اخر الروايات

رواية هل الضربة قاضية الفصل العاشر 10 بقلم نهال عبدالواحد

رواية هل الضربة قاضية الفصل العاشر 10 بقلم نهال عبدالواحد 

- أشوف وشك بخير خلي بالك من نفسك.
قالت الأخيرة وهي تصافحه، تتسللت تلك القشعريرة في جسديهما معًا، ثم سحبت يدها وانصرفت من أمامه.
ظل على نفس وضعيته بلا حراك شعر بشعورٍ غريب لأول مرة، شعور افتقاد، يفتقد شيئًا هام فجأة، فمثله كمثل الطفل الذي يفتقد أمه دون مقدمات.
انصرفت حبيبة من أمامه واجتاحها نفس الشعور، لكنها تجاهلته أو أوهمت نفسها أن لا شيء.
أخذت حمامها، ارتدت ملابسها، صففت شعرها، جمعت أشياءها في حقيبتها وحملتها ثم ذهبت.
وبينما كانت تسير إذ سمعت من يناديها فجأة، فالتفتت لمصدر الصوت فإذا هو رياض واقفًا جوار سيارته، نظرت إليه بتدقيق محاولة استكشاف نواياه.
فابتسم متجهًا نحوها في خطواتٍ متبخترة نوعًا ما واضعًا يديه في جيبيه، كم هو وسيم في هذه الحالة!
همست بها داخلها ثم تحدثت مظهرة تأففها: خير!
أجاب بنفس ابتسامته وهدوءه: كنت عايز آخد رأيك في حاجة، إذا سمحتِ يعني!
فزمت شفتيها قائلة: اتفضل.
- إتفضلي إنتِ معايا في العربية.
فأسرعت في اقتضاب: ليه؟!
- إنتِ لسه مش بتثقي فيّ ولا إيه؟!
فتنهدت قائلة: ممكن تنجز وتقول عايز إيه وبسرعة!
- والله ما تفهميني غلط! أنا مش قصدي أي حاجة وحشة، كل الحكاية إني مسافر وعايز آخد رأيك في كام موديل.
- وأنا مالي بلبس الرجّالة!
- ما أنا هفتح فرع حريمي قريب إن شاء الله، وبما إنك بنت فكنت عايزك تساعديني في اختيار موديلات حلوة وليها الطلب في السوق.
- ومفيش غيري يختارلك يعني؟ إفرض ذوقي ما عجبكش أو اختارت حاجة مالهاش سوق!
- بس إنتِ عمر ما ذوقك يبقي وحش أبدًا، وبعدين بصراحة ما اعرفش حد غيرك حاليًا!
فرفعت حاجبيها قائلة بتهكم: بأه ما تعرفش حد غيري!
أجابها بجدية: قلت حاليًا، بصي أنا عرفت بنات كتير صحيح، لكن كلها كانت صداقات عابرة وعمرها ما تخطت أي حدود، وأصلًا كنت أول ما أعرفهم كل واحدة فيهم يجيلها عريس وتتخطب وطبعًا تختفي بعدها وتقطع علاقتها بيّ.
فزمت شفتيها من جديد وضمت ساعديها أمام صدرها وقالت بتهكم: يا حرام! مالهمش حق!
فقال بجدية: لا طبعًا معاهم كل الحق، إزاي أي راجل يقبل إن خطيبته تتكلم مع واحد غريب ويعدّي الموضوع عادي؟!
- طيب طيب، إتفضل إنجز عشان ما أتأخرش على صاحبك.
- طب إتفضلي في العربية .
قالها وهو يشير بإحدى يديه نحو السيارة.
ثم قال: والله ما تخافي! الكاتالوجات في العربية، إتفضلي.
فلم تجد بدًا وركبت معه معلنة داخلها حالة التعبئة العامة لأقصى درجة.
ركب رياض وحبيبة وأعطاها تلك الدفاتر المصورة، تصفحت فيهم واختارت منهم بعض الأشكال، بعضهم أعجبه والبعض بدأ بمناقشته معها.
ثم قال: إيه رأيك لو اشتغلتِ في المحل ده؟ وأهو أحسن من الجرسونة.
فنظرت له باقتضاب مجيبة بحدة: ليه إن شاء الله؟! ما كله شغل شريف.
فقال بنبرة أخف: ما أقصدش والله!
- إسمعني كويس! أنا مش مكسوفة من حالي ولا من شغلي وحياتي! ولا عمري إترسمت وعيشت عيشة مش عيشتي! الشغل ما يتعبش أبدًا، وأنا مرتاحة جدًا مع مستر مصطفى ومدام دينا، بيعملونا بآدمية واحترام وتقدير، حتى لو شدوا علينا ولا حتى وبّخونا، كل ده عادي، اللي كان تاعبني هو اللبس المقندل وأهي اتحلت الحمد لله.
- أنا مش قصدي تكوني بيّاعة، أنا قصدي إنك تديري المحل.
فقالت باستخفاف: وده ليه إن شاء الله؟! وبعد كده باقي اللي بيشتغلوا يحطوني في دماغهم ويحسوا إن على راسي ريشة وتبدأ الغيرة وضرب الأسَفين.
فابتسم وقال: مش شايفة إن خيالك واسع!
- لا مش واسع، ودي حاجة حصلت معايا قبل كده، ولا تكون فاهم إن دي أول مرة أشتغل فيها! ده أنا بشتغل من صغري وعدّى عليّ شغل أشكال وألوان، اشتغلت في الأول مع أمي بنضف البيوت، اشتغلت في مشاغل خياطة وكنت بفتّح العراوي وبعد كده بأينا بنشتغل على ماكينة السرفلة الهوفر، اشتغلت في محلات كتير كبيّاعة، وزي ما قُلت كانوا بيغيروا من كفائتي ويعملوا أسَفين ويفضلوا ورايا لحد ما أمشي خالص، اشتغلت في مصانع تعبئة البقول وكنا بنقعد ننقي كل يوم أطنان من الرز والعدس والفاصوليا البيضا والفول واللوبيا ....، وحاجات كتير!
- طب ليه كده؟!
فقالت بدهشة: ليه إيه؟!
- ليه تشتغلي كل ده؟!
- مش محتاجة سؤال يعني! أكيد عشان أصرف على نفسي.
- ليه؟! فين أهلك؟!
آسف، بس أنا ما اعرفش عنك حاجة.
قال الأخيرة على استحياء.
فتنهدت ثم نظرت أمامها في شرود إلى اللاشيء قائلة بلهجة يخالطها بعض الانكسار: ماليش حد، وعيت على الدنيا لاقيتني عايشة مع أمي وخالتي وبنت خالتي... هاجر ما إنت عارفها!
فالتفتت إليه وهي تقول الأخيرة، فأومأ برأسه فأكملت: هاجر باباها اتوفي وهي عمرها سنتين، والمعاش اللي طلع كان قليل لينا إحنا الأربعة، فاضطرت ماما وخالتي يشتغلوا، يشتغلوا أي شغلة شريفة حتى لو كانت دادة في حضانة، ولا تروح تنضف لحد ولا تطبخ لحد، المهم يقدروا يعيشوا ويعرفوا يربونا، كبرنا ودخلنا مدارس حكومة على أدّنا، لحد ما وصلنا لإعدادي وجت أمي وخالتي قالوا مش هنقدر على مصاريف الثانوي ولا الكليات، إدخلوا صنايع وخدوا دبلوم واشتغلوا بيه أي حاجة، طبعًا ده مش اختيار ده أمر واقع مالهوش بديل.
ثم ابتلعت ريقها بمرراة، ارتعشت شفتاها وتلألأت عيناها تهددان بسيلٍ من الدموع، وأكملت: ماما كانت تعبانة وخبت عشان مش حمل مصاريف، لحد ما... لحد ما وقعت خالص و... وفاتت أي فرصة لعلاجها.
وبدأت دموعها تسيل وهي تكمل: وخالتي حصّلتها بعدها بسنة، وفضلت أنا وهاجر من شغلة للتانية.
تمالكت نفسها ماسحة دموعها وأكملت: وخلصّنا الدبلوم بأعجوبة، ولأننا بنتين لوحدنا حسينا إننا مطمع، فجت في بالي فكرة إننا نتعلم لعبة دفاعية، وكانت أدامنا وقتها الملاكمة فلعبنا، هاجر نَفَسها قصير ما واظبتش، أنا اجتهدت وطورت مستوايّ ودخلت بطولات من أول بطولات ودية لحد ما وصلت لبطولة الجمهورية ودخلت المنتخب وبدأت أدرب على خفيف جنب شغلي وكمان أخدت جوائز نقدية، صحيح هي مش مبالغ كبيرة، لكن قدرت أدخل الجامعة المفتوحة وأكمل وآخد شهادة، صحيح هي مش حلمي لكن أحسن من مفيش.
- طب وفين أهلك؟ فين والدك؟ إنتِ ما جبتيش سيرته أبدًا.
فتبدلت ملامحها لتتحول لأكثر قسوة وأكثر حنقًا وصاحت: أنا ماليش أب.
فاتسعت عيناه وقال بصدمة: إنتِ بتقولي إيه!
- لو أطول أقص إسمه من شهادة الميلاد كنت عملتها.
ثم قالت: سابني أنا وماما واختفى من حياتنا تمامًا وكنت لسه مولودة ما كملتش شهور، وأكتر حاجة ضايقتني إن أمي فضلت على ذمته طول السنين دي ولحد ما ماتت، مش فاهمة ليه؟ ولّا إزاي قدرت تدافع عنه كل ده؟!
- طب إنت ما حاولتيش تدوري عليه وتعرفيه وتعرفي اللي حصل! ده حقك.
فقالت بجمود ودون أي تعبير على وجهها: بس أنا اللي يبيعني عمري ما أشتريه...
ثم أكملت وهي تبكي بحرقة: لكن هاجر مقطعاني ومش عايزة تعرفني تاني، وأنا ماليش غيرها وما أقدرش أستغنى عنها، واللي مخيّراني بيه خيار صعب أوي، مش عايزاني أسافر وأبطل لعب، وأنا ماقدرش!
- طب ليه؟!
- إحنا عايشين أصلًا في شقة جدي بعد ما اتوفي صاحب البيت وافق إن أمي وخالتي يفضله ساكنين، هي إيجار قديم بمبلغ قليل، وعيشنا سنين لحد ما الراجل ده مات وجه ابنه ما عجبهوش الحال، وكل فترة يفكر في حكاية عشان يطردنا، لحد ما البيت خلاص هيقع وجابله مقاول عشان يهده ويطلع مكانه بعمارة كبيرة زي ما الناس بتعمل، ومقرر يطردنا وما يسكناش تاني! هاجر مسكت في الحكاية دي ولزّقتها في لعبتي وتدريباتي وسفري، خيّرتني بينها وبين اللعبة وقاطعتني فعلًا، بس أنا مش قادرة!
قالت الاخيرة بصوت مختنق من البكاء.
فأعطاها مناديل لتجفف دموعها قائلًا بنبرة حانية: إهدي وكل حاجة ليها حل، حبيبة إنتِ بطلة، والبطلة ما ينفعش تضعف وتنهار كده.
فقالت وهي تتصنع الثبات: أنا شايلة كتير أوي وتعبت... و الله تعبت!
فقال بنبرة فخر وتشجيع: على فكرة بأه إنتِ أجمد بنت عرفتها، قوية بجد، وأنا أكتر واحد عارف قوتك دي.
قال الأخيرة بطريقة مازحة واضعًا يده على رقبته مكان اللكمة وضحك فضحكت، فصفق بقوة وقال: أيوة بأه! صلاة النبي أحسن!
وبدأ يدير السيارة، فقالت مسرعة: إده بتعمل إيه؟!
- هوصلك قبل الشيفت بتاعك، فيها حاجة دي!
فتأففت قائلة: طب اخلص هتأخر.
فقال بأسلوب ماكر: طب مفيش طريقة أرق من كده شوية؟!
- أمال!
ثم ضمت قبضة يدها مهددة له بلكمة قوية، فصاح بخوفٍ مصطنع: خلاص خلاص! تُبت وأنَبت.
فضحك وضحكت وانطلق بالسيارة...


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close