رواية عقاب ابن البادية كامله وحصريه بقلم ريناد يوسف
توقف بالسيارة أخيرًا بعد سفر طويل على طرقات وعرة مارًا بصحراء سيناء الشاسعة إلى أن وصل لهذا المكان، لهذه البادية القابعة وسط محيط من الرمال الذهبية التي تشبعت بحرارة الشمس حتى بدأ الوهج يخرج من جوفها.
ترجل من السيارة ثم أمر من فيها بالنزول قائلاً:
-يلا يا عايده انزلي، ونزلي آدم.
فتحت السيدة باب السيارة وترجلت هي والصغير صاحب الخمس سنوات. وما إن وضعوا أرجلهم على الرمال حتى أخذت السيدة تتلفت حولها بقلق، ودب الرعب في أوصالها لما تراه حولها؛
فعلي مرمى البصر لا ترى سوى صحراء يتخللها بعض أشجار النخيل، وبعض الخيام المتراصة! وبئر، وأشياء بدائية لا يوجد بها أي من مظاهر التمدن أو حتى بناء واحد من طوب!
فقالت بصوت خائف:
-محمود، ايه المكان ده؟! هو معقول فيه ناس عايشين هنا؟! لا لا يا محمود، أنا مش موافقة. يلا بينا نرجع، خلينا نسيب البلد بحالها ونسافر بره، خلينا ناخده ونمشي خالص ولا اننا نعمل فيه كده.
هدر بها محمود بصوت عالي:
-عايده، إحنا اتفقنا على كل حاجه من زمان، خلاص يا عايده انتهى وقت النقاش.
ودلوقتي يلا اتفضلي قدامي.
نظرت عايده حولها مرة أخرى، ثم نظرت إلى صغيرها في شفقة بالغة، وقالت في نفسها:
-لله الأمر من قبل ومن بعد... منهم لله.
قالتها ثم تقدمت ممسكة بيد الطفل الذي كان يطالع المنطقة من حوله مبتسمًا، فهذه التضاريس جديدة عليه كليًا. فها هو يرى الرمال التي كان يراها فقط على تلفازه في أفلام الكارتون،
والتي تختلف كثيرًا عن رمال شواطئ البحار التي كان يراها حين يسافر مع أبويه للمصيف.
استمرا في التقدم ببطء وصعوبة بسبب الرمال إلى أن وصلا خيمة كبيرة تليها مجموعة خيام أصغر منها متوزعة على جوانبها بعشوائية. وعلى مسافات من بعضهم البعض.
ويا للعجب الذي أخذ آدم حين رأى أطفال يلعبون!
يلحق أحدهم الآخر يطوفون حول أشجار النخيل! ومن الجمال الكثيرة منها الواقف ومنها النائم !
همس وهو يشد على يد أمه ينبهها لشيء ما:
-ماما، شوفي.. هورسس أند ألوت اوف انيمالز!
لتنظر أمه في اتجاه إصبعه الصغير، فتجد خيولًا مصطفة بجوار بعضها البعض تأكل، وأغنامًا وماعزًا كبيرة وصغيرة متفرقة في أنحاء المكان، وكلابًا تجري خلف الأغنام المبتعدة فتعيدها وتمنعها من الابتعاد أكثر.
وفي الجانب الآخر نساء تجلس أمام قدور سوداء وضُعت فوق بناء طيني صغير يسمى "موقد" وتحتها قطع من الخشب يحترق لطهوا الطعام. وأخريات ذاهبات نحوا البئر حاملين جرارًا فوق رؤوسهم.
فسحب آدم يده من يد أمه وصفق وهو يرى هذا الكم الهائل من الحيوانات، والذي جعله يعتقد بأنه في حديقة للحيوانات، أو في مكان جديد للتنزه كما يأخذه والده دائمًا ويريه الأشياء الغريبة والجميلة.
وقف محمود في مكانه وهو يرى رجلاً بدويًا يتقدم منه سريعًا، وكان يستقبله بترحاب شديد وهو يهتف: - - هلا هلا بالحبيب، هلا برفيق الشيخ، هلا بالضيف الغالي،كيفك وكيف صحتك؟
ثم صافح محمود بعدها، والذي رد عليه قائلاً:
-تسلم يا "قصير"، الله يسلمك من كل شر، انا بخير انتوا كلكم عاملين إيه، والشيخ منصور عامل إيه؟
قصير:
- والله الشيخ والكل بأفضل حال بفضل الله الكريم، والحين هو بروحه يطمنك عن احواله.
قالها ثم بدأ بالصياح بصوت عالٍ:
-شيخ منصور! يا شيخ منصور! حبيبك اجا يا شيخ، ضيف ماراح تصدق عيونك لشوفته.
اجلس ياراجل ليش واقف انت وجماعتك، اجلسوا.
وأشار لهم على شيء أشبه بالكرسي مصنوع من جريد النخل ثم نادى بصوت عالٍ:
-معزوزه! بنِت يا معزوزه!"
أجابته فتاة ممن يجلسون حول المواقد يطهون الطعام،
: اي يبه، شو بتأمر؟"
قصير:
-تعي هون.
تركت الفتاة مابيدها وجاءته تهرول ووقفت تعدل في غطاء رأسها، فقال لها قصير معترضًا:
- اتركي شيلتك ولا تشوشي مافي حدا غريب
مدي يدك سلمي بلاول، وردي سوي قهوة وقهوجي ضيوفنا.
معزوزه:
-تم يابوي من هالعين قبل هاي. قالتها ومدت يدها لمصافحة الجميع تباعًا، وما إن انتهت من المصافحة، حتى عادت مهرولة مرة أخرى من حيث أتت.
دقائق معدودة، وخرج من فتحة الخيمة شيخ كبير ذات لحية بيضاء وملامح وجه حادة، زادت الرعب في قلب عايده فور رؤيتها له، فأحتضنت ابنها خائفة وهي تنظر لهذا الرجل المخيف، وهمست لنفسها:
-يا رب، لا دا كتير! يعني لا مكان كويس، ولا ناس كويسين... يا رب لطفك."
وماأن خرج الرجل من الخيمة بكامل جسده حتى نظر لمحمود وصاح مُرحبًا:
- ياهلا، يامية هلا بالقناديل النوروا قبيلتنا، ياهلا بأحبابنا، ياهلا..."
وتقدم من محمود واحتضنه فرد عليه محمود بنفس لهجته: "هلا شيخ منصور، الله كيفك؟
منصور: صرت زين بشوفتك ياعزيز القلب والعين، ايش علومك يامحمود والله زمن ماريناك، ليش هي القطيعة كِلها؟
- والله مشاغل ياشيخ ماانت عارف كل حاجة. واديني جيت لما ربنا اراد.
ابتعد عنه منصور وأومأ لعايده برأسه مُرحبًا، ثم نظر للصبي وأردف قائلاً:
-هاد هو العليه العين؟
رد عليه محمود بتنهيدة:
-أيوه.. هو دا ابني آدم يا شيخ منصور.
منصور:
-بارك الله فيه وحفظه لك بحفظه ورعايته.
ثم أمال على الصغير وأشار له على الأطفال قائلاً:
-يا ولد، شايف الجمع هاك؟ يلا امشب لهم والعب معهم، العب بالصخال الصغيرة وتونس.
نظر آدم لأبويه، وبمجرد أن أومأ له أبوه بالموافقة،
تحرك مسرعًا باتجاه الأطفال. وما إن ابتعد كادت أمه أن تتبعه مهرولة خلفه، لولا أن منعها منصور بنبرته المحذرة:
-إياك تتبعينه.
نظرت له عايده ثم نظرت لزوجها راجية، فخفض محمود عينيه ولم يعر خوفها أي اهتمام، رغم أنه هو بذاته يشعر باضعاف خوفها،
ولكن عليه أن يمثل هذا الثبات أمامها وأمام الجميع، فلا خيار أمامه غير ذلك.
جلس منصور ثم قال لمحمود: "ماتجلس يارجال إنت وحرمتك إيش بيكم؟
جلس محمود ومن بعده عايده، وعيون الاثنين متعلقة بذلك البعيد الذي انطلق في اللعب مع باقي الأطفال بسعادة،
. فتنهد محمود، وردت عليه الأخرى بتنهيدة مشابهة، وهما يراقبانه بقلوب تنزف وجعًا، وانتبه كل منهما حين جاءت الفتاة بكاسات وإبريق وصبت القهوة وقامت بتقديمها لهم قائلة:
-"بالهنا."
محمود: "تسلم إيدك يا بنتي." ابتسمت له الفتاة وانصرفت، ثم بدأ منصور بشرب القهوة وهو يراقب ملامح عايده وحركة عينيها التي تتبع صغيرها، ثم مال على محمود فحدثه هامسًا:
-مرتك ما عندها جلد يا محمود، وراح تتعب وتتعبك كثير."
محمود:
-كلنا هنتعب مش بس هي يا شيخ منصور."
منصور:
-اسمع، تشرب قهوتك وتقوم تاخذها وتمشي من هنا سريع قبل ما ينتبه الولد ليكم."
قالها وعاود شرب قهوته.
أما محمود فوضع كاسته جانبًا ووقف ناظرًا إلى عايده التي هبت واقفة، ونظرت في اتجاه ابنها وهتفت بترجي:
-أرجوك يا محمود، أبوس إيدك، بلاش."
منصور:-
ام آدم، فراق الحين اهون من فراق كل السنين، روحي ولا تخافي ولدك عندي أمانه والشيخ منصور مايفرط بأمانته، توكلى علي ربك وغادري قبل لا يشوفك الولد ويتعلق بثوبك.
عايده:
- حرام يا ناس والله دا حرام.
منصور:
-حرام عالميخافون الله مو علينا، هيا يا محمود، خذها قبل لا الصغير ينتبه، ايش جاك واقف متل المضيع عقلة ورجوله ماعادت تتحرك؟! هياااا
نهره بقسوة فأمسك محمود بذراع عايده زوجته وجذبها غصبًا تحت اعتراضها المستمر ونظراتها المتوسلة وعباراتها المستعطفة له ان يرحم حالها وحال صغيرها،
ولكن هيهات، فقد تحجر قلبه واُصدر حكمه بنفي قطعة من روحه وروحها ولا يوجد للحكم معارضه او إستئناف.
وصل محمود بعايده الي السيارة اخيراً وبعد معاناة معها لكي تمشي معه،، وكان "منصور" يمشي بمحاذاتهم هو "وقُصير" وقام "محمود" بفتح باب السياره ودفعها بداخلها بكل قسوة،
واغلق الباب ثم ترك مهمة منعها من النزول من السيارة "لقصير" الذي ثبت الباب بيديه القويتان فبائت كل محاولاتها لفتحه بالفشل..
وقام هو بالالتفاف الى الجانب الآخر وصعد السياره وقام باغلاق ابوابها اتوماتكياً وما إن سمع "قصير" صوت القفل حتي ترك الباب وابتعد عنه مطمئناً فقد اُنهيت مهمته..
اقترب منصور من محمود وامال بجسده ليتقابل مع وجه محمود وهمس له مطمئنا وهو يري الخوف في عينيه :
-بعيوني وليدك لا تخاف اعليه،، والله وهالشارب ماراح يمسه سوء طول مافي نفس يطلع وينزل.
ولكن عند شرطنا.. لا تيجي عليه ولا تروح وتنساه، ولك علي اسلمك شاب مافي منه بكل القبايل..
محمود :
-وانا جايبه هنا ياشيخ وعارف ان مفيش مكان أءمنله من القبيلة ولا حد فالدنيا ممكن يخاف عليه ويحميه زيي ويمكن اكتر مني غيرك..
قالها وابتسم لمنصور وهز له منصور رأسه مؤيدا، ثم ابتعد عن السيارة،
لينطلق بها محمود،، بعد ان نظر نظرة اخيره الي ابنه يودعه،وكاد قلبه ينفطر وهو يراه قادما من بعيد نحو السيارة يجري ويصرخ، فكان لابد له ان يبتعد عنه قبل ان يصله.
وها هى صرخات عايده تهز اركان السيارة رداً على صرخات وليدها،،
وزلزلت قلبه وهي تتخبط وتنادي عليه بأعلى طبقات صوتهت،
فهو طفلها الثاني الذي تُحرم منه وماأصعب الفراق..إنه لشعور قاتل.
اما آدم فوقع يلهث على الارض بعد أن جري وصرخ كثيرا مناديا عليهم طالبًا منهم أن ينتظراه،
سقطت دموعه وهو يراهم يختفون عن ناظريه تاركينه في هذا المكان الغريب!
فهرول اليه قصير وقام بحمله من وسط الرمال الساخنه،،
ووصل اليهم منصور وأشار لقصير بأن يتبعه الي الخيمه باالصغير.
فنفذ قصير وتبعه حاملاً من تعلقت عيناه بحيث اختفى والداه وشهقاته تتوالى وتمنعه حتي من التنفس بشكل طبيعي، وينتظر عودتهم فى اي لحظة بالسيارة، فقد صور له عقله الصغير بأنهم نسوه ليس الا، وسيعودان لأخذه.
ولم يكن يعلم أن النسيان سيستمر لسنوات طويلة سيتعب من عدها لاحقاً.
عقاب إبن البادية
بارت اول
عادت معه وهي مرغمة على ترك روحها وفلذة كبدها في الصحراء، تذرف دماء روحها عليه وهي تحاول تقبل فكرة انها لن تراه بعد اليوم،
وانها نفت قطعة منها بيديها وبكامل إرادة عقلها،
ولم تخضع لقلبها الذى جادلها بإستماتة حتي يثنيها عن قرارها هذا ويجعلها تقف في وجه الخوف معترضة.
ولكن للأسف خوفها من فقدان دائم جعلها تتقبل فكرة الفقد المؤقت، وأن عزائها الوحيد انه حي يرزق، حي يتنفس، حي بقلب ينبض.
نظر اليها محمود زوجها بشفقة واردف:
- مش كفايه عياط ياعايده بقالك ساعات عيونك مااخدوش هدنه، كفايه ياحبيبي عشان عنيكي، وبعدين احنا مش اتفقنا واقتنعنا يبقى لزمتها ايه الدموع دي؟
-غصب عني يامحمود دا ابني ابني
- وعشان ابنك وأبني، وعشان غالي علينا لازم نتحمل فراقه.. احنا مفارقينه عشان يعيش ياعايده وميحصلش مروان اخوه ويموت فى ظروف غامضه واحنا عارفين مين اللي موته ومنقدرش نتكلم.
- وهو دا اللي مصبرني على كل اللي بيحصل ده.. بس الولد هيتبهدل اوي يامحمود..
تفوهت بها وعادت تنحب بصوت عالٍ قطع نياط قلبه، وعلى إثره كادت دموعه أن تهطل هو الاخر ولكنه كبحها، لان هذا ليس الوقت المناسب لإظهار ضعفه، فالأيام قادمة وهناك متسع من الوقت للضعف والإشتياق والندم والحسره، وجل عزاءه هو أيضاً أنه يجب أن يتحمل لأجل إبنه ووريثه الوحيد وفلذة كبده التي قرر المحافظة عليها مهما كلفه الأمر.
وصلا اخيراً إلي القصر وترجلو من السياره، وكان الجميع في إستقبالهم، يحي اخيه وزوجته واولاده واخته مديحه، والذين هبوا واقفين ماإن رأوهم عائدون بدون آدم..
فهرول اليه اخيه يحيى متسائلاً في لهفة:
- ابنك فين يامحمود، الولد مش معاكم ليه؟
فأجابه محمود وهو يشيح بوجهه بعيداً عنه:
-آدم سافر يايحى ومش هيرجع تاني، سفرته عشان يتربى في بلد اجنبي ويتعلم هناك ويرجع راجل يعرف يحمي نفسه ويستلم ممتلكات ابوه.
نطق محمود بهذه الكلمات وعلى اثرها تراجع يحيي خطوتان للوراء وهو مذهول وقد تحولت ملامحه للغضب التام كمن ضربه برق فمزق أوصاله، وأردف بصوت متحشرج:
- بتقول ايه يامحمود؟ بعت الولد فين؟
- سفرته دوله اجنبيه يايحى، ايه مبقتش تسمع ولا ايه؟
وهنا تقدمت مديحه اختهم واردفت بعدم تصديق:
- انت بتخرف بتقول إيه يامحمود، ازاي سفرت طفل لبد تانيه لوحده؟ وانتِ ازاي ياعايده تطاوعيه وتخلي ابنك يبعد عن حضنك!
انتو اكيد اتجننتو عالأخر، بقى انتوا ام وأب انتو وعندكم مشاعر امومه وأبوه؟
هتنامي ازاي وانتي مش عارفه ابنك نايم ولا صاحي، جعان ولا شبعان، متغطي ولا بردان؟
هدر بها محمود بغضب جلي، فهو يعلم انها الآن تحاول الضغط على مواضع الألم لدى زوجته لتشعرها بمرارة وقسوة تصرفها:
- مديحه اسكتي لو سمحتي، وبعدين احنا عارفين احنا بنعمل أيه، واكيد انتي مش هتكوني أحن من أم على ابنها، وأصلاً متتكلميش علي مشاعر أمومه انتي مجربتيهاش ولا هتجربيها طول عمرك، ولا عندك علم بيها.
انهي كلماته المتلاحقة وصمت يلتقط انفاسه، فشهقت شقيقته وتراجعت للخلف واضعة يدها على فمها وهي غير مصدقة بما تفوه به شقيقها.. فهل تشمت بها تواً وعايرها بإنها عاقر لا تنجب الاولاد؟
ولم تكن لكلماته القاسية اثر علي شقيقته فقط، بل كانت صاعقة للجميع، فمحمود للمرة الأولى يكون بهذة القسوة!
امسكت عايدة ذراعه وهزته علها تعيده لصوابه ويدرك مدى خطأة، فابعد يدها عن ذراعه ونقل عيونه بين الجميع مؤكداً لما قال، فهو من اليوم لن يسكت لمن يتسبب بالألم لزوجته منهم، فيكفي ماعانته من الم بسببهم وماعاناه هو أيضاً.
تقدمت نحوه زوجة اخيه فريال بعد ان صمت الجميع واردفت بهدوئها المعتاد ورخامة صوتها الذي يخفى وراءة سعيراً من شر وحقد هو يعلمه جيداً:
- اهدا يامحمود مش كده، دول عمة الولد وعمه بيسألو عليه عشان يطمنوا، احنا فاهمين إن فراق ابنك مأثر على اعصابك، بس مينفعش تفقد اعصابك على اقرب الناس ليك، ومديحه كل اللي تقصده بكلامها إنها خايفه على الولد من الغربه والمرمطه في بلد غريب ملوش فيه حد، وانه يتيتم من اهله وهما علي وش الدنيا، وكل دا عشان ايه ومفيش اي اسباب تستدعي ده؟
نظر اليها محمود وخُيل اليه أنه ينظر لرأس الافعى وكل من حولها هم البدن والزيل الذين يتحركون اينما يوجههم هذا الرأس السام، فاردف وهو يحاول ان يستدعي هدوئه المفقود:
-عارف انهم بيسألو بس طريقة السؤال مستفزه، وكمان مش من حق حد يعقب على تصرفاتي او تصرفات مراتي، وخصوصاً في حاجه تخص ابننا،
إحنا الادرى بمصلحته وعارفين بنعمل إيه كويس، ولا كنتوا عايزنا نسيبه هنا لغاية مايموت مسموم بسم تعبان زي اخوه وتتقيد الحادثه ضد مجهول واحنا عارفين ومتاكدين انها بفعل فاعل، ويتفرق دمه علي الكل وميبقاش حيلتنا غير الحسره علي ضنانا وشوية شك نشكهم فى كل واحد شويه من غير دليل؟
يحى:
-لسه الافكار الشيطانيه اللي زرعتها مراتك فدماغك ناحية اخواتك حيه مماتتش بعد كل السنين دي يامحمود؟ لسه بتشك فينا واننا إحنا اللي ورا موت إبنك؟ طيب مسألتش نفسك إحنا ليه هنعمل كده في حين اننا لو بالقسوة والشر دا وبيهون علينا دمنا كنا خلصنا منك إنت واستولينا علي كل حاجه ولا إبنك ولا مراتك كانوا هيقدروا يقفوا فوشنا، ويمكن كنا اتخلصنا منهم بعد كده عادي جداً.
محمود:
-يمكن عشان الوصيه.. ومتقولش وصية. ايه وتعمل نفسك مش عارف، لاني متاكد انكم كلكم عارفين بأمر الوصيه، وهي إن اموالي من بعد موتي لابني ومراتي ومن بعدهم للجمعيات الخيريه.. يمكن عشان كده منفذتش اللي بتقول عليه ده.
يحي بغضب:
-ظالم وهتفضل طول عمرك ظالم.
محمود:
لا ابداً انا لا ظالم ولا بحب الظلم، انا لا باجي على حد ولا ببص للي فأيد حد ولا بتدخل في شئون حد، فلما اجي اتحكم فاللي ملكي المفروض محدش له إنه يتدخل.
فريال:
- لاحظ انك كده بتتكلم بإسلوب ذل يامحمود وبترمي كلام على إننا محتاجينلك وقاعدين في خيرك واننا عشان كده لازم نحط جزم في بوقنا ونسكت ومنتدخلش فاي حاجه حتي بدافع المحبه وصلة القرابه.
محمود:
-اييوه هو دا بالظبط اللي اقصده.. ودلوقتي باب القصر مفتوح واللي حابب يفضل يفضل بأدبه واحترامه وسكوته، واللي مش حابب يتفضل من غير مطرود.. واكيد كلكم فاكرين منسيتوش إن القصر دا في الاساس بتاع عايده مراتي واحنا كلنا ضيوف عندها، فياريت نتعامل ونتصرف تصرفات الضيف ونعرف اداب الاستضافه، زي ماصاحبة البيت بقالها سنين فاتحالنا بيتها وبتكرمنا إكرام الضيف وزيادة، وهي مش ملزمه، بس دا عشان هي بنت اصول ومتربيه كويس.
انهى حديثه وامسك بذراع زوجته ودلف بها الى القصر، وترك الثلاثة وراءه صامتين، وبرغم هدوئهم الظاهري، إلا انه يعرف حق المعرفة ان قلوبهم تتخبط قهراً وغيظاً الآن بين اضلعهم كمن أصابهم مس، ويرى ان هذا اقل مايستحقون، بل ويدعوا الله في قلبه ان يذيدهم قهراً، فهم كالشوكة في حلقه لا يستطيع إبتلاعهم أو إخراجهم، ولأجل أن يكونوا دوما نصب عينيه ويراقبهم جيداً يسمح لهم للآن المكوث في بيته والاكل من خيره، برغم انهم هم من ازهقوا روح إبنه البكري واسكنوا الحسرة في قلبه.
وصلا إلى غرفتهم واخيراً ارتمت عايده على تختها مستجدية لبعض الراحة بعد يوم مضني من التعب النفسي والبدني، واغمضت عيناها وهي تري طيف ابنها يتجسد لها وهو يصرخ عليها منادياً مستعطفاً اياها من بعيد فارداً لها ذراعيه لكي تعود وتأخذه معها..
،وتتسائل ترى ماذا يقول عنها وعن ابيه الآن ، باي كم من الخذلان يشعر ،
وكيف لقلبه الصغير ان يتحمل تلك المشاعر التي لا تتحملها القلوب البالغة من الكِبر اشدها؟
استسلمت اخيراً للنوم هرباً من كل هذه التساؤلات ،وهرباً من هذا الشعور المقيت الذي يعتصر روحها ، غفت وهي تستمع لصوت عقلها الذي بدا يهتف لها مصبراً:
-هذا هو الصواب وهذا ما سيُبقيه على قيد الحياة ،واي شعور آخر غير شعور الفقد بالموت هو اهون واخف. إعتادي على هذا ويكفيكي بأن انفاسه في الحياة ومازال قلبه ينبض.
إجتمع يحي وزوجته فريال واخته مديحه في غرفة مديحه ومقر إجتماعاتهم الدائم، نظراً لبعدها عن الحديقة ولا تُعطي اي مجال للتنصت من احد المتطفلين وسماع مايدور بداخلها، فهي تشبه في سريتها غرفة عمليات حروب..
يحى:
-ازاي يخفي الولد عننا فجاة كده ووداه فين ، وليه اختار الوقت دا بالذات! دانا بقالي سنه بخطط وتقريباً جهزت كل حاجه وكان كلها شهر وهتحصل الصدفه اللي محدش كان هيشك فيها ابداً.
فريال:
-اخوك فتح وفهم اللعبه المرادي وسبق بخطوه ،وخطوته دمرت لينا كل حاجه بنخططلها وكل ترتيباتنا باظت.
مديحه:
-طيب والحل ايه دلوقتي؟
يحيى :
-مفيش حلول غير ان اللي رسينا عليه يتنفذ ،الولد انا هعرف مكانه باي طريقه ،هحط محمود وعايده مراته تحت المراقبه24 ساعه في اليوم ،كل حاجت هتكون تحت عيني تحركاتهم كلامهم تليفوناتهم مراسلاتهم وحتي زوارهم ..دي قضية حياتي ومستقبل اولادي وانا لايمكن هضحي بيه واتخلا عن احلامي بسهوله كده.
مديحه:
_هو بس لو يدينا جزء من كوم الفلوس اللي علي قلبه دا كل واحد فينا يفتحله مشروع احنا هنبعد عنه لوحدنا، ونسيبله ابنه ونخرج من حياته ،انما طول ماهو راكب دماغه وبيقول ملكوش حاجه عندي وناسب فضل كل الفلوس اللي عنده دي لمراته احنا مش هنسيبه فحاله..
هو مين اللي علمه وصرف عليه لحد ماوصل للمنصب اللي عن طريقه عرف عايده واتجوزها؟ مش ابونا.
والفلوس اللي صرفها عليه دي مش كانت من حقنا كلنا وهو خصه بيها وكان يحرمنا من حاجات كتير في سبيل انه يعلمه ويصرف عليه، وكان يقول محمود املنا كلنا..
،يبقى احنا شركا في كل قرش يعمله محمود طول عمره ،لاننا دافعين تمنه مقدماً.
فريال:
-فعلاً يامديحه وهو دا اللي دايماً بقوله لاخوكي ،كل قرش مع محمود انتوا ليكم حق فيه.
وقف يحيى واخذ يتمشي في الغرفة ذهاباً وإياباً وهو يفكر ياترى من اين يبداً بالبحث ،وهل ياتري لاي بلد ارسل اخاه محمود ابنه ،ومع من ،وكيف ومتي وبأي وسيلة سفر؟!
أما في الباديه ،وسط الرمال الشاسعة والاجواء القاسية التي لا يتحملها سوى البدو الرحالة سكان البوادي قاطني الخيام..
عاد الشيخ منصور بعد ان ودع مرسال اتي يزف اليه خبراً وانصرف
فوقف امام خيمة قصير ونادى بأعلي طبقات صوته:
قصير.. ياقصير تعا هون.
خرج قُصير مسرعاً:
- ها ياشيخ أومرني.
منصور:
خد الرجال وروح حدر الشيخ محجوب المونه وصلت وبده حدا يروح يستلمها.
قُصير:
-يافرج الله، حالاً ياشيخ اعتبرها جايه بالطريق.
تحرك قصير وترك الشيخ منصور يتلفت حوله باحثاً عن الصغير الذى رآه جالس اسفل شجرة نخيل، مستند عليها ككهل نال منه التعب واضنته سنوات عمره الكثيرة، فتنهد وهو يهمس في قرارة نفسه:
والله الفراق صعيب ياغلام، لكن بحالتك لابد منه،، الله يصبر قلبك الصغير ياوليدي.
أما آدم فقد كان سابحاً في افكاره وهو يتطلع على كل شيئ حوله بغرابة..
،فهو انتقل بين ليلة وضحاها من عالم لعالم آخر مختلف كلياً يشبه ذاك الذي كان يقراء عنه في كتب الاساطير وحكايات اليس في بلاد العجائب.
وبعد مرور ثلاثة ايام
قضاهم.آدم في إنتظار دائم اثار اقدامه باتت في كل مكان حول الخيام وهو يتفقد جميع الإتجاهات ولا يعلم ابواه سيأتوا من اي إتجاه ،والليل يمضيه وهو جالس لا يخالط النوم جفونه ،متأهب لصوت سيارة ابيه، الذي حتماً سياتي لأخذه ولكن بالتاكيد حدث شيئ قوي منعه من ذلك ،فبدا شعور الغضب منهم لانهم تركوه يتحول لشعور بالخوف عليهم.من مصير مجهول منعهم عنه.
صاح قُصير بعد أن رأي الصغير يكاد يموت جوعاً:
-معزوزة حضري الطعام للعويل.
(معزوزه جهزي الاكل للصغار)
اتت معزوزه بالطعام الذي كانت تغرفه بالفعل، ووضعته امام الأطفال وذهبت،
ودعا قُصير الصغار لتناول الطعام، فتكالب الاطفال على الطعام ماعدا آدم الذي لم يقترب من الطعام، ورفض ان يتناول أي شيئ مهما حاول معه قصير وسائر الأولاد..
،فهو يشعر بغصة في حلقه ومرارة تجعل طعم اي شيئ مر لا يُطاق.
،بدا جسده في النحول ووجهه ظهرت عليه علامات الشحوب ،واختفي اللون الأحمر من وجنتيه وشفتاه اصابهم التشقق من قلة شرب الماء ،فهو اضرب عن كل شيئ وكانه يُخبر الجميع بانه بدون ابواه لا يريد العيش.
جلس قُصير بجانب الشيخ منصور واردف وهو يتطلع إلي الفتي بشفقة علي حاله:
-الوليد له ثلاث ايام ماضاق الزاد في فمه وخايف عليه ياشيخ.
الشيخ منصور:
-اتركه بالجوع ماعليك بيه، تو يتكالبن عليه مصارينه وياكل
ولو يلقاك وكل ياكلك.
-بس القساوة تولد العداوة ياشيخ
العويل مازال صغير ولاكانت هاذي عوايدة
(بس ليه القسوه ياشيخ دا طفل صغير ومش متعود على كده)
منصور:
-بوه جابه لنا عشان يترجل وهاد مايتم غير بعد نقسى عليه ونشقيه في دروبنا وكهوفنا ويتعلم كيف يعيش وحش وسط وحوش البشر اللي شرهم فاق سباع الصحاري
(ابوه جابه هنا عشان نقسى عليه ونعلمه يعيش في احلك الظروف ويتعلم قوانين البقاء وسط البشر اللي شرهم فاق شر وحوش الصحاري)
مر اليوم وأشرقت شمس اليوم الرابع،
فخرج الصغار جميعهم يسعون كُل على مهمته، فمنهم من أخذ العنم يرعاها، ومنهم من ذهب يملأ ويحضر الماء من البئر، ومنهم من ذهب ليحلب الماعز،
أما النساء فبدأن في تجهيز طعام الإفطار،
وبعد ساعة او اقل إجتمع الصغار جميعاً، وقامت النساء بوضع الطعام لهم، فكان آدم اليوم اول الجالسين وبدأ في تناول الطعام بنهم وإستعجال!
وكأنه يأكل في آخر زاده، فنظر اليه الشيخ منصور واردف لقصير الذي كان يراقب هو الآخر مبتسماً:
-جاك الكلام، اهو قرصه الجوع وياكل رغم انفه.
قُصير:
-ايوالله ياشيخ صدقت.
نظر منصور إلي قُصير واردف بجدية وقد اختفت ابتسامته:
- تتركه يومين يسترد فيهم عافيته وبعدها خده وعلمه كيف يقنص، واحويه بملكة الافاعي ،وبالعقرب الاسود، وبعد تحويه من الافاعي والعقارب ذوقه من سمومهم بالتدريج اريد مايحوق فيه ولا سم سوا كتر ولا قل.
قُصير:
-علم ياشيخ.
نظر الاثنان نحو سيارة سوداء آتية من بعيد، فتقدم نحوها الشيخ منصور فهو يعلم من صاحبها ومن الذي ارسله،
فذهبا لإستقباله الاثنين معاً، وبعد السلام والترحيب، وعلم الشيخ منصور أن هناك من سيحل عليه ضيف اليوم نظر لقصير واردف:
-ياقصير اذبح ناقة صغيرة وبلغ الصبايا يطيبوها. اليوم الشيخ مهيوب وجماعته نازلين ضيوف علينا
وانصب خيمه للضيوف ووتي القعدة ونبه على الشباب مايبعدو فب السهرة،حتى يخدموا على الضيوف.
قصير:
-امرك ياشيخ.
وذهب في إتجاه النساء ملبياً لأمر الشيخ:
-قصير : ياصبايا وتو(جهزو) ارواحكم اليوم عندنا عزومة كبيرة
والشيخ يخبركم
بيضو وجهه قدام الضيوف ،التفت لزوجته وشاف وجهها متوجع
سألها ايش فيك؟
لتكوني هتديريها اليوم وتولدي!،
اجابته:
- ماندري لكني متوجعة شوي طمن بالك انت وانا وقت ماربي يريد بالفرج هنخش الخيمة وبعد ربي يرزقني بالعطية نطلع نكمل حوستي مع الصبايا
قصير:
-الله يعينك ويقويكي وتجيبيلي الوليد الرابع بإذن الله
مكاسب:
- الله كريم وهو الوهاب وشو مايعطي نحمدوه عليه.
غادر قُصير وهو غير راضٍ على ماتفوهت به زوجته مكاسب، فهو يكره إنجاب الفتيات حاله كحال كل رجال الباديه ويريد جيش من الرجال يستند عليه في كبره.
اخذ بعض الشباب وذهب لذب. ح الناقة وتجهيزها للطبخ، وفي هذه الاثناء كان الشيخ منصور يجلس مع المرسال يتبادلا الاحاديث وهم في انتظار قدوم الشيخ مهيوب..
وتبسم منصور وهو ينظر إلي آدم الذي بدا يندمج مع الأولاد،
واخذ يراقبه وهو يذهب معهم للبئر ليغترف الماء وينقله مثلهم الي النساء ليقوموا بأعمال الطبخ والتنظيف ،واردف لقصير الذي كان يراقبه هو الآخر معه:
وها قد بدا العصفور ينفض ريشه ويستعد للتحليق في سما البوادي ويعرف كيف يعيش فيها.
بتوقع ماراح ياخد وقت طويل حتى يصير واحد من اهل البوادي ..الجاي مهمتك إنت ياقُصير ..بدي الولد يتعلم القنص والصيد اول شي متل ماخبرتك..
تاخده لمكان بعيد وماتاخد معك من الزاد شي ،بس المي وتعلمه اول درس من دروس البقاء إن اللي بده يعيش لازم يحارب لاجل حياته،
واول حربه راح تكون حرب مع الجوع. والليله بدك تحويه.
قصير:
تأمر ياشيخ.
انتظر قصير الى ان حل الليل ونام الجميع، فدلف الي الخيمة التي ينام فيها آدم مع باقي اطفال البادية من الذكور ،واخذ يتفحص النيام واحداً واحداً حتي عثر عليه من بينهم ،
فإقترب منه رويداً رويداً وفتح جعبته الصغيرة ومد يده بداخلها واخرج منها ثُعبان اسود متوسط الحجم ،امسكه بطريقة معينة غير آبه للدغات الثعبان المتتالية في يده ،
وقربه من آدم ،وضغط علي عنق الثعبان ليؤلمه حتي إذا لدغ يُخرج كل ماتبقي في جسده من سُم ،وبمجرد ان قربه من وجه الصبي حتي اخرج الثعبان لسانه الدافئ الذي لامس خد الصبي ففتح عيناه على الفور من هذا الشعور اللزج الذي إقشعر له بدنه ،
وما ان راي الثعبان امام عينيه حتي صرخ صرخة مدوية ايقظت جميع من بالخيمة ،
ولكن قصير لم يابه لأحد ،فهذه فرصة بالنسبة له صعب تكرارها ،
فقرب الثعبان من أذن الصبي وجعله يغرز انيابه فيها ويبث من سمه ماجعل الصبي يفقد وعيه في الحال.
استيقظ رابح كحال الجميع علي صرخة آدم واعتدل بجزعه ينظر ليرى ماذا هناك، وما أن رأى الثعبان في يد عمه قُصير وعرف نوعه حتي صرخ بفزع كمن لدغه هو الثعبان وقال:
-عم قصييير هاد صل اسود خبيث وايش سويت انت؟
قصير لم يلتفت له ولم يهتم لما يقوله وكان مشغول بإعادة الثعبان للجعبة، فخرج رابح مهرولاً الي خيمة الشيخ منصور ودخلها دون استئذان في سابقة لم تحدث من قبل، وتحدث بصوت افزع الشيخ منصور:
الحق ياشيخ العم رابح لدغ الضيف آدم بثعبان صل اسود.
اعتدل منصور وقد كادت عيناه يخرجا من محجريهما فزعاً واردف وهو يلبس خفه ليتحرك مغادراً الخيمة في عجلة:
الله لا يوفقك ياقصير.. صل أس؟ لعنة الله عليك ياشيخ قلتلك ملكة الافاعي ماقلتلك صل اسود.
وما أن وصل الي خيمة الصغار ودلف داخلها حتى رأي ماكان يتوقعه، فها هي الفقاعات تخرج من فم الصبي وجسده يرتجف ويصارع الموت، فنظر الى قُصير واردف:
-ويش سويت ياعديم العقل ويش سويت، ضيعت أمانة الشيخ منصور؟
يتتتبع
عادت معه وهي مرغمة على ترك روحها وفلذة كبدها في الصحراء، تذرف دماء روحها عليه وهي تحاول تقبل فكرة انها لن تراه بعد اليوم،
وانها نفت قطعة منها بيديها وبكامل إرادة عقلها،
ولم تخضع لقلبها الذى جادلها بإستماتة حتي يثنيها عن قرارها هذا ويجعلها تقف في وجه الخوف معترضة.
ولكن للأسف خوفها من فقدان دائم جعلها تتقبل فكرة الفقد المؤقت، وأن عزائها الوحيد انه حي يرزق، حي يتنفس، حي بقلب ينبض.
نظر اليها محمود زوجها بشفقة واردف:
- مش كفايه عياط ياعايده بقالك ساعات عيونك مااخدوش هدنه، كفايه ياحبيبي عشان عنيكي، وبعدين احنا مش اتفقنا واقتنعنا يبقى لزمتها ايه الدموع دي؟
-غصب عني يامحمود دا ابني ابني
- وعشان ابنك وأبني، وعشان غالي علينا لازم نتحمل فراقه.. احنا مفارقينه عشان يعيش ياعايده وميحصلش مروان اخوه ويموت فى ظروف غامضه واحنا عارفين مين اللي موته ومنقدرش نتكلم.
- وهو دا اللي مصبرني على كل اللي بيحصل ده.. بس الولد هيتبهدل اوي يامحمود..
تفوهت بها وعادت تنحب بصوت عالٍ قطع نياط قلبه، وعلى إثره كادت دموعه أن تهطل هو الاخر ولكنه كبحها، لان هذا ليس الوقت المناسب لإظهار ضعفه، فالأيام قادمة وهناك متسع من الوقت للضعف والإشتياق والندم والحسره، وجل عزاءه هو أيضاً أنه يجب أن يتحمل لأجل إبنه ووريثه الوحيد وفلذة كبده التي قرر المحافظة عليها مهما كلفه الأمر.
وصلا اخيراً إلي القصر وترجلو من السياره، وكان الجميع في إستقبالهم، يحي اخيه وزوجته واولاده واخته مديحه، والذين هبوا واقفين ماإن رأوهم عائدون بدون آدم..
فهرول اليه اخيه يحيى متسائلاً في لهفة:
- ابنك فين يامحمود، الولد مش معاكم ليه؟
فأجابه محمود وهو يشيح بوجهه بعيداً عنه:
-آدم سافر يايحى ومش هيرجع تاني، سفرته عشان يتربى في بلد اجنبي ويتعلم هناك ويرجع راجل يعرف يحمي نفسه ويستلم ممتلكات ابوه.
نطق محمود بهذه الكلمات وعلى اثرها تراجع يحيي خطوتان للوراء وهو مذهول وقد تحولت ملامحه للغضب التام كمن ضربه برق فمزق أوصاله، وأردف بصوت متحشرج:
- بتقول ايه يامحمود؟ بعت الولد فين؟
- سفرته دوله اجنبيه يايحى، ايه مبقتش تسمع ولا ايه؟
وهنا تقدمت مديحه اختهم واردفت بعدم تصديق:
- انت بتخرف بتقول إيه يامحمود، ازاي سفرت طفل لبد تانيه لوحده؟ وانتِ ازاي ياعايده تطاوعيه وتخلي ابنك يبعد عن حضنك!
انتو اكيد اتجننتو عالأخر، بقى انتوا ام وأب انتو وعندكم مشاعر امومه وأبوه؟
هتنامي ازاي وانتي مش عارفه ابنك نايم ولا صاحي، جعان ولا شبعان، متغطي ولا بردان؟
هدر بها محمود بغضب جلي، فهو يعلم انها الآن تحاول الضغط على مواضع الألم لدى زوجته لتشعرها بمرارة وقسوة تصرفها:
- مديحه اسكتي لو سمحتي، وبعدين احنا عارفين احنا بنعمل أيه، واكيد انتي مش هتكوني أحن من أم على ابنها، وأصلاً متتكلميش علي مشاعر أمومه انتي مجربتيهاش ولا هتجربيها طول عمرك، ولا عندك علم بيها.
انهي كلماته المتلاحقة وصمت يلتقط انفاسه، فشهقت شقيقته وتراجعت للخلف واضعة يدها على فمها وهي غير مصدقة بما تفوه به شقيقها.. فهل تشمت بها تواً وعايرها بإنها عاقر لا تنجب الاولاد؟
ولم تكن لكلماته القاسية اثر علي شقيقته فقط، بل كانت صاعقة للجميع، فمحمود للمرة الأولى يكون بهذة القسوة!
امسكت عايدة ذراعه وهزته علها تعيده لصوابه ويدرك مدى خطأة، فابعد يدها عن ذراعه ونقل عيونه بين الجميع مؤكداً لما قال، فهو من اليوم لن يسكت لمن يتسبب بالألم لزوجته منهم، فيكفي ماعانته من الم بسببهم وماعاناه هو أيضاً.
تقدمت نحوه زوجة اخيه فريال بعد ان صمت الجميع واردفت بهدوئها المعتاد ورخامة صوتها الذي يخفى وراءة سعيراً من شر وحقد هو يعلمه جيداً:
- اهدا يامحمود مش كده، دول عمة الولد وعمه بيسألو عليه عشان يطمنوا، احنا فاهمين إن فراق ابنك مأثر على اعصابك، بس مينفعش تفقد اعصابك على اقرب الناس ليك، ومديحه كل اللي تقصده بكلامها إنها خايفه على الولد من الغربه والمرمطه في بلد غريب ملوش فيه حد، وانه يتيتم من اهله وهما علي وش الدنيا، وكل دا عشان ايه ومفيش اي اسباب تستدعي ده؟
نظر اليها محمود وخُيل اليه أنه ينظر لرأس الافعى وكل من حولها هم البدن والزيل الذين يتحركون اينما يوجههم هذا الرأس السام، فاردف وهو يحاول ان يستدعي هدوئه المفقود:
-عارف انهم بيسألو بس طريقة السؤال مستفزه، وكمان مش من حق حد يعقب على تصرفاتي او تصرفات مراتي، وخصوصاً في حاجه تخص ابننا،
إحنا الادرى بمصلحته وعارفين بنعمل إيه كويس، ولا كنتوا عايزنا نسيبه هنا لغاية مايموت مسموم بسم تعبان زي اخوه وتتقيد الحادثه ضد مجهول واحنا عارفين ومتاكدين انها بفعل فاعل، ويتفرق دمه علي الكل وميبقاش حيلتنا غير الحسره علي ضنانا وشوية شك نشكهم فى كل واحد شويه من غير دليل؟
يحى:
-لسه الافكار الشيطانيه اللي زرعتها مراتك فدماغك ناحية اخواتك حيه مماتتش بعد كل السنين دي يامحمود؟ لسه بتشك فينا واننا إحنا اللي ورا موت إبنك؟ طيب مسألتش نفسك إحنا ليه هنعمل كده في حين اننا لو بالقسوة والشر دا وبيهون علينا دمنا كنا خلصنا منك إنت واستولينا علي كل حاجه ولا إبنك ولا مراتك كانوا هيقدروا يقفوا فوشنا، ويمكن كنا اتخلصنا منهم بعد كده عادي جداً.
محمود:
-يمكن عشان الوصيه.. ومتقولش وصية. ايه وتعمل نفسك مش عارف، لاني متاكد انكم كلكم عارفين بأمر الوصيه، وهي إن اموالي من بعد موتي لابني ومراتي ومن بعدهم للجمعيات الخيريه.. يمكن عشان كده منفذتش اللي بتقول عليه ده.
يحي بغضب:
-ظالم وهتفضل طول عمرك ظالم.
محمود:
لا ابداً انا لا ظالم ولا بحب الظلم، انا لا باجي على حد ولا ببص للي فأيد حد ولا بتدخل في شئون حد، فلما اجي اتحكم فاللي ملكي المفروض محدش له إنه يتدخل.
فريال:
- لاحظ انك كده بتتكلم بإسلوب ذل يامحمود وبترمي كلام على إننا محتاجينلك وقاعدين في خيرك واننا عشان كده لازم نحط جزم في بوقنا ونسكت ومنتدخلش فاي حاجه حتي بدافع المحبه وصلة القرابه.
محمود:
-اييوه هو دا بالظبط اللي اقصده.. ودلوقتي باب القصر مفتوح واللي حابب يفضل يفضل بأدبه واحترامه وسكوته، واللي مش حابب يتفضل من غير مطرود.. واكيد كلكم فاكرين منسيتوش إن القصر دا في الاساس بتاع عايده مراتي واحنا كلنا ضيوف عندها، فياريت نتعامل ونتصرف تصرفات الضيف ونعرف اداب الاستضافه، زي ماصاحبة البيت بقالها سنين فاتحالنا بيتها وبتكرمنا إكرام الضيف وزيادة، وهي مش ملزمه، بس دا عشان هي بنت اصول ومتربيه كويس.
انهى حديثه وامسك بذراع زوجته ودلف بها الى القصر، وترك الثلاثة وراءه صامتين، وبرغم هدوئهم الظاهري، إلا انه يعرف حق المعرفة ان قلوبهم تتخبط قهراً وغيظاً الآن بين اضلعهم كمن أصابهم مس، ويرى ان هذا اقل مايستحقون، بل ويدعوا الله في قلبه ان يذيدهم قهراً، فهم كالشوكة في حلقه لا يستطيع إبتلاعهم أو إخراجهم، ولأجل أن يكونوا دوما نصب عينيه ويراقبهم جيداً يسمح لهم للآن المكوث في بيته والاكل من خيره، برغم انهم هم من ازهقوا روح إبنه البكري واسكنوا الحسرة في قلبه.
وصلا إلى غرفتهم واخيراً ارتمت عايده على تختها مستجدية لبعض الراحة بعد يوم مضني من التعب النفسي والبدني، واغمضت عيناها وهي تري طيف ابنها يتجسد لها وهو يصرخ عليها منادياً مستعطفاً اياها من بعيد فارداً لها ذراعيه لكي تعود وتأخذه معها..
،وتتسائل ترى ماذا يقول عنها وعن ابيه الآن ، باي كم من الخذلان يشعر ،
وكيف لقلبه الصغير ان يتحمل تلك المشاعر التي لا تتحملها القلوب البالغة من الكِبر اشدها؟
استسلمت اخيراً للنوم هرباً من كل هذه التساؤلات ،وهرباً من هذا الشعور المقيت الذي يعتصر روحها ، غفت وهي تستمع لصوت عقلها الذي بدا يهتف لها مصبراً:
-هذا هو الصواب وهذا ما سيُبقيه على قيد الحياة ،واي شعور آخر غير شعور الفقد بالموت هو اهون واخف. إعتادي على هذا ويكفيكي بأن انفاسه في الحياة ومازال قلبه ينبض.
إجتمع يحي وزوجته فريال واخته مديحه في غرفة مديحه ومقر إجتماعاتهم الدائم، نظراً لبعدها عن الحديقة ولا تُعطي اي مجال للتنصت من احد المتطفلين وسماع مايدور بداخلها، فهي تشبه في سريتها غرفة عمليات حروب..
يحى:
-ازاي يخفي الولد عننا فجاة كده ووداه فين ، وليه اختار الوقت دا بالذات! دانا بقالي سنه بخطط وتقريباً جهزت كل حاجه وكان كلها شهر وهتحصل الصدفه اللي محدش كان هيشك فيها ابداً.
فريال:
-اخوك فتح وفهم اللعبه المرادي وسبق بخطوه ،وخطوته دمرت لينا كل حاجه بنخططلها وكل ترتيباتنا باظت.
مديحه:
-طيب والحل ايه دلوقتي؟
يحيى :
-مفيش حلول غير ان اللي رسينا عليه يتنفذ ،الولد انا هعرف مكانه باي طريقه ،هحط محمود وعايده مراته تحت المراقبه24 ساعه في اليوم ،كل حاجت هتكون تحت عيني تحركاتهم كلامهم تليفوناتهم مراسلاتهم وحتي زوارهم ..دي قضية حياتي ومستقبل اولادي وانا لايمكن هضحي بيه واتخلا عن احلامي بسهوله كده.
مديحه:
_هو بس لو يدينا جزء من كوم الفلوس اللي علي قلبه دا كل واحد فينا يفتحله مشروع احنا هنبعد عنه لوحدنا، ونسيبله ابنه ونخرج من حياته ،انما طول ماهو راكب دماغه وبيقول ملكوش حاجه عندي وناسب فضل كل الفلوس اللي عنده دي لمراته احنا مش هنسيبه فحاله..
هو مين اللي علمه وصرف عليه لحد ماوصل للمنصب اللي عن طريقه عرف عايده واتجوزها؟ مش ابونا.
والفلوس اللي صرفها عليه دي مش كانت من حقنا كلنا وهو خصه بيها وكان يحرمنا من حاجات كتير في سبيل انه يعلمه ويصرف عليه، وكان يقول محمود املنا كلنا..
،يبقى احنا شركا في كل قرش يعمله محمود طول عمره ،لاننا دافعين تمنه مقدماً.
فريال:
-فعلاً يامديحه وهو دا اللي دايماً بقوله لاخوكي ،كل قرش مع محمود انتوا ليكم حق فيه.
وقف يحيى واخذ يتمشي في الغرفة ذهاباً وإياباً وهو يفكر ياترى من اين يبداً بالبحث ،وهل ياتري لاي بلد ارسل اخاه محمود ابنه ،ومع من ،وكيف ومتي وبأي وسيلة سفر؟!
أما في الباديه ،وسط الرمال الشاسعة والاجواء القاسية التي لا يتحملها سوى البدو الرحالة سكان البوادي قاطني الخيام..
عاد الشيخ منصور بعد ان ودع مرسال اتي يزف اليه خبراً وانصرف
فوقف امام خيمة قصير ونادى بأعلي طبقات صوته:
قصير.. ياقصير تعا هون.
خرج قُصير مسرعاً:
- ها ياشيخ أومرني.
منصور:
خد الرجال وروح حدر الشيخ محجوب المونه وصلت وبده حدا يروح يستلمها.
قُصير:
-يافرج الله، حالاً ياشيخ اعتبرها جايه بالطريق.
تحرك قصير وترك الشيخ منصور يتلفت حوله باحثاً عن الصغير الذى رآه جالس اسفل شجرة نخيل، مستند عليها ككهل نال منه التعب واضنته سنوات عمره الكثيرة، فتنهد وهو يهمس في قرارة نفسه:
والله الفراق صعيب ياغلام، لكن بحالتك لابد منه،، الله يصبر قلبك الصغير ياوليدي.
أما آدم فقد كان سابحاً في افكاره وهو يتطلع على كل شيئ حوله بغرابة..
،فهو انتقل بين ليلة وضحاها من عالم لعالم آخر مختلف كلياً يشبه ذاك الذي كان يقراء عنه في كتب الاساطير وحكايات اليس في بلاد العجائب.
وبعد مرور ثلاثة ايام
قضاهم.آدم في إنتظار دائم اثار اقدامه باتت في كل مكان حول الخيام وهو يتفقد جميع الإتجاهات ولا يعلم ابواه سيأتوا من اي إتجاه ،والليل يمضيه وهو جالس لا يخالط النوم جفونه ،متأهب لصوت سيارة ابيه، الذي حتماً سياتي لأخذه ولكن بالتاكيد حدث شيئ قوي منعه من ذلك ،فبدا شعور الغضب منهم لانهم تركوه يتحول لشعور بالخوف عليهم.من مصير مجهول منعهم عنه.
صاح قُصير بعد أن رأي الصغير يكاد يموت جوعاً:
-معزوزة حضري الطعام للعويل.
(معزوزه جهزي الاكل للصغار)
اتت معزوزه بالطعام الذي كانت تغرفه بالفعل، ووضعته امام الأطفال وذهبت،
ودعا قُصير الصغار لتناول الطعام، فتكالب الاطفال على الطعام ماعدا آدم الذي لم يقترب من الطعام، ورفض ان يتناول أي شيئ مهما حاول معه قصير وسائر الأولاد..
،فهو يشعر بغصة في حلقه ومرارة تجعل طعم اي شيئ مر لا يُطاق.
،بدا جسده في النحول ووجهه ظهرت عليه علامات الشحوب ،واختفي اللون الأحمر من وجنتيه وشفتاه اصابهم التشقق من قلة شرب الماء ،فهو اضرب عن كل شيئ وكانه يُخبر الجميع بانه بدون ابواه لا يريد العيش.
جلس قُصير بجانب الشيخ منصور واردف وهو يتطلع إلي الفتي بشفقة علي حاله:
-الوليد له ثلاث ايام ماضاق الزاد في فمه وخايف عليه ياشيخ.
الشيخ منصور:
-اتركه بالجوع ماعليك بيه، تو يتكالبن عليه مصارينه وياكل
ولو يلقاك وكل ياكلك.
-بس القساوة تولد العداوة ياشيخ
العويل مازال صغير ولاكانت هاذي عوايدة
(بس ليه القسوه ياشيخ دا طفل صغير ومش متعود على كده)
منصور:
-بوه جابه لنا عشان يترجل وهاد مايتم غير بعد نقسى عليه ونشقيه في دروبنا وكهوفنا ويتعلم كيف يعيش وحش وسط وحوش البشر اللي شرهم فاق سباع الصحاري
(ابوه جابه هنا عشان نقسى عليه ونعلمه يعيش في احلك الظروف ويتعلم قوانين البقاء وسط البشر اللي شرهم فاق شر وحوش الصحاري)
مر اليوم وأشرقت شمس اليوم الرابع،
فخرج الصغار جميعهم يسعون كُل على مهمته، فمنهم من أخذ العنم يرعاها، ومنهم من ذهب يملأ ويحضر الماء من البئر، ومنهم من ذهب ليحلب الماعز،
أما النساء فبدأن في تجهيز طعام الإفطار،
وبعد ساعة او اقل إجتمع الصغار جميعاً، وقامت النساء بوضع الطعام لهم، فكان آدم اليوم اول الجالسين وبدأ في تناول الطعام بنهم وإستعجال!
وكأنه يأكل في آخر زاده، فنظر اليه الشيخ منصور واردف لقصير الذي كان يراقب هو الآخر مبتسماً:
-جاك الكلام، اهو قرصه الجوع وياكل رغم انفه.
قُصير:
-ايوالله ياشيخ صدقت.
نظر منصور إلي قُصير واردف بجدية وقد اختفت ابتسامته:
- تتركه يومين يسترد فيهم عافيته وبعدها خده وعلمه كيف يقنص، واحويه بملكة الافاعي ،وبالعقرب الاسود، وبعد تحويه من الافاعي والعقارب ذوقه من سمومهم بالتدريج اريد مايحوق فيه ولا سم سوا كتر ولا قل.
قُصير:
-علم ياشيخ.
نظر الاثنان نحو سيارة سوداء آتية من بعيد، فتقدم نحوها الشيخ منصور فهو يعلم من صاحبها ومن الذي ارسله،
فذهبا لإستقباله الاثنين معاً، وبعد السلام والترحيب، وعلم الشيخ منصور أن هناك من سيحل عليه ضيف اليوم نظر لقصير واردف:
-ياقصير اذبح ناقة صغيرة وبلغ الصبايا يطيبوها. اليوم الشيخ مهيوب وجماعته نازلين ضيوف علينا
وانصب خيمه للضيوف ووتي القعدة ونبه على الشباب مايبعدو فب السهرة،حتى يخدموا على الضيوف.
قصير:
-امرك ياشيخ.
وذهب في إتجاه النساء ملبياً لأمر الشيخ:
-قصير : ياصبايا وتو(جهزو) ارواحكم اليوم عندنا عزومة كبيرة
والشيخ يخبركم
بيضو وجهه قدام الضيوف ،التفت لزوجته وشاف وجهها متوجع
سألها ايش فيك؟
لتكوني هتديريها اليوم وتولدي!،
اجابته:
- ماندري لكني متوجعة شوي طمن بالك انت وانا وقت ماربي يريد بالفرج هنخش الخيمة وبعد ربي يرزقني بالعطية نطلع نكمل حوستي مع الصبايا
قصير:
-الله يعينك ويقويكي وتجيبيلي الوليد الرابع بإذن الله
مكاسب:
- الله كريم وهو الوهاب وشو مايعطي نحمدوه عليه.
غادر قُصير وهو غير راضٍ على ماتفوهت به زوجته مكاسب، فهو يكره إنجاب الفتيات حاله كحال كل رجال الباديه ويريد جيش من الرجال يستند عليه في كبره.
اخذ بعض الشباب وذهب لذب. ح الناقة وتجهيزها للطبخ، وفي هذه الاثناء كان الشيخ منصور يجلس مع المرسال يتبادلا الاحاديث وهم في انتظار قدوم الشيخ مهيوب..
وتبسم منصور وهو ينظر إلي آدم الذي بدا يندمج مع الأولاد،
واخذ يراقبه وهو يذهب معهم للبئر ليغترف الماء وينقله مثلهم الي النساء ليقوموا بأعمال الطبخ والتنظيف ،واردف لقصير الذي كان يراقبه هو الآخر معه:
وها قد بدا العصفور ينفض ريشه ويستعد للتحليق في سما البوادي ويعرف كيف يعيش فيها.
بتوقع ماراح ياخد وقت طويل حتى يصير واحد من اهل البوادي ..الجاي مهمتك إنت ياقُصير ..بدي الولد يتعلم القنص والصيد اول شي متل ماخبرتك..
تاخده لمكان بعيد وماتاخد معك من الزاد شي ،بس المي وتعلمه اول درس من دروس البقاء إن اللي بده يعيش لازم يحارب لاجل حياته،
واول حربه راح تكون حرب مع الجوع. والليله بدك تحويه.
قصير:
تأمر ياشيخ.
انتظر قصير الى ان حل الليل ونام الجميع، فدلف الي الخيمة التي ينام فيها آدم مع باقي اطفال البادية من الذكور ،واخذ يتفحص النيام واحداً واحداً حتي عثر عليه من بينهم ،
فإقترب منه رويداً رويداً وفتح جعبته الصغيرة ومد يده بداخلها واخرج منها ثُعبان اسود متوسط الحجم ،امسكه بطريقة معينة غير آبه للدغات الثعبان المتتالية في يده ،
وقربه من آدم ،وضغط علي عنق الثعبان ليؤلمه حتي إذا لدغ يُخرج كل ماتبقي في جسده من سُم ،وبمجرد ان قربه من وجه الصبي حتي اخرج الثعبان لسانه الدافئ الذي لامس خد الصبي ففتح عيناه على الفور من هذا الشعور اللزج الذي إقشعر له بدنه ،
وما ان راي الثعبان امام عينيه حتي صرخ صرخة مدوية ايقظت جميع من بالخيمة ،
ولكن قصير لم يابه لأحد ،فهذه فرصة بالنسبة له صعب تكرارها ،
فقرب الثعبان من أذن الصبي وجعله يغرز انيابه فيها ويبث من سمه ماجعل الصبي يفقد وعيه في الحال.
استيقظ رابح كحال الجميع علي صرخة آدم واعتدل بجزعه ينظر ليرى ماذا هناك، وما أن رأى الثعبان في يد عمه قُصير وعرف نوعه حتي صرخ بفزع كمن لدغه هو الثعبان وقال:
-عم قصييير هاد صل اسود خبيث وايش سويت انت؟
قصير لم يلتفت له ولم يهتم لما يقوله وكان مشغول بإعادة الثعبان للجعبة، فخرج رابح مهرولاً الي خيمة الشيخ منصور ودخلها دون استئذان في سابقة لم تحدث من قبل، وتحدث بصوت افزع الشيخ منصور:
الحق ياشيخ العم رابح لدغ الضيف آدم بثعبان صل اسود.
اعتدل منصور وقد كادت عيناه يخرجا من محجريهما فزعاً واردف وهو يلبس خفه ليتحرك مغادراً الخيمة في عجلة:
الله لا يوفقك ياقصير.. صل أس؟ لعنة الله عليك ياشيخ قلتلك ملكة الافاعي ماقلتلك صل اسود.
وما أن وصل الي خيمة الصغار ودلف داخلها حتى رأي ماكان يتوقعه، فها هي الفقاعات تخرج من فم الصبي وجسده يرتجف ويصارع الموت، فنظر الى قُصير واردف:
-ويش سويت ياعديم العقل ويش سويت، ضيعت أمانة الشيخ منصور؟
يتتتبع