رواية فوق جبال الهوان الفصل التاسع 9 بقلم منال سالم
الفصل التاسع
كل الخسائر المادية يمكن أن تعوض، إلا فقدان عزيز نفيس، ففراقه يدمي القلوب ويعذب الروح .. قُســاة القلوب لم يمهلوها الفرصة لضم رضيعها، لشم رائحته، للتمتع بوجوده في أحضنها، سلبوه منها قبل أن تملي عينيها منه، قبل أن تحفظ ملامحه. قاموا بحرمانها من قربه بكل ظلم وتجبر، فكيف لها أن تغفر بسهولة جريمتهم الشنعاء؟!
تعمدت "وِزة" التقيؤ عنوة، بوضع إصبعها في حلقها، لتفرغ ما أُجبرت على ابتلاعه من موادٍ مهدئة، لتتمكن من الانتقام من هؤلاء الأشقياء.
ادعت أنها في حالة ما بين اليقظة والهذيان، غير واعية لما يدور حولها، لتتمكن من خداع من حولها، استلقت على الفراش، مواصلة تمثيليتها السخيفة، إلى أن واتتها الفرصة، وتمكنت من التسلل إلى المطبخ، دارت ببصرها على الرفوف، إلى أن تجمدت عيناها على شيءٍ بعينه، اقترب من أحد الأدراج، فتحته واستلت منه هذا السكين الضخم الذي يستخدم في تقطيع اللحوم.
كزت على أسنانها في حرقةٍ، وتوعدها بقلب منكوٍ من لوعة الظلم والفراق:
-نهايتك النهاردة يا مفترية.
أخفته في طيات ملابسها، وعاودت أدراجها إلى داخل الغرفة، تنتظر على أحر من الجمر اللحظة الملائمة للانقضــاض على من أصدرت أمر الإعــــدام –بدم بارد- في حق فلذة كبدها.
...............................
تأنقت، وتألقت، وتزينت، وارتدت عباءتها المميزة المزركشة، تلك التي تجعلها بهية، وندية، لتبدو في أعين ضيفها المميز ذات مظهر لائق فيبدي استحسانه، ويغدق عليها بالمال. صفقت "توحيدة" بيديها في همةٍ وحماس، وراحت تلقي أوامرها على من حولها بغير كللٍ:
-كبيرنا جه تحت، يالا يا بت إنتي وهي، ظبطوا الأعدة...
ثم اتجهت إلى "خضرة" تسألها باهتمامٍ:
-البت "مروة" جهزت؟
أجابتها بإيماءةٍ من رأسها:
-أيوه يا أبلتي، وصيت المقاطيع اللي جوا يروقوا عليها.
شددت عليها بغير تساهلٍ:
-شوفيها بنفسك واطمني، مش عايزة حاجة تقصر رقبتي قصاد الكوبارة.
أطاعتها كالعادة مبتسمة:
-حاضر يا ست الناس كلها.
في تلك الأثناء، انتظرت "وِزة" ذهاب الجميع، وانشغالهم بتنفيذ أوامرها، لتخرج من مخبأها، وتندفع تجاهها بكل عنفوانها وغضبها، ويدها قابضة على السكين بقوةٍ وغل، لتصرخ فجــأة في اهتياج لاعنة إياها بشدة:
-هموتك يا بنت الـ......
بأعجوبة تمكنت "توحيدة" من تفادي ضربة النصــل المميتة، وأمسكت برسغها في اللحظة الأخيرة، لتتفاجأ بها تكمل صراخها الهادر وهي تلومها في حرقة أم مكلومة القلب:
-عملك إيه يا فـــاجرة؟ ده كان حتت لحمة حمرا!!!
هتفت مذهولة:
-يا لهوي، إنتي اتجننتي ولا إيه؟
خرج صوتها كهديرٍ عاصف وهي تلومها بحــرقةٍ أشد:
-أيوه اتجننت من اللحظة اللي خدتيه فيها بالعافية من حضني وحرمتيني منه، أيوه اتجننت لما قتــلتيه يا ظالمة.
قاومتها قدر استطاعتها؛ لكن غضب "وِزة" المتصاعد جعلها تفوقها قدرة ومقدرة، فعرقلتها من قدمها، وطرحتها أرضًا، لتجثو فوقها وهي لا تزال تحاول دب السكين في صدرها لتزهق روحها، فما كان منها إلا أن صرخت عاليًا مستغيثة في هلع:
-الحقوني يا نــــاس، غتوني يا خلق هوو.
صرخـــاتها المفزوعة دوت في المكان، وجعلت كل من يقيم في بيتها يحتشد بصالة المنزل، ليحدقوا في ذهول وفزع إلى المشهد الدامي، وفي نفس الآن، دفع "كرم" الباب بكتفه في قوةٍ ليفتحه على مصراعيه مبديًا في الحال استنكاره لتجرؤ تلك الوقحة على سيدتها، فهدر بها وهو يدنو ناحيتها بخطواتٍ ثابتة:
-سيبي يا بت البتاعة اللي في إيدك دي.
لم تخبت قواها للحظةٍ، وتوعدتها بشراسةٍ، وهي تحاول غرز النصل الحاد في صدرها:
-مش هسيبها إلا لما أخد حقي منها:
في التو استنجدت به "توحيدة"، وكأنه ملاذها الأخير:
-الحقني يا سيد الناس.
استهجن "كرم" حالة الجمود المشوبة بالخوف المسيطرة على أتباعها، فعنفهم بحدةٍ:
-إنتو واقفين تتفرجوا عليها؟ أما إنكم ....... بصحيح!
كذلك صعد كلًا من "زهير" و"عباس" إلى منزلها لتحل علامات الصدمة على تعابير وجهيهما، فهتف الأخير صائحًا بحنق، خاصة وهو يرى امرأته واقعة تحت قبضتها:
-إنتي اتلطشتي في مخك يا بت؟
أخبرته باهتياجٍ:
-هي قتلت ابني، لازم أنتقم منها!
انعكست أمارات الحيرة على أوجه الثلاثة رجــال؛ لكن "كرم" لم يترك نفسه فريسة للتخبط والتساؤل، فانطلق صوبها ليمسك برأسها ويجذبها بشراسةٍ من شعرها، وأسرع "زهير" ليساعده بالقبض على رسغها، وانتزاع السكين من يدها، ليقوم "عباس" بسحب امرأته بعيدًا عنها، والأخيرة لا تزال تشهق في خوفٍ وفزع، غير مصدقة أنها نجت من على شفير الهلاك الحتمي.
...........................................
بنفس التوقيت، كانت "دليلة" تعاود أدراجها بصحبة شقيقتها إلى العمارة التي تقطن بها عائلتها، فانتبهت كلتاهما إلى صوت الصراخ الصادح حولهما، فتساءلت "إيمان" بشيءٍ من الفضول، وإحساسها بالرهبة قد بدأ يتسلل إليها:
-هو في إيه؟ مين اللي بتصوت كده؟
على عكسها بدت "دليلة" هادئة نسبيها، فقد اعتادت على ذلك الشيء الذي لا يتوقف عن التكرار ليل نهار، وخاطبت شقيقتها بامتعاضٍ معكوس على ملامحها:
-مش عارفة، بس تقريبًا احنا اتعودنا على كده، كل يوم والتاني تسمعي واحدة تطلع ترقع بالصوت، ونعرف بعد كده إنها متخانقة مع جوزها، وهو بيربيها.
استنكرت تفسيرها بشدة:
-يا ساتر يارب، طب ليه كده؟
ظلت "دليلة" على انزعاجها وهي تواصل إخبارها:
-يا ريت ترسى على الوضع ده، لأحسن بنشوف حاجات أفظع من كده بكتير!
ثم خفضت بعدها من نبرتها لتحذرها:
-بقولك إيه، خلينا نكمل كلامنا فوق لأحسن الست إياها تسمعنا.
أيدتها في ذلك قائلة:
-على رأيك، ودي ما هتصدق تسأل كنت فين ورجعت ليه!
بالكاد منعت "دليلة" نفسها من الضحك بوضع يدها على فمها، لتضيف معلقة بسخريةٍ:
-بالظبط، ولا المخبرين!
أكملت الاثنتان صعودهما إلى الأعلى، وهما تأملان ألا تكون جارتهما المتطفلة تاركة لباب بيتها مفتوحًا، وإلا لما سلمتا من سخافتها اللزجة.
..............................................
لم يحتج "كرم" إلى أي مجهود ليتمكن من السيطرة على من فقدت صوابها، وتحولت إلى الجنون، قيدها من رسغيها بيديه، ريثما يحضر أحدهم حبلًا لها، في حين نظر إليها "زهير" بشيءٍ من الإشفاق والحيرة، فوصولها إلى هذه الدرجة من الهياج لم يحدث من فراغ.
بعد أن تم تقييدها، تُركت في منتصف الصالة ملقاة على جانبها، كالشاه التي تنتظر الأمر الفوري بالذبـــــح، تبكي في عجزٍ وقهر، ومن حولها تجمع كل قاطني المنزل، بمن فيهم "مروة" التي وقفت في الخلفية، تحتمي بأظهر النساء، وهي تدعو الله في نفسها ألا يراها ذلك البربري القاسي.
جلس "كرم" على الأريكة، مسلطًا ناظريه على "توحيدة" الجالسة في مواجهته ومن خلفها "عباس" الذي كان يربت على كتفها بترفقٍ، عمَّ الصمت إلا من أصوات تنفس الجميع، ليقطعه "زهير" متسائلًا في نبرة تحقيقية:
-الهوجة دي من إيه؟
تلبكت "توحيدة" في جلستها، وشعرت بالقلق، فتلك المسألة الخطيرة التي أقدمت على فعلها، كانت بأمرٍ مباشر منها، ودون علم عائلة "الهجام".
من تلقاء نفسها تولت "خضرة" الإجابة، لعلها ترفع الحرج عن ربة عملها:
-البت اتلحست في مخها.
لحظتها نهرها "كرم" في صوتٍ أجش غليظ:
-حد وجهلك سؤال؟
اعتذرت في التو مهابةً منه:
-أسفة يا كبيرنا، مش هيحصل أفتح بؤي تاني.
راح "كرم" يشير بإصبعه نحو رجلين من أتباعه ممن كلفهم بمهمة البقاء في المنزل والمساعدة، ليوبخهما في حدةٍ:
-والدلدول ده فايدته إيه؟ واللطخ ده كمان؟
جاء تعقيب "زهير" كالأمر النافذ:
-يتغيروا كلهم.
في التو أيده شقيقه الأكبر بغير مراجعةٍ أو نقاش:
-ده اللي هيحصل.
بادرت "توحيدة" بتقديم فروض الامتنان والولاء لزعيم المنطقة، ولتهرب في نفس التوقيت من الإجابة على السؤال الذي طُرح مسبقًا:
-كتر خيرك يا كوبارتنا، لولا إنك جيت في الوقت المناسب كان زماني مع الأموات.
لم يكن "زهير" بالشخص الساذج لتظن أنها قادرة على مراوغته والتحايل عليه، ثبت عينيه عليها معيدًا تكرار سؤاله بصيغة أخرى:
-ما قولتيش برضوه هي عملت كده ليه؟
ازدردت ريقها، وقالت بصوتٍ مهتز، وهذا التعبير القلق يحتل كافة تعابير وجهها:
-مخها طاقق بعيد عنك.
علق عليها "كرم" بنظرة نافذة:
-بس هي قالت إنها قتلت ابنها.
هربت الدماء من وجهها، فبدت بشرتها أكثر شحوبًا وهي تجيبه:
-وده كلام يتصدق يا كوبارتنا؟
شكَّ أنها لا تزال تلف وتدور محاولة منحه الإجابة المباشرة، فاتجه بسؤاله إلى تلك المسجاة على الأرضية يسألها:
-انطقي يا بت، هجمتي على سِتك ليه؟
من بين دموعها الغزيرة أجابته:
-هي حرمتني من ابني وقتلته.
نفت في الحال تلك المصيبة التي ألصقتها بها، وقد هبت من مكانها لتهجم عليها في غيظٍ وحقد:
-مش أنا وربنا.
أفقدتها الوعي بصفعاتها القاسية عليها، ليقوم "عباس" بإبعادها وهو ينظر إلى امرأته باستنكارٍ وحيرة، فمن النادر أن تخفي عليه شيئًا، واليوم هو كغيره يستمع إلى كارثة حدثت كتلك وللمرة الأولى، ولا خلفية له عنها، فكيف يمكنه الدفاع عن تورطها في الأمر من عدمه؟!
تركها "زهير" تكمل تمثيليتها المكشوفة بادعاء الانفعال والغضب، دون أن يمنعها من مواصلة الاعتداء البدني على هذه المكدومة المكلومة، واعتدل في جلسته مستطردًا باهتمامٍ:
-لأ أفهم بقى الحوار من أوله.
سكتت وعجزت عن الرد، فأمرها شقيقه "كرم" بلهجته التي لا ترد:
-"توحيدة"، انطقي واحكي اللي حصل بالظبط، وأحسنلك تكوني صادقة معايا، بدل ما أقلب عليكي.
أصبحت محاصرة بين مطرقة وسندان، عليها أن تبوح الآن بما ظنت أنها وأدته مع من لم يقترف ذنبًا في هذه الحياة التي لا تمنح الرحمة أو الشفقة للضعفاء.
.............................................
عاد "فهيم" إلى المنزل، واستقبل ابنته الكبرى بكل محبة أبوية وسعادة، سرعان ما تحولت إلى توترٍ واستنكار عندما علم بما صار معها أثناء بحثها عن وسيلة مواصلات لتقلها إلى منزلها، وذهابها إلى قسم الشرطة لتحرير محضر بواقعة السرقة، وما أتبع ذلك من ادعاء "دليلة" بأنها من تعرضت للأمر تجنبًا لغضبة "راغب" المتوقعة، بينما صاحت "عيشة" في لومٍ واستعتاب:
-بقى كل ده يحصل واحنا معدناش خبر؟ إيه عدمتيني أنا وأبوكي؟
أخبرتها "دليلة" في شيءٍ من العناد:
-أنا كنت عايزة أتصرف بسرعة علشان أكسب وقت.
ضربت والدتها كفها بالآخر مرددة في تذمرٍ وتبرم:
-هو ده اللي خدناه من الحتة الفقر دي، كل يوم والتاني في القسم.
ردت عليها ابنتها الصغرى باستغرابٍ مستنكر:
-احنا المظلومين يا ماما.
بعد تفكيرٍ متروٍ تحدث "فهيم" وهو يشير بيده:
-خلاص يا "عيشة"، هي اتصرفت صح.
استهجنت للغاية تقبله لما اعتبرته تصرفًا مليئًا بالرعونة، وصاحت:
-بتهاودها يا "فهيم"؟
قال بمنطقيةٍ بحتة:
-يعني تتسرق وتسكت؟ البلد فيها قانون.
من داخلها شعرت "دليلة" بالاعتزاز والسرور لكون والدها يدعمها على الدوام، طالعته بنظرات فخورة وهو لا يزال يتحدث مؤيدًا لموقفها:
-وكويس إنها اتعرفت على الحرامي، بكرة البوليس يمسكه، ويرجع اللي سرقه، ويتحاسب كمان.
على عكسه بدت "عيشة" متوجسة خيفة من تبعات ذلك، وراحت تمتمت في غير رضا:
-ربنا يستر من اللي جاي!
ثم توجهت بكلامها إلى "إيمان" فسألتها في قلقٍ:
-وإنتي يا فالحة هتتصرفي إزاي لو جوزك عرف بالحقيقة، وخصوصًا لما يلاقي إن البلاغ متقدم في القسم اللي نواحينا؟!!
ردت عليها بتوترٍ:
-طب ليه نقدر البلاء قبل وقوعه؟
حذرتها بجديةٍ:
-احنا مش ناقصين مشاكل معاه، ده بيتلكك.
اغتاظت "دليلة" من محاولة اختلاق الأعذار لتبرير تصرفات زوج شقيقتها الفظة، ووجهت اللوم إليه:
-هو السبب، ماهو لو مكانش مانعنا نروح لها مكانش ده حصل.
قطب "فهيم" جبينه في استغرابٍ، فلاحظت "عيشة" التغيير الحائر الذي طرأ على قسماته، فكزت على أسنانها تنذرها:
-خلاص بقى يا "دليلة"!
استرعى كلامها الأخير انتباهه أكثر، فتساءل مستفهمًا، وهذا التعبير الغائم لا يزال يكسوه:
-يعني إيه مانعكم؟ أنا مش فاهم.
لحظتها انزعجت "عيشة" أكثر من اندفاعها، ووبختها:
-عاجبك كده يا فالحة؟
ألح "فهيم" في معرفة الحقيقة متسائلًا:
-إنتو مخبيين إيه عني؟ اتكلمي يا "إيمان"!
تلبكت وهي تحاول الهروب من إجابته:
-مافيش حاجة يا بابا.
صاح في غير صبرٍ:
-ما ترسوني على اللي حاصل من ورايا.
تبادلن نظرات مترددة حائرة فيما بينهن، انتهت بإخباره بتفاصيل ما جرى في وقتٍ سابق.
.........................................
فور أن تم اقتياده لقسم الشرطة، تم التعامل معه بالأسلوب الذي يستحقه أمثاله من اللصوص ومعتادي السرقات، ليتجه بعدئذ إلى غرفة مكتب ضابط المباحث، حيث تولى التحقيق معه في مسألة السرقة بالإكراه. أنكر "سِنجة" الأمر برمته هاتفًا في استعطافٍ زائف:
-يا بيه، أنا غلبان، ماليش دعوة بحاجة.
رد عليه بجديةٍ وهو ممسك بقلمه الحبري بين أصابعه:
-الضحية قالت عن أوصافك، واتعرفت عليك، وطلعت صورتك إنت بالذات من وسط المجرمين.
هتف مؤكدًا كذبته الملفقة:
-أكيد مزقوقة عليا.
صاح به مستهجنًا، وفي شيءٍ من الهجوم:
-ده على أساس إنك ماشي جمب الحيط وفي حالك؟ ده إنت سوابق ياله!
استمر "سِنجة" على نهج الإنكار مرددًا:
-يا بيه ما إنتو مسكتوني ومكانش معايا حاجة.
جاء رده منطقيًا:
-تلاقيك اتصرفت فيها، هو إنت هتغلب!
تمسك بإنكاره الكاذب:
-مظلوم يا باشا!
ضغط الضابط على زر الجانبي المعلق في الدرج العلوي من مكتبه، ليسمع كلاهما طرقات على الباب قبل أن يُفتح ويلج الصول "صادق" للداخل، أمره الأول في صرامة:
-خده، واعمله فيش وتشبيه، واستدعي اللي بلغت عنه، خلينا نكمل إجراءاتنا.
أدى له التحية العسكرية مرددًا:
-تمام يا باشا.
ثم قبض على ذراع "سِنجة" وجذبه معه إلى خارج الغرفة وهو يلقي عليه تبعات عقوبة السرقة، ليصبح الأخير أكثر ضيقًا واستياءً.
اعترض طريقهما أحد المخبرين، ممن يدينون بالولاء لعائلة "الهجام"، فادعى اهتمامه بالمساعدة، فاستطرد وهو يلصق هذه الابتسامة السخيفة على محياه:
-سيبهولي يا صول "صادق"، أنا هتعامل مع المجرم ده، وريح إنت، الحكاية مش مستاهلة تتعب علشان واحد زيه.
بالنسبة له كانت مسألة عادية، فلم يكترث كثيرًا للتأكد من إنجازها بنفسه، لهذا لم يشك للحظة في الأمر، وقال وهو يلوح بإصبعه في وجهه:
-طب انجز، وجبهولي لما تخلص علشان نحطه في الحجز.
هز رأسه قائلًا في امتثالٍ وطاعة:
-أوامرك.
أمسك به المخبر، وسحبه معه إلى إحدى الغرف الجانبية ليتمكن من محادثته سرًا، فتساءل "سِنجة" مستفهمًا باندهاشٍ مستنكر:
-الدنيا إيه؟ الحوار ده مش هيتلم؟
رد عليه بصوتٍ خفيض وحذر:
-بص الباشا بتاعنا مش هيسكت، وهيوديك النيابة.
سأله في قلقٍ:
-والعمل إيه؟
أجابه بعدما اختطف نظرة سريعة نحو الخارج:
-لازمًا الحوار يخلص من طرف البت، وتنكر إنك اللي سرقتها.
فرك طرف ذقنه بيده، وتساءل في تحيرٍ:
-طب ودي أوصلها إزاي؟
ومضت عيناه بهذه اللمعة الغريبة، وأخبره باسمًا في لؤم:
-بسيطة، بس كأنك متعرفش مني.
وكأنه أعطاه المخرج من مشكلته العويصة، فبادله الابتسام قائلًا في حبور:
-زي الفل، وحلاوتك محفوظة.
استحسن كثيرًا وعده بالعطايا، وردد:
-اتفقنا.
..........................................
بعباراتٍ شبه موجزة، سردت "توحيدة" تفاصيل الواقعة، ليشعر "كرم" بالاستياء العارم من تصرفها الشنيع، وما زاد من إحساسه بالحنق هو جهله التام بالأمر، ولولا حالة الجنون التي سيطرت على هذه المرأة واندفاعها للاقتصاص منها لما عرف من الأساس عنه، ولطُمر مع غيره مما يجهل به. اعتبر ذلك استخفافًا به، وتحقيرًا من سُلطانه وسطوته، فهدر بصوتٍ صادح جعل أبدان الجميع تهتز:
-بقى كل ده يحصل وأنا معنديش خبر؟ طرطور معاكو؟ ولا إكمني كنت محبوس فإيدي مش هتطولكم؟
حاول "عباس" تخفيف حدة انفعاله مرددًا:
-متقولش كده يا كبير، ده أنا عينك برا وجوا.
سلط نظراته النارية عليه، ووجه إليه موجة من التقريع القاسي بترديده المستهزئ به:
-ولما إنت عيني يا فالح، كنت فين وقت ما ده تم وحصل؟ مش إنت دراعي اليمين، ولا معدتش ليك لازمة، مش معمولك اعتبار من الهفأ اللي تحت إيدك؟!!!
دافع عن نفسه بحرجٍ:
-وربنا يا كبير ما كنت أعرف، الحوار ده اتعمل من ورايا.
زاد من إهانته بقوله المستحقر:
-استغفلوك لأنك حمار...
نكس "عباس" رأسه في خزيٍ، فتابع "كرم" كلامه إليه متوعدًا:
-بس هتتحاسب على تقصيرك.
لم يجرؤ على التعليق، ولاذ بالصمت، بينما تحدث "زهير" في تحفزٍ:
-وإنتي يا "توحيدة"، من امتى بنعمل كده في العيال حتى لو جايين من حـــــــرام؟!
ارتجفت وهي تحاول التبرير، عله يصفح عنها:
-أنا قولت للواد "سِنجة" يتصرف، يرميه عند باب جامع، يوديه ملجأ، مجاش في بالي إنه آ...
قاطعها قبل أن تنهي جملتها للأخير هادرًا بصيحة جعلتها تنتفض في جلستها:
-ولا كلمة زيادة، ما ليها حق تتجن عليكي وتجيبك نصين، دي أقل حاجة يا فاجـــــرة!
تساءل "كرم" بنبرة جوفاء، مانحًا شقيقه الحق الكامل في اتخاذ القرار النهائي لهذا الأمر:
-رأيك إيه يا "زهير"؟
تجول بناظريه على كلٍ من "توحيدة" و"وِزة"، لينطق بعدها بهدوءٍ مصدرًا حكمه النافذ:
-البت "وِزة" يتجوزها "عباس"، وتحمل منه تاني، وتجيب عيل بدل اللي راح منها.
لحظتها صرخت "توحيدة" لاطمة على صدرها في استنكارٍ عظيم:
-يا نصيبتي!
ابتسامة انتصار لاحت على زاوية فمه قبل أن يتابع بما أشعل نيران الغيرة أكثر داخلها:
-خدي التقيلة بقى، ليها نفس مكانتك هنا في البيت يا "توحيدة"! تؤمر وتنهي في الحريم.
شهقت مصعوقة، وهتفت مستهجنة ما اعتبرته حكمه المجحف:
-نعم؟ ليه كده يا سي "زهير"؟ إنت بتيجي عليا أوي؟
سدد لها نظرة أرعبتها، وسألها في وجومٍ:
-مش عاجبك كلامي وبتعارضيني؟
قالت بصوتٍ مختنق نسبيًا، ووجهها قد اشتعل بحمرة الحنق:
-لا عاش ولا كان اللي يعارضك، بس ده ظلم.
استرخى في جلسته أكثر، ووضع ساقه فوق الأخرى متابعًا ببرودٍ:
-خلاص رجعيلها ابنها، ونحاسبها احنا بطريقتنا على غلطها.
لم تستطع النطق بشيءٍ، فاستطرد في استهزاءٍ:
-شوفتي إنك عاجزة إزاي؟
مجددًا تحدث "كرم" في قوةٍ وصرامة، مُظهرًا كامل دعمه لشقيقه:
-كلام أخويا "زهير" يمشي على رقبة الكبير قبل الصغير، واللي مش عاجبه يجيلي وأنا أريحه.
لم يملك أي من الحاضرين الشجاعة للاعتراض على الشقيقين، فأصدر "زهير" أمره غير المردود:
-خد مراتك الجديدة يا "عباس".
هز رأسه في طاعة وقد همَّ بالتحرك صوبها:
-أوامرك يا ريس "زهير".
اغرورقت عينا "توحيدة" بالدموع، وكبتت غيظها المشوب بغيرتها المتأججة مرغمة، فمن تعشقه يتجه لأخرى ليتزوجها في العلن، وعلى حساب كرامتها، وهي مجبورة على الصمت والانصياع!!
لم يحل "عباس" قيد "وِزة"، بل رفعها عن الأرضية، حاملًا إياها بين ذراعيه وهو يبدو متكدر الملامح، لينهض بعدها "كرم" من جلسته، وعيناه تعرفان السبيل إلى واحدة بعينها، فاحتل ثغره ابتسامة لعوب وهو يقول بنبرة ذات مغزى:
-وأنا بالمرة أخد مراتي.
وقتئذ انتفضت "مروة" صارخة في هلعٍ عقب تصريحه ذلك، خاصة عندما وجدته يشملها بنظرته النهمة الجائعة، وهرولت ركضًا عائدة للداخل هاتفة برفضٍ قاطع:
-لأ، أنا مش عايزة أجي معاك.
فرقع فقرات عنقه بتحريكه للجانبين مستطردًا بقدرٍ من الضيق:
-الله! ابتدينا بقى!
حذره "زهير" بجديةٍ، وقد نهض بدوره ليمسك به من ساعده:
-بالراحة.
على مضضٍ عقب:
-ما أنا واخدها على الهادي أهوو.
أرخى قبضته عنه، فانطلق في إثرها، ليلحق بها داخل إحدى الغرف، لم تتمكن من وصد الباب، فدفعه دون عناءٍ لتصبح محتجزة معه، تراجعت للخلف وهي ترتجف كليًا، فحذرها باسمًا بمكرٍ:
-ما تخليكي حلوة، وتيجي على الساكت!
ردت رافضة بعنادٍ ممزوجٍ بالخوف:
-مش هيحصل.
سألها كتمهيدٍ قبل أن يندفع تجاهها:
-يعني إنتي غاوية فضايح؟
انفلتت منها شهقة أقرب للصراخ حينما لاحقها وامتدت ذراعه لتمسك بها من رسغها، جذبها تجاهه، وقال من بين ابتسامته التي تجعل بدنها يقشعر، وشعيرات جلدها تنتصب:
-وأنا بموت فيها.
بيده الأخرى جذب الملاءة، ولف جسدها به، لتصبح محاصرة بالداخل، ثم رفعها على كتفه، وصراخها يعلو:
-ابعد عني.
لم يعبأ بصراخها للحظةٍ، وصفعها على مؤخرتها مرددًا في فخرٍ:
-ده إنتي مع "الهــجام" يا حلوة.
......................................
مقاومتها كانت لا شيء مقارنة به، بلا أدنى مجهود أخذها قسرًا، وهبط بها الدرجات وهو لا يزال يحملها على كتفه بتباهٍ وغرور، استمرت "مروة" في الصراخ، وساقاها تركلان في الهواء:
-سيبني، أنا أموت ولا إني أرجع معاك تاني.
وكأن صياحها معزوفة موسيقية فريدة تُطرب أذناه، لم يكترث بها، ودندن بصافرة منتشية حتى أصبح خارج البناية، دار ببصره على المارة والمتواجدين في الشرفات، متأملًا ردة فعلهم على تصرفه، وكالعادة اتخذ الجميع موقفًا سلبيًا، ولم يعارضه أحدهم. واصلت "مروة" الصراخ بأقصى صوتها، إذ ربما يتعاطف شخص ما معها:
-الحقوني يا نــاس.
لكن لا جدوى، الكل تعمد تجاهل استغاثتها، وادعوا انشغالهم فيما يفعلون، لتخرج "دليلة" إلى الشرفة على صوت صرخاتها المتتالية لرؤية ما يدور.
تفاجأت بما يحدث من وقاحة وسطوة على مرأى ومسمع الجميع، لتندد من موضع وقوفها بالأعلى في استنكارٍ جلي، وبصوتٍ يكاد يكون مسموعًا:
-والله العظيم اللي بيحصل ده حرام!
توجست "عيشة" خيفة من اندفاع ابنتها، خاصة مع غياب "فهيم" وذهابه بصحبة ابنتهما الكبرى لتوصيلها إلى حيها السكني، ومعالجة مشكلة فقدان مفتاح البيت. حاولت جذبها للداخل؛ لكنها استل ذراعها من أسفل قبضتها لتكمل صياحها المستهجن بصوتٍ أكثر علوًا:
-إيه؟ مافيش راجل في الحتة دي قادر على العصبجية دول؟!
ازدادت الرجفة في قلب والدتها، وأنذرتها بقلقٍ وهي تعاود شدها بعيدًا عن الشرفة:
-ملكيش دعوة، ماتدخليش.
ردت عليها بصوتٍ منفعل، وذلك الإحساس المستنكر للشعور بالاضطهاد يزأر بداخلها:
-صعبان عليا بجد، كل يوم والتاني نلاقي بنت بتتبهدل هنا، والكل عامل مش شايف.
رفعت من نبرتها ملوحة بيدها في الهواء:
-إنتو نــاس ظلمة!
من موضع وقفه رآها "زهير"، فعرفها في الحال، إنها نفس الشابة المندفعة بطيشٍ، جمد عينيه عليها، بينما انطلق "كرم" يحذرها بتحدٍ سافر:
-خشي يا حلوة جوا بدل ما أطلعلك!
لحظتها هوى قلب "عيشة" في قدميها، واعتذرت له اتقاءً لشره المستطير:
-حقك علينا، هي ما تقصدش...
وراحت تلكز ابنتها في ظهرها بقبضتها المتكورة وهي تنهرها بعدما كزت على أسنانها:
-خشي يا مسحوبة من لسانك، هو احنا ناقصين مصايب في بيتنا؟ وأبوكي كمان مش هنا.
صاحت في غير مبالاة، ومتعمدة الإبقاء على نبرتها المرتفعة:
-ولا يقدر يعملنا حاجة، هي فوضى؟!!!
اختفت مجبرة عن الأنظار بعدما أعلنت استنكارها الصريح لما يحدث؛ لكنها علقت في نفس التوقيت مع من لا يمرر الزلات دون عقابٍ أو محاسبة. أمر "كرم" أحد أتباعه بلهجةٍ شبه محتدة:
-اعرفلي مين البت دي!
رد عليه في طاعة تامة:
-أوامرك يا كبيرنا.
بينما ظل "زهير" واقفًا في موضعه، ومثبتًا لنظراته الغامضة على الشرفة التي خلت منها، وهذا التعبير غير المقروء يسود كافة تقاسيمه، إلى أن ناداه "كرم" بصوته القوي متسائلًا بوقاحةٍ وجراءة:
-عجباك الوقفة، ولا البت ......................... ؟!!!
......................................
كل الخسائر المادية يمكن أن تعوض، إلا فقدان عزيز نفيس، ففراقه يدمي القلوب ويعذب الروح .. قُســاة القلوب لم يمهلوها الفرصة لضم رضيعها، لشم رائحته، للتمتع بوجوده في أحضنها، سلبوه منها قبل أن تملي عينيها منه، قبل أن تحفظ ملامحه. قاموا بحرمانها من قربه بكل ظلم وتجبر، فكيف لها أن تغفر بسهولة جريمتهم الشنعاء؟!
تعمدت "وِزة" التقيؤ عنوة، بوضع إصبعها في حلقها، لتفرغ ما أُجبرت على ابتلاعه من موادٍ مهدئة، لتتمكن من الانتقام من هؤلاء الأشقياء.
ادعت أنها في حالة ما بين اليقظة والهذيان، غير واعية لما يدور حولها، لتتمكن من خداع من حولها، استلقت على الفراش، مواصلة تمثيليتها السخيفة، إلى أن واتتها الفرصة، وتمكنت من التسلل إلى المطبخ، دارت ببصرها على الرفوف، إلى أن تجمدت عيناها على شيءٍ بعينه، اقترب من أحد الأدراج، فتحته واستلت منه هذا السكين الضخم الذي يستخدم في تقطيع اللحوم.
كزت على أسنانها في حرقةٍ، وتوعدها بقلب منكوٍ من لوعة الظلم والفراق:
-نهايتك النهاردة يا مفترية.
أخفته في طيات ملابسها، وعاودت أدراجها إلى داخل الغرفة، تنتظر على أحر من الجمر اللحظة الملائمة للانقضــاض على من أصدرت أمر الإعــــدام –بدم بارد- في حق فلذة كبدها.
...............................
تأنقت، وتألقت، وتزينت، وارتدت عباءتها المميزة المزركشة، تلك التي تجعلها بهية، وندية، لتبدو في أعين ضيفها المميز ذات مظهر لائق فيبدي استحسانه، ويغدق عليها بالمال. صفقت "توحيدة" بيديها في همةٍ وحماس، وراحت تلقي أوامرها على من حولها بغير كللٍ:
-كبيرنا جه تحت، يالا يا بت إنتي وهي، ظبطوا الأعدة...
ثم اتجهت إلى "خضرة" تسألها باهتمامٍ:
-البت "مروة" جهزت؟
أجابتها بإيماءةٍ من رأسها:
-أيوه يا أبلتي، وصيت المقاطيع اللي جوا يروقوا عليها.
شددت عليها بغير تساهلٍ:
-شوفيها بنفسك واطمني، مش عايزة حاجة تقصر رقبتي قصاد الكوبارة.
أطاعتها كالعادة مبتسمة:
-حاضر يا ست الناس كلها.
في تلك الأثناء، انتظرت "وِزة" ذهاب الجميع، وانشغالهم بتنفيذ أوامرها، لتخرج من مخبأها، وتندفع تجاهها بكل عنفوانها وغضبها، ويدها قابضة على السكين بقوةٍ وغل، لتصرخ فجــأة في اهتياج لاعنة إياها بشدة:
-هموتك يا بنت الـ......
بأعجوبة تمكنت "توحيدة" من تفادي ضربة النصــل المميتة، وأمسكت برسغها في اللحظة الأخيرة، لتتفاجأ بها تكمل صراخها الهادر وهي تلومها في حرقة أم مكلومة القلب:
-عملك إيه يا فـــاجرة؟ ده كان حتت لحمة حمرا!!!
هتفت مذهولة:
-يا لهوي، إنتي اتجننتي ولا إيه؟
خرج صوتها كهديرٍ عاصف وهي تلومها بحــرقةٍ أشد:
-أيوه اتجننت من اللحظة اللي خدتيه فيها بالعافية من حضني وحرمتيني منه، أيوه اتجننت لما قتــلتيه يا ظالمة.
قاومتها قدر استطاعتها؛ لكن غضب "وِزة" المتصاعد جعلها تفوقها قدرة ومقدرة، فعرقلتها من قدمها، وطرحتها أرضًا، لتجثو فوقها وهي لا تزال تحاول دب السكين في صدرها لتزهق روحها، فما كان منها إلا أن صرخت عاليًا مستغيثة في هلع:
-الحقوني يا نــــاس، غتوني يا خلق هوو.
صرخـــاتها المفزوعة دوت في المكان، وجعلت كل من يقيم في بيتها يحتشد بصالة المنزل، ليحدقوا في ذهول وفزع إلى المشهد الدامي، وفي نفس الآن، دفع "كرم" الباب بكتفه في قوةٍ ليفتحه على مصراعيه مبديًا في الحال استنكاره لتجرؤ تلك الوقحة على سيدتها، فهدر بها وهو يدنو ناحيتها بخطواتٍ ثابتة:
-سيبي يا بت البتاعة اللي في إيدك دي.
لم تخبت قواها للحظةٍ، وتوعدتها بشراسةٍ، وهي تحاول غرز النصل الحاد في صدرها:
-مش هسيبها إلا لما أخد حقي منها:
في التو استنجدت به "توحيدة"، وكأنه ملاذها الأخير:
-الحقني يا سيد الناس.
استهجن "كرم" حالة الجمود المشوبة بالخوف المسيطرة على أتباعها، فعنفهم بحدةٍ:
-إنتو واقفين تتفرجوا عليها؟ أما إنكم ....... بصحيح!
كذلك صعد كلًا من "زهير" و"عباس" إلى منزلها لتحل علامات الصدمة على تعابير وجهيهما، فهتف الأخير صائحًا بحنق، خاصة وهو يرى امرأته واقعة تحت قبضتها:
-إنتي اتلطشتي في مخك يا بت؟
أخبرته باهتياجٍ:
-هي قتلت ابني، لازم أنتقم منها!
انعكست أمارات الحيرة على أوجه الثلاثة رجــال؛ لكن "كرم" لم يترك نفسه فريسة للتخبط والتساؤل، فانطلق صوبها ليمسك برأسها ويجذبها بشراسةٍ من شعرها، وأسرع "زهير" ليساعده بالقبض على رسغها، وانتزاع السكين من يدها، ليقوم "عباس" بسحب امرأته بعيدًا عنها، والأخيرة لا تزال تشهق في خوفٍ وفزع، غير مصدقة أنها نجت من على شفير الهلاك الحتمي.
...........................................
بنفس التوقيت، كانت "دليلة" تعاود أدراجها بصحبة شقيقتها إلى العمارة التي تقطن بها عائلتها، فانتبهت كلتاهما إلى صوت الصراخ الصادح حولهما، فتساءلت "إيمان" بشيءٍ من الفضول، وإحساسها بالرهبة قد بدأ يتسلل إليها:
-هو في إيه؟ مين اللي بتصوت كده؟
على عكسها بدت "دليلة" هادئة نسبيها، فقد اعتادت على ذلك الشيء الذي لا يتوقف عن التكرار ليل نهار، وخاطبت شقيقتها بامتعاضٍ معكوس على ملامحها:
-مش عارفة، بس تقريبًا احنا اتعودنا على كده، كل يوم والتاني تسمعي واحدة تطلع ترقع بالصوت، ونعرف بعد كده إنها متخانقة مع جوزها، وهو بيربيها.
استنكرت تفسيرها بشدة:
-يا ساتر يارب، طب ليه كده؟
ظلت "دليلة" على انزعاجها وهي تواصل إخبارها:
-يا ريت ترسى على الوضع ده، لأحسن بنشوف حاجات أفظع من كده بكتير!
ثم خفضت بعدها من نبرتها لتحذرها:
-بقولك إيه، خلينا نكمل كلامنا فوق لأحسن الست إياها تسمعنا.
أيدتها في ذلك قائلة:
-على رأيك، ودي ما هتصدق تسأل كنت فين ورجعت ليه!
بالكاد منعت "دليلة" نفسها من الضحك بوضع يدها على فمها، لتضيف معلقة بسخريةٍ:
-بالظبط، ولا المخبرين!
أكملت الاثنتان صعودهما إلى الأعلى، وهما تأملان ألا تكون جارتهما المتطفلة تاركة لباب بيتها مفتوحًا، وإلا لما سلمتا من سخافتها اللزجة.
..............................................
لم يحتج "كرم" إلى أي مجهود ليتمكن من السيطرة على من فقدت صوابها، وتحولت إلى الجنون، قيدها من رسغيها بيديه، ريثما يحضر أحدهم حبلًا لها، في حين نظر إليها "زهير" بشيءٍ من الإشفاق والحيرة، فوصولها إلى هذه الدرجة من الهياج لم يحدث من فراغ.
بعد أن تم تقييدها، تُركت في منتصف الصالة ملقاة على جانبها، كالشاه التي تنتظر الأمر الفوري بالذبـــــح، تبكي في عجزٍ وقهر، ومن حولها تجمع كل قاطني المنزل، بمن فيهم "مروة" التي وقفت في الخلفية، تحتمي بأظهر النساء، وهي تدعو الله في نفسها ألا يراها ذلك البربري القاسي.
جلس "كرم" على الأريكة، مسلطًا ناظريه على "توحيدة" الجالسة في مواجهته ومن خلفها "عباس" الذي كان يربت على كتفها بترفقٍ، عمَّ الصمت إلا من أصوات تنفس الجميع، ليقطعه "زهير" متسائلًا في نبرة تحقيقية:
-الهوجة دي من إيه؟
تلبكت "توحيدة" في جلستها، وشعرت بالقلق، فتلك المسألة الخطيرة التي أقدمت على فعلها، كانت بأمرٍ مباشر منها، ودون علم عائلة "الهجام".
من تلقاء نفسها تولت "خضرة" الإجابة، لعلها ترفع الحرج عن ربة عملها:
-البت اتلحست في مخها.
لحظتها نهرها "كرم" في صوتٍ أجش غليظ:
-حد وجهلك سؤال؟
اعتذرت في التو مهابةً منه:
-أسفة يا كبيرنا، مش هيحصل أفتح بؤي تاني.
راح "كرم" يشير بإصبعه نحو رجلين من أتباعه ممن كلفهم بمهمة البقاء في المنزل والمساعدة، ليوبخهما في حدةٍ:
-والدلدول ده فايدته إيه؟ واللطخ ده كمان؟
جاء تعقيب "زهير" كالأمر النافذ:
-يتغيروا كلهم.
في التو أيده شقيقه الأكبر بغير مراجعةٍ أو نقاش:
-ده اللي هيحصل.
بادرت "توحيدة" بتقديم فروض الامتنان والولاء لزعيم المنطقة، ولتهرب في نفس التوقيت من الإجابة على السؤال الذي طُرح مسبقًا:
-كتر خيرك يا كوبارتنا، لولا إنك جيت في الوقت المناسب كان زماني مع الأموات.
لم يكن "زهير" بالشخص الساذج لتظن أنها قادرة على مراوغته والتحايل عليه، ثبت عينيه عليها معيدًا تكرار سؤاله بصيغة أخرى:
-ما قولتيش برضوه هي عملت كده ليه؟
ازدردت ريقها، وقالت بصوتٍ مهتز، وهذا التعبير القلق يحتل كافة تعابير وجهها:
-مخها طاقق بعيد عنك.
علق عليها "كرم" بنظرة نافذة:
-بس هي قالت إنها قتلت ابنها.
هربت الدماء من وجهها، فبدت بشرتها أكثر شحوبًا وهي تجيبه:
-وده كلام يتصدق يا كوبارتنا؟
شكَّ أنها لا تزال تلف وتدور محاولة منحه الإجابة المباشرة، فاتجه بسؤاله إلى تلك المسجاة على الأرضية يسألها:
-انطقي يا بت، هجمتي على سِتك ليه؟
من بين دموعها الغزيرة أجابته:
-هي حرمتني من ابني وقتلته.
نفت في الحال تلك المصيبة التي ألصقتها بها، وقد هبت من مكانها لتهجم عليها في غيظٍ وحقد:
-مش أنا وربنا.
أفقدتها الوعي بصفعاتها القاسية عليها، ليقوم "عباس" بإبعادها وهو ينظر إلى امرأته باستنكارٍ وحيرة، فمن النادر أن تخفي عليه شيئًا، واليوم هو كغيره يستمع إلى كارثة حدثت كتلك وللمرة الأولى، ولا خلفية له عنها، فكيف يمكنه الدفاع عن تورطها في الأمر من عدمه؟!
تركها "زهير" تكمل تمثيليتها المكشوفة بادعاء الانفعال والغضب، دون أن يمنعها من مواصلة الاعتداء البدني على هذه المكدومة المكلومة، واعتدل في جلسته مستطردًا باهتمامٍ:
-لأ أفهم بقى الحوار من أوله.
سكتت وعجزت عن الرد، فأمرها شقيقه "كرم" بلهجته التي لا ترد:
-"توحيدة"، انطقي واحكي اللي حصل بالظبط، وأحسنلك تكوني صادقة معايا، بدل ما أقلب عليكي.
أصبحت محاصرة بين مطرقة وسندان، عليها أن تبوح الآن بما ظنت أنها وأدته مع من لم يقترف ذنبًا في هذه الحياة التي لا تمنح الرحمة أو الشفقة للضعفاء.
.............................................
عاد "فهيم" إلى المنزل، واستقبل ابنته الكبرى بكل محبة أبوية وسعادة، سرعان ما تحولت إلى توترٍ واستنكار عندما علم بما صار معها أثناء بحثها عن وسيلة مواصلات لتقلها إلى منزلها، وذهابها إلى قسم الشرطة لتحرير محضر بواقعة السرقة، وما أتبع ذلك من ادعاء "دليلة" بأنها من تعرضت للأمر تجنبًا لغضبة "راغب" المتوقعة، بينما صاحت "عيشة" في لومٍ واستعتاب:
-بقى كل ده يحصل واحنا معدناش خبر؟ إيه عدمتيني أنا وأبوكي؟
أخبرتها "دليلة" في شيءٍ من العناد:
-أنا كنت عايزة أتصرف بسرعة علشان أكسب وقت.
ضربت والدتها كفها بالآخر مرددة في تذمرٍ وتبرم:
-هو ده اللي خدناه من الحتة الفقر دي، كل يوم والتاني في القسم.
ردت عليها ابنتها الصغرى باستغرابٍ مستنكر:
-احنا المظلومين يا ماما.
بعد تفكيرٍ متروٍ تحدث "فهيم" وهو يشير بيده:
-خلاص يا "عيشة"، هي اتصرفت صح.
استهجنت للغاية تقبله لما اعتبرته تصرفًا مليئًا بالرعونة، وصاحت:
-بتهاودها يا "فهيم"؟
قال بمنطقيةٍ بحتة:
-يعني تتسرق وتسكت؟ البلد فيها قانون.
من داخلها شعرت "دليلة" بالاعتزاز والسرور لكون والدها يدعمها على الدوام، طالعته بنظرات فخورة وهو لا يزال يتحدث مؤيدًا لموقفها:
-وكويس إنها اتعرفت على الحرامي، بكرة البوليس يمسكه، ويرجع اللي سرقه، ويتحاسب كمان.
على عكسه بدت "عيشة" متوجسة خيفة من تبعات ذلك، وراحت تمتمت في غير رضا:
-ربنا يستر من اللي جاي!
ثم توجهت بكلامها إلى "إيمان" فسألتها في قلقٍ:
-وإنتي يا فالحة هتتصرفي إزاي لو جوزك عرف بالحقيقة، وخصوصًا لما يلاقي إن البلاغ متقدم في القسم اللي نواحينا؟!!
ردت عليها بتوترٍ:
-طب ليه نقدر البلاء قبل وقوعه؟
حذرتها بجديةٍ:
-احنا مش ناقصين مشاكل معاه، ده بيتلكك.
اغتاظت "دليلة" من محاولة اختلاق الأعذار لتبرير تصرفات زوج شقيقتها الفظة، ووجهت اللوم إليه:
-هو السبب، ماهو لو مكانش مانعنا نروح لها مكانش ده حصل.
قطب "فهيم" جبينه في استغرابٍ، فلاحظت "عيشة" التغيير الحائر الذي طرأ على قسماته، فكزت على أسنانها تنذرها:
-خلاص بقى يا "دليلة"!
استرعى كلامها الأخير انتباهه أكثر، فتساءل مستفهمًا، وهذا التعبير الغائم لا يزال يكسوه:
-يعني إيه مانعكم؟ أنا مش فاهم.
لحظتها انزعجت "عيشة" أكثر من اندفاعها، ووبختها:
-عاجبك كده يا فالحة؟
ألح "فهيم" في معرفة الحقيقة متسائلًا:
-إنتو مخبيين إيه عني؟ اتكلمي يا "إيمان"!
تلبكت وهي تحاول الهروب من إجابته:
-مافيش حاجة يا بابا.
صاح في غير صبرٍ:
-ما ترسوني على اللي حاصل من ورايا.
تبادلن نظرات مترددة حائرة فيما بينهن، انتهت بإخباره بتفاصيل ما جرى في وقتٍ سابق.
.........................................
فور أن تم اقتياده لقسم الشرطة، تم التعامل معه بالأسلوب الذي يستحقه أمثاله من اللصوص ومعتادي السرقات، ليتجه بعدئذ إلى غرفة مكتب ضابط المباحث، حيث تولى التحقيق معه في مسألة السرقة بالإكراه. أنكر "سِنجة" الأمر برمته هاتفًا في استعطافٍ زائف:
-يا بيه، أنا غلبان، ماليش دعوة بحاجة.
رد عليه بجديةٍ وهو ممسك بقلمه الحبري بين أصابعه:
-الضحية قالت عن أوصافك، واتعرفت عليك، وطلعت صورتك إنت بالذات من وسط المجرمين.
هتف مؤكدًا كذبته الملفقة:
-أكيد مزقوقة عليا.
صاح به مستهجنًا، وفي شيءٍ من الهجوم:
-ده على أساس إنك ماشي جمب الحيط وفي حالك؟ ده إنت سوابق ياله!
استمر "سِنجة" على نهج الإنكار مرددًا:
-يا بيه ما إنتو مسكتوني ومكانش معايا حاجة.
جاء رده منطقيًا:
-تلاقيك اتصرفت فيها، هو إنت هتغلب!
تمسك بإنكاره الكاذب:
-مظلوم يا باشا!
ضغط الضابط على زر الجانبي المعلق في الدرج العلوي من مكتبه، ليسمع كلاهما طرقات على الباب قبل أن يُفتح ويلج الصول "صادق" للداخل، أمره الأول في صرامة:
-خده، واعمله فيش وتشبيه، واستدعي اللي بلغت عنه، خلينا نكمل إجراءاتنا.
أدى له التحية العسكرية مرددًا:
-تمام يا باشا.
ثم قبض على ذراع "سِنجة" وجذبه معه إلى خارج الغرفة وهو يلقي عليه تبعات عقوبة السرقة، ليصبح الأخير أكثر ضيقًا واستياءً.
اعترض طريقهما أحد المخبرين، ممن يدينون بالولاء لعائلة "الهجام"، فادعى اهتمامه بالمساعدة، فاستطرد وهو يلصق هذه الابتسامة السخيفة على محياه:
-سيبهولي يا صول "صادق"، أنا هتعامل مع المجرم ده، وريح إنت، الحكاية مش مستاهلة تتعب علشان واحد زيه.
بالنسبة له كانت مسألة عادية، فلم يكترث كثيرًا للتأكد من إنجازها بنفسه، لهذا لم يشك للحظة في الأمر، وقال وهو يلوح بإصبعه في وجهه:
-طب انجز، وجبهولي لما تخلص علشان نحطه في الحجز.
هز رأسه قائلًا في امتثالٍ وطاعة:
-أوامرك.
أمسك به المخبر، وسحبه معه إلى إحدى الغرف الجانبية ليتمكن من محادثته سرًا، فتساءل "سِنجة" مستفهمًا باندهاشٍ مستنكر:
-الدنيا إيه؟ الحوار ده مش هيتلم؟
رد عليه بصوتٍ خفيض وحذر:
-بص الباشا بتاعنا مش هيسكت، وهيوديك النيابة.
سأله في قلقٍ:
-والعمل إيه؟
أجابه بعدما اختطف نظرة سريعة نحو الخارج:
-لازمًا الحوار يخلص من طرف البت، وتنكر إنك اللي سرقتها.
فرك طرف ذقنه بيده، وتساءل في تحيرٍ:
-طب ودي أوصلها إزاي؟
ومضت عيناه بهذه اللمعة الغريبة، وأخبره باسمًا في لؤم:
-بسيطة، بس كأنك متعرفش مني.
وكأنه أعطاه المخرج من مشكلته العويصة، فبادله الابتسام قائلًا في حبور:
-زي الفل، وحلاوتك محفوظة.
استحسن كثيرًا وعده بالعطايا، وردد:
-اتفقنا.
..........................................
بعباراتٍ شبه موجزة، سردت "توحيدة" تفاصيل الواقعة، ليشعر "كرم" بالاستياء العارم من تصرفها الشنيع، وما زاد من إحساسه بالحنق هو جهله التام بالأمر، ولولا حالة الجنون التي سيطرت على هذه المرأة واندفاعها للاقتصاص منها لما عرف من الأساس عنه، ولطُمر مع غيره مما يجهل به. اعتبر ذلك استخفافًا به، وتحقيرًا من سُلطانه وسطوته، فهدر بصوتٍ صادح جعل أبدان الجميع تهتز:
-بقى كل ده يحصل وأنا معنديش خبر؟ طرطور معاكو؟ ولا إكمني كنت محبوس فإيدي مش هتطولكم؟
حاول "عباس" تخفيف حدة انفعاله مرددًا:
-متقولش كده يا كبير، ده أنا عينك برا وجوا.
سلط نظراته النارية عليه، ووجه إليه موجة من التقريع القاسي بترديده المستهزئ به:
-ولما إنت عيني يا فالح، كنت فين وقت ما ده تم وحصل؟ مش إنت دراعي اليمين، ولا معدتش ليك لازمة، مش معمولك اعتبار من الهفأ اللي تحت إيدك؟!!!
دافع عن نفسه بحرجٍ:
-وربنا يا كبير ما كنت أعرف، الحوار ده اتعمل من ورايا.
زاد من إهانته بقوله المستحقر:
-استغفلوك لأنك حمار...
نكس "عباس" رأسه في خزيٍ، فتابع "كرم" كلامه إليه متوعدًا:
-بس هتتحاسب على تقصيرك.
لم يجرؤ على التعليق، ولاذ بالصمت، بينما تحدث "زهير" في تحفزٍ:
-وإنتي يا "توحيدة"، من امتى بنعمل كده في العيال حتى لو جايين من حـــــــرام؟!
ارتجفت وهي تحاول التبرير، عله يصفح عنها:
-أنا قولت للواد "سِنجة" يتصرف، يرميه عند باب جامع، يوديه ملجأ، مجاش في بالي إنه آ...
قاطعها قبل أن تنهي جملتها للأخير هادرًا بصيحة جعلتها تنتفض في جلستها:
-ولا كلمة زيادة، ما ليها حق تتجن عليكي وتجيبك نصين، دي أقل حاجة يا فاجـــــرة!
تساءل "كرم" بنبرة جوفاء، مانحًا شقيقه الحق الكامل في اتخاذ القرار النهائي لهذا الأمر:
-رأيك إيه يا "زهير"؟
تجول بناظريه على كلٍ من "توحيدة" و"وِزة"، لينطق بعدها بهدوءٍ مصدرًا حكمه النافذ:
-البت "وِزة" يتجوزها "عباس"، وتحمل منه تاني، وتجيب عيل بدل اللي راح منها.
لحظتها صرخت "توحيدة" لاطمة على صدرها في استنكارٍ عظيم:
-يا نصيبتي!
ابتسامة انتصار لاحت على زاوية فمه قبل أن يتابع بما أشعل نيران الغيرة أكثر داخلها:
-خدي التقيلة بقى، ليها نفس مكانتك هنا في البيت يا "توحيدة"! تؤمر وتنهي في الحريم.
شهقت مصعوقة، وهتفت مستهجنة ما اعتبرته حكمه المجحف:
-نعم؟ ليه كده يا سي "زهير"؟ إنت بتيجي عليا أوي؟
سدد لها نظرة أرعبتها، وسألها في وجومٍ:
-مش عاجبك كلامي وبتعارضيني؟
قالت بصوتٍ مختنق نسبيًا، ووجهها قد اشتعل بحمرة الحنق:
-لا عاش ولا كان اللي يعارضك، بس ده ظلم.
استرخى في جلسته أكثر، ووضع ساقه فوق الأخرى متابعًا ببرودٍ:
-خلاص رجعيلها ابنها، ونحاسبها احنا بطريقتنا على غلطها.
لم تستطع النطق بشيءٍ، فاستطرد في استهزاءٍ:
-شوفتي إنك عاجزة إزاي؟
مجددًا تحدث "كرم" في قوةٍ وصرامة، مُظهرًا كامل دعمه لشقيقه:
-كلام أخويا "زهير" يمشي على رقبة الكبير قبل الصغير، واللي مش عاجبه يجيلي وأنا أريحه.
لم يملك أي من الحاضرين الشجاعة للاعتراض على الشقيقين، فأصدر "زهير" أمره غير المردود:
-خد مراتك الجديدة يا "عباس".
هز رأسه في طاعة وقد همَّ بالتحرك صوبها:
-أوامرك يا ريس "زهير".
اغرورقت عينا "توحيدة" بالدموع، وكبتت غيظها المشوب بغيرتها المتأججة مرغمة، فمن تعشقه يتجه لأخرى ليتزوجها في العلن، وعلى حساب كرامتها، وهي مجبورة على الصمت والانصياع!!
لم يحل "عباس" قيد "وِزة"، بل رفعها عن الأرضية، حاملًا إياها بين ذراعيه وهو يبدو متكدر الملامح، لينهض بعدها "كرم" من جلسته، وعيناه تعرفان السبيل إلى واحدة بعينها، فاحتل ثغره ابتسامة لعوب وهو يقول بنبرة ذات مغزى:
-وأنا بالمرة أخد مراتي.
وقتئذ انتفضت "مروة" صارخة في هلعٍ عقب تصريحه ذلك، خاصة عندما وجدته يشملها بنظرته النهمة الجائعة، وهرولت ركضًا عائدة للداخل هاتفة برفضٍ قاطع:
-لأ، أنا مش عايزة أجي معاك.
فرقع فقرات عنقه بتحريكه للجانبين مستطردًا بقدرٍ من الضيق:
-الله! ابتدينا بقى!
حذره "زهير" بجديةٍ، وقد نهض بدوره ليمسك به من ساعده:
-بالراحة.
على مضضٍ عقب:
-ما أنا واخدها على الهادي أهوو.
أرخى قبضته عنه، فانطلق في إثرها، ليلحق بها داخل إحدى الغرف، لم تتمكن من وصد الباب، فدفعه دون عناءٍ لتصبح محتجزة معه، تراجعت للخلف وهي ترتجف كليًا، فحذرها باسمًا بمكرٍ:
-ما تخليكي حلوة، وتيجي على الساكت!
ردت رافضة بعنادٍ ممزوجٍ بالخوف:
-مش هيحصل.
سألها كتمهيدٍ قبل أن يندفع تجاهها:
-يعني إنتي غاوية فضايح؟
انفلتت منها شهقة أقرب للصراخ حينما لاحقها وامتدت ذراعه لتمسك بها من رسغها، جذبها تجاهه، وقال من بين ابتسامته التي تجعل بدنها يقشعر، وشعيرات جلدها تنتصب:
-وأنا بموت فيها.
بيده الأخرى جذب الملاءة، ولف جسدها به، لتصبح محاصرة بالداخل، ثم رفعها على كتفه، وصراخها يعلو:
-ابعد عني.
لم يعبأ بصراخها للحظةٍ، وصفعها على مؤخرتها مرددًا في فخرٍ:
-ده إنتي مع "الهــجام" يا حلوة.
......................................
مقاومتها كانت لا شيء مقارنة به، بلا أدنى مجهود أخذها قسرًا، وهبط بها الدرجات وهو لا يزال يحملها على كتفه بتباهٍ وغرور، استمرت "مروة" في الصراخ، وساقاها تركلان في الهواء:
-سيبني، أنا أموت ولا إني أرجع معاك تاني.
وكأن صياحها معزوفة موسيقية فريدة تُطرب أذناه، لم يكترث بها، ودندن بصافرة منتشية حتى أصبح خارج البناية، دار ببصره على المارة والمتواجدين في الشرفات، متأملًا ردة فعلهم على تصرفه، وكالعادة اتخذ الجميع موقفًا سلبيًا، ولم يعارضه أحدهم. واصلت "مروة" الصراخ بأقصى صوتها، إذ ربما يتعاطف شخص ما معها:
-الحقوني يا نــاس.
لكن لا جدوى، الكل تعمد تجاهل استغاثتها، وادعوا انشغالهم فيما يفعلون، لتخرج "دليلة" إلى الشرفة على صوت صرخاتها المتتالية لرؤية ما يدور.
تفاجأت بما يحدث من وقاحة وسطوة على مرأى ومسمع الجميع، لتندد من موضع وقوفها بالأعلى في استنكارٍ جلي، وبصوتٍ يكاد يكون مسموعًا:
-والله العظيم اللي بيحصل ده حرام!
توجست "عيشة" خيفة من اندفاع ابنتها، خاصة مع غياب "فهيم" وذهابه بصحبة ابنتهما الكبرى لتوصيلها إلى حيها السكني، ومعالجة مشكلة فقدان مفتاح البيت. حاولت جذبها للداخل؛ لكنها استل ذراعها من أسفل قبضتها لتكمل صياحها المستهجن بصوتٍ أكثر علوًا:
-إيه؟ مافيش راجل في الحتة دي قادر على العصبجية دول؟!
ازدادت الرجفة في قلب والدتها، وأنذرتها بقلقٍ وهي تعاود شدها بعيدًا عن الشرفة:
-ملكيش دعوة، ماتدخليش.
ردت عليها بصوتٍ منفعل، وذلك الإحساس المستنكر للشعور بالاضطهاد يزأر بداخلها:
-صعبان عليا بجد، كل يوم والتاني نلاقي بنت بتتبهدل هنا، والكل عامل مش شايف.
رفعت من نبرتها ملوحة بيدها في الهواء:
-إنتو نــاس ظلمة!
من موضع وقفه رآها "زهير"، فعرفها في الحال، إنها نفس الشابة المندفعة بطيشٍ، جمد عينيه عليها، بينما انطلق "كرم" يحذرها بتحدٍ سافر:
-خشي يا حلوة جوا بدل ما أطلعلك!
لحظتها هوى قلب "عيشة" في قدميها، واعتذرت له اتقاءً لشره المستطير:
-حقك علينا، هي ما تقصدش...
وراحت تلكز ابنتها في ظهرها بقبضتها المتكورة وهي تنهرها بعدما كزت على أسنانها:
-خشي يا مسحوبة من لسانك، هو احنا ناقصين مصايب في بيتنا؟ وأبوكي كمان مش هنا.
صاحت في غير مبالاة، ومتعمدة الإبقاء على نبرتها المرتفعة:
-ولا يقدر يعملنا حاجة، هي فوضى؟!!!
اختفت مجبرة عن الأنظار بعدما أعلنت استنكارها الصريح لما يحدث؛ لكنها علقت في نفس التوقيت مع من لا يمرر الزلات دون عقابٍ أو محاسبة. أمر "كرم" أحد أتباعه بلهجةٍ شبه محتدة:
-اعرفلي مين البت دي!
رد عليه في طاعة تامة:
-أوامرك يا كبيرنا.
بينما ظل "زهير" واقفًا في موضعه، ومثبتًا لنظراته الغامضة على الشرفة التي خلت منها، وهذا التعبير غير المقروء يسود كافة تقاسيمه، إلى أن ناداه "كرم" بصوته القوي متسائلًا بوقاحةٍ وجراءة:
-عجباك الوقفة، ولا البت ......................... ؟!!!
......................................