اخر الروايات

رواية شظايا الكلمات الفصل الحادي والعشرين 21 بقلم جهاد وجيه

رواية شظايا الكلمات الفصل الحادي والعشرين 21 بقلم جهاد وجيه 

الفصل الحادي والعشرون
شـظـايـا الـكـلـمـات

مرارة الفؤاد وقت التوسل والرجاء تتخطي مرارة العلقم

حِفنة من التخيلات والهواجس والصراعات تُطرح بـالعقل سامحة لـلصراع الداخلي بـالنشوب والهياج، مُعطية إشارة لـجلد الذات والندم وخيبات الأمل بـالتصاعد للـحلق ثاقبة شعيراته الرفيعة وضاربة بـاعتراضات القلب عليها!!

لا مجال للـهرب من تلك الحروب الناشبة سوى بـضمها لـصفوف العقل وإخماد ثورتها المضادة فهي أقوى من الغُزاة المُستعمرة للأوطان!! التشتت الناتج عن تبعات الأمور هو من يجعلنا نصرخ ليلاً طلباً المواساة والهدوء لـعلنا نُرحم!! الأمر أشبه بـمحاولة التحكم بـالهواء بين قبضتك!!

♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡
لا تعرف كيف مرت تلك الليلة عليهم سوى أنها استيقظت وجدت نفسها مُغطاة بـسترته على المقعد الوثير وهو ليس بـجانبها! فركت عينيها بـوهن وضمت سترته لـصدرها دافنة أنفها بها تستنشق رائحته الرجولية التي طغت عليها! لا تعرف لـمتى ستظل تحبه كل يومٍ وكأنها تراه للمرة الأولى! حبه استعمرها كليا ولم تُحرك جيوشها حتى لـردعه بل وقعت أسيرته بـإرادتها الحرة! نهضت مقتربة من فراش الصغير وكعادتها قبلته وضمت كفيه لـصدرها وهمست بـبسمة صادقة:

_ أول ليلة أحس إني ضايعه امبارح وكنت محتاجاه وشوفت في عيونه أنه فهمني، محاولتش أمنعه ولا امنع نفسي، يمكن أنا هفضل ضعيفه بس ضعفي ليه ومعاه وضع تاني، بقالي فترة كبيره مش عارفه وجهتي فين وعاجزه عن إني ألاقيها، فوق بـسرعه يا حمزه، غيبتك طولت...

وضعت رأسها بـتعب على كفه وأغمضت عينيه متخيلة إفاقته بل وضحكته، كيف أحبته وكأنها صغيرها؟! وكأنها من أنجبته؟! كيف تقبل قلبها هذا الصغير لا تعلم! هي بالأصل ليست حاقدة أو كارهة له على العكس هي تعتبر نفسها والدته! شعرت بـحركة خفيفة أسفل رأسها ولكنها ظنت أنها تتوهم ولكنها شعرت بـأصابع صغيرة تمسح على شعرها!! رفعت رأسها كما تتوسله أن لا يخذلها منتظرة أن يكون هو وليست متوهمه!! تساقطت دموعها بـفرحة عندما طالعها بـبسمة خفيفة لم تصل لـعيناه!! وضعت كفها على فمها بـصدمة وسعادة غير مصدقة بأنه أفاق!! صغيرها عاد!!! ضغطت على زر استدعاء الطبيب من جانبه وساعدته بـسعادة لـيجلس على الفراش وكانت تحارب قلبها حتى لا تحتضنه! هي لا تعلم ماهية شعوره نحوها! هل سيتقبلها مثلما فعلت هي؟! سيحبها ويظل بجانبها؟! وسط أسئلتها لم ترى نظراته الهادئة التي رمقها بها ورجاءه لها! تلاقت نظراتهم لبرهة قطعها هو بـرفع ذراعيها كـدعوة صريحة لها بـضمه!! لم تنتظر بل ضمته بـقوة وكأن حياتها تعتمد عليها حتى أخفت جسده الصغير داخل صدرها وتابعت دموعها السقوط على خصلاته!! مضت عدة دقائق لم تفصل عناقهم حتى دخل الطبيب لـيفحصه وابتعدت مضطرة ولكن عينيها لم تبارحه وهو أيضاً!! تنفست بـهدوء بعد فترة عندما انتهوا من فحصه وغادر الجميع، اقتربت جالسة منه ووضعت طاولة الطعام الصغيرة أمامهم ولم تختفي بسمتها السعيدة وكأنها حصلت كل أمانيها!! أطعمته بـحبٍ وصدق وكأنها والدته حقاً! ما أقلقها هو صمته فقط يُعطيها نظرات!!!

♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡

فتحت عينيها بـضيقٍ من أشعة الشمس التي اخترقت غرفتهم! رفعت جسدها قليلاً وسرعان ما تألمت وضربت ذكريات ليلة أمس عقلها!! جحظت عينيها بـصدمة وخجل عندما تذكرت حِصاره لها حتى غرفتهم ووقوعها فريسة له!! ابتلعت ريقها بـقلق ورفعت الغِطاء من عليها لتصطدم بـجسديهم العاريين مما جعلها تغمض عينيها بخجل وحب، ظهر حبه وعشه لها سويًا ليلة أمس، أغدقها بـكلمات الهيام حتى بـنبرات خُتم بها الصدق والوفاء، أصبحت زوجته! توجت على اسمه قولا وفعلاً!! غطت وجهها بـكفيها بـخجل وشعرت بـحرارة تنبعث من خديها وأذنيها وموجة من الضحك انتابتها وبـصعوبة شديدة تحكمت بها!! ابتسمت بـخبث عندما طرأت لها تلك الفكرة المشاكسة وسرعان ما جعدت ملامحها بـبكاءٍ ومطت شفتيها بـندم وجذبت خصلاتها مجعدة إياهم وصاحت بـبكاء مصطنع صارخة عند أذن ذلك المسكين:

_ قوم يا متوحش قووووم أنتَ عملت فيا إيه عاااااا

نهض «براء» بـفزع وألمٍ قوي يضرب مؤخرة رأسه وهتف بـنعاس:

_ إيه.... حصل إيه....

صكت على أسنانها بـتوعد من لامبالاته وقرصته بـعنف بـخصره وصاحت بـغضب:

_ عملت فيا إيه هااا؟! شربتني إيه وخدت غرضك؟! قولي؟!

تلاقى حاجبي الآخر بـتعجب سرعان ما تبدل لزهول أنسيت؟! صفع كفيه معا بـيأس وتمتم بـهدوء:

_ بقيتي مراتي وحبيبتي يا ستي كملت جوازنا!

كادت بسمة عاشقة تشق ثغرها ولكنها حجبتها ولكزته بـقوة بـذراعه هاتفة:

_ يا بجاحتك يا شيخ!! شربتني إيه؟؟ نيمتني واستفرضت بيا وخدت غرضك

ضيق «براء» عينيه بـتوجس وهو يعلم ألاعيبها جيداً ومد يديها بـخبث من أسفل الغطاء قارصًا ظهرها العاري مما جعلها تشهق بـخجل وتوتر ساحبة الغطاء عليها مبتعدة عنه وصاحت بـخجل وغضب:

_ يا قليل الأدب يا وقح... يا.... عااا

صرخت بـخجل وتوتر بلغ مبلغه منها وهرولت مسرعة للمرحاض عندما رأته ممددة بـجسده العاري ولم يستر سوى نصفه السفلي!! ويناظرها بـمكر وخبث!! شتمته وسبته ولكن رغم ذلك ابتسمت! ذكريات ليلة أمس لن تُمحى من عقلها ما دامت على وجه الخليقة! سعادتها لا يساعها الكون بـأثره وفرحتها التي تتراقص بـسرور وبهجة أغدقته هو الآخر!! دلفت أسفل المياه الدافئة لـتسترخي عضلات جسدها المتشنجة من خجلها الشديد منه ولم تختفي بسمتها العاشقة.....

تنهد «براء» بـسعادة كأنه لمس السحاب بـيديه! أغمض عينيه يُعيد كلماتها التي كانت تهمس بها له بـكل دقيقة لهم! يعلم حبها جيداً وعشقها الذي يحاصره ولكنها لم تتوقف عن حروفها التي أشعلت عقله وجعلت لسانه يغدقها بـعشقه اللامتناهي!! ضحك بـشدة عندما تذكر ملامحها الفزعة والخجلة عكس تلك الفتاة الجريئة التي احتوته أمس!! أحقا تخجل الآن؟!

♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡
وقف أمام الغرفة وقلبه ينبض بـعنف كمن خرج من قتالٍ دموي للتو!! لقد زار طبيبه منذ أتي وأخبره أنه أستفاق بل وجميع مؤشراته الحيوية بخير ويمكن له الذهاب مع للبيت!! أخرج زفير عميق من رئتيه عبر عن توتره من لقاء صغيره!! دلف بـهدوءٍ عكس ضجيج جسده ولكنه ما لبث أن ابتسم عندما رآها تضمه لـصدرها وتطعمه بـحنانٍ يُقسم من يراها أنها والدته وليست زوجة والده!! رغم شقيها المُعارضين لـبعضهم البعض كان «حمزه» العامل الوحيد المشترك بينهم هو من جعلها تبقى وهو من ساعده لـتغفر له ولو قليلاً!! اقترب منهم بـحرص حتى أصبح أمام الصغير وأمسك كفه بـحب وحنان لا يعرف ماذا يخبره! أيسأله عن حاله؟! أيضمه؟! هز رأسه بـسخرية من حاله وحمله لـصدره وسط نظرات «حمزه» الهادئة و «أثـير» المبتسمة!! ضمه لـأضلعه يخفيه داخله مستنشقًا عبير طفولته التي حُرم منه لـعشرة أعوام مضت دقائق طويلة عليهم ابتعد عنه وأجلسه على قدميه ماسحًا على خصلاته بـحب:

_ بيقولوا إنك شبهي مكنتش مصدق بس عيونك نسخه مني.... أنتَ حلو أووي

أحاط «حمزه» عنق والده بـضعف بـسبب هُزال جسده وهز رأسه بـتأكيد بينما تابع «راكــان» بـشغف:

_ إيه رأيك نخرج من هنا نتفسح! ولا نروح عند تيتا هتحبها اووي.... ونجيب لبس كتير ليك ولعب ونروح في أي مكان نفسك فيه و...

أوقفته «أثـير» بـعينين دامعتين:

_ راكــان حمزه تعبان محتاج يرتاح لسه.... ياخد فترة نقاهه وبعدين نعمل كل اللي نفسه فيه

أومأ لها بـموافقة وتمتم ربت على كفها بـحب وهمس:

_ ربنا ما يحرمني منك ولا يخليني سبب بوجع قلبك

هزت رأسها بـصمت واكتفت ببسمة صغيرة وحولت نظرها لـ «حمزه» الهادئ وتمتمت بـحنان:
حبيبي أنتَ كويس؟!

هز «حمزه» رأسه وابتسم لأول مرة بـشفافية وصدقٍ تام وخرج صوته الذي ظنوه مفقود:

_ ايوا

نهض «راكــان» مبتعدًا عنهم وتمتم قبل خروجه:

_ هخلص إجراءات الخروج عشان نرجع البيت

أومأت له ودارت بـنظرها لـ «حمزه» الصامت وتمتمت بـمرح:

_ أنا أثـير اعتبرني صاحبتك من النهارده دا لو مش هيضيقك؟!

ابتسم الصغير بـسعادة وهتف بـفرح:

_ أنا عمري ما كان عندي صحاب... عشان كدا هعتبرك صحبتي الوحيده

عضت على شفتيها بـألم لـحال الصغير ولكنها ستعوضه! سـتجعل حظه أفضل منها بكثير هي تعلم جيداً معنى كونك وحيد الأصدقاء والأسرة وما تُخلفه تلك المفقودات بـالنفوس البشرية والقلوب لـذلك لا مجال لـترك صغيرها وحيداً أبداً ما دامت حية تُرزق!!

التقطت حقيبتها وفتحتها مُفتشة عن قطع الحلوي التي أبتاعاتهم له منذ مدة ولم تخرجهم من حقيبتها سوى الآن!! وضعت أمامه بـلهفة وحب وأردفت بـطيبة:

_ معرفش أنتَ بتحب اي نوع شيكولا أكتر فجيبت ليك منهم كلهم...

ضحك «حمزه» على توترها الذي تخفيه وحُمرة خديها التي تغلبت عليها وقبض على الشيكولاته ووضعهم جانبًا وأردف بـامتنان وحب:

_ كنت بسمعك كل يوم لما بتكلميني وتحكيلي عن يومك.... كنت بحس بـيكي وبـدموعك... أنا بحبك جداً وشكراً لأنك مكرهتنيش ولا رفضتيني

هزت رأسها بـنفي قاطع ونزلت دموعها تخالط بسمتها السعيدة لكلمات الصغير البسيطة التي ابتهج قلبها له!! احتضنت كفيه وقبلتهم بـحب وهمست بـتأكيد:

_ حتى لو كان في مجال أرفضك مكنتش هقدر لأنك شبهه، نسخه من راكــان، أنا عمري ما هفكر حتى أكرهك أو أرفضك، أنتَ ابني حتى لو متقبلتش كدا!!

قاطعها الصغير بـوضع أصبعه على شفتيها وأكمل حديثها بـألم وصوتٍ مزقها:

_ مش عاوز ارجع لواحدي تاني، مش عاوز أنام لواحدي بالليل، مبحبش الضلمه، مش عاوز أكون لواحدي ولا العب لواحدي، أنا كنت ديما لواحدي حتى لما كنت نايم بقيت لواحدي في مكان جميل بس حتى دا فضلت لواحدي!! هي كانت بتسيبني في البيت وتقفل عليا وتمشي ولما بترجع بتنام وأنا... أنا

اختنق صوته بـدموعٍ موجوعة وآلالامٍ يصعب على طفلٍ بـعمره تحملها ولم تحاول هي إيقافه بل شددت على يديه وأكمل بـنبرة طفولية متذمرة:

_ كنت بشوف الولاد مع بعض ولما بقول ليها كانت بتزعقلي وتقولي أنتَ مش زيهم ومينفعش تلعب، هو أنا مش زيهم لي يا أثـير؟! أنا مش من حقي العب؟! مش لازم يبقى ليا صحاب؟! مش بعرف أقول ليها ماما، في حاجه بتمنعني اقول كدا، هي مش بتضربني ولا بتزعقلي بس كانت بتحبسني!! كانت بتخليني في أوضه ضلمه ايام كتير وتقفل عليا وتمشي وأنا بفصل أعيط وأنادي عليها ولما بتعب بنام، كانت عارفه إني مش بحب الضلمه وبخاف منها بس كانت....كانت بتحطني فيها....

انهار «حمزه» بـنوبة بكاءٍ ألمت روحها معه وجعلت دموعها تتحجر بـمقلتيها رافضة النزول فقط تركت لقلبها زمام الألم!! لقد قاسى هذا الصغير ما لا يتحمله الكِبار بـعمرهم! كيف لـوالدته التي تألمت لأجله تسعة أشهر أن تحطمه وتُبقيه على تلك الشاكلة المروعة؟! كيف لأمٍ أن تكون بتلك القسوة والعنف مع فلذة كبدها؟! لما تعنفه وتحقد عليه بـتلك الطريقة أبذلك تربيه؟! يبدو لها الطفل نسمة هادئة وبالكاد يخرج صوته أحياناً رغم أنها لم تجالسه بعد؟! تشوش عقلها بالكثير من الاستفهامات وتخبطت مشاعرها ولكنها استسلمت ونهضت حاملة الصغير متوجهة لـ «راكــان» حتى يخرجوا!!....

♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡

انهت « هبه» ارتداء ملابسه وألقت نظرة أخيرة على هيئتها وابتسمت بـرضى متنهدة بقلق لقد ترك لها « ثائر» رسالة ليلة أمس بعد ذهابه يخبرها أن والدته تريد رؤيتها والتحدث معها وأقسم أنه لن يكون بالبيت ولن يراها! أتفرح لـذلك أم تحزن؟! أتسعد لأنه يحاول جاهدا مثلها ألا يقع بِـشباك الشيطان أو تحزن لأنها كانت تتمنى رؤيته؟! توجهت للخارج لـترى شقيقتها تنتظرها ورمتها بـنظرة حانقة وما لبث أن تبدلت بـبسمة وهرولت ممسكة بـكفيها وسارا للخارج....

وقفت « هبه» أمام البيت متنهدة بـريبة ولكنها تشجعت طارقة الباب وابتسمت بـسعادة عندما طلت تلك المرأة التي تختزن بـقلبها حبٍ يكفي العالم أجمع وأكثر!! احتضنتها السيدة «نجاة» بحب وكذلك الصغيرة ورحبت بهم بـحفاوة، جلست « هبه» تفرك كفيها معا بـتوتر قطعه صوت الصغيرة الخافت:

_ أنا مش متفائلة بالزيارة دي

انحنت « هبه» عليها وهمست بـصوتٍ مماثل لها:

_ عاوزه الحق!! والله ولا أنا

كانت السيدة « نجاة» تتابع همسهم الخافت وحركات وجه الصغيرة التي جعلتها تود التهامها ولكنها تغاضت عن ذلك وعقدت ذراعيها بـلوم وتمتمت:

_ يعني لازم ثائر اللي يكلمك عشان تيجي تشوفيني واتكلم معاكي؟!

هزت الأخرى رأسها بنفي وتمتمت بـصدق:

_ لا والله يا طنط بس حصلت ظروف كتير شغلتني مش أكتر

ابتسمت السيدة « نجاة» بـطيبة وهمهمت مردفة بـمزاح:

_ خلاص عفونا عنك بس بشرط

أومأت « هبه» بموافقة وتمتمت:

_ وأنا موافقه من قبل ما أعرفه

_ تيجي تعيشي معايا هنا
تمتمت بها السيدة « نجاة» بهدوء...

جف حلق « هبه» مما سمعته وعاودت عليها السؤال وكأنها كانت تتخيل:

_ حضرتك قصدك إيه؟!

رمقتها الأخرى بـنظرة حانية وصادقة مردفة بـحب:

_ أنا فاهمه أسبابك ومتعرفيش كبرتي في نظري ازاي بعد قرارك دا بس دلوقت ثائر هيسافر فترة وهفضل لواحدي

لم تستمع من حديثها سوى أنه سـيسافر!! غِصة قوية حرقت حلقها جعلته ترغب بـالبكاء دون إرادة للـتوقف وهمست بـتساؤل:

_ هيسافر فين؟!

كانت الإجابة تلك المرة منه ولا تعلم كيف لم تنتبه أنه أتى! رغم أنه بألا يأتي وهي هنا!!! لم تجرأ على النظر له عندما سمعته يهتف:

_ سفريه ضرورية لمدة شهر... هسافر قطر

بـصعوبة ألجمت لسانها عن سؤاله لماذا؟! وكيف لم يخبرها قبل الآن؟! صحيح أنه ابعدته ولكن تواجده حولها يُريحها ولكن بُعده تلك الأميال عنها لا تضمن نتائجه! ابتسمت لهم بـتوتر ونهضت مقررة المغادرة حتى لا تُحمل ذاتها المزيد من المشاحنات ولكن وقوفه لها بالمرصاد متصديًا لخطواتها جعلتها ترفع نظرها له لأول مرة أتى وتهمس:

_ أبعد لو سمحت

علم أنها حزينة مثله تماماً هو مجبر على الذهاب فجأة طرأ له ذلك الأمر الذي لا مفر ولا بديل له، كانت نظراتها له حزينة ومتألمة رأي من خلالها طيف من خيبة الأمل والاستسلام مما جعله يتمتم بـرجاء:

_ خلينا نتكلم شوي يا هبه

كادت أن تعترض ولكنه همس بـتعب:

_ أرجوكي اسمعيني وبعدين قرري

عادت لـمكانها مجدداً بعدما غادرت شقيقتها مع والدته وجلس هو أمامها ينظر لها بـعينين هائمتين بينما تحاشت هي نظراتهم بـكل قوتها، تمنت بـتلك اللحظة أن تكون « أثير» المتهورة وتعنفه ثم تبكي وترحل أو « ورده» الوقحه لـسبته وتجرأت عليه ورحلت هي أيضاً ولكنها ليست كلاهما هي « هبه» الهادئة المتريثة كما تصفها صديقتها!!...

حمحم « ثائر» بـنَبرة رخيمة مردفًا:

_ مش هقدر أقولك سبب سفري على الأقل لحد ما ارجع واتاكد منه بس صدقيني أنا مُجبر اعمل كدا ومفيش بديل، هو شهر هسافره وهرجع تاني وقتها تكون عدتك انتهت ونتجوز لأني مبقتش قادر على البعد والتعب دا، مبقتش قادر اتحمل إنك تبقي قدام عيني ومعرفش أبصلك ولا حتى ابتسم في وشك، مش عارف أمارس حياتي من وقت ما بعدتي ورفضتي تقابليني أو تخليني اسمع صوتك، اعتبريه بعد أنتِ فرضتيه علينا يا هبه المرة دي، خليكي واثقه فيا ممكن؟!

بعد صمتٍ دام لـدقائق رفعت عينيها اللامعتين بـالدموع له وهمست بحزن:

_ أنا مبعدتش بمزاجي، أنا عملت كل دا عشانا... عشان مش هتحمل نبقى مبسوطين بلحظات بنسرقها وهي معصيه... مش عاوزه أغلط وأنا عارفه الصح... .... هستنى تاني وتالت ومليون بس لو بعد كل الوقت في أنتَ!!

لم يمنع ابتسامته العاشقة أن تظهر وكيف لا وتلك التي أحبها هي آية من الحكمة والهدوء والسلام!؟ كيف وفتاته التي يعشقها تفهمه من نظراته؟! كيف وهذا الملاك يحبه ومعه؟! تنفس بـراحة وتمتم:

_ تعالي اقعدي مع أمي هنا الفترة دي... مينفعش تفضل لوحدها وقبل ما تعترضي هي اللي طلبت مني والله

أومأت له بـصمت وأشاحت ببصرها عنه هامسة:

_ هتسافر امتى؟!

غمغم دون تردد:

_ بعد يومين

لم تصطدم كثيراً فهي تتوقع منه أي شيء ولكن أي شيء إلا أن يؤذيها!! إلا أنا يحزنها بقصد!! أجبرت ذاتها على الابتسام له رغم أنه لا يري ذلك ولكنها تعلم أنه يشعر بـبسمتها وغمغمت بـرقة:

_ على خير.. ترجع بـالسلامه

♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡

وضعت « أثير» حمزه بـفراشها بعد أن تأكدت من نومه ودثرته جيداً بـالفراش عندما استمعت لـصوت رنين جرس الباب، نهضت تعلم الطارق ولكن سبقها «راكــان» وتحول صمتها فجأة لـصرخة عالية نابعة من قلبها تعبر عن سعادتها عندما رأت والدها وجدها!! هرولت إليهم ضاممة كلاهما بـقوة معبرة عن شوقهم لها ولكن ما أقلقها هو صمتهم ونظراتهم التي لم تبارح زوجها!! ابتعدت عن والدها هاتفة بـفرحة:

_ وحشتوني جداً وماما والبيت كله

بادلها والدها بـبسمة لم تصل لـعيناه وتمتم وعيناه لم تبارح زوجها:

_ وأنتِ كمان يا حبيبتي

حولت نظرها لـجدها الصامت ونظراته التي تلوم « راكــان» بـهدوء وتسألت:

_ جدو مالك؟!

رمقها بـنظرة لم تستطع تفسيرها وأردف بـحدة:

_ هو سؤال واحد!!.... ليه معرفتيناش؟!

ابتلعت لعابها بـهلع من هيئة جدها الغاضبة وعروق وجهه النافرة وتلقائيا اقتربت ممسكة بيد « راكــان» الذي شدد عليها داعمًا إياها وتمتم بـبرود:

_ اتفضلوا مش هنتكلم على الباب كدا ميصحش

رمقه الجد بـسخط وصاح بـتهكم:

_ وأنتَ لما اللي يصح واللي ميصحش تضحك على بنات الناس وتخليهم لعبه في إيدك؟!

لم تتبدل نظرات التبلد بـعيني « راكــان» بل على العكس تضاعفت وتحدث بـقوة:

_ لو جيتلي قبل عشر سنين كنت وقتها هقولك أنا فعلاً بلعب ببنات الناس بس دلوقت كل اللي أقدر اقولوا إن حفيدتك روحي.... عارف يعني إيه؟! يعني مش هتطلع من بيتي غير بـموتي!! أنا مكدبتش عليك في حرف من اللي قولتوا ليك بالعكس أنا مقولتش على كل اللي في قلبي ليها، أنا غلط ومعترف بغلطي وهقبل بأي عقاب بس منها ومش من غيرها ومش مهم رأي العالم كله فيا طالما هي راضيه وجنبي

اهتاج والد « أثير» وأنقض لاكمًا « راكــان» بـعنفٍ ساحق بـوجهه وسط صراخات « أثير» الفزعة والقلقة على كليهما! لم يحاول الآخر تخليص نفسه بل سمح له بالتفريج عن مكنون غضبه وحزنه الذي استشعره بـصوته!! عدم مقاومة « راكان» لـ « حسين» جعلت الآخر يبتعد بـغضب وأوقفه ممسكًا بتلابيب ملابسه وصاح بـصوتٍ جوهري:

_ مش بنتي اللي تبقى زوجه تانيه وتربي ابن مش منها وتفضل تعاني بسبب غلطة واحد قذر زيك قدر يضحك على الكل واتلون زي الحربايه وخطفها من وسطنا.... هي كلمه واحده تطلقها وحالا.... وإلا...

فاقت من دوامة هلعها على صياح والدها الغاضب ورأت زوجها يترنح بين يديه ووجهه مغطى بـالدماء مما جعلها تنتفض رعبًا وتحاول الاقتراب إلا أن نظرة جدها الحازمة أوقفتها كـصنمٍ نادم!! صُعقت من حديث والدها ولم تتردد للحظة وهتفت بـنفي:

_ ومين قالك إني عاوزه اطلق؟! مين قال إني هسيب بيتي؟! أنا لا هطلق ولا هسيب جوزي وابني

اهتز جسد « حسين» بـغضب وهتف من بين أسنانه:

_ دا مش ابنك فوقي.... دا ابن واحده قذره زي اللي اتجوزتيه وضحك علينا بكام كلمه خايبه

للعجيب لم تتساقط دموعها كعادتها بل ابتسمت واقتربت مبعدة والدها عن زوجها ووقفت هي نيابة عنه مردفة بـهدوء:

_ حمزه ابني ودا شيء يخصني وميخصش حد غيري، أنا مبقتش صغيره عشان حد ينوب عني في قراراتي أو يختار بدالي، أنا مش أثير اللي الكل كان بيضحك عليها بـكلمه وهي تجري بـفرحه هبله عليهم، يمكن حمزه جه في ظروف غلط ممكن كنت أنا اتولد فيها!؟ وقتها هيبقى كلامك هو نفسه؟!

وجهت حديثها لـجدها وهمست بـتعب:

_ مش أنتَ اللي قولتلي امشي ورا قلبك وعقلك لما يتفقوا اعرفي إنك في طريق نهايته فرحه!؟ وأنا عملت كدا وكل الطرق ودتني ليه ومش زعلانه ولا ندمانه، عرفتوا ايه مقولتش ليكوا؟! عشان انتو هنا خايفين على شكلكوا وسمعتكوا مش خايفين عليا!! صحيح قدمتوا ليا حاجات كتير وكنت عايشه في بيت مفيش بنت تتمناه بس فاضي؟! زي لما تجيب هديه كبيييرة وفخمه وصاحبها يفتحها يلاقيها فاضيه!! انتو كدا، ولا مره دعمتوني وكنتوا جنبي، ولا مره حسيت بحبكوا

حاول والدها أن يوقفها ويضمها محاولاً تهدئتها ولكنها ابتعدت وضمت جسدها لـزوجها الذي لم يبخل عليها بحبه وتمتمت:

_يمكن هو أذاني ووجعني وعيط كتير بسببه بس دعمني حتي في بعدي عنه! دعمني وقت ضعفي وتعبي ومتخلاش عني رغم إني اتخليت عنه! كان موجود لما انتوا اهملتوا وبعدتوا، لما الكل سخر مني ووجعني هو كان البلسم لـروحي وضمادة قلبي ودافع عني، مقهورة وزعلانه وتعبانه بسببه بس مش قادره أبعد عنه لأن قلبي مربوط بيه، هو على الأقل بيفتخر بيا!؟ شخص واحد بيحسسني إني اهم انجازاته واعظمها!! شخص قابلني بكل عيوبي وميعرفش عندي مميزات ولالا!!! شخص حبني لنفسي مسابنيش ومشي!!!

لم يجد والدها وجدها الكلمات لوصف حديثها وشعروا بـمدى حقارتهم أمام عظمة زوجها الذي أتوا لـيبعدوه عنها!! نظروا لها بـرجاءٍ أخير قبل مغادرتهم وحمل كلاهما خيبته التي أخلفها بـصغيرته ورحلا!! هم سبب انتكاساتها الدائمة لم يقتربوا منها كفاية ليروا عتمة روحها التي كانت تتسع يومًا بعد يوم!!! لم يشعروا بـتمزق أحبالها الصوتية ليلاً طلبًا لـاهتمامهم وقربهم!!!

ساذج من يظن أن بتوفير الرفاهية لمن يحب هكذا يعطيه سعادة العالم اجمع ومقابل ذلك يهمله! يهمل المه، خوفه، وجعه والادهى يهمل بريق روحه التي كانت تتعثر بـالظلام الدامس!! من قال أن السعادة بـالمال أو الطعام أو حتى التجمعات؟! من قال أن القلوب لا تحتاج لـبسمة يومية تخبرها أن العالم سيكون بخير؟! من قال أن الوحدة والتباعد الأسري رأفة؟! أغفلوا عن كونها نِقمة ولعنة!؟.....


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close