وحول نظره لـصغيره الذي انسحب بـتروي لـغرفته وما كاد أن يحدثه حتى وجده يغلق باب غرفته بوجهه بـكبرياء لا يليق سوى بطفلٍ مخادع وماكر مثله مما جعله يتساءل ما هي فعلته الشنعاء التي ارتكبها لـيصبح رَب البيت مُلقى بـثيابه على أريكة وحيدة بالخارج ورَبة البيت المصون وصغيره بداخل غرفهم ينعمون بفراشهم الوثير!!! هز رأسه بـسخرية مما وصل إليه حاله وتحرك لمكان نومه متذكرًا حاله قبل الزواج كيف كان الجميع يخشى الاقتراب منه بسبب غموضه ورزانته وتحكمه ولكن الآن!! أهذيه ضريبة الزواج!! انتبه لـلحقيبة الصغيرة بيده والتي هي أحد أسباب غضبها ولم تنتبه لها وابتسم بـعبث وهو يتخيلها عندما تراها يقسم أنها ستشعل به البيت وتحرقه حيًا وتمثل ببقايا جثته!!! حجب عن عقله جميع تلك التخيلات والأفكار وخطى نحو المرحاض ينعم بـحمامٍ بارد يزيل عنه تشنجات جسده ويؤهله لـليلة فارغة منها ومن نعيم أحضانها التي بات يدمنها.....
*************************
بعد وقتٍ طويل قضته مع والدته التي ما إن رآتها حتى ابتهجت وضمتها لأحضانها بـحنانٍ جارف وشارفت على طعامها بنفسها متجاهلة أولادها وبين مزاح شقيقته اللطيفة التي أحبتها حقًا وكيف لا وهي كالنسيم يأتي عندما نكن بأمس الحاجة إليه لـيخفف قسوة الصيف ويُعدل برودة الشتاء! تلك الفتاة أوصلتها لبر الأمان وتركتها تخطو أولى خطواتها به للوصول لـراحتها، ابتسمت بسعادة عندما تذكرت نظراتهم المصدومة والسعيدة بـقرار زواجهم ودموع والفرحة التي غزت مقلتي والدته وكأنها حققت أسمى أمانيها بهذا العالم! انتبهت لوقوف السيارة ونزوله نحوها يفتح بابها وهبطت جانبه ببسمة حانية لبيتها! بعد مُدة من التوتر والسرعة انتهت من تجميع أشيائها هي وشقيقتها وخرجت وجدتهم يمزحان معًا لوهلة رأت طفلة ووالدها وليس زوجها وشقيقتها! اتسعت بسمتها ووقفت تراقبهم بـعينين تفيضان دمعًا وقلبًا أقسم ألا يدخر سعادة إلا ويقدمها لذلك الرجل الذي احتل كيانه وبدل حاله ووقف كـدرعًا حاميًا له، جففت دموعها وخرجت لهم وأمسكت بيد « رحمه» وسارت جانبه حتى وصلا للسيارة...
***************************
القت « اثير» الهاتف بـضجر وجلست على الفراش تفكر كيف طاوعت غضبها وغيرتها وتركته للآن بلا طعام وأهدرت هذا اليوم الذي وفره هو للبقاء جانبها والتمتع بـأحضانها! زفرت بـضيق من فعلتها الطفولية ونهضت بـخفة تستحث الخُطى للخارج بعدما دقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، خففت أنفاسها المتوترة وبحثت عنه بأرجاء البيت بعدما اطمأنت لنوم « حمزه» وتناوله طعامه الذي تركته له صباحًا، وقعت عينيها عليه مددًا على الاريكة رافعًا ذراعه يغطي عينها، اقتربت منه بـلهفة وانحنت تُشبع ظمأها من رؤيته أمامها بلا حواجز أو مشاحنات بينهم، دارت عينيها على ملامحه الهادئة بـشفتيه المُحددتين والجزء الظاهر من أنفه الحاد وتمنت رفع ذراعه وتقبيل جفنيه المُغلقين لـتَسب أغوار شوقها له، اتبعت رغبتها وسارت شفتيها لـتلثم وجنتيه بـحب وأسف ونهضت عائدة لـغرفتهم ولكن قبضته التي التفت حول خصرها جعلته تشهق بـفزع وجحظت عينيها بـخوف بينما نهض هو محتضنًا خصرها بين ذراعيه دافنًا وجهه بين طيات عنقها الناعم هامسًا بـصوتٍ يحمل بقايا النُعاس:
_ كنت عارف إني مش ههون عليكِ يا أثير هانم
اسندت رأسها على صدره مستقبلة قربه المحبب لها مستمتعة بـرَنة صوته الرجولي تدور بين ثنايا عقلها المتلهف له وهمست بـحب:
_ صحيتك؟
ساذجة حقًا وبلهاء ومهضومة تستحق الالتهام دون تردد بلطافتها الزائدة ونعومتها الجارفة التي تقطر منها!! ترددت بسمته بـعنقها مردفًا بـعشق:
_ مكنتش لسه عِرفت أنام كويس من غير حضنك
هزت رأسها بـموافقة والتفتت تقابل عيناه التي لا تشبع منهما وكأنهما نعيمًا خاصًا بها يـسحبها إليه، عرفت أناملها طريقها لـسوداويتيه تتحسسها بـرواية ورِقة بعثرت ثباته ورفعت الأدرينالين بـجسده لـصدر اعتراضًا بـشفتيه ابتسمت هي له وحاوطت عنقه مُرحبة بـسيل مشاعره التي تغمرها دومًا نحو ارضٍ مُبهجة وملونة بـعشقهم ومزينة بـرحاب شوقهم المُلتاع
****************************
إنها الثانية بعد منتصف الليل، لم يُجافيها النوم للآن رغم غيابه عنها الأيام السابقة بـسبب قلقها الزائد وحيرتها وها هي الآن من فرط سعادتها وفرحة مُضغتها يتهرب منها سلطان النوم لا بل يتراقص طربًا هو الآخر لـحصولها على سعادتها الجديدة بقرب قلبٍ عشقته بكل ذرة باقية بها، تقلبت في الفراش بـضجر من تبدد رغبتها في النوم ونهضت بـحماس نحو غرفة شقيقتها ولم تضع نقابها بل اكتفت بـحجابٍ يغطي شعرها مع عباءة بيتية مُريحة، خرجت للبلكونة المتصلة مع حجرتيهما ليقابلها الهواء المُنعش بـتياراته الخفيفة التي اسقطت حجابها فرفعته وابتسمت من جديد لـصفاء السماء رغم ظلمتها البادية للأعين، اختفت النجوم إلا من بعضها الاقوى والأشد حرارة لـتتسع السُحب لهم وتبدأ دورتهم بتمويج الليل، اتسعت بسمتها عندما استمعت لـصوت فتح نافذته ولمعت بـندقيتيها بـلهيب العشق ملتفة له هامسة بـمشاكسة:
_ كنت واثقه إنك صاحي زيِ
عقد ذراعيه معًا وضحك بـمرح مجيبًا إياها بـهيام:
_وهيجي منين النوم طول ما القلب بيكي مشغول
أخفضت عينيها بخجل وشعرت بحرارة كلماته تهب بجسدها فغيرت مجرى الحديث متسائلة:
_ أنتَ محكتليش عن رؤى قبل كدا ولا شوفتها غير من فتره قصيره
علم أنها تغير مجرى الحديث فابتسم بـمرح وتمتم:
_ هتغاضى عن هروبك بس مش هجاوبك على السؤال دا دلوقتي ممكن!
هزت رأسها بتفهم وزاغت نظراتها نحو السماء مجددًا وغمغمت بـتعجب:
_ بيقولوا إن النجوم بتكون أشكال وأشخاص غابوا عننا من عالم تاني
أجابها بـهدوء ومرح لم يخلو من نبرته الملهوفة عليها:
_ اللي غابوا مهما طال غيابهم في قلوبنا النجوم سيبل نتخيلهم بيه او هدنه بنواسي نفسنا بيها، النجوم مدارات بتاخد كل واحد لمدار ناتج عن تفكيره، العقل بينسج محاولات وتخيلات يصبر الفُراق بيه
صمت يستجمع باطن نظراتها له وتحدث بنبرة رخيمة صادقة:
_ زي ما خدتني لـمدار عيونك وتوهت فيه
ألن يتوقف عن غزله الليله! لما يجبرها على الخجل والهروب منه؟ حروفه تعرف وجهتها الاصلية لفؤادها الذي يحترق شوقًا للغوص داخل أحضانه حتى تنتهي الخليقة، ضمت جسدها بيدها مع تنهيدة حارة وأبحرت بقزحيتيها للنجوم فكما يحتاج الليل للنجوم هي تحتاج إليه ولو بعد ألف عام!
أخرجها من شرودها صوته الحاني هامسًا:
_ منمتيش لي بقا يا حلوتي؟
هزت كتفيها بمعنى "لا" واستندت على الجِدار المواجه له وغمغمت بـمرح وخجل:
_ وطول ما القلب ليك عاشق ما يجوز ليه النوم
تهللت ملامحه الوسيمة التي انعكس ضوء القمر عليها ليظهر لوحة منحوتة لملامح رجل أُبدع خلقه ونُقشت ملامحه المُريحة وكأنه أرادها فكانت مثلما تخيل بل وأروع، فعل مثلها لتتسلط نظراتهم بينما حمحم بـضيق:
_ طب ادخلي نامي في الليله اللي نهايتها مش معديه دي عشان أنا شيطاني ابن كلب واطي اصلًا!
ضحكت بـشدة على حنقه وغيظه المسترسل من ملامحه واعتدلت متوجهة للداخل وهمست بـمرح وحب:
_ تصبح على خير يا ثــائــر
تابعها حد دلفت وأغلقت النافذة بينما شخص هو ببصره في الفراغ متذكرًا لحظة مماثلة من عِدة أشهر وقفا بـنفس المكان وهي تطالبه بـذهابها والبُعد حتى يتجمعا بـرضا آلله رغم ضيقه وغضبه واقفها وصبر حتى لاقى ثمرة صبره الآن بها!!
*****************************
تحركت « ورده» نحو الطاولة لـتضع بقية الطعام وتوجهت لغرفتهم لتوقظه بعد نومه مبكرًا ليلة أمس، قابلت والدتها بطريقها فابتسمت لها بـتوتر وتخطها ولكنها أوقفتها بـصوتها الحنون مردفة:
_ عيونك دبلانه ليه يا بنت بلال
عضت « ورده» على شفتيها تمنع دموعها من النزول وهزت رأسها بنفي ولكن والدتها قاطعتها بـحزمٍ وثقه:
_ لو كدبتي على الكل عمرك ما هتعرفي تكدبي على أمك، احكيلي مالك
جذبتها والدتها نحو غرفتها وأغلقت الباب وتوجهت للفراش وجلست جانبها هامسة بـحنانٍ وحب:
_ احكيلي يا ضي عيوني إيه تاعبك وسارق فرحتك
ألقت « ورده» بنفسها بين ذراعي والدتها وتمتمت بـحرقة ودموعها توالت بـصمت:
_ خايفه يسيبني هو كمان، تعبه بيزيد كل يوم وجسمه بيضعف، بيحارب ويقاوم بس بكدا بيقتل نفسه، هو خايف زي وأنا مش قادره اطمنه، أنا خايفه أفضل وحيدة يا ماما
ربتت والدتها على خصلاتها بـحنو واستمعت باهتمام لـكلمتها وهمست بـصدق:
_ جوزك بيحارب عشانك وعاوز يخف لأجل يكون جنبك، اقدارنا مكتوبه من قبل ما نتخلق أو نتعرف حتى ومهما زعلنا أو قاومنا مش هنغيرها ممكن نخفف البلاء بس مش هنمعنه عشان دي حكمة ربنا وواجب علينا نصبر ونحمده في كل وقت، ربنا سبحانه وتعالي بيقول " وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}." اصبري وادخري كل تعبك وتعبه دا عند رب كريم وصدقيني عمره ما هيخيب رجائك فيه
قبلتها كطفلة صغيرة وليست إمرأة تنتظر نطفتها الأولى وهمست بحب:
_ قومي صحي جوزك ببسمة حلوه وخليكي جنبه
اومأت لها وخرجت مجففة دموعها بعد أن اثلجت كلماتها قلبها وتوجهت له لـتجده قد استيقظ وشرع في تأدية صلاته، انتظرته حتى انتهى واقتربت مقبلة جبينه هامسة ببحة عاشقة:
_ تقبل الله يا حبيبي
جذبها « براء» لتجلس على قدميه وأحاطها بذراعيه مستندًا بذقنه على رأسها مردفًا:
_ مِنا ومنكم يا عيوني، وحشتيني يا وردتي
ابتسمت لـملكيته بها ودفنت نفسها بجسده أكثر كقطة تتمسح بصاحبها وهمست بـشوق:
_ وأنتَ أكتر يا روح وردتك وحياتها، أنا بحبك أوي يا براء، بحبك لدرجة تاعبه قلبي
أشارت موضع قلبها بـنظراتٍ متألمة وعاشقة فـاقترب هو مقبلًا مكان إشارتها وهمس بـعشق أذابه قبلها:
_ مش أكتر مني يا نبضي، أنا مبقتش عارف اتنفس طول ما نفسك مش بيدفيني ويدعمني، حبك أناني يا وردة مبيرضاش بـجزء من القلب لا دا استهلك قلبي كله واستعمره
رفعت جسدها وقبلت تفاحة آدم خاصته بـعشق ونعومة حتى شعرت بتصلب جسده اسفلها وهمست بـرقة وصبابة جارفة:
_ حُبك متملك وعيونك مجره فريده من نوعها دوخت من أول نظره فيها ومش مستعدة أفوق منها
ابتلع باقي حديثها بـداخل فؤاده واقترب بشوقٍ يُخمد نيران روحه التي التهبت وتصاعدت بفضل كلماته الصادقة التي تهطل عليه تداوي أوجاعه وتخفف من جِراح وجدانه المحاوط لها، بادلته هي لهفته بـشغفٍ وسعادة سامحة له بالتغذي من رحيق حبها وإرواء ظمأه من ينابيع عشقها له
*************************
بعد اسبوع غاب عن عينيها وتصنعه الانشغال قبل أخذ إجازة لبداية زواجهم، جلست تفرك كفيها بتوتر وسط نظرات كلًا من « هبه» و « رؤى» الهادئتين عفوًا بل الباردتين مثله!! عندما تهاتفه وهذا ليس من عادتها تجده كمن صُب عليه الاعمال وعندما تنتظر عودته يتهرب بتعبه طوال اليوم مما جعلها تتساءل هل ندم!! هل وعى لما فعل وقرر الانفصال عنها؟ أيرغب بتركها؟ ولكن هي رأت عشقها جليًا بقزحيتيه لما يبتعد الآن!!!!
تركتهم ودلفت غرفتها وسط صمتهم وعدم اهتمامهم بها مما جعلها تشتاق لـ « ورده» ولكنها تعلم فاليوم جلسة « براء» ويحتاجها أكثر منها بكثير، رمت بجسدها على الفراش بـتعب ونظرت للساعة التي تشير للثانية ظُهرًا وشقيقتها تمكث مع والدة « ثائر» الآن لا مانع بقسطٍ من الراحة، تهادت جفونها بـتثاقل وأغلقتهم تحت نظرات الماكرتين الماتبعتين لـغضبها المكبوت، صفقت « رؤى» بـمرح وهمست بحماس:
_ دلوقتي هبه نامت ورحمه عند ماما ومستحيل لو عملنا طبل جنبها تصحي يبقى إيه!!
تصنعت « أثير» التفكير لعدة لحظات وتخصرت مردفة بثقة:
_ تروحي تجيبي المُغلف وتطلعي علطول وتبعتي ليه رسالة عشان يطمن
لم تنتظر « رؤى» المزيد وهرولت لـغرفة شقيقها والبسمة عنوانها الأول وهي تتراقص بسعادة وعنج بينما الأخرى وقفت تتابع خلود رفيقتها للنوم بعدما تأكدت من وضع حَبة منوم كاملة لها بقهوتها لتستسلم لسلطان النوم لتكتمل خطتهم!!
************************
السابعة مساءً شعرت « هبه» بثقلٍ هائل بـرأسها وفتحت عينيها بـضيق واستشعرت كثرة ملابسها فنهضت بـعدم توازن لـتشهق بـصدمة لانعكاس صورتها بالمرأة وهي تطالع ثوبها الأبيض الملامس لجسدها بـلطافة وخمارها المماثل له والذي بدأ يتعكر صفوه بسبب خطأ نومتها ومهلًا نقابًا أيضًا!! كانت كـجنية سُرقت من اساطير الأطفال لـتنير عالمنا الحقيقي بـطلتها الناعمة واحتشامها الكامل ومن خلفهم بسمتها الساحرة التي بدأت تشق ثغرها عندما رأته بـبذلته السوداء الأنيقة وقميصه ناصع البياض وربطة عنق سوداء تلائم حليته، أهذا الوسيم زوجها!!، مهلًا أتستحقه!! واقفًا مستندًا على حافة الباب بـجسده يتشرب أدق تفاصيلها بعينيه وهي للآن لا تفهم ما يجول حولها!! اقترب « ثائر» منها بخطى واثقة متناولًا كفها ورفعه لفمه ولثمه بقبلة عاشقة ونظرة مُهلكة منه متمتمًا بـصوتٍ أجش:
_ مُبارك يا عروستي يا قمر
ما فهمته صحيح!! هل هي متوجهة لـعرسها!! ولكن كيف ارتدت كل ذلك ومن وفعلها!! ابتسم هو على تخبطها وقدم ذراعه لها لتتمسك به وهمس بالقرب من أذنها وهي يعدل من خِمارها:
_ متشغليش دماغك هفهمك بعدين، دلوقتي انبسطي وافرحي بس، إحنا سوا
فعلت مثلما قال وها هي تجلس بـجانبه بالسيارة المتوجهة نحو قاعة عرسهم الذي رتبه وانهاه دون علمها!! ترجلت من مقعدها بـتوتر لـيساندها هو ويمسك بيدها ويسيرا للداخل ودهشتها تزداد عندما ترى الجميع!! وما تعنيه بالجميع تُعني حتى « ورده» وزوجها!!! والبسمة تزين أفواههم!! أكانت آخر من يعلم بعرسها!!! أشاحت بوجهها عنه عندما جلسا فهمس هو بـصوتٍ خافت عاشق:
_ لا القمر دا ميزعلش النهاردة ولا بعدين ولا أي يوم من هنا ورايح
لم تغضب أكثر من ذلك بل ابتسمت وهي تراه كمن حصل على جوهرته الثمينة ويرقص مع الجميع بـسعادة تقطر منه، استقبلت تهاني الجميع بسعادة وسرعان ما انتهت ليلتهم المليئة بالفرحة والتي طالت من وجهة نظرها ولكنها على عكس المتوقع لم تغضب أو تحزن او تنفر بل كانت بقمة سعادتها وهي تراه أمامها وجانبها ولم يشعرها أنها أقل من أي فتاة مثلها!!
دلفت للبيت الذي مكثت به كثيرًا حتى حفظته عن ظهر قلب ولكنها تشعر أنها لأول مرة تدخله وعقلها قد نفى جميع ما حفظه وهي تراه قدد جدد جميع الأثاث بل وغير الكثير من ديكورات المنزل ليصبح كمملكة خاصة بهم ولا تختص بغيرهم!! تنهدت بـقلق عندما دخلت للغرفة وتركها هو حتى تأخذ حريتها ولكنها شعرت بتقيدها الشديد الذي لا تعلم مصدره، استغفرت كثيرًا وشرعت بتغير ثيابها بملابس تصلح للصلاة وبداخلها الكثير من القلق فهي فلم تجهز ملابس لزواجها جلست مجددًا على الفراش تنتظر دخوله وما كذب حدثها ورأته يقدم عليها بـعدما بدل ملابسه لأخرى بيتية مريحة، كادت أن تنهض وتحادثه فأوقفها بنظرة من عينيه وانحنى جالسًا أمام ركبتيها بـتعب وإرهاق واضعًا رأسه على قدميها الملاصقتين للفراش، شعرت هي بعدم راحته لـتنزل على الأرض ويتوسط هو برأسه قدميه وجسده يلامس الأرض ويهمس بـارهاق:
_ احكيلي كل اللي شاغلك يا هبه، محتاج ارتاح بصوتك
داعبت أناملها خصلاته ولم تُصدم من فعلته وشرعت في الحديث دون توقف:
_ مش عاوزه أخاف، مش عوزاك تندم في يوم، كل خوفي إنك تندم وأشوف الندم دي في عيونك، أنا جاهزه أكمل كل حاجه ناقصه بحبي بس مش هكون قادرة في يوم أواجه حزنك بسببي أو ندمك وإحساسك بالذنب إنك حبتني او اتجوزتني، عارفه إنك بتحبني ويمكن أكتر مني بس خوفي أكبر مني ومن حبي وحبك ومهما حصل عمره ما هيختفي بالسهولة دي
أزالت دمعة وحيدة تعثرت في طريقها من عينيها وتابعت بـحب:
_ هعوزك ديمًا تحضني وتقولي إنك جنبي، هحتاجك تطمني بإن كل حاجه هتكون بخير، هحتاج دعمك علطول، هقع كتير وهبقى في أمس الحاجه لقوتك عشان أقوم من جديد، مش هقدر أوعدك إني هتخلى عن خوفي أو ضعفي بس أوعدك إني هحاربه لحد ما حُبك يمحيه
هزت رأسها نافية عندما شعرت برغبتها بالبكاء وجذبت رأسه أكثر لتستمد القوة منها مع احتضان كفه وتابعت بخفوت مؤلم :
_ هتلاقيني ديمًا الحضن والملجأ اللي تحتاجه، هطمنك وهصونك، هخفف عنك وهحميك بعيوني بس متوجعنيش! متقهرش قلبي في يوم عشان مش هقدر المره دي أقوم حتى بيك!! أنا هنا ديمًا يا ثائر
نهض « ثائر» وجذب جسدها بـعناقٍ غير آدمي بالمرة ودفن وجهها المُبلل بالدموع لـموضع قلبه وأحاطها جيدّا وبدأ بتهدئتها كـطفلته الوحيدة وهمس بعد أن هدأ نحيبها:
_ والله قبل ما قلبي يفكر يجي عليكي هدوس عليه لأجلما شوف دموعك في يوم بسببي يا حياة روحي وهِبة قلبي وروحي
الفصل التاسع والعشرون
أخبرني هل ستظل دليليِ!
أجيبني هل سـتبقى سَبيلي!
حادثني هل دومًا سـتكون مُعيني!
هل يومًا سـتهجرني بين ظُلمات فؤادي!
أدومًا سـتكون قبضتك بـقوتها تحتوي ضعف أناملي المرتجفة!
ناظرني واهمس بـدفء ألقلبي الواهن نصيبًا من الراحة بـقربك!
دائمًا سـتراني إن احتاجتني واجتاحتك رغبة بـرؤيتي ولكن ألروحي ذات المطلب منكَ!
سارت بـجانبه وقلبها ينبض بقوة لكن ليس خوفًا أو قلقًا تلك المرة بل سعادة ونشوة من وجوده!! أصبحت زوجته وجانبه ولا تتمنى أكثر من ذلك! احتضنت ذراعه القريبة منها ومالت برأسها على كتفه عندما دلفت السيارة وهمست بـحب:
_ أنا لسه مش مصدقه!
تصنع «ثائر»التفكير لعدة لحظات وهتف بعدها بمكر:
_والله هو في طريقه تصدقي وأنا هموت واعملها بس بقول نخليها بعد الفرح!
فهمت مخزى حديثه فابتعدت عنه بـخجل وهمست:
_افتكرت محترم علفكرا
رطب « ثائر» شفتيه بـحركة درامية وتمتم بـوقاحة:
_ والله أنا مؤدب وزي الفل مع الكل إلا أنتِ!
عضت على شفتيها بـتوتر من تلك المشاعر ابتي تختبرها للمرة الأولى وهمست بنعومة:
_ هو إحنا هنعمل فرح!؟
هتف « ثائر» بلا تردد:
_ دا سؤال ولا جواب؟
أجابته بحب:
_ هتفرق؟!
ناظرها بـعشق واحتضن كفها وهمس بـصدق وقوة:
_ لا بس الاتنين واحد لأنه لو جواب يبقى مفيش كلام فيه بس لو سؤال يبقى الإجابه ايوه طبعًا، يعني بذمتك حد يبقى معاه قمر واتعذب واتمرمط على ما وصله كدا وميعملش فرح!!
أدمعت عينيها تأثرًا بما قال ولكنها تمتمت بهمس:
_ بس أنا مش عاوزه!
أنزل يديه من على المقود بـتعجب من حديثها الذي لـم يصدمه كثيرًا فهو توقعه!، بحثت يداه عن كفها المرتجف واحتواه بـحب وانشق ثِغره عن بـسمة دافئة وحانية وهمس بـحب:
_ وإيه يمنع الفرح؟ ليه مش عاوزه تفرحي زي البنات وتلبسي فستان أبيض وتضحكي من قلبك؟ إيه المانع إنك تسيبي قلبك يا عيوني
وحدت سبيلها الوحيد هو الضغط على كفه وكأنه جسدها وكم تتمنى ذلك حقًا أن تختبئ داخل ذراعيه، أعطت جفنيها راحة لحظية لـيمنعا دموعها من الانهمار وهمست بعد فتحهم:
_ مش حابه الفرح، كفايه عليا إنك معايا وخلاص، مليش في جو الأفراح والدوشه دي
ضيق عينيه بـتوجس ومط شفتيه بـعدم اقتناع من حديثها الغير مألوف له ولكنه هز رأسه بـتفهم وربت فوق يديها وتمتم بـحب:
_ اللي عوزاه ديمًا هيكون يا حبيبتي
ابتسمت باتساع لـحبه الذي لا يترك فرصة إلا ويجهر به لها بل وللجميع من حولهم ولا يخجل من البوح به واجتاح قلبها بهجة ورضا عما عوضها الله به وتلاقت نظراتهم لـوقت ليس بـقصير كلًا يقص حكايته التي أدخرها بـغموضها عن الآخر وداخلهم عزيمة قوية للكشف عنها ووضعها بين ثناياهم، لمعت نظراتهم بـعشق لاز معركته وها هي غنائمه من المعركة التي ضحى بالكثير للفوز بها! هي وبسمتها ووجودها وعبقها الآخاذ!!
أخفض رأسه لـيلثم باطن كفيها معًا بـقبلة مطولة بَث بها امتنانه لـقلبها وعشقه الجارف لـروحها الطيبة التي جذبته بـقوة نحوها دون محاولاتٍ منها، وجهه نظره للطريق وقاد السيارة بـسعادة بعد مدة طويلة كان يتخذها مسكنًا لأوجاعه وصمته والبُعد عن العالم الذي لا يضمها معه، بعد مدة توقف أمام بنايته ودار بـنظراته لها مردفًا بـحزم:
_ دلوقتي هنطلع نسلم على ماما ورؤى عشان وحشتيهم ونرجع على بيتك تجيبي رحمه وحاجتك وترجعي شقتنا يا هبه
وزعت نظراتها بينه وبين الطريق الفارغ رغم أنها لم تتجاوز الثامنة وتمتمت بـبسمة متوترة:
_ اللي تشوفه أنا معاك فيه
هز رأسه بـنفيٍ قاطع وغمغم بـحنان وصدق:
_ مفيش حاجه اسمها اللي تشوفه أنا بأخذ رأيك واللي أنتِ عوزاه هيمشي
ابتسمت له بـحب وترجلت من مقعدها وهو كذلك، اقترب منها مشابكًا أصابعهم معًا كرفضٍ صريح لأي مسافة ولو بسيطة بينهم! ابتسمت هي لـفعلته البسيطة ودلفت معه بـقلبٍ مطمئن
************************
تركته بـغضب ونيران هوجاء تشتعل داخلها من أفعاله الوقحة التي لا تنتهي وكأنه بئرٍ عميق يصدمها كل يومٍ بـما داخله لـدرجة تصيبها بسكتة قلبية من الممكن أن تودي بها!!، دارت حول نفسها بـحلقة مغلقة وهي تنتظر خروجه من المول التجاري كـلبؤة شرسة تنظم خطتها للنيل من فريستها والهجوم عليها!! ألم يرى نظرات الفتيات بالداخل تلتهمه بل وكادوا يُلقون بأنفسهم عليه والتقرب منه!! هي الآن ليست بين اجتباء الإطاحة به للتنفيث عن غضبها أو الصياح به حتى تهدأ! كلاهما محتوم النتيجة!! عضت على سبابتها بـغيظ من تأخره وعزمت أمرها على الدخول وجذبه بقوة وإخبار تلك الراقصات بالداخل أنه زوجها وحبيبها وهي الوحيدة صاحبة الحق بالنظر إليه والتمعن به!! التفتت خطواتها للداخل ولكنها على حين غرة اصدمت به وهو يطالعها ببسمته الباردة التي باتت إسلوبه في الفترة الأخيرة!!
لم تبتعد بل سارعت بإمساك كفه وجره خلفها للداخل السيارة وجسدها ينتفض غضبًا وداخلها ينازل البكاء بـقوة للتخفيف عنها ولكنها أبت الاستماع له وصعدت مُبدلة الأمكان لتتولى القيادة تحت نظراته الهادئة والمستمتعه!!
بعد مدة وصلا للبيت وصعدت هي كـقطارٍ فقد زمام السرعة وأصبح يجول بلا قيادة يطيح بما أمامه ودلفت غرفتهم مغلقة الباب خلفها بـقسوة تحت نظراته الصامتة وشاركه إياها الصغير!! عقد «حمزه» حاجبيه بـتعجب ومسح على وجهه من تكرار نوبات غضبها الملحوظ وهمس بخفوت لوالده:
_ نيلت إيه المرة دي يا بابا
ضحك «راكـان» بتهكم لـما قاله صغيره وانحنى لـيصل لطوله وهمس:
_ وإيه لازمتها بابا بقا يا ابن ماما!
هز الصغير كتفيه بـلا فائدة وتمتم بـلامبالاة:
_ كلها ألقاب، خلينا في موضوعنا عملت فيها إيه عشان فاضل ليها تكه وتبلعنا كدا؟
ابتسم « راكـان» بـزهو وشرع في قص ما حدث بـتفاخر على صغيره الذي ناظره بـحسرة وتمتم بـكبرياء:
_ شوفلك أوضه غير أوضتي تنام فيها الليلة ولو ملقتش عندك البلكونه شِرحه وبرحه وترد الروح حتى الجو حر وهتساعدك!!
ابتلع « راكـان» لعابه المتوجس من مخزى حديث الصغير الذي يعلمه وتمتم بنفي وكبرياء ناهضًا متوجهًا لـزوجته الحبيبة:
_ أنا مبشحتش يا واد أنتَ مراتي متقدرش تبات ليله بعيد عن حضني حتى شوف
بدأ في الطرق بـخفة حتى لا تصب جُم غضبها منه عليه وتمتم بـمهادنة وتوجس:
_ أثير حبيبتي افتحي الباب عشان نتكلم
لم يأتيه ردها فـسارع بـالحديث بـنبرة أعلى:
_ أثير افتحي عشان تعبان وعاوز أنام وأغير لبسي
التف لـ « حمزه» الماثل أمامه يمنع ضحكته الساخرة وهز كتفيه بحسرة وتمتم:
_ طِلعت بتقدر عادي!
التف بكامل جسده لـيطرق على الباب عندما فاجأته بفتحها له وإلقاء ثياب نومه بـوجهه هاتفة بـتحدي وغضب وعينيها تلمع بها شرارات الثأر:
_ أدي هدوم نومك وإياك ثم إياك أيدك تفكر تقرب من الباب دا تاني لا الليله ولا بعد كدا يا بتاع المفتوح والشفاف
أغلقت الباب بـوجهه بـحدة كادت تقتلعه ولفح هواء غضبها صفحات وجهه المصدومة من شراستها معه واستمع لـحديثها من الداخل:
_ رجالة تقصر العمر كدا!!!
ابتسم بـبلاهة وحك ذقنة النامية وحول نظره لـصغيره الذي انسحب بـتروي لـغرفته وما كاد أن يحدثه حتى وجده يغلق باب غرفته بوجهه بـكبرياء لا يليق سوى بطفلٍ مخادع وماكر مثله مما جعله يتساءل ما هي فعلته الشنعاء التي ارتكبها لـيصبح رَب البيت مُلقى بـثيابه على أريكة وحيدة بالخارج ورَبة البيت المصون وصغيره بداخل غرفهم ينعمون بفراشهم الوثير!!! هز رأسه بـسخرية مما وصل إليه حاله وتحرك لمكان نومه متذكرًا حاله قبل الزواج كيف كان الجميع يخشى الاقتراب منه بسبب غموضه ورزانته وتحكمه ولكن الآن!! أهذيه ضريبة الزواج!! انتبه لـلحقيبة الصغيرة بيده والتي هي أحد أسباب غضبها ولم تنتبه لها وابتسم بـعبث وهو يتخيلها عندما تراها يقسم أنها ستشعل به البيت وتحرقه حيًا وتمثل ببقايا جثته!!! حجب عن عقله جميع تلك التخيلات والأفكار وخطى نحو المرحاض ينعم بـحمامٍ بارد يزيل عنه تشنجات جسده ويؤهله لـليلة فارغة منها ومن نعيم أحضانها التي بات يدمنها.....
*************************
بعد وقتٍ طويل قضته مع والدته التي ما إن رآتها حتى ابتهجت وضمتها لأحضانها بـحنانٍ جارف وشارفت على طعامها بنفسها متجاهلة أولادها وبين مزاح شقيقته اللطيفة التي أحبتها حقًا وكيف لا وهي كالنسيم يأتي عندما نكن بأمس الحاجة إليه لـيخفف قسوة الصيف ويُعدل برودة الشتاء! تلك الفتاة أوصلتها لبر الأمان وتركتها تخطو أولى خطواتها به للوصول لـراحتها، ابتسمت بسعادة عندما تذكرت نظراتهم المصدومة والسعيدة بـقرار زواجهم ودموع والفرحة التي غزت مقلتي والدته وكأنها حققت أسمى أمانيها بهذا العالم! انتبهت لوقوف السيارة ونزوله نحوها يفتح بابها وهبطت جانبه ببسمة حانية لبيتها! بعد مُدة من التوتر والسرعة انتهت من تجميع أشيائها هي وشقيقتها وخرجت وجدتهم يمزحان معًا لوهلة رأت طفلة ووالدها وليس زوجها وشقيقتها! اتسعت بسمتها ووقفت تراقبهم بـعينين تفيضان دمعًا وقلبًا أقسم ألا يدخر سعادة إلا ويقدمها لذلك الرجل الذي احتل كيانه وبدل حاله ووقف كـدرعًا حاميًا له، جففت دموعها وخرجت لهم وأمسكت بيد « رحمه» وسارت جانبه حتى وصلا للسيارة...
***************************
القت « اثير» الهاتف بـضجر وجلست على الفراش تفكر كيف طاوعت غضبها وغيرتها وتركته للآن بلا طعام وأهدرت هذا اليوم الذي وفره هو للبقاء جانبها والتمتع بـأحضانها! زفرت بـضيق من فعلتها الطفولية ونهضت بـخفة تستحث الخُطى للخارج بعدما دقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، خففت أنفاسها المتوترة وبحثت عنه بأرجاء البيت بعدما اطمأنت لنوم « حمزه» وتناوله طعامه الذي تركته له صباحًا، وقعت عينيها عليه مددًا على الاريكة رافعًا ذراعه يغطي عينها، اقتربت منه بـلهفة وانحنت تُشبع ظمأها من رؤيته أمامها بلا حواجز أو مشاحنات بينهم، دارت عينيها على ملامحه الهادئة بـشفتيه المُحددتين والجزء الظاهر من أنفه الحاد وتمنت رفع ذراعه وتقبيل جفنيه المُغلقين لـتَسب أغوار شوقها له، اتبعت رغبتها وسارت شفتيها لـتلثم وجنتيه بـحب وأسف ونهضت عائدة لـغرفتهم ولكن قبضته التي التفت حول خصرها جعلته تشهق بـفزع وجحظت عينيها بـخوف بينما نهض هو محتضنًا خصرها بين ذراعيه دافنًا وجهه بين طيات عنقها الناعم هامسًا بـصوتٍ يحمل بقايا النُعاس:
_ كنت عارف إني مش ههون عليكِ يا أثير هانم
اسندت رأسها على صدره مستقبلة قربه المحبب لها مستمتعة بـرَنة صوته الرجولي تدور بين ثنايا عقلها المتلهف له وهمست بـحب:
_ صحيتك؟
ساذجة حقًا وبلهاء ومهضومة تستحق الالتهام دون تردد بلطافتها الزائدة ونعومتها الجارفة التي تقطر منها!! ترددت بسمته بـعنقها مردفًا بـعشق:
_ مكنتش لسه عِرفت أنام كويس من غير حضنك
هزت رأسها بـموافقة والتفتت تقابل عيناه التي لا تشبع منهما وكأنهما نعيمًا خاصًا بها يـسحبها إليه، عرفت أناملها طريقها لـسوداويتيه تتحسسها بـرواية ورِقة بعثرت ثباته ورفعت الأدرينالين بـجسده لـصدر اعتراضًا بـشفتيه ابتسمت هي له وحاوطت عنقه مُرحبة بـسيل مشاعره التي تغمرها دومًا نحو ارضٍ مُبهجة وملونة بـعشقهم ومزينة بـرحاب شوقهم المُلتاع
****************************
إنها الثانية بعد منتصف الليل، لم يُجافيها النوم للآن رغم غيابه عنها الأيام السابقة بـسبب قلقها الزائد وحيرتها وها هي الآن من فرط سعادتها وفرحة مُضغتها يتهرب منها سلطان النوم لا بل يتراقص طربًا هو الآخر لـحصولها على سعادتها الجديدة بقرب قلبٍ عشقته بكل ذرة باقية بها، تقلبت في الفراش بـضجر من تبدد رغبتها في النوم ونهضت بـحماس نحو غرفة شقيقتها ولم تضع نقابها بل اكتفت بـحجابٍ يغطي شعرها مع عباءة بيتية مُريحة، خرجت للبلكونة المتصلة مع حجرتيهما ليقابلها الهواء المُنعش بـتياراته الخفيفة التي اسقطت حجابها فرفعته وابتسمت من جديد لـصفاء السماء رغم ظلمتها البادية للأعين، اختفت النجوم إلا من بعضها الاقوى والأشد حرارة لـتتسع السُحب لهم وتبدأ دورتهم بتمويج الليل، اتسعت بسمتها عندما استمعت لـصوت فتح نافذته ولمعت بـندقيتيها بـلهيب العشق ملتفة له هامسة بـمشاكسة:
_ كنت واثقه إنك صاحي زيِ
عقد ذراعيه معًا وضحك بـمرح مجيبًا إياها بـهيام:
_وهيجي منين النوم طول ما القلب بيكي مشغول
أخفضت عينيها بخجل وشعرت بحرارة كلماته تهب بجسدها فغيرت مجرى الحديث متسائلة:
_ أنتَ محكتليش عن رؤى قبل كدا ولا شوفتها غير من فتره قصيره
علم أنها تغير مجرى الحديث فابتسم بـمرح وتمتم:
_ هتغاضى عن هروبك بس مش هجاوبك على السؤال دا دلوقتي ممكن!
هزت رأسها بتفهم وزاغت نظراتها نحو السماء مجددًا وغمغمت بـتعجب:
_ بيقولوا إن النجوم بتكون أشكال وأشخاص غابوا عننا من عالم تاني
أجابها بـهدوء ومرح لم يخلو من نبرته الملهوفة عليها:
_ اللي غابوا مهما طال غيابهم في قلوبنا النجوم سيبل نتخيلهم بيه او هدنه بنواسي نفسنا بيها، النجوم مدارات بتاخد كل واحد لمدار ناتج عن تفكيره، العقل بينسج محاولات وتخيلات يصبر الفُراق بيه
صمت يستجمع باطن نظراتها له وتحدث بنبرة رخيمة صادقة:
_ زي ما خدتني لـمدار عيونك وتوهت فيه
ألن يتوقف عن غزله الليله! لما يجبرها على الخجل والهروب منه؟ حروفه تعرف وجهتها الاصلية لفؤادها الذي يحترق شوقًا للغوص داخل أحضانه حتى تنتهي الخليقة، ضمت جسدها بيدها مع تنهيدة حارة وأبحرت بقزحيتيها للنجوم فكما يحتاج الليل للنجوم هي تحتاج إليه ولو بعد ألف عام!
أخرجها من شرودها صوته الحاني هامسًا:
_ منمتيش لي بقا يا حلوتي؟
هزت كتفيها بمعنى "لا" واستندت على الجِدار المواجه له وغمغمت بـمرح وخجل:
_ وطول ما القلب ليك عاشق ما يجوز ليه النوم
تهللت ملامحه الوسيمة التي انعكس ضوء القمر عليها ليظهر لوحة منحوتة لملامح رجل أُبدع خلقه ونُقشت ملامحه المُريحة وكأنه أرادها فكانت مثلما تخيل بل وأروع، فعل مثلها لتتسلط نظراتهم بينما حمحم بـضيق:
_ طب ادخلي نامي في الليله اللي نهايتها مش معديه دي عشان أنا شيطاني ابن كلب واطي اصلًا!
ضحكت بـشدة على حنقه وغيظه المسترسل من ملامحه واعتدلت متوجهة للداخل وهمست بـمرح وحب:
_ تصبح على خير يا ثــائــر
تابعها حد دلفت وأغلقت النافذة بينما شخص هو ببصره في الفراغ متذكرًا لحظة مماثلة من عِدة أشهر وقفا بـنفس المكان وهي تطالبه بـذهابها والبُعد حتى يتجمعا بـرضا آلله رغم ضيقه وغضبه واقفها وصبر حتى لاقى ثمرة صبره الآن بها!!
*****************************
تحركت « ورده» نحو الطاولة لـتضع بقية الطعام وتوجهت لغرفتهم لتوقظه بعد نومه مبكرًا ليلة أمس، قابلت والدتها بطريقها فابتسمت لها بـتوتر وتخطها ولكنها أوقفتها بـصوتها الحنون مردفة:
_ عيونك دبلانه ليه يا بنت بلال
عضت « ورده» على شفتيها تمنع دموعها من النزول وهزت رأسها بنفي ولكن والدتها قاطعتها بـحزمٍ وثقه:
_ لو كدبتي على الكل عمرك ما هتعرفي تكدبي على أمك، احكيلي مالك
جذبتها والدتها نحو غرفتها وأغلقت الباب وتوجهت للفراش وجلست جانبها هامسة بـحنانٍ وحب:
_ احكيلي يا ضي عيوني إيه تاعبك وسارق فرحتك
ألقت « ورده» بنفسها بين ذراعي والدتها وتمتمت بـحرقة ودموعها توالت بـصمت:
_ خايفه يسيبني هو كمان، تعبه بيزيد كل يوم وجسمه بيضعف، بيحارب ويقاوم بس بكدا بيقتل نفسه، هو خايف زي وأنا مش قادره اطمنه، أنا خايفه أفضل وحيدة يا ماما
ربتت والدتها على خصلاتها بـحنو واستمعت باهتمام لـكلمتها وهمست بـصدق:
_ جوزك بيحارب عشانك وعاوز يخف لأجل يكون جنبك، اقدارنا مكتوبه من قبل ما نتخلق أو نتعرف حتى ومهما زعلنا أو قاومنا مش هنغيرها ممكن نخفف البلاء بس مش هنمعنه عشان دي حكمة ربنا وواجب علينا نصبر ونحمده في كل وقت، ربنا سبحانه وتعالي بيقول " وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}." اصبري وادخري كل تعبك وتعبه دا عند رب كريم وصدقيني عمره ما هيخيب رجائك فيه
قبلتها كطفلة صغيرة وليست إمرأة تنتظر نطفتها الأولى وهمست بحب:
_ قومي صحي جوزك ببسمة حلوه وخليكي جنبه
اومأت لها وخرجت مجففة دموعها بعد أن اثلجت كلماتها قلبها وتوجهت له لـتجده قد استيقظ وشرع في تأدية صلاته، انتظرته حتى انتهى واقتربت مقبلة جبينه هامسة ببحة عاشقة:
_ تقبل الله يا حبيبي
جذبها « براء» لتجلس على قدميه وأحاطها بذراعيه مستندًا بذقنه على رأسها مردفًا:
_ مِنا ومنكم يا عيوني، وحشتيني يا وردتي
ابتسمت لـملكيته بها ودفنت نفسها بجسده أكثر كقطة تتمسح بصاحبها وهمست بـشوق:
_ وأنتَ أكتر يا روح وردتك وحياتها، أنا بحبك أوي يا براء، بحبك لدرجة تاعبه قلبي
أشارت موضع قلبها بـنظراتٍ متألمة وعاشقة فـاقترب هو مقبلًا مكان إشارتها وهمس بـعشق أذابه قبلها:
_ مش أكتر مني يا نبضي، أنا مبقتش عارف اتنفس طول ما نفسك مش بيدفيني ويدعمني، حبك أناني يا وردة مبيرضاش بـجزء من القلب لا دا استهلك قلبي كله واستعمره
رفعت جسدها وقبلت تفاحة آدم خاصته بـعشق ونعومة حتى شعرت بتصلب جسده اسفلها وهمست بـرقة وصبابة جارفة:
_ حُبك متملك وعيونك مجره فريده من نوعها دوخت من أول نظره فيها ومش مستعدة أفوق منها
ابتلع باقي حديثها بـداخل فؤاده واقترب بشوقٍ يُخمد نيران روحه التي التهبت وتصاعدت بفضل كلماته الصادقة التي تهطل عليه تداوي أوجاعه وتخفف من جِراح وجدانه المحاوط لها، بادلته هي لهفته بـشغفٍ وسعادة سامحة له بالتغذي من رحيق حبها وإرواء ظمأه من ينابيع عشقها له
*************************
بعد اسبوع غاب عن عينيها وتصنعه الانشغال قبل أخذ إجازة لبداية زواجهم، جلست تفرك كفيها بتوتر وسط نظرات كلًا من « هبه» و « رؤى» الهادئتين عفوًا بل الباردتين مثله!! عندما تهاتفه وهذا ليس من عادتها تجده كمن صُب عليه الاعمال وعندما تنتظر عودته يتهرب بتعبه طوال اليوم مما جعلها تتساءل هل ندم!! هل وعى لما فعل وقرر الانفصال عنها؟ أيرغب بتركها؟ ولكن هي رأت عشقها جليًا بقزحيتيه لما يبتعد الآن!!!!
تركتهم ودلفت غرفتها وسط صمتهم وعدم اهتمامهم بها مما جعلها تشتاق لـ « ورده» ولكنها تعلم فاليوم جلسة « براء» ويحتاجها أكثر منها بكثير، رمت بجسدها على الفراش بـتعب ونظرت للساعة التي تشير للثانية ظُهرًا وشقيقتها تمكث مع والدة « ثائر» الآن لا مانع بقسطٍ من الراحة، تهادت جفونها بـتثاقل وأغلقتهم تحت نظرات الماكرتين الماتبعتين لـغضبها المكبوت، صفقت « رؤى» بـمرح وهمست بحماس:
_ دلوقتي هبه نامت ورحمه عند ماما ومستحيل لو عملنا طبل جنبها تصحي يبقى إيه!!
تصنعت « أثير» التفكير لعدة لحظات وتخصرت مردفة بثقة:
_ تروحي تجيبي المُغلف وتطلعي علطول وتبعتي ليه رسالة عشان يطمن
لم تنتظر « رؤى» المزيد وهرولت لـغرفة شقيقها والبسمة عنوانها الأول وهي تتراقص بسعادة وعنج بينما الأخرى وقفت تتابع خلود رفيقتها للنوم بعدما تأكدت من وضع حَبة منوم كاملة لها بقهوتها لتستسلم لسلطان النوم لتكتمل خطتهم!!
************************
السابعة مساءً شعرت « هبه» بثقلٍ هائل بـرأسها وفتحت عينيها بـضيق واستشعرت كثرة ملابسها فنهضت بـعدم توازن لـتشهق بـصدمة لانعكاس صورتها بالمرأة وهي تطالع ثوبها الأبيض الملامس لجسدها بـلطافة وخمارها المماثل له والذي بدأ يتعكر صفوه بسبب خطأ نومتها ومهلًا نقابًا أيضًا!! كانت كـجنية سُرقت من اساطير الأطفال لـتنير عالمنا الحقيقي بـطلتها الناعمة واحتشامها الكامل ومن خلفهم بسمتها الساحرة التي بدأت تشق ثغرها عندما رأته بـبذلته السوداء الأنيقة وقميصه ناصع البياض وربطة عنق سوداء تلائم حليته، أهذا الوسيم زوجها!!، مهلًا أتستحقه!! واقفًا مستندًا على حافة الباب بـجسده يتشرب أدق تفاصيلها بعينيه وهي للآن لا تفهم ما يجول حولها!! اقترب « ثائر» منها بخطى واثقة متناولًا كفها ورفعه لفمه ولثمه بقبلة عاشقة ونظرة مُهلكة منه متمتمًا بـصوتٍ أجش:
_ مُبارك يا عروستي يا قمر
ما فهمته صحيح!! هل هي متوجهة لـعرسها!! ولكن كيف ارتدت كل ذلك ومن وفعلها!! ابتسم هو على تخبطها وقدم ذراعه لها لتتمسك به وهمس بالقرب من أذنها وهي يعدل من خِمارها:
_ متشغليش دماغك هفهمك بعدين، دلوقتي انبسطي وافرحي بس، إحنا سوا
فعلت مثلما قال وها هي تجلس بـجانبه بالسيارة المتوجهة نحو قاعة عرسهم الذي رتبه وانهاه دون علمها!! ترجلت من مقعدها بـتوتر لـيساندها هو ويمسك بيدها ويسيرا للداخل ودهشتها تزداد عندما ترى الجميع!! وما تعنيه بالجميع تُعني حتى « ورده» وزوجها!!! والبسمة تزين أفواههم!! أكانت آخر من يعلم بعرسها!!! أشاحت بوجهها عنه عندما جلسا فهمس هو بـصوتٍ خافت عاشق:
_ لا القمر دا ميزعلش النهاردة ولا بعدين ولا أي يوم من هنا ورايح
لم تغضب أكثر من ذلك بل ابتسمت وهي تراه كمن حصل على جوهرته الثمينة ويرقص مع الجميع بـسعادة تقطر منه، استقبلت تهاني الجميع بسعادة وسرعان ما انتهت ليلتهم المليئة بالفرحة والتي طالت من وجهة نظرها ولكنها على عكس المتوقع لم تغضب أو تحزن او تنفر بل كانت بقمة سعادتها وهي تراه أمامها وجانبها ولم يشعرها أنها أقل من أي فتاة مثلها!!
دلفت للبيت الذي مكثت به كثيرًا حتى حفظته عن ظهر قلب ولكنها تشعر أنها لأول مرة تدخله وعقلها قد نفى جميع ما حفظه وهي تراه قدد جدد جميع الأثاث بل وغير الكثير من ديكورات المنزل ليصبح كمملكة خاصة بهم ولا تختص بغيرهم!! تنهدت بـقلق عندما دخلت للغرفة وتركها هو حتى تأخذ حريتها ولكنها شعرت بتقيدها الشديد الذي لا تعلم مصدره، استغفرت كثيرًا وشرعت بتغير ثيابها بملابس تصلح للصلاة وبداخلها الكثير من القلق فهي فلم تجهز ملابس لزواجها جلست مجددًا على الفراش تنتظر دخوله وما كذب حدثها ورأته يقدم عليها بـعدما بدل ملابسه لأخرى بيتية مريحة، كادت أن تنهض وتحادثه فأوقفها بنظرة من عينيه وانحنى جالسًا أمام ركبتيها بـتعب وإرهاق واضعًا رأسه على قدميها الملاصقتين للفراش، شعرت هي بعدم راحته لـتنزل على الأرض ويتوسط هو برأسه قدميه وجسده يلامس الأرض ويهمس بـارهاق:
_ احكيلي كل اللي شاغلك يا هبه، محتاج ارتاح بصوتك
داعبت أناملها خصلاته ولم تُصدم من فعلته وشرعت في الحديث دون توقف:
_ مش عاوزه أخاف، مش عوزاك تندم في يوم، كل خوفي إنك تندم وأشوف الندم دي في عيونك، أنا جاهزه أكمل كل حاجه ناقصه بحبي بس مش هكون قادرة في يوم أواجه حزنك بسببي أو ندمك وإحساسك بالذنب إنك حبتني او اتجوزتني، عارفه إنك بتحبني ويمكن أكتر مني بس خوفي أكبر مني ومن حبي وحبك ومهما حصل عمره ما هيختفي بالسهولة دي
أزالت دمعة وحيدة تعثرت في طريقها من عينيها وتابعت بـحب:
_ هعوزك ديمًا تحضني وتقولي إنك جنبي، هحتاجك تطمني بإن كل حاجه هتكون بخير، هحتاج دعمك علطول، هقع كتير وهبقى في أمس الحاجه لقوتك عشان أقوم من جديد، مش هقدر أوعدك إني هتخلى عن خوفي أو ضعفي بس أوعدك إني هحاربه لحد ما حُبك يمحيه
هزت رأسها نافية عندما شعرت برغبتها بالبكاء وجذبت رأسه أكثر لتستمد القوة منها مع احتضان كفه وتابعت بخفوت مؤلم :
_ هتلاقيني ديمًا الحضن والملجأ اللي تحتاجه، هطمنك وهصونك، هخفف عنك وهحميك بعيوني بس متوجعنيش! متقهرش قلبي في يوم عشان مش هقدر المره دي أقوم حتى بيك!! أنا هنا ديمًا يا ثائر
نهض « ثائر» وجذب جسدها بـعناقٍ غير آدمي بالمرة ودفن وجهها المُبلل بالدموع لـموضع قلبه وأحاطها جيدّا وبدأ بتهدئتها كـطفلته الوحيدة وهمس بعد أن هدأ نحيبها:
_ والله قبل ما قلبي يفكر يجي عليكي هدوس عليه لأجلما شوف دموعك في يوم بسببي يا حياة روحي وهِبة قلبي وروحي