اخر الروايات

رواية قيد القمر الفصل الثالث 3 بقلم نهي طلبة

رواية قيد القمر الفصل الثالث 3 بقلم نهي طلبة


قيد القمر
الفصل الثالث
ربتت قمر على كتف والدها برقة:
ـ أرجوك يا أبي.. لا داعي لكل ذلك الحزن, أنت تعلم أنه الحل الوحيد المُتاح أمامنا الآن, هل تظن أنني سعيدة أو مرتاحة لذلك؟.. ولكن لا مفر..
نكس الرجل المسن رأسه بأسى وهو يهمس:
ـ نعم.. لا مفر, لقد أجبرتنا الظروف على ذلك.. ولكنني تمنيت أن يختار ذلك اليتيم زوجته بنفسه, فقد ظلمته الحياة كثيراً.. وها هي الظروف تضطرنا لإجباره على الزواج ومن امرأة تكبره بخمسة عشر سنة!.
ثم وضع وجهه بين كفيه وهو يقول:
ـ رحمـــاك يا الله.
ركعت قمر بجوار كرسي والدها وهي تتوسله:
ـ أرجوك يا أبي.. ارحم نفسك قليلاً, فرؤوف شاب عاقل ومُدرك تماماً لأهمية ذلك الموضوع, كما أن نعمات مازالت في ريعان شبابها ولا يبدو عليها سنها الحقيقي أبداً, فهي كانت دائمة الاعتناء بنفسها.
تمتم والدها بشرود:
ـ فليفعل الله ما فيه الخير..
*********************
توجهت قمر من فورها إلى غرفة نعمات ودخلت إليها بعد أن طرقت الباب:
ـ صباح الخير يا نعمات.. هيه, ماذا تفعلين؟..
أجابتها نعمات برقة فقد كانت تكن لقمر معزة خاصة:
ـ أهلاً بقمر الزمان.. أنا كما ترين لا أفعل شيء سوى المكوث بحجرتي طوال اليوم, من الجيد أنكِ هنا, فلتبقِ معي اليوم.. أرجوكِ يا قمر فأنا أشعر بملل رهيب.
جلست قمر بجوارها على الفراش وهي ترمقها بتفحص وتقول:
ـ إذاً يجب علينا أن نجد حلاً لذلك الملل, حل نهائي!!.
ضحكت نعمات وهي تسألها:
ـ آه.. قمر تتحدث بالألغاز, كعادتها عندما تريد شيئاً ما..
بادلتها قمر الضحك وهي تقول:
ـ لكن هذه المرة أنتِ من تريدين, ولست أنا..
قطبت نعمات حاجبيها وهي تقول:
ـ أنا التي تريد!!!... أنا لا أفهمكِ يا قمر.
أجابتها قمر بخبث:
ـ لا تخبريني أنكِ لم تبتهلي ليلاً ونهاراً ليكون لكِ طفلاً يناديكِ بأمي, ومازلتِ تحلمين بذلك.. هل أنا مخطئة؟..
بهتت نعمات وتغير وجهها وهي تلوم قمر بقولها:
ـ ما الداعي لهذا الحديث الآن يا قمر؟.. لقد احترمت فيكِ دائماً بعدكِ عن تلك اللمزات والتعليقات بشأن إنجابي أنا وعبد الرحمن رحمه الله, فكيف تسأليني الآن بعد وفاته مثل تلك الأسئلة؟..
عاد المكر ليرتسم فوق ملامح قمر وهي تمسح بعض دمعات تساقطت على وجنتي نعمات الناعمتين:
ـ لما البكاء يا نعمات؟.. أنا لم أكن أريد جرحكِ.. فأنا أعلم جيداً أن عدم الإنجاب كان مشكلة عبد الرحمن.
تفاجأت نعمات وهي تسمع ذلك الاعتراف من قمر وسألتها:
ـ كيــ.. كيف تعلمين؟..
نهضت قمر من الفراش فقد شعرت أنها لا تستطيع المكوث في بقعة واحدة بدون أن تتحرك وقالت لنعمات:
ـ دعكِ من هذا الآن... وأجيبي سؤالي أولاً هل تتوقين لابن أو ابنة؟..
نظرت إليها نعمات بأسى وهي تقول:
ـ وهل تحتاجين لإجابة يا قمر؟.. هل توجد امرأة طبيعية لا تتوق للأمومة!!.. لكن يجب علي أن أنسى ذلك الحُلم وأواريه التراب مع عبد الرحمن رحمه الله.
قالت قمر وهي ترسم خطتها بذكاء:
ـ رحمك الله يا أخي, لكن يا نعمات حرمانكِ من الإنجاب ظلمٌ بيّن, والله لا يرضى بذلك... ولا أعتقد أن المرحوم أخي كان سيرغب في ترككِ وحيدة في الحياة بدون ابن أو ابنة يكن لكِ ونيس وسند.
سألتها نعمات بحيرة:
ـ ما معنى كلامكِ هذا يا قمر؟.. هل تحاولين إخباري بشىء ما, رسالة ربما, من الحاج عبد الرؤوف؟.. هل معنى كلامكِ هذا أنه لن يعارض إذا ما فكرت في الزواج مرة أخرى؟..
عاجلتها قمر بالسؤال:
ـ وهل تفكرين؟.. هل ترغبين بالزواج ثانية؟..
زادت حيرة نعمات ولم تفهم هدف قمر من كل تلك الأسئلة, ونفذت قدرتها على تحمل تلاعب قمر بها فصاحت:
ـ قمر... أتوسل إليكِ أنا لا أحتمل تلك الألغاز.. لما لا تخبريني مباشرة إلى ماذا تهدفين؟.
عادت قمر للجلوس على الفراش بمواجهة نعمات ونظرت في عينيها مباشرة:
ـ حسناً يا نعمات.. لنتكلم بصراحة, أنتِ مازالتِ صغيرة وشابة ومن حقكِ أن تكوني أم مثل كل امرأة, هذا حق لا يستطيع أحد أن ينكره عليكِ, لكنكِ تدركين جيداً عاداتنا وتقاليدنا وتفكير الناس هنا في البلدة الذي سيُحرم عليكِ فكرة الزواج من خارج العائلة, لذا لقد أتيت لأعرض عليكِ الحل المناسب, ولا أخفي عليكِ سراً إن شبابكِ وجمالكِ لن يكونا في صالحكِ إذا قررتِ البقاء بدون زواج, في حين إذا وافقتِ على..
قاطعتها نعمات بغضب:
ـ قمر.. أقسم بالله أنني لا أفهم إلى ماذا تهدفين؟.. أنتِ تتكلمين عن زواجي ثانية وكأنه أمر واقع لا محالة, فمتى أخبرتكِ أنني أرغب في الزواج أو حتى أفكر به؟.. إن زوجي والذي هو شقيقكِ, توفي منذ أربعة أشهر فقط.. إنني لا أزال في عدتي ولم أخرج منها, عن أي زواج تتحدثين؟!!!...
أخذت قمر تتفحصها لعدة دقائق وكأنها تفكر في طريقة لابلاغها بما تريد:
ـ نعمات.. أنا أتكلم عن سُنة الحياة, عن فِطرة الخلق.. أنا أعلم أنكِ مازلتِ في أيام عدتكِ, كما أعلم أيضاً أنكِ على مشارف الخامسة والثلاثين, الوقت يجري وفرصكِ في الإنجاب تتضاءل.. وزواجكِ لابد منه, فامرأة في جمالكِ لن يتركها الناس وشأنها خاصة في مجتمعنا الضيق بأفكاره العتيقة.. لذا المصلحة تحتم زواجكِ فور انتهاء عدتكِ, مصلحتكِ ومصلحتنا.
شعرت نعمات بأنها تغرق.. تغرق وسط دوامة من الأفكار زرعتها قمر في رأسها, فعادت تسأل بحيرة:
ـ ماذا تعنين يا قمر؟.. أنا لا أفهم مصلحتي؟.. ومصلحتكم؟... هل يريد عمي الحاج إخراجي من المنزل؟.. هل أرسلكِ لتبلغيني بهذا؟..
صاحت قمر بتعجب:
ـ إخراجكِ من المنزل؟.. من قال هذا؟.. هل تعتقدين أن الحاج عبد الرؤوف يمكن أن يفكر بتلك الطريقة؟!!!..
سألتها نعمات وقد عجزت كلياً عن فهم ما تريده قمر:
ـ أخبريني بصراحة يا قمر.. ما هو الموضوع إذاً؟..
ردت قمر بتأني:
ـ الموضوع ببساطة.. أن الحاج لا يرغب في أن يراكِ خارج العائلة, فهو يقدركِ كثيراً لذا اختاركِ لتكوني زوجة لأفضل رجال العائلة..
نعمات بصدمة:
ـ ماذا؟!!!..
ردت قمر بهدوء مستفز:
ـ لما كل هذه الصدمة؟.. أنتِ تدركين معزتكِ في قلب والدي, وهو لم يرغب أن يراكِ زوجة لأحد من خارج العائلة.
أجابتها نعمات وهي تحاول استيعاب ما تخبرها به قمر:
ـ هل تعنين أن والدكِ يرغب في تزويجي من عبد السلام؟.. يا إلهي!!.. هل يريدني أن أرتبط بأخ زوجي المتزوج؟!!.. وشموس؟.. هل وافقت على تلك المهزلة؟.
ثم اتسعت عيناها برعب وهي تقول:
ـ لهذا حدث ما حدث لشموس؟.. هل أنا السبب؟ يا إلهي!!.. يا إلهي!!..
أُسقط في يد قمر, فهي لم تفكر في أن نعمات يمكن أن تربط الأحداث ببعضها.. لذلك سارعت بمصارحتها بدون مرواغة قائلة:
ـ وما شأن عبد السلام بموضوع زواجكِ؟.. أنا لم أقل أن أبي يرغب بتزويجكِ منه.. إن والدي يريدكِ زوجة لرؤوف ابن أخي عبد الله..
صرخت نعمات بذهول:
ـ ماذا؟.. ما هذا الجنون؟!..
رمقتها قمر بغضب مستعر:
ـ من تقصدين بالمجنون؟.. أبي؟.. أم أنا؟..
تلعثمت نعمات في ردها:
ـ أنا.. لم.. أقصد.. أنا..
قاطعتها قمر بحزم:
ـ إن رؤوف رجل يُعتمد عليه, ووالدي يعده منذ زمن ليحل محله في كل شيء, وأنتِ ترغبين في الأطفال, ولن يُسمح لكِ بالزواج من خارج العائلة, وأنتِ تدركين ذلك جيداً.. إذاً.. ما المشكلة؟.. في إتمام الزيجة؟.. إن رؤوف بلا شك سيرغب في المحافظة على بيت عمه وزوجته من ذئاب البشر, فهو رجل بحق كما أخبرتكِ.. فكري جيداً.. ولا تضيعي فرصتكِ الوحيدة لتكوني أم, فالعمر يجري كما تعلمين..
تأملتها نعمات بصدمة, وقد أدركت جدية الأمر, ولم تعلم بما تجبها إلا بما هو واضح وضوح الشمس ولكن قمر تتجاهله ببراعة:
ـ قمر إن رؤوف في العشرين من عمره.. إنني أكبره بحوالي خمسة عشر عاماً.. هل تدركين ما معنى ذلك؟..
أجابتها قمر بثبات:
ـ وإذا كان هو لن يهتم, فلما تثيرين أنتِ الموضوع؟... ثم إن رؤوف سيبلغ الحادية والعشرين بعد أيام قليلة.
صُعقت نعمات من منطق قمر, ففغرت فاهها غير قادرة على مواصلة ذلك الحديث المجنون.. ولكنها يجب أن تحاول إيصال وجهة نظرها إلى قمر, بل إلى والد قمر الذي أرسل ابنته لاتمام تلك المهمة العجيبة والمستحيلة...
فأخذت نفس عميق ثم حاولت مرة أخرى:
ـ إن رؤوف بالنسبة لي.. ابن أخ زوجي, أراه كشاب صغير.. لن أبالغ وأقول طفل, ولكني بالفعل عاصرت أيام من طفولته, كيف بالله عليكِ أفكر في الزواج منه؟.. حتى لو كان فرصتي الوحيدة كما تقولين!!!..
نظرت قمر في عينيها وسألتها بتمعن:
ـ هل ترغبين أن تكوني زوجة ثانية لعبد السلام؟..
حاولت نعمات الحديث, لكن قمر منعتها بإشارة من يدها وأردفت:
ـ أنا أعلم أنكِ لن ترغبي في ذلك.. فكري جيداً في رؤوف، فهو لم يكن أبداً طفل حتى وهو طفل, إن والدي يعامله كرجل منذ أن تولى رعايته ورؤوف اعتاد على ذلك فهو يتصرف ويتعامل كرجل مسئول, فلا تجعلي فارق تلك السنين عقبة في تحقيق أمنيتك.
حاولت نعمات الكلام مرة أخرى ولكن للمرة الثانية تقوم قمر بإيقافها, وتنهض من على الفراش لتقبلها مودعة وتهمس لها:
ـ أبي في انتظار موافقتكِ.
*********************
رغم اعتراض عبد الرؤوف الخفي على تلك الزيجة العجيبة, إلا أنه يتفق مع ابنته قمر بأنها السبيل الوحيد المُتاح للحفاظ على أملاك وهيبة العائلة.. وكان يدرك أن طريقه مع رؤوف أيسر بكثير من طريق قمر مع نعمات, فرؤوف سيكفيه توضيح سريع للموقف وطلب حازم من جده ليفهم أن تلك الزيجة واجبة التنفيذ, ولا مجال للاعتراض فمصلحة العائلة لها الأولوية على كل شيء وأي شخص.
لذا بعد أن تناولا العشاء على غير العادة, حاول أكثر من مرة مفاتحته في الموضوع, لكنه كان في كل مرة يجد غُصة في حلقه فرؤوف ليس حفيده فحسب بل هو كابن رابع له, وعلى الرغم من أنه لا يندم على طريقته الصارمة في تنشئته إلا أنه يلوم نفسه أحياناً عندما يدرك أنه لم يعش طفولته وصباه مثل أي طفل آخر.
وها هو الآن يوشك أن يسلبه شبابه بسؤاله الزواج من أرملة عمه, لكن ليس أمامه سبيل آخر فلا مجال لطلب ذلك من عبد السلام فهو لا يستطيع حتى تلك اللحظة مواجهة عينيه بعدما خسر ابنه من قبل حتى أن يراه, ومن أدرى منك يا عبد الرؤوف بخسارة الضنى؟..
قاطع أفكاره صوت رؤوف وهو يسأله:
ـ جدي هل أنت بخير؟.. إني آراك شارد الليلة؟.. إلى أين ذهبت بأفكارك يا جدي؟..
رمقه جده للحظات ثم قال:
ـ رؤوف.. ساعدني لنذهب إلى المكتب, فأنا أريدك في أمر هام.
ساعد رؤوف جده حتى وصلا إلى المكتب الذي طلب الجد من حفيده إغلاقه خلفهما, ثم اضطجع على مقعد وثير وأمر رؤوف بالجلوس أمامه على الأريكة... وتنحنح ليجلي صوته ثم قال:
ـ رؤوف.. الموضوع يخص ثروة عمك التي آلت بطرفة عين إلى زوجته.. أنت أدرى الناس بصعوبة فصل الأملاك ومحاولة إعادة كل شيء إلى أصله قبل أن يقوم عمك بطلب القرض, وحتى إن حاولنا فلن أسمح بخروج ما ستتملكه نعمات خارج حدود العائلة, لن أرواغ معك يا بني, فذلك ليس أسلوبي, لن يتمكن عمك عبد السلام من الزواج منها, لذا فليس أمامي سواك الآن, رؤوف.. يجب عليك الزواج بنعمات.
لن ينسى عبد الرؤوف ذلك التعبير الذي ارتسم على وجه حفيده, خليط من ذهول وتعجب ورفض واستنكار لما يسمعه ولكن ما ذبحه حقاً تلك النظرة الكسيرة التي ظهرت في عينيه للحظات.. ثم أخفض بصره أرضاً وهو يخفي عينيه عن جده ويقول بصعوبة:
ـ أمرك يا جدي.. أنا موافق على ما تريد.
ربت الجد على كتف حفيده وهو يقول له:
ـ بارك الله فيك يا ولدي, لقد صحت تربيتي لك.
نهض رؤوف من على الأريكة وتوجه إلى جده وانحنى على يده ليقبلها قائلاً:
ـ أنت الخير والبركة يا جدي, وكل ما تريده أمر واجب عليّ تنفيذه.
ازدرد الجد لعابه بقوة وقال:
ـ سيكون زواج متكامل الأركان يا ولدي, فعائلة الجيزاوي بحاجة إلى وريث من بعدك.. أنت تفهمني جيداً وتفهم واجبك, لن أسمح أن يختفي اسم الجيزاوي من بعدي كأنه لم يكن.. أريد أحفاد يا رؤوف... أريد أن أرى هؤلاء الأحفاد قبل وفاتي.
أشاح رؤوف بوجهه بعيداً عن جده, فبرغم كل شيء كان كلام جده محرجاً له, فهو لم يصل بتفكيره لما يعنيه الزواج حتى ذكر له جده الأحفاد... وقال بهمس:
ـ أطال الله عمرك يا جدي..
وسكت قليلاً ثم أردف:
ـ معذرة يا جدي سأصعد إلى غرفتي لأستريح قليلاً, هل تأمر بشيء آخر؟.. هل أساعدك للذهاب إلى غرفتك؟..
ربت الجد على كتفه مرة أخرى وقال:
ـ كلا يا بني.. اذهب أنت لتستريح الآن, وبالمناسية سيكون الزواج في نهاية الشهر.
توقف رؤوف عن الحركة وهو يقول:
ـ وهل وافقت خالــ.. أقصد هل وافقت بالفعل؟..
رمقه الجد بنظرة متفحصة, وهو يفكر أنه حتى عاجز عن تسميتها فكيف بحق الله سيتمكن من..
أعاد رؤوف سؤاله:
ـ هل وافقت؟..
أجاب الجد بهدوئه المعتاد:
ـ لا تقلق, وأعد كل شيء لاتمام الزواج


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close