رواية هل الضربة قاضية الفصل الخامس عشر 15 بقلم نهال عبدالواحد
وبينما رياض متجهًا نحو المطبخ لصنع العصير إذ رنَّ جرس الباب، فاتجه ليفتح فإذا بها أخته رباب ممسكة بيدها ابنها عليّ وطارق زوجها حاملًا ابنتهما عالية.
كانت رباب تشبه رياض في ملامحه بعض الشيء، فبمجرد رؤيتهما معًا تتعرف من تلقاء نفسك عليهما كأخوان فبشرتها فاتحة وعيناها داكنتان مثله لكنها أقل في القامة، أما طارق فيشبه إيهاب لكن جسده يميل للبدانة قليلًا خاصةً ذلك الكرش الرجولي!
حقيقةً ذلك الرباعي رياض، رباب، طارق وإيهاب يشتركون جميعًا في نفس الملامح، ويسهل الحكم عليهم كونهم من نفس العائلة.
دخلت رباب تعانق أمها كالعادة وسلّم طارق على نادية مقبّلًا جبهتها، ثم انتبها لوجود هاجر وحبيبة، اتجه نظر رباب وطارق نحو حبيبة بعد إيماءة صغيرة من نادية.
كانت رباب تتفحصها بنظرها هي الأخرى بسعادة أيضًا، خاصةً وكانت عينا حبيبة متمركزةً ناحية رياض، لعبه ومرحه مع أبناء أخته، فهذا جانب جديد لم تراه فيه من قبل، كشخص سياسي في تعامله مع الأطفال وبحب، حقيقةً اليوم بأكمله هي ترى رياضًا آخر غير الذي تعرفه منذ عدة أشهر، أم أنها لم تحاول معرفته أصلًا؛ دائمًا تصنع الحدود والعراقيل وتحول دون اقتراب أي كائن من معشر الرجال.
قالت رباب: مش تعرفنا يا رياض على الجماعة!
صاحت نادية بسعادة: دي هاجر، والبيضة أوي القمر دي حبيبة، جيرانا الجداد هيأجروا الشقة.
صعق رياض من وصف أمه الصريح لحبيبة، وأيضًا حبيبة ازدادت حمرة وجنتيها من ذلك الوصف، وبدا عليها التوتر وبدأت عيناها تزوغ في كل اتجاه من الارتباك، حقيقةً هي لا تفهم نفسها اليوم ولا تدري ماذا أصابها!
فقد اعتادت على التبلد والقوة في أي موقف، لكن ماذا بها اليوم وقد تحولت فجأة لفتاة رقيقة تتحرج من أي كلمة وأي تعبير ! وكأنها أصبحت فتاة طبيعية!
فقالت رباب بسعادة هي الأخرى: وأنا أقول البيت منور إنهاردة كده ليه؟!
أومأت حبيبة على استحياء: منور بصحابه، إتشرفت بمعرفتكم والله!
فقالت نادية: لا ولسه لما تسكنوا هنبقى مع بعض، زي ما أنتِ شايفة أنا ست وحدانية ورياض بيخرج م الصبح وما بيرجعش إلا نص الليل، يعني لوحدي اليوم كله، قليل أوي لما بيجي عل غدا، عشان كده تلاقيني دايمًا عند رباب أو هي عندي.
ثم قالت: إن شاء الله يتغير قريب ويلبد هنا اليوم كله.
ثم ضحكت...
فنظر رياض لأمه نظرة تحذيرية من جديد محرّكًا فمه بلا صوت بقول: ماما!
فقالت هاجر لتغير الموضوع خاصةً وكتلة الحمرة الواقفة جوارها على غير العادة: بصراحة حضرتك إحنا بنشتغل برضو وبننزل الساعة اتنين وبنرجع ع الساعة حداشر تقريبًا، يعني مش زي ما حضرتك متصورة.
فقالت بتساؤل: ليه؟ إنتوا بتشتغلوا إيه؟!
فقالت حبيبة: بنقدم الطلبات في مطعم وكافيه.
فتدخل رياض قائلًا: بتاع مصطفى صاحبي يا ماما، وأنا عرفتهم من هناك.
فسكتت نادية قليلًا ثم قالت بتنهيدة: شغلانة صعبة وتعرضكم للمرمطة، بنتين زيكم وسط الناس وتروحوا وتيجيوا!
فقالت حبيبة مع بعض الشرود وكأنها بدأت تغوص في ذكرياتها: أهي شغلانة نصرف بيها على نفسنا، إحنا لوحدنا وما لناش حد، وده السبب اللي خلاني أدور على لعبة دفاعية.
فأومأت نادية برأسها بتفهم وقالت: عشان كده بأه دخلتِ ف موضوع الملاكمة!
فأومأت حبيبة برأسها، فرفعت رباب حاجبيها وقالت بابتسامة ماكرة: يبقى دي الكابتن اللي بتهد حيلك وبترقعك كل علقة وعلقة!
فانفجر الجميع في الضحك مجددًا، بعكس رياض الذي بدا عليه الغضب قائلًا محاولًا السيطرة على نفسه: حلو أوي ده! عملتوني نكتة خلاص! وبعدين إيه بترقعك علقة دي! إسمها بتدربني كتير، بتشد عليّ ف التمرين.
فأمسكت حبيبة خديها من جديد لتسيطر على ضحكها، ثم قالت: أنا سعيدة بمعرفتكم ونتقابل مرة تانية إن شاء الله.
فنهضت نادية متجهة نحوها قائلة: على فين؟ هو أنا لحقت أشبع منك!
فابتسمت حبيبة بود وقالت بهدوء: معلش حضرتك الأيام جاية كتير وهتزهقي منا.
فأسرعت نادية قائلة: لا ده إنتِ حتى دخلتِ قلبي واتربعتي فيه!
فقالت هاجر: يادوب عشان ميعاد الشفت بتاعنا قرّب.
فسلمت عليهما نادية ورباب وشددت نادية في عناقها لحبيبة رغم كل نظرات رياض التحذيرية لها، ثم انحنت حبيبة تسلّم على الطفلين، وما أن همت بالخروج حتى ناداها رياض: حبيبة.
فالتفتت نحوه، فاقترب بضع خطوات ثم قال مسبلًا بنظراته: ممكن رقم تليفونك، عشان يعني لما الشقة تجهز أتصل بيكِ وأبلغكم يعني.
كان يتحدث بارتباكٍ واضح، عينيه مسلطتين مباشرةً داخل عينيها، والغريب أنها لم تعترض وأعطته رقمها بالفعل.
كانت حبيبة تحاول السيطرة هي الأخرى على توترها وخجلها الزائد اليوم خاصةً وهي تشعر أن نظراته هذه تخترقها بشكلٍ غريب، هي اليوم تشعر بالكثير من المشاعر الغريبة والمتضاربة! حتى لم يفطن أحدهما لتقلص المسافة بينهما وأنهما قريبان للغاية.
كان رياض على حاله هذا وإحدى يديه جانبه...
وفجأة!
قضم كفه أحد الطفلين فصرخ رياض فجأة صرخة مدوية كادت تصيب حبيبة بالصمم؛ فأذنها كانت قريبة للغاية من فمه، فصرخت فيه هي الأخرى وهي تهز رأسها مدلك أذنيها: إيه ده! هطّرش! في حد يعمل كده!
فجذب يده بسرعة ملتفتًا لمن حوله وهم ما بين ضاحكٍ وناظرٍ بنظراتٍ مسلية، فوزّع عليهم جميعًا نظراتٍ تحذيرية، ثم قال موجّهًا حديثه لأخته: عجبك عمايل عيالك دي! معلماهم العض كمان!
فضحكت قائلة: وأنا مالي دي جينات! أصلهم بيقولوا عني إني كنت غضاضة وأنا صغيرة.
قالت الأخيرة بنبرة مسكنة مصطنعة.
فأومأ برأسه قائلًا: صبرك عليّ بس!
فاستأذنت هاجر جاذبة ذراع ابنة خالتها تتأبطها قبل أن يحدث مزيد من المواقف التي لا تنتهي.
وبعد انصراف الفتاتين، توجه رياض نحوهم جميعًا ثم ضم ساعديه أمام صدره موزعًا نظراته عليهم ثم قال: مالكم! إيه العمايل والفضايح دي! حد مسلّطكم عليّ إنهاردة!
فابتسمت رباب: جرى إيه يا رياض ما بتهزرش ولا إيه!
فرفع حاجبيه بنفاذ صبر متأففًا وناظرًا لأعلى، لتقول نادية هي الأخرى : طب والله لطاف وقعدتهم حلوة!
فتوجه رياض لأمه قائلًا بغيظ: وإيه بأه الحركات اللي كنتِ بتعمليها دي!
فقالت بعدم فهم مصطنع: إيه عملت إيه! كل ده عشان حضنتها و بوستها!
فقال بتعجب : حضنتيها و بوستيها ! يا أمي ده إنت نازلة فيها تفعيص و حاجة....
ثم انتبه ناحية طارق الذي قد مال إلى جانبه من شدة الضحك.
فصاح رياض بغضب: هتتفضل معايا ولا هتخليك تكمل ضحك! مسكتم الزغزغة كلكم إنهاردة!
فقال له: مالك يا عم؟ ما تفكها كده وخليك حلو.
فنظر له رياض شرزًا وهو يتجه نحو باب الشقة، فنهض طارق وقال: جاي أهو، أنا أصلًا كنت مستعجل طلعت بس عشان أسلم على ست الحبايب.
ثم انحنى مقبّلًا رأس نادية ولا زال لا يتمالك نفسه من الضحك، ففتح رياض الباب وانطلق إلى الخارج، وبمجرد خروجه انفجر الجميع ضاحكًا.
فقال طارق وهو يسلم على زوجته: كفاية كده عشان أخوكِ شايط و هيولع فينا كلنا.
ثم انصرف، اقتربت رباب من أمها وكانتا على حالتهما من شدة الضحك والقهقهة، ثم جلست جانب أمها وقالت: إيه النظام!
فقالت نادية مبتسمة: زي ما توقعت، أخوكِ واقع! كنت شاكة من فترة سرحان على طول، لا وبيكلم نفسه ولما أسأله يقولي لا ده أنا بفكر بصوت عالي، وكان نفسي أعرف مين هي من غير ما يحس إني واخدة بالي من حالته، وأهي جت منه هو والحمد لله.
فصفّقت رباب وقالت: يا نادية يا جامدة! مش سهلة إنتِ! خِطرة أوي!
قالت الأخيرة بطريقة درامية وهي تغمز إليها بإحدى عينيها، ثم قالت متنهدة بارتياح: بصراحة البنت قمر ودخلت قلبي وشكلها بنت ناس بس فيها حاجة كده، هو رياض قالي إنهم بنتين وحدانيين كل أهلهم متوفيين، غير بس هي حكاية شغلها في المطعم دي، ودي مقدور عليها أكيد رياض هيقعدها ف البيت بعد الجواز.
فقالت رباب: كأنك تايهة عن رياض يا ماما! ده عدوه الجواز، وهيآوحك إن مفيش حاجة وإنه هيفضل عازب وتحيا العزوبية وكل الشريط اللي حافظينه كلنا ده!
فقالت الأم: كل مرة بنعرفه على واحدة كعروسة، لكن المرة دي دخلت قلبه وربعت يعني ما بآش فيها مقاومة ولا كلام، لا وهو اللي جايبها بنفسه يعرفها علينا، يبقى إيه!
- يا ماما ابنك مش هيسلم بالسهولة دي، وهيفضل يناهد فينا ويوجع قلبنا وينكر أي حاجة.
فقالت الأم ناظرة أمامها في نظرة بعيدة: هو بس محتاج لقعدة مع نفسه، وأهي جاية لوحدها، هو ومسافر و هي ومسافرة وهيبعدوا عن بعض فترة، والفترة دي هي الحكم بعون الله...