رواية جبر السلسبيل الجزء الثاني الفصل السادس 6 بقلم نسمة مالك
الفصل السادس..
جبر السلسبيل2..
نسمة مالك..
.. بسم الله الرحمن الرحيم.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
قطع "عبد الجبار" المسافة بينه و بينها بخطوتان لا ثالث لهما، و بلمح البصر وجدت نفسها مرفوعة بين ذراعيه بمنتهي الخفة كأنها لا تزن شيئًا ،جلس هو مكانها على الفراش و إحتوي جسدها الصغير بأكملها داخل حضنه..
"كيفك دلوجيت؟!"..
همس بها داخل أذنها بصوته المزلزل الذي يبعثر كيانها كله دفعة واحدة ، انكمشت على نفسها بين يديه، أراحت رأسها على موضع قلبه النابض بعشقها وحدها، تنهدت براحة و هي تقول بخفوت..
"أنا الحمد لله بقيت كويسة..أطمن"..
مسد على طول ظهرها بكف يده الضخمة يضمها له بقوة مرددًا بتساؤل ..
" هتعاوي معاي على الدار.. مش أكده يا سلسبيل؟"..
أطبقت جفنيها بعنف تكبح عبراتها التي تجمعت بعينيها، أخذت نفس عميق قبل أن ترفع وجهها ببطء و من ثم عينيها الحزينة، و تطلعت له بابتسامتها التي تُذيب قلبه المُتيم بها، تأملت ملامح وجهه الجذاب رغم صلبته و صرامته، و تحدثت بأسف قائلة..
" مش هينفع.. مش هينفع أرجع معاك و لا حتى أرجع على ذمتك تاني يا عبد الجبار"..
رأت عيناه تتسعان بغضب، و تبرز حولها الشعريات الدموية بخطورة..مع ذلك تحدثت بتأنٍ بالغ دون أن يخيفها الوضع أو تحذيره..
"جوازي منك كان بالنسبة ليا طوق النجاة اللي هينقذني من جبروت أبويا اللي مش عارفة أيه سبب قسوته عليا بالشكل ده لحد دلوقتي .. و جوازك أنت مني كان غلطة و لازم تصلحها و ترجع لمراتك اللي هتجنن من غيرتها عليك و لبناتك و تنساني خالص من حياتك"..
صمتت لبرهةً تحاول السيطرة على حشرجة صوتها الذي اختنق بالبكاء بسبب نظراته العاشقة لها ، و تابعت بألم نجحت في إخفاءه..
" ليها حق أبلة خضرا في غيرتها المجنونة عليك..و في تهديدها ليه لو مبعدتش عنك"..
عقد حاجبيه بدهشه مغمغمًا..
" تهديد أيه اللي بتتحدي عنه!!! "..
انسحبت الدماء من وجهها، و بدي الرعب و الفزع ظاهر على قسماتها و هي تجيبه بصوتٍ مرتجف..
"أبلة خضرا بتهددني بيك.. غيرتها عليك عمتها و قست قلبها و بتهددني أنها هتقتلك لو فضلت على ذمتك..و لما قولتلها إنك مش هطلقني بسهولة قالتلي أرفع خلع.. و خلتني عملت لجدي توكيل و طلبت منه يرفع لي قضية خلع عليك.. عشان خوفت منها.. خوفت تنفذ تهديدها و تعمل فيك حاجة يا عبد الجبار "..
أطبق السكون حولهما فور إنتهاء حديثها، بقي" عبد الجبار " يتطلع لها بصمت أثار بقلبها الريبة، كانت ملامحه المتلهفة تحولت لأخرى جامدة، شعرت بجسده يتخشب من حولها، حبست أنفاسها حين وجدته يبعدها عن حضنه، وضعها ثانيةً على الفراش، و انتصب واقفًا مبتعدًا عنها، حينها شعرت ببرودة لفحتها بفعل نهوضه و مفارقته إياها فجأة هكذا..
"اممم.. يعني أم فاطمة قالتلك إنها هتقتلني لو فضلتي على ذمتي!!!".. تمتم بإيجاز تغلفه قساوة غريبة، حركت "سلسبيل" رأسها له بالايجاب، و قد زحف القلق لقلبها من نظرات العتاب الذي يرمقها بها..
"حديتك ده يخليني أقل حاچة أعملها إني أرمي اليمين على أم بناتي اللي قوتك على عملتك السودة برفع قضية خلع على رچلك اللي بيتمني لك الرضا و شايلك چوه جلبه قبل عينيه!!"..
قالها باقتضاب لا يخلو من الجمود، و مال عليها بجزعه مستند بكفيه على الفراش من حولها، و تابع بألم حاد..
" وأنتي نايمة في حضني يچيني تليفون يبلغني بالقضية اللي رايده ترفعيها عليا خليتي عقلي يچن مني و أرمي عليكي اليمين من حرقة جلبي.. كنت فاكر إني بكده هطفي النار اللي چوايا من نحيتك .. بس النار دي زادت ببعدك عني و مقدرتش يا سلسبيل و رديتك على ذمتي في وقتها"..
بكت "سلسبيل " و هي تقول بندم.. "أنا آسفة على اللي عملته.. أنا غلطت في حقك وأنت متستهلش مني كده.. بس والله أنا عملت كده من خوفي عليك يا عبد الجبار "..
أخذ نفس عميق و زفره على مهلٍ مردفًا بنفاذ صبر..
" بكفياكِ بكى عاد.. و خلينا ننسى كل اللي حُصل و هاخدك من أهنه على بيت چديد هيبجي ليكِ لوحدك و ملكيش صالح بحديت خضرا واصل"..
من أجلها تنازل عن كبرياءه و كرمته لأول مرة بعمره، حتى لا يخسرها هي، لا يريد سوي أن تظل زوجته حتى لو كان ما تقوله عن تهديد "خضرا" حقيقة و كلفه الأمر حياته،
كانت تتمنى أن توافقه على حديثه هذا، لكن خوفها عليه كان أكبر من احتياجها له، خاصةً بعد علمها بأنها ربما تكون حاملة في احشائها منه طفلهم الأول، تمكن منها الذعر أكثر و هي تتخيل رد فعل ضرتها على خبر حملها، بالتأكيد ستقتلها هي و جنينها في الحال..
وجدت نفسها تحرك رأسها بالنفي مرددة ببكاء..
"لا.. لا.. أنا و هي مش هينفع نبقي على ذمتك..يا أنا يا هي يا عبد الجبار.. لكن إحنا الاتنين مع بعض مش هينفع.. لازم تختار بنا"..
ما تفوهت به الآن هي على دراية كاملة ما سيكون إختياره، تعلم أنها وضعت نفسها في مقارنة خاسرة، بالرغم من عشقه لها، لكن ابنتيه يفضلهما دائمًا عن نفسه، و هي على يقين أنه لا و لن يفرط بهما مهما فعلت أمهما..
" بتلوي دراعي يا سلسبيل!!! ".. نطق بها مذهولاً من حديثها الذي بدأ يفقده صوابه،و قبض على ذراعها بكف يده بقوة ألمتها مكملاً بغضب عارم تمكن منه..
"بتخيريني بينك و بين خضرا !!
مقدرش أصدق يعني هي كانت على حق و أني كدبتها و دفعت عنك لما قالتلي إنك هتخليني أطلقها بعد كل اللي عملته وياكِ.. أخرتها عايزه تخربي بيتها و توقعي بيني وبينها.. فاكراني شخشيخة في يدك عاد و هچري أنفذ حديتك الماسخ ده و أطلق مَراتي أم بناتي!!! "..
انفجرت" سلسبيل " في وجهه صارخة بعدما صدمها حديثه و نظرته لها التي تحولت للنقيض، يرمقها بنظرة خذلان، يخبرها أنها خذلته و سقطت من نظره بقولها المتهور هذا..
" و هي عملت ايييه معايا يا عبد الجبار و لا أنت نفسك عملت ايه معايا؟!.. أنا كنت لعبة في أيدك أنت و هي.. اختارتني ليك أنا بالذات عن كل حريم الدنيا لأنك اتفقت مع الدكتور يفهمها إني مريضة و مش هقدر أخلف و لا هعيش أساسًا!!!"..
استجمعت قوتها، و رفعت يدها دفعته بصدره بعيدًا عنها بكفها الصغير، و تابعت بغصة مريرة يملؤها الآسي..
" يا ريتني كنت مت و اترحمت من البهدلة دي كلها.. أنا خلاص جبت أخرى من أبويا و مراتك و أمك و منك أنت كمان يا عبد الجبار.. مش هشوف راحة طول ما أنا و أم بناتك على ذمتك"..
"و أني مش هطلق خضرا يا سلسبيل"..قالها "عبد الجبار" بنبرة جادة لا تحمل الجدال..
أبتسمت "سلسبيل " إبتسامة تخفي خلفها حزنها و كسرتها مرددة بأسف..
" يبقي أنت كده هطلقني أنا "..
.............................. سبحان الله العظيم...
كانت" سعاد" تبكي بنجيب و قد تمكن من قلبها الخوف و هي تتخيل رد فعل" جابر" إذا علم أنها وراء هروب "سلسبيل" بعدما استمعت لحديثها تقول أنها ستحدث والدها حتى يأتي ويأخذها..
و أيضًا لم تسلم من حديث" فؤاد" الذي صب جم غضبه عليها، و ظل يلقى على سمعاها كلمات دبت الرعب بأوصالها أكثر..
"أنتي السبب في اللي حصل لبنت أختك زي ما كنتي السبب في جوازة أمها عشان تسد ديون جوزك للمفتري قناوي اللي خد أختك الصغيرة تخليص حق.. خدها موتها بقسوته عليها، و دلوقتي مبتفكريش غير في إبنك و عايزة ترميله بنته عشان يموتها زي أمها.. أنتي قلبك ده أيه يا سعاد.. حجر.. مبتحسيش!!! "..
"كفاية يا بابا أبوس إيدك.. كفاية جلد فيا"..
همست بها" سعاد" بصعوبة من بين شهقاتها، و تابعت قائلة..
"أنا مكنتش أعرف أن قناوي ده هيعمل في أختي كده.. لو كنت أعرف أنه جبروت بالشكل ده مكنتش وافقت ولا أنا و لا أبو جابر الله يرحمه.. و لما قولت إني هكلمه يجي ياخد سلسبيل كنت بهوش بس لكن والله ما كنت هكلمه..و خوفي على ابني ده غصب عني.. مش بخاطري.. مش هقدر أشوفه الراجل التالت في حياة مراته و هو يا حبيبي مخطبش و لا حتى حب واحدة غيرها..معلق نفسه و قلبه بواحدة ياريتها حتى بتبادله مشاعره ناحيتها.. و كمان بتحب طليقها!! .. عايزني اعمل أيه و أنا شايفة ابني و حيدي واقع الواقعة السودة دي.. قولي يا بابا عايزني أقف أتفرج عليه؟!! "..
قطعت حديثها فجأة، و إرتفع صوت نشيجها و قد داهمها دوارًا عنيف أفقدها توازنها، و أصبحت تترنجح يمينًا و يسارًا، حاولت الاستناد على أي شيء حولها، لكنها سقطت أرضًا مستندة بظهرها على الحائط..
" سعاد.. مالك يا بنتي".. قالها" فؤاد "و هو يهرول مسرعًا تجاه مصدر الصوت، باحثًا عنها كالمجنون، و قد سقط قلبه بسقوطها، فبدأ يبكي و هو يتحسس بيده المكان من حوله حتى وصل إلي يدها الملقاه بجوارها، لينصدم من برودة بشرتها الشديدة،و همسها الضعيف تقول بوهن..
"دوا الضغط و السكر.. الحقني بدوا يا بابا"..
قال "فؤاد" بصوتٍ مرتجف، بل جسده كله أصبح ينتفض بذعر، و قد شعر بالندم لأنه قسي عليها..
"هو فين.. قوليلي حطاه فين و أنا اجبهولك"..
لم تستطيع "سعاد" الرد عليه، و قد بدأت تغيب عن الوعي بعدما داهمها دوارها بقوة أكبر..
شعر" فؤاد " أنه على حافة الجنون بعدم ردها عليه، مما يعني أن حالتها تدهور و هو عاجز عن إسعافها، ليرأف الله بحاله، و صدح صوت رنين هاتف ابنته، فهرول راكضًا تجاه الصوت، و أسرع بالضغط على زر الفتح مرددًا بلهفة ظنًا منه أن المتصل حفيده..
"جابر.. ألحق أمك يا ابني"..
"مالها ماما سعاد يا جدو".. صرخت بها "صفا" ابنة زوج "سعاد" ..
أجابها "فؤاد" بصوتٍ باكي يدل على شدة فزعه..
"وقعت من طولها يا بنتي و قالتلي الحقني بدوا الضغط بس أنا مش عارف مكانه.. مش عارف الحقها و جابر كمان مش هنا و أنا لوحدي مش عارف أتصرف "..
انتفضت "صفا" من مكانها، خطفت اسدالها ارتدته بلمح البصر، وركضت بأقصى سرعة تملكها مرددة بأنفاس لاهثة و قد بدأت تبكي هي الأخرى ..
"أنا هجيب العلاج و أجيلك حالاً.. بس أديها أي حاجة مسكرة على ما أوصل "..
.................................... سبحان الله العظيم..
"جابر "..
كانت تمنعه "عفاف" بشق الأنفس حتى لا يقتحم الغرفة على "سلسبيل" بعدما استمع لصوت صراخها الباكي..
"سيبهم يا ابني يتعاتبوا مع بعض.. متدخلش بينم عشان المشكلة متكبرش أكتر.. لأنهم في الأخر واحد ومراته و الداخل بينهم خارج"..
أردفت بها "عفاف" بتعقل و هي تقف أمامه تمنعه من الوصول لباب غرفة "سلسبيل" ..
اصطك "جابر" على أسنانه كاد أن يهشمها، و كور قبضة يده و لكم الحائط بجواره عدت مرات متتالية ينفس عن غضبه العارم..
ليتوقف بصدمة حين وصل لسمعه صوت" عبد الجبار " يقول بصوته الأجش..
"أنتي طالق يا سلسبيل!!!! "..
ساد الصمت لدقائق بعد جملته هذه التي أصابت الجميع بصدمة، فقدتهم النطق و حتي الحركة، لم يقطع هذا الصمت سوي صوت رنين هاتف "جابر" الذي صدح تزامنًا مع فتح باب الغرفة و خروج "عبد الجبار" كقذيفة نيران متوهجة، سار من جانبه دون النظر إليه بنظره عابرة حتى، كان سيره حثيثًا أقرب إلى الهرولة من شدة انفعالاته المتضاربه..
"أيوه يا جدي!!".. نطق بها "جابر" بصوتٍ يملؤها الفرحة، ليأتيه صوت" فؤاد" يقول ببكاء..
"جابر.. أنت فين يا ابني.. تعالي ألحق أمك وقعت من طولها"..
انقطعت أنفاسه حين استمع لصوت جده الباكي، و تباطأت دقات قلبه بعد ما تفوه به، و أصبح في حيرة من أمره، ايدلف ل "سلسبيل" التي بدأت تبكي بصوت أشبه بالصراخ، أم يذهب لوالدته؟!!..
وجهه نظره ل "عفاف" التي أسرعت بلهفة تجاه غرفة" سلسبيل " و همس بأسف..
" أمي وقعت و لازم أروح الحقها"..
"روح لها أنت يا ابني و أنا هفضل مع سلسبيل.. متقلقش عليها"..
قالتها "عفاف" قبل أن تدلف لداخل الغرفة، و تغلق الباب خلفها..
تحرك "جابر" على مضض راكضًا لخارج المستشفى، و من ثم نحو سيارته، قفز بداخلها و بدأ يقودها بأقصى سرعة ممكنة و هو يقول..
" أنا جاي حالاً يا جدي "..
غافلاً عن أعين" عبد الجبار " الذي كان مازال يجلس داخل سيارته يلكم المقود بقبضة يده، و يصرخ بهياج بصوتٍ مكتوم من شدة ألم قلبه الملتاع..
بينما بداخل غرفة "سلسبيل"..
"طلقني.. قولتله الحقيقة كدبني و صدق خضرا و أخترها هي و طلقني رسمي يا دادة"..
قالتها "سلسبيل" ببكاء يقطع نياط القلوب و هي تطلع بحسرة لورقة طلاقها الذي وقعها "عبد الجبار" و ألقاها بوجهها..