رواية جلاب الهوي الفصل الحادي عشر 11 بقلم رضوي جاويش
جلاب الهوى
١١- غيرته
وصلت دلال للوحدة الصحية و سألت اين طبيبها انتظرت قليلا وجالت بناظريها بأنحاء الوحدة حتى وقفت امام غرفته .. طرقت بابها وسمعت سماح من بالداخل لتدلف وغضبها المستعر بداخلها يكاد يحرق الأخضر واليابس هاتفة ما ان طالعها محيا الطبيب الذي كان يجلس خلف مكتبه مستغرقا فى كتابة امر ما و أحد المرضى ممدد على السرير القابع خلف الساتر المخصص للكشف ..
انتفض الطبيب فى صدمة لمرأها .. فدفع بالورقة المسجل عليها الدواء للمريض الذى ظهر اخيرا من خلف الستار و رحل في هدوء ليهتف الطبيب فى غضب :- انتِ مين !؟.. وازاي تقتحمي غرفة الكشف بالشكل ده !؟..
هتفت تحاول السيطرة على غضبها:- انا خبطت ع الباب على فكرة وحضرتك قلت اتفضل ..
هتف الطبيب طارق طبيب الوحدة الصحية في حنق :- اتفضل دي مكنتش لحضرتك .. كانت للمريض.. حضرتك مين بقى !؟..
هتفت تخبره :- انا الدكتورة دلال المصري .. الدكتورة اللي ..
هتف متذكرًا مقاطعا إياها:- اااه .. اهلًا يا دكتورة .. طبعا عرفت حضرتك .. انت دكتورة النسا و الولادة اللي جت بمعرفة عفيف بيه .. مش كده !؟..
اكدت بايماءة من رأسها ليهتف مستطردا :- خير يا دكتورة !؟.. شايفك مضايقة ..
اكدت هاتفة بحنق :- طبعا يا دكتور .. اكيد مضايقة ..لما اشوف اللي بيحصل لبنات لسه مطلعتش للدنيا يبقى لازم أكون مضايقة .. و مضايقة اكتر ان ازاي حضرتك سمحت بده يحصل ف بنت صغيرة!؟.. مصعبتش عليك .. يعنى اذا كان ابوها مش قلبه عليها .. كنت نصحته أنت يمكن يسمعك..
هتف الدكتور طارق متعجبا :- حضرتك بتتكلمي عن ايه !؟.. انا مش فاهم حاجة بجد !؟.. بنت مين!؟..
أكدت دلال بغيظ وهى تعتقد انه يحاول ادعاء الجهل بالموضوع :- نادية .. اللي فرحها بعد كام يوم و هى مبلغتش حتى ١٥ سنة .. مين ادى ابوها شهادة التسنين !؟..مين اللي ممكن يعمل جريمة ذي دي!؟.. اكيد حضرتك بحكم وجودك هنا من فترة تعرف مين اللي ممكن يعمل كده ف مكتب الصحة .. ليه متبلغش عنه !؟..
هتف طارق فى هدوء :- بصي يا دكتورة .. انا مقدر طبعا تعاطفك مع البنت ورغبتك في منع جريمة ذي دي .. و مش لوحدك اللي نفسك ف كده .. و الله انا ياما حاولت قبل ما حضرتك تشرفينا .. و حضرتك ممكن تسألى عفيف بيه ازاي كنّا بنحارب الموضوع ده ..
هتفت متعجبة :- عفيف بيه !؟..
أكد طارق ممعنا في هدوءه وهو يعدل منظاره الطبي :- ايوه يا دكتورة .. الموضوع ده كان شاغل عفيف بيه جدااا .. و كان بيحاربه بضراوة .. كونه باحث اجتماعي ده..
قاطعته دلال متسائلة فى تعجب :- مين ده اللي باحث اجتماعي !؟..
اكد طارق ناظرا اليها بدهشة :- عفيف بيه طبعا .. ده حامل لدرجة الماچستير في علم الاجتماع وكان مهتم جدا بالموضوع ده .. لدرجة ان في دكاترة كتير فمكتب الصحة تم نقلهم بسبب شكواه عشان تسهيلهم موضوع شهادات التسنين لبنات كتير تحت السن القانوني ..
همست في تيه :- عفيف بيه !؟..
اكد بعد ان وصله همسها :- ايوه .. ده اتفق معايا اني لو بلغني ان في بنت أتعمل لها شهادة تسنين وهي اقل م السن القانوني ابلغه وهو هيتصرف .. بس للأسف .. الأهالي تحايلوا على موضوع الشهادة ده بطريقة تانية فيها ظلم اكبر لبناتهم..
تذكرت كلام ابو نادية فهتفت بفضول :- طريقة ايه !؟..
هتف طارق بضيق :- الجواز العرفي ..
هتفت صارخة :- ايه !؟.. جواز عرفي .. ازاي !؟.. دي جريمة اكبر ..
هز رأسه موافقا :- طبعا عشان ميحتاجوش لموضوع الشهادة بقوا بيجوزا بناتهم عرفي.. مجرد ورقة مفيهاش اى ضمان للحقوق و خاصة ان الجواز بيبقى بين القرايب فمحدش مخون وحتى لو خدوا وصولات أمانة ع العريس ممكن بعد سنة ولا اتنين قبل ما البنت تبلغ السن القانوني تحصل مشاكل اوخلافات يقوم مقطع الورقة ورامي لهم الفلوس اللي ف وصل الامانة ومع السلامة بعد ما تكون خلفت منه كمان وده كله و الأهل ف اعتقادهم ان لما البنت تبلغ السن القانوني جوزها هيكتب عليها رسمى على يد مأذون وهى يمكن معاها عيلين واكتر منه و في اللي جوزها ده بيتوفى ومبيقدروش يثبتوا لها حق بالورقة العرفي طبعا..
هتفت بصدمة :- انا مش مصدقة اللي بيحصل ده .. عشان ايه كل ده!؟..
هتف طارق في ضيق :- عشان الفلوس طبعا .. معظم اللي بيعمل كده على قد حالهم ومخلفين عيال كتيررر .. طبعا عشان يخف الحمل يقوموا مجوزين البنات واهو يطلعوا بقرشين من ورا العريس اللي طبعا بيبقى من القرايب اللي ربنا كرمهم بسفرية بره فرجع محمل من وراها اللي يزغلل بيه عيون الكل عشان يخطب البنت اللي تعجبه.. وطبعا بيبقى عريس ميتفوتش لبنتهم .. لا بيفكروا بقى ف فرق سن ولا ضرر ع البنت و لا اى كلام من اللى احنا بنقوله ..
كانت دلال تنظر اليه في صدمة غير مصدقة ما يقال .. و كل تلك الحقائق التى يسردها الدكتور طارق تفعل بقلبها وعقلها الافاعيل مما جعلها تهتف في عزم :- بس احنا لا يمكن نسيب الامور كده .. لازم يبقى لينا واقفة ..
اكد طارق بنبرة متخاذلة :- يعني هانعمل ايه يا دكتورة !؟.. حاولنا كتير .. سواء كنت انا اوعفيف بيه .. لكن مفيش فايدة .. البلاد دي حكم العادات والتقاليد فيها ساري على رقاب الكل ..و للأسف احيانا بيسري الحكم ده حتى ولو بيخالف الشرع ..
ساد الصمت للحظات .. كان صمت قاتل يذبح الكلمات بسكين ثالم .. فلم ينبس احدهما بحرف .. و اخيرا هتف طارق محاولا الخروج من دائرة الصمت الموجع تلك :- بس انا اتشرفت يا دكتورة بمعرفة حضرتك .. و يا رب يكون وجودك هنا ف النجع سبب فى تغيير مفاهيم كتيرة ..
ابتسمت في شجن هاتفة :- بعد مجهودات حضرتك وعفيف بيه اللي اتعملت دي كلها انا هقدر اعمل ايه !؟.. الموضوع فعلا مش سهل ..
هتف طارق بلهجة حماسية:- فعلا الموضوع مش سهل بس يا دكتورة انتِ اقدر على تحقيقه بسبب قربك م الستات وعلى ما اسمع انهم بيحبوكِ جدا وانتِ قدرتي تقربي منهم ف الفترة البسيطة دي بشكل يخلي تأثيرك عليهم كبير ..
نهضت مبتسمة فى امتنان هاتفة :- انا متشكرة يا دكتور طارق ع الثقة دي ف قدراتى اللى انا نفسي مبقتش واثقة فيها .. واسفة ع الطريقة اللي اقتحمت بيها اوضة الكشف ..
ابتسم طارق و هو يعدل من منظاره الطبى بحرج هاتفا :- ولا يهمك .. انا مقدر شعورك يا دكتورة .. و انا تحت امرك فأي وقت وفأي حاجة .
مد كفه مودعا لتمد كفها بالمقابل فى تحية رسمية رافقتها ابتسامة ممتنة وبعدها غادرت الوحدة الصحية و هو يتبعها حتى الباب الخارجي .. لوح لها مودعا من جديد و طفق عائدا لحجرة كشفه و سارت هى متوجهة للبيت الكبير غير مدركة ان نظرات فحمية متقدة كانت تتبعها بدورها ونيران من نوع اخرلم يخبرها صاحبها من قبل كانت تستعر بين جنبات روحه وتضطرم بفؤاده ..
******************
تقلبت على تلك الأريكة الضيقة فى حذّر مخافة السقوط من أعلاها مما أورثها قلقا اطار النوم من عينيها متحدا مع ذاك البرد القارص الذي كان ينخر عظامها وهى لا تجد غطاء ما تتدثر به اتقاء له .. فلم يكن هناك الا ذاك الغطاء الصوفي الذي يغطي نديم متلحفا به ..
كيف لم تكتشف البارحة ان نديم قد نام دون غطاء تاركا لها ذاك الغطاء الوحيد بالغرفة !؟.. تذكرت انه كان يتكوم على نفسه فى محاولة لجلب الدفء وكان يستعين بسترته الثقيلة التي لم يخلعها عنه في محاولة للحصول على دفئها والتي خلعتها هى عنه وهى تساعده في الوصول للحمام لخفض حرارته..
نهضت باحثة بعينيها في ظلام الغرفة عن تلك السترة واخيرا وجدتها ملقاة على احد المقاعد .. سارت في حذّر حتى لا توقظه و تناولت السترة مترددة للحظات في ارتدائها .. لكن ذاك البرد كان كفيلا بدفعها لترتديها على عجالة في محاولة للحصول على بعض من دفء يسري بأوصالها لعلها تنام و لو لبضع دقائق فهى لا تعلم ما يخبئه لهما الغد .. فاليوم هما هنا و غدا قد يكونا بمكان اخر و ربما بمحافظة اخرى ..
ما ان تمددت على الأريكة تجذب أطراف السترة الجلدية حول جسدها الا واستشعرت دفء ينساب اليها كأنه السحر .. لم يكن دفءً معتاد بل كان دفء من نوع اخر محمل برائحة عطره التى كانت تختلط بأنفاسها متسربة من بين طيات السترة وكأنما هى اقرب اليه من انفاسه .. انتفضت ما ان استوعبت الي اي منحن اتجهت افكارها .. لم تكن يوما من ذاك النوع العاطفي من الفتيات واللاتي كان يحزنهن الحب ويفرحهن .. وتبكي أعينهن للقاء الاحبة بالأفلام .. و يعتصرهن الحزن على الفراق .. كانت تعد ذاك نوع من السطحية .. و لم تكن تدرك انها ستقابل ذاك الشعور وجها لوجه و تغرق في تلك السطحية حتى اذنيها ..
قررت بعزم خلع السترة حتى تدرأ عنها شبهة الحب او حتى الشروع فيه .. الا ان صوتا يهمهم جعلها تنتفض في اتجاهه ناسية خلعها.. كان نديم قد بدأ يهزى من جديد .. كانت حرارة جبينه المشتعل تؤكد ذلك على باطن كفها الذى وضعته هناك تستطلع الامر .. اندفعت للدواء من جديد .. و همست بالقرب من أذنيه محاولة إعادته للوعى ولو للحظة :- نديم .. نديم .. جوم خد الدوا ..
لايزل يهمهم وهى بدأت فى الشعور بالاختناق .. اختنقت بعبراتها المحزنة بمآقيها وهى غير قادرة على ذرفها عاجزة عن ذلك بشكل لاإرادي .. لكن ما ان تناهي لمسامعها هزيانه باسمها بهذا الشكل حتى انسابت تلك الدموع مسفوحة على صفحتىّ خديها ولم تعد بقادرة على ايقافها .. فقد ادركت اللحظة .. ان ذاك الرجل حرك شيئا ما كان كامنا بأعماق روحها والآن استيقظ كمارد لا سلطان لها عليه .. اعترفت امام جسده المحموم المسجي قبالتها انها ما عادت قادرة على تقييم مشاعرها وتشعر بحالة عجيبة من التخبط والضبابية فى احاسيسها تجاه ذاك الرجل وهى التى كانت تنكر احوال القلوب وتسخر من أصحابها ..
مسحت دمعاتها واقتربت منه ترفع رأسه قليلا ووضعت حبة الدواء بفمه هامسة له وهى تقرب من شفتيه كوب به القليل من الماء :- اشرب يا نديم الدوا .. اشرب عشان خاطري ..
فتح عينيه فى تثاقل وارتشف القليل مبتلعا دوائه لتعيد رأسه موضعها على الوسادة وهى تتطلع الي قسمات وجهه الرجولية التى غطاها اللون الأحمر من جراء الحمى .. و بلا وعى منها مدت كفها ومسحت بعض من قطرات العرق المنتشرة على جبينه الواسع.. و سالت دموعها من جديد…
******************
اما كان كافيا رؤيته لها خارج الوحدة الصحية والدكتور طارق يلوح لها مودعا فى أريحية ومحبة أفقدته تعقله وصبت بدمه جمر حارق من صهريج غيرة لم يألفها من قبل مما أورثه حنقا مضاعفا حتى يراها الان وهو يهم بالذهاب اليها قد أوقفها الضابط هاتفا وهو يوقف عربته الميري مترجلا منها :- اهلًا يا دكتورة ..اخبارك ..
توقفت ملتفتة اليه وابتسمت في رقة هاتفة بدورها:- ازيك يا حضرة الظابط اخبار حضرتك ايه !؟.. الأمن مستتب !؟..
قهقه لمزحتها هاتفا :- من ناحية مستتب فهو مستتب بالقوي .. و ربنا يخلي لنا عفيف بيه ..
ما ان انهى كلمته حتى ظهر عفيف مقتربا ليهمس شريف لها ساخرا :- اهو جه ع السيرة ..
حاولت ان تسيطر على اندفاعها و لا تلتفت في الاتجاه القادم منه حتى وصل اليهما هاتفا بلهجة جافة لا تعرف لها سببا :- سلام عليكم ..
هتف كلاهما :- وعليكم السلام ..
هتف عفيف موجها حديثه لشريف في رسمية :- ايه الاخبار يا حضرة الظابط !؟.. كله تمام !؟.. ولا في حاچة نخدموك بيها !؟..
هتف شريف مؤكدا :- لا كله تمام يا عفيف بيه والبركة ف حضرتك ..
هتف هازا رأسه فى تفهم :- طب تمام ..
و ادار نظراته لدلال وهم بسؤالها الرحيل الا ان شريف هتف بدوره و بأريحية كان يمكن ان يفقد قبالتها عمره:- ما تتفضلي أوصلك يا دكتورة .. طبعا البوكس مش قد المقام ... و ابتسم مستطردا :- بس الجودة بالموجودة ..
ما ان همت دلال بالرد على شريف حتى هتف عفيف مجيبا فى لهجة نارية :- ماهو عشان مش جد المجام يا شريف بيه مينفعش تعزم م الاساس ..
واستطرد والشرر يتطاير من حدقتيه :- طريجكم مش واحد يا حضرة الظابط ...
واستدار متطلعا لدلال هاتفا بلهجة حاول ضبط نبراتها لتخرج اكثر هدوءً :- اتفضلي يا داكتورة .. اتاخرنا ع الخالة وسيلة زمنها حضرت الغدا ..
شعرت دلال بحرج كبير وهى تنظر الى شريف و همت بالاعتذار الا انها لمحت ابتسامة عجيبة مرسومة على محياه لم تعرف لها مدلولا .. هل هى ابتسامة استهزاء!؟.. ام سخرية !؟.. ام ماذا بالضبط!؟.. مما جعلها تبتلع لسانها و هى تسير خلف عفيف فى خطوات واسعة تحاول مجاراة خطواته ..
صعدت الى الكارتة التي صعدها هو قبلها واتخذ موضعه منتظرا استقرارها بموضعها .. مرا على شريف الذي كان لايزل متسمرا مكانه لم يبرحه ولم يعره عفيف حتى إلتفاتة بل على غير العادة اطاح بسوطه الذي ما رأته استعمله قط ليهبط به على ظهر الفرس مصدرا صوتا مدويا جعل الفرس يصهل مندفعا فى طريقه كأن الريح تسابقه..
وصلا للبيت الكبير في لمح البصر فترجلت من العربة تدلف للداخل فى سبيلها لتساعد الخالة وسيلة فى إعداد الطعام الا ان صوتا كالرعد هتف يوقفها :- يا داكتورة ..!؟..
توقفت متسمرة بموضعها واخيرا ألتفتت تواجهه مستفسرة :- خير يا عفيف بيه !؟..
هتف غير قادر على كبح جماح ذاك الشعور المتنامى بداخله منذ وعى لها وهى امام الوحدة الصحية بصحبة الطبيب ومن بعدها مع الضابط :- اعذرينى ف اللي هجوله .. بس دي الأصول .. احنا هنا ف نچع ف جلب الصعيد .. يعنى اللي تعرفوه ف مصر مينفعش هنا ..
هتفت و قد ضافت عيناها متسائلة بتعجب:- وايه اللي نعرفه ف مصر مينفعش هنا يا عفيف بيه !؟.. اظن الأصول والصح مبيتجزأش سواء هنا اوهناك ..
هتف محتدا :- حيث كِده .. يبجى اسمحيلى اجول لك ان وجفتك مع كل من هب ودب وضحكك و هزارك يا داكتورة مينفعوش عندينا.. و اذا كان دِه العادى بتاعك .. ف يا ريت ..
هتفت محتدة مقاطعة اياه :- عفيف بيه .. انا مسمحش بالتشكيك ف ..
هتف صارخا مقاطعا إياها بدوره و بصوت هز جنبات البيت الكبير وتراقصت لاجله عمدانه:- بلا تسمحي بلا متسمحيش .. جاعدة تسلمي على دِه وتضحكي مع دِه و جال دِه واجف يعمل لك باي باي ..ايه المسخرة دي !!
همست مبهوتة فى صدمة :- مسخرة ..!؟..
ساد الصمت .. صمت احد من نصل سكين قاطع .. تطلع اليها و صدره يعلو ويهبط انفعالا وبدت على محياه بودار ندم لما تفوه به و خاصة بعد ان لمح قسمات وجهها الوضاء وقد تحول فى لحظة لشتاء غائم تهدد سحبه السمراء بهطول مطر شَديد الغزارة ..
هم بالتفوه بأي كلمة من شأنها تعديل الحال الا انها لم تمهله كالعادة ..فقد اندفعت من امامه كسهم فر من قوسه تاركة اياه مسربل بندم يكاد يورده موارد التهلكة ..
*******************
رفرفت اهدابه فى تيه محاولا تذكر اين يكون وهو يتطلع بنظراته فيما حوله حتى ادرك اخيرا انه بغرفة الفندق .. استدار في موضعه قليلا يشعر بتيبس فى فقرات ظهره من كثرة رقاده التي لا يعرف كم طالت ليصطدم بمحياها المجاور له .. تسمر وكاد يوقف رئتيه عن التنفس وهو يراها مكومة بهذا الشكل متلحفة بسترته الجلدية اتقاءً للبرد اما ما تبقى من جسدها فمدفوع تحت الغطاء المشترك بينهما ..
حاول ان يتنحنح مصدرا صوتا ما قد يوقظها مبتعدة الا انه لم يستطع الا التطلع اليها فى فضول .. نظراته كانت تنهب ملامحها الجميلة بشغف وتلهف غير معتاد ..
شعرها المحجوب عنه تحت حجابها والذى يذكر انه رأه مرة واحدة وحيدة عندما استيقظت مذعورة فى ليلتهما الاولى معا بعد هروبهما .. من بعدها اعتاد هو كوابيسها و اعتادتها هى بدورها فما عاد ينتفض باتجاه حجرتها لنجدتها كما حدث في المرة الاولى .. و هى ايضا كانت تغلق بابها بأحكام متحملة ذاك الوجع الذى يعتريها من جراء ازعاج أحلامها وحيدة غير راضية عن تدخله .. و قد استوعب هو ذلك و ابتعد فى احترام لرغبتها. امعن التطلع في طلتها البهية من جديد ليدرك ان بشرتها حنطية صافية مشربة بحمرة خفيفة جراء ذاك الدفء الذى يشملها اللحظة مما منحها مظهرا اشبه بالأطفال .. انفها شامخ و دقيق .. شفتاها ..
ازدرد ريقه عند هذه المرحلة من رحلته عبر محياها الناعس وأزاح ناظريه مبتعدا عن التطلع اليها هامسا لنفسه :- ماذا دهاك !؟.. انها
قاطعه صوتا داخليا :- انها ماذا !؟.. انها زوجتك ... انت لا ترتكب إثماً .. انها حلالك .. وهى ..
قاطع استرسال خواطره تنهدات من قبلها جعلته ينتفض داخليا وقد دعا الله سرا ان تستيقظ مبتعدة عنه .. و كأن ابواب السماء كانت منفرجة على مصرعيها لترفرف هى بأهدابها وما ان وعت موضعها حتى انتفضت و ما ان همت بالنهوض حتى تذكرت ان حرارته كانت مستعرة منذ ساعات فمدت كف مترددة الى جبينه لتدرك ان الامر على ما يرام .. لكن حاله هو لم يكن على ما يرام ابدا .. لمستها الرقيقة تلك لجبينه فعلت به فعل الأعاصير .. لا يعرف كيف استطاع السيطرة على تلك الرجفة التي اعترته جراءها لكنه تحكم فيها باعجوبة حتى خرجت هى من الفراش فى هدوء حتى لا توقظه فيدرك اين باتت ليلتها واتجهت لتلك الأريكة الضيقة واحتلتها في هدوء منتظرة استيقاظ من اعتقدت انه لايزل غارق فى نومه وهى لا تعلم انه استيقظ من زمن .. استيقظ ليواجه مشاعره المتنامية تجاهها وجها لوجه .. ليدرك ان هنا حيث موضع قلبه شئ ما قد تغير .. و لا يظن انه سيعود كالسابق ابدا..
قرر التخلص من تلك الخواطر الخطرة فسعل قليلا لتنتفض هى من اريكتها فى اتجاهه هاتفة :- انت بخير يا باشمهندس !؟.. مش بجيت احسن ..!؟
هتف مؤكدا و هو يحاول الا تسقط نظراته على محياها الذى سرق منه لمحات عذبة ستظل محفورة بذاكرته دوما و ستورثه أرقاً ليال طوال :- الحمد لله ..
و اعتدل فى موضعه مستندا على وسادة خلف ظهره حاولت هى ان تضعها بشكل اكثر اعتدالا الا انه كان الأسرع مؤكدا :- متتعبيش نفسك .. انا مرتاح عليها كده ..
ابتسمت في تفهم وابتعدت مما جعله يزفر فى راحة و قد اضحى ابتعادها اكثر مطلبا شَديد الضرورة فى تلك اللحظة .
هتف معاتبا :- خرجتِ لوحدك برضو !؟..
اكدت و هى تشعر بالحرج :- معلش .. اصلك يعنى مين كان هيچيب لك الدوا !؟.. حالتك كانت صعبة .. بس الحمد لله عدت على خير و انت اهاا بخير برضك ..
ابتسم لها و غلبت طبيعته المتسامحة هاتفا :- سماح المرة دي .. بس بعد كده متخرجيش لوحدك تانى ولو بموت ..
هتفت فى عجالة :- بعد الشر عنك..
صمت للحظات متطلعا اليها و شملها هى الحرج وكسا وجنتيها خجل جعل وجنتيها الشهيتان اكثر حمرة من زهرة جورية ..
هتف مازحا يغير الموضوع وهو يزيح ناظريه عن محياها :- طب فين الفطار بقى !؟.. الواحد حاسس انه مكلش من قرن ..
قهقهت هاتفة :- كان نفسى اچيب لك خروف .. بس ما باليد حيلة .. أخرنا شوية جبنة وطماطميتين ..
ابتسم بدوره :- رضاااا ..
اندفعت تحضر له الافطار وقد عزم داخليا على الرحيل من ذاك الفندق فوجودهما معا تحت سقف حجرة واحدة ينذر بالمزيد من التورط الخطر فى عشق تلك القابعة هناك تحضر له إفطاره البسيط و الذي يعلم انه سيكون مقدما من كفها كأنه الشهد المصفى ..
*****************
اربع ليال خلت لا لمح لها طرفا و لا رهفت أذنيه همسها.. اربع ليال عجاف طوال كأيام حزن لا نهاية لها.. اربع ليال انتظر ان يراها و لو صدفة او حتى يخيل اليه رؤياها فذاك الندم على ما تفوه به يتأكله كما تأكل النيران في اشتهاء أعواد حطب جافة ..
فقد الأمل فى مقدرته على رؤيتها فأصبح يقضي معظم نهاره خارج البيت الكبير وليلا يتعذب على فراش من جمر شوق الى ملاقاتها.. كم كبت رغبات كانت تهم بدفعه ليطرق بابها ليلا معتذرا .. و كم وأد من خيالات تراءت له حية امام ناظريه المعلقين بسقف غرفته و عيونه المسهدة لا شاغل لها الا محياها ..
وها هو اليوم قد اشرف على نهايته و ما عاد قادرًا على ما تفعل به تلك العزلة التى فرضتها على نفسها غير مدركة انها تعذبه اقسى انواع العذاب وانه نال عقابه على ما تفوه به وزيادة ..
كانت هى بالفعل تنأى بنفسها عن البيت الكبير واى مكان قد يجمعهما.. تحاشت بشكل قاس ان تتواجد فى مكان ما قد يفترض له ارتياده حتى و لو مصادفة ..
انها هنا لهدف ما ..لم يتحقق حتى اللحظة .. لكن فى سبيلها لتحقيقها ذاك الهدف لن تتنازل مطلقا عن كرامتها ولن تدعه ينل من كبرياءها او يقوض حريتها ..
تناه لمسامعها صوت أنشودة ما تصلها عبر ذاك الجدار الفاصل بين حجرتها ومكتبه العتيق ..
فتحت الباب فى حذّر و وقفت على أعتابه ترهف السمع لكلمات الاغنية لا تعرف لما .. كان ذو ذوق راق في اختيار ما يسمع .. هى تقر بهذا .. أعجبتها الاغنية و راحت ترهف السمع تلتقط كلماتها فى نشوة الا انه على ما يبدو قد اغلق مشغل الاغان…
تنهدت و عادت لغرفتها و بلا وعى منها اعترفت انها اشتاقته .. اشتاقت عينيها لمرأه و التكحل بمحياه .. عزت ذلك للتعود لا اكثر .. لكنها امسكت نفسها متلبسة بالتطلع من شرفة حجرتها فى اتجاه بوابة البيت الكبير مستنتجة انه فى سبيله للخارج .. و صح استنتاجها.. فها هو يندفع خارجا يقفز داخل عربته..
عادت القهقري لداخل الغرفة و قررت الدخول للمكتبة مستغلة غيابه حتى تحصل على بعض الروايات التى قد تعينها على قضاء الوقت بعيدا عن البيت الكبير او حتى الولوج الى المطبخ لمساعدة خالة وسيلة اتقاءً لصدفة مقابلته ..
فتحت باب المكتب في حذّر رغم علمها بانه بالخارج .. و ابتسمت رغما عنها فها هو يثير بها كوامن الخوف حتى في غيابه .. تسللت الى قلب المكتب وبدأت في فحص صف الروايات التى دلها عليه سابقا.. تناولت منها ما ارادت فى سرعة وما ان همت بالعودة من حيث أتت حتى اصطدمت عيناها بذاك الإطار المذهب المعلق على احد الحوائط الجانبية .. تساءلت كيف لم تلحظه من قبل رغم ولوجها الى هنا عدة مرات !؟..
اقتربت فى رهبة ووقفت تنظر الى ذاك الإطار القيم الذى يحيط بتلك الشهادة العلمية .. قرأتها حرفا حرفا..
وهمست :- الدكتور طارق كان عنده حق .. دى شهادة الماچستير ف علم الاجتماع فعلا ..
وتذكرت كيف كان يوجها للطرق المثلى للتعامل مع بعض المشكلات هنا وكيف كان يسخر منها لانها لم تراع طبيعة الصعيد وأهله و تقاليدهم وعاداتهم ..
تنهدت ورفعت ناظريها الى الشهادة من جديد وقرأت اسمه فى وجل و وجيب قلبها يتضاعف دون داع .. حتى مجرد ذكر اسمه يفعل بقلبها افعال لا سلطان عليها :- عفيف راغب النعماني ..
و كانها استحضرت جن المصباح ليظهر هو مندفعا من باب المكتب من ناحية البيت الكبير ما ان أنهت ذكر اسمه بهذا الشكل الساحر الذي كانت تنطق به بلا وعى منها .. انتفضت هى فى ذعر لدخوله الاعصاري ذاك حتى ان ما كانت تحمله من روايات سقط ارضا بالقرب من قدميها .. اما هو فلم يكن باحسن حالا منها .. فما ان طالعه محياها المذعور ذاك كغزال مضطرب امام قوس صياد حتى انتفض قلبه ما بين أضلعه يئن فى وجع .. اشبه بغائب عن الوعى ألقى على محياه الماء المثلج فجأة لينتفض مستفيقا من رقاده يرتجف طالبا الملاذ ..
تنحنح كعادته عندما يحاول استجماع نفسه المبعثرة فى حضرتها هاتفا فى لهجة هادئة :- السلام عليكم يا داكتورة ..
قررت الاندفاع مبتعدة حتى انها لم تع انه ألقى التحية وعليها ردها ..
انتفض مندفعا على غير طبيعته يقف فى طريق باب الخروج هاتفا :- السلام لله يا داكتورة ..
لم ترفع ناظريها لتقابل نظراته المشتاقة .. ليهمس هو فى نبرة هادئة جعلتها رغما عنها ترفع نظراتها المعاتبة لملاقات نظراته المعتذرة :- لسه واخدة على خاطرك من الكلام اللى جولته ..!؟
لم ترد ليهمس مستطردا :- انا بس .. كنت يعني ..
كانت نظراتها تستحثه على الاسترسال وكانت المرة الاولى التى تراه فيها بهذا الأضطراب .. بالطبع فعفيف النعمانى لا يعتذر مطلقا .. ايخطئ من الاساس !؟..
كادت ان تبتسم ساخرة الا انه اذهلها عندما هتف فى ثبات :- حجك علىّ يا داكتورة .. انى بس مش حابب حد يجول كلمة او يطولك بحرف .. اللى يمسك يمسني..
ثم استطرد في عجالة :- انتِ ضفتي ..
هتفت اخيرا :- اكيد طبعا .. انا مجرد ضيفة يا عفيف بيه .. و الضيف لازم يلتزم بقواعد اصحاب البيت ... و اكيد انت متحبش حد يمسك بكلمة من تحت راسي ..
هتف متعجبا :- لاااه .. مش دِه الجصد .. اجصد يعني.. ملوش لازمة الوجفة والحديت مع رچالة ف جلب النچع... و دِه يجول ودِه…
قاطعته هاتفة في سخرية :- يعمل باي باي ..
ابتسم محرجا وغض الطرف رغما عنه وهمس اخيرا :- دِه انتِ زعلك واعر ..
ابتسمت رغما عنها فتشجع هاتفا :- خلاص بجى .. صافي يا لبن ..
هزت رأسها ايجابا هاتفة :- حليب يا قشطة ..
همت بالاستئذان الا انه هتف وهو يندفع الى تلك الروايات التي أسقطتها لحظة دخوله المفاجئ :- رايحة وسايبة الروايات دي لمين!؟..
حملها بين كفيه وناولها إياها .. تناولتها فى أريحية وهتفت و هى تشير لشهادته العلمية :- انت واخد ماچستير في علم الاجتماع .. ليه مكملتش واخدت الدكتوراه!؟..
ابتسم عفيف وهو يتطلع لشهادته العلمية المعلقة على ذاك الجدار منذ أعوام طويلة وتنهد وهو شارد في كل حرف بها :- مكنش ينفع ..
شعرت بعمق الأسى الذي يعتريه اللحظة .. كانت تستشعر انه بين رغبتين متناقضتين كأنهما قطبي مغناطيس .. فهتفت فى فضول اصبح معتادا لكل ما يمت لعفيف النعمانى بصلة :- ليه !؟.. حد ياخد ماچستير بامتياز مع مرتبة الشرف وميكملش .. دي سابقة من نوعها..
اكد وهو يبتعد عن اطار شهادته المعلق هاتفا :- عشان دي كانت أوامر الحچ راغب النعماني .. و اوامره كانت سيف على رجبتي ..
هتفت متعجبة :- والدك !؟.. و ايه اللي يخلى والدك ياخد قرار قاسي كِده ومعارض لرغبتك !؟..
ابتسم عفيف في شجن هاتفا :- عشان كان شايف وواعي للي محدش واعيله ..
هتفت متعجبة :- مش فاهمة !؟..
اكد عفيف متطلعا الى الفراغ امامه في شرود:- جالهالى يومها .. سبتك تاخد الماچستير على هواك .. اكتر من كِده مش هينفع .. لو بجيت داكتور ف الچامعة هتروح ف السكة دي ومش هترچع .. ساعتها مين هيكون للنعمانية من بعدي و اني مخلفتش رچالة غيرك !؟.. يا الداكتوراه .. يا النعمانية ..
واستفاق من شروده هامسا وهو يتطلع اليها :- و كانت النعمانية ..
هتفت دلال متسائلة :- مندمتش!؟..
اكد عفيف فى صدق :- ولا لحظة يا داكتورة .. اللي بناه چدى وتعب فيه ابويا واچب علىّ صونته .. و أديني بحاول ..
وابتسم في رزانة مع كلمته الاخيرة تلك الابتسامة التي لا تظهر الا في مناسبات خاصة جدا والتي اصبحت تحفظ تفاصيلها ودوما ما تحرك شئ ما بالقرب من معدتها يورثها اضطرابا حاولت مداراته هامسة :- عن اذنك يا عفيف بيه .. و متشكرة ع الروايات ..
واندفعت من امامه تلوذ بحجرتها وهى لا تعلم لما اصبح عليها مؤخرا الهرب من ذاك الرجل الذي قلب موازين ثباتها رأسا على عقب!؟…
***************
يتبع
١١- غيرته
وصلت دلال للوحدة الصحية و سألت اين طبيبها انتظرت قليلا وجالت بناظريها بأنحاء الوحدة حتى وقفت امام غرفته .. طرقت بابها وسمعت سماح من بالداخل لتدلف وغضبها المستعر بداخلها يكاد يحرق الأخضر واليابس هاتفة ما ان طالعها محيا الطبيب الذي كان يجلس خلف مكتبه مستغرقا فى كتابة امر ما و أحد المرضى ممدد على السرير القابع خلف الساتر المخصص للكشف ..
انتفض الطبيب فى صدمة لمرأها .. فدفع بالورقة المسجل عليها الدواء للمريض الذى ظهر اخيرا من خلف الستار و رحل في هدوء ليهتف الطبيب فى غضب :- انتِ مين !؟.. وازاي تقتحمي غرفة الكشف بالشكل ده !؟..
هتفت تحاول السيطرة على غضبها:- انا خبطت ع الباب على فكرة وحضرتك قلت اتفضل ..
هتف الطبيب طارق طبيب الوحدة الصحية في حنق :- اتفضل دي مكنتش لحضرتك .. كانت للمريض.. حضرتك مين بقى !؟..
هتفت تخبره :- انا الدكتورة دلال المصري .. الدكتورة اللي ..
هتف متذكرًا مقاطعا إياها:- اااه .. اهلًا يا دكتورة .. طبعا عرفت حضرتك .. انت دكتورة النسا و الولادة اللي جت بمعرفة عفيف بيه .. مش كده !؟..
اكدت بايماءة من رأسها ليهتف مستطردا :- خير يا دكتورة !؟.. شايفك مضايقة ..
اكدت هاتفة بحنق :- طبعا يا دكتور .. اكيد مضايقة ..لما اشوف اللي بيحصل لبنات لسه مطلعتش للدنيا يبقى لازم أكون مضايقة .. و مضايقة اكتر ان ازاي حضرتك سمحت بده يحصل ف بنت صغيرة!؟.. مصعبتش عليك .. يعنى اذا كان ابوها مش قلبه عليها .. كنت نصحته أنت يمكن يسمعك..
هتف الدكتور طارق متعجبا :- حضرتك بتتكلمي عن ايه !؟.. انا مش فاهم حاجة بجد !؟.. بنت مين!؟..
أكدت دلال بغيظ وهى تعتقد انه يحاول ادعاء الجهل بالموضوع :- نادية .. اللي فرحها بعد كام يوم و هى مبلغتش حتى ١٥ سنة .. مين ادى ابوها شهادة التسنين !؟..مين اللي ممكن يعمل جريمة ذي دي!؟.. اكيد حضرتك بحكم وجودك هنا من فترة تعرف مين اللي ممكن يعمل كده ف مكتب الصحة .. ليه متبلغش عنه !؟..
هتف طارق فى هدوء :- بصي يا دكتورة .. انا مقدر طبعا تعاطفك مع البنت ورغبتك في منع جريمة ذي دي .. و مش لوحدك اللي نفسك ف كده .. و الله انا ياما حاولت قبل ما حضرتك تشرفينا .. و حضرتك ممكن تسألى عفيف بيه ازاي كنّا بنحارب الموضوع ده ..
هتفت متعجبة :- عفيف بيه !؟..
أكد طارق ممعنا في هدوءه وهو يعدل منظاره الطبي :- ايوه يا دكتورة .. الموضوع ده كان شاغل عفيف بيه جدااا .. و كان بيحاربه بضراوة .. كونه باحث اجتماعي ده..
قاطعته دلال متسائلة فى تعجب :- مين ده اللي باحث اجتماعي !؟..
اكد طارق ناظرا اليها بدهشة :- عفيف بيه طبعا .. ده حامل لدرجة الماچستير في علم الاجتماع وكان مهتم جدا بالموضوع ده .. لدرجة ان في دكاترة كتير فمكتب الصحة تم نقلهم بسبب شكواه عشان تسهيلهم موضوع شهادات التسنين لبنات كتير تحت السن القانوني ..
همست في تيه :- عفيف بيه !؟..
اكد بعد ان وصله همسها :- ايوه .. ده اتفق معايا اني لو بلغني ان في بنت أتعمل لها شهادة تسنين وهي اقل م السن القانوني ابلغه وهو هيتصرف .. بس للأسف .. الأهالي تحايلوا على موضوع الشهادة ده بطريقة تانية فيها ظلم اكبر لبناتهم..
تذكرت كلام ابو نادية فهتفت بفضول :- طريقة ايه !؟..
هتف طارق بضيق :- الجواز العرفي ..
هتفت صارخة :- ايه !؟.. جواز عرفي .. ازاي !؟.. دي جريمة اكبر ..
هز رأسه موافقا :- طبعا عشان ميحتاجوش لموضوع الشهادة بقوا بيجوزا بناتهم عرفي.. مجرد ورقة مفيهاش اى ضمان للحقوق و خاصة ان الجواز بيبقى بين القرايب فمحدش مخون وحتى لو خدوا وصولات أمانة ع العريس ممكن بعد سنة ولا اتنين قبل ما البنت تبلغ السن القانوني تحصل مشاكل اوخلافات يقوم مقطع الورقة ورامي لهم الفلوس اللي ف وصل الامانة ومع السلامة بعد ما تكون خلفت منه كمان وده كله و الأهل ف اعتقادهم ان لما البنت تبلغ السن القانوني جوزها هيكتب عليها رسمى على يد مأذون وهى يمكن معاها عيلين واكتر منه و في اللي جوزها ده بيتوفى ومبيقدروش يثبتوا لها حق بالورقة العرفي طبعا..
هتفت بصدمة :- انا مش مصدقة اللي بيحصل ده .. عشان ايه كل ده!؟..
هتف طارق في ضيق :- عشان الفلوس طبعا .. معظم اللي بيعمل كده على قد حالهم ومخلفين عيال كتيررر .. طبعا عشان يخف الحمل يقوموا مجوزين البنات واهو يطلعوا بقرشين من ورا العريس اللي طبعا بيبقى من القرايب اللي ربنا كرمهم بسفرية بره فرجع محمل من وراها اللي يزغلل بيه عيون الكل عشان يخطب البنت اللي تعجبه.. وطبعا بيبقى عريس ميتفوتش لبنتهم .. لا بيفكروا بقى ف فرق سن ولا ضرر ع البنت و لا اى كلام من اللى احنا بنقوله ..
كانت دلال تنظر اليه في صدمة غير مصدقة ما يقال .. و كل تلك الحقائق التى يسردها الدكتور طارق تفعل بقلبها وعقلها الافاعيل مما جعلها تهتف في عزم :- بس احنا لا يمكن نسيب الامور كده .. لازم يبقى لينا واقفة ..
اكد طارق بنبرة متخاذلة :- يعني هانعمل ايه يا دكتورة !؟.. حاولنا كتير .. سواء كنت انا اوعفيف بيه .. لكن مفيش فايدة .. البلاد دي حكم العادات والتقاليد فيها ساري على رقاب الكل ..و للأسف احيانا بيسري الحكم ده حتى ولو بيخالف الشرع ..
ساد الصمت للحظات .. كان صمت قاتل يذبح الكلمات بسكين ثالم .. فلم ينبس احدهما بحرف .. و اخيرا هتف طارق محاولا الخروج من دائرة الصمت الموجع تلك :- بس انا اتشرفت يا دكتورة بمعرفة حضرتك .. و يا رب يكون وجودك هنا ف النجع سبب فى تغيير مفاهيم كتيرة ..
ابتسمت في شجن هاتفة :- بعد مجهودات حضرتك وعفيف بيه اللي اتعملت دي كلها انا هقدر اعمل ايه !؟.. الموضوع فعلا مش سهل ..
هتف طارق بلهجة حماسية:- فعلا الموضوع مش سهل بس يا دكتورة انتِ اقدر على تحقيقه بسبب قربك م الستات وعلى ما اسمع انهم بيحبوكِ جدا وانتِ قدرتي تقربي منهم ف الفترة البسيطة دي بشكل يخلي تأثيرك عليهم كبير ..
نهضت مبتسمة فى امتنان هاتفة :- انا متشكرة يا دكتور طارق ع الثقة دي ف قدراتى اللى انا نفسي مبقتش واثقة فيها .. واسفة ع الطريقة اللي اقتحمت بيها اوضة الكشف ..
ابتسم طارق و هو يعدل من منظاره الطبى بحرج هاتفا :- ولا يهمك .. انا مقدر شعورك يا دكتورة .. و انا تحت امرك فأي وقت وفأي حاجة .
مد كفه مودعا لتمد كفها بالمقابل فى تحية رسمية رافقتها ابتسامة ممتنة وبعدها غادرت الوحدة الصحية و هو يتبعها حتى الباب الخارجي .. لوح لها مودعا من جديد و طفق عائدا لحجرة كشفه و سارت هى متوجهة للبيت الكبير غير مدركة ان نظرات فحمية متقدة كانت تتبعها بدورها ونيران من نوع اخرلم يخبرها صاحبها من قبل كانت تستعر بين جنبات روحه وتضطرم بفؤاده ..
******************
تقلبت على تلك الأريكة الضيقة فى حذّر مخافة السقوط من أعلاها مما أورثها قلقا اطار النوم من عينيها متحدا مع ذاك البرد القارص الذي كان ينخر عظامها وهى لا تجد غطاء ما تتدثر به اتقاء له .. فلم يكن هناك الا ذاك الغطاء الصوفي الذي يغطي نديم متلحفا به ..
كيف لم تكتشف البارحة ان نديم قد نام دون غطاء تاركا لها ذاك الغطاء الوحيد بالغرفة !؟.. تذكرت انه كان يتكوم على نفسه فى محاولة لجلب الدفء وكان يستعين بسترته الثقيلة التي لم يخلعها عنه في محاولة للحصول على دفئها والتي خلعتها هى عنه وهى تساعده في الوصول للحمام لخفض حرارته..
نهضت باحثة بعينيها في ظلام الغرفة عن تلك السترة واخيرا وجدتها ملقاة على احد المقاعد .. سارت في حذّر حتى لا توقظه و تناولت السترة مترددة للحظات في ارتدائها .. لكن ذاك البرد كان كفيلا بدفعها لترتديها على عجالة في محاولة للحصول على بعض من دفء يسري بأوصالها لعلها تنام و لو لبضع دقائق فهى لا تعلم ما يخبئه لهما الغد .. فاليوم هما هنا و غدا قد يكونا بمكان اخر و ربما بمحافظة اخرى ..
ما ان تمددت على الأريكة تجذب أطراف السترة الجلدية حول جسدها الا واستشعرت دفء ينساب اليها كأنه السحر .. لم يكن دفءً معتاد بل كان دفء من نوع اخر محمل برائحة عطره التى كانت تختلط بأنفاسها متسربة من بين طيات السترة وكأنما هى اقرب اليه من انفاسه .. انتفضت ما ان استوعبت الي اي منحن اتجهت افكارها .. لم تكن يوما من ذاك النوع العاطفي من الفتيات واللاتي كان يحزنهن الحب ويفرحهن .. وتبكي أعينهن للقاء الاحبة بالأفلام .. و يعتصرهن الحزن على الفراق .. كانت تعد ذاك نوع من السطحية .. و لم تكن تدرك انها ستقابل ذاك الشعور وجها لوجه و تغرق في تلك السطحية حتى اذنيها ..
قررت بعزم خلع السترة حتى تدرأ عنها شبهة الحب او حتى الشروع فيه .. الا ان صوتا يهمهم جعلها تنتفض في اتجاهه ناسية خلعها.. كان نديم قد بدأ يهزى من جديد .. كانت حرارة جبينه المشتعل تؤكد ذلك على باطن كفها الذى وضعته هناك تستطلع الامر .. اندفعت للدواء من جديد .. و همست بالقرب من أذنيه محاولة إعادته للوعى ولو للحظة :- نديم .. نديم .. جوم خد الدوا ..
لايزل يهمهم وهى بدأت فى الشعور بالاختناق .. اختنقت بعبراتها المحزنة بمآقيها وهى غير قادرة على ذرفها عاجزة عن ذلك بشكل لاإرادي .. لكن ما ان تناهي لمسامعها هزيانه باسمها بهذا الشكل حتى انسابت تلك الدموع مسفوحة على صفحتىّ خديها ولم تعد بقادرة على ايقافها .. فقد ادركت اللحظة .. ان ذاك الرجل حرك شيئا ما كان كامنا بأعماق روحها والآن استيقظ كمارد لا سلطان لها عليه .. اعترفت امام جسده المحموم المسجي قبالتها انها ما عادت قادرة على تقييم مشاعرها وتشعر بحالة عجيبة من التخبط والضبابية فى احاسيسها تجاه ذاك الرجل وهى التى كانت تنكر احوال القلوب وتسخر من أصحابها ..
مسحت دمعاتها واقتربت منه ترفع رأسه قليلا ووضعت حبة الدواء بفمه هامسة له وهى تقرب من شفتيه كوب به القليل من الماء :- اشرب يا نديم الدوا .. اشرب عشان خاطري ..
فتح عينيه فى تثاقل وارتشف القليل مبتلعا دوائه لتعيد رأسه موضعها على الوسادة وهى تتطلع الي قسمات وجهه الرجولية التى غطاها اللون الأحمر من جراء الحمى .. و بلا وعى منها مدت كفها ومسحت بعض من قطرات العرق المنتشرة على جبينه الواسع.. و سالت دموعها من جديد…
******************
اما كان كافيا رؤيته لها خارج الوحدة الصحية والدكتور طارق يلوح لها مودعا فى أريحية ومحبة أفقدته تعقله وصبت بدمه جمر حارق من صهريج غيرة لم يألفها من قبل مما أورثه حنقا مضاعفا حتى يراها الان وهو يهم بالذهاب اليها قد أوقفها الضابط هاتفا وهو يوقف عربته الميري مترجلا منها :- اهلًا يا دكتورة ..اخبارك ..
توقفت ملتفتة اليه وابتسمت في رقة هاتفة بدورها:- ازيك يا حضرة الظابط اخبار حضرتك ايه !؟.. الأمن مستتب !؟..
قهقه لمزحتها هاتفا :- من ناحية مستتب فهو مستتب بالقوي .. و ربنا يخلي لنا عفيف بيه ..
ما ان انهى كلمته حتى ظهر عفيف مقتربا ليهمس شريف لها ساخرا :- اهو جه ع السيرة ..
حاولت ان تسيطر على اندفاعها و لا تلتفت في الاتجاه القادم منه حتى وصل اليهما هاتفا بلهجة جافة لا تعرف لها سببا :- سلام عليكم ..
هتف كلاهما :- وعليكم السلام ..
هتف عفيف موجها حديثه لشريف في رسمية :- ايه الاخبار يا حضرة الظابط !؟.. كله تمام !؟.. ولا في حاچة نخدموك بيها !؟..
هتف شريف مؤكدا :- لا كله تمام يا عفيف بيه والبركة ف حضرتك ..
هتف هازا رأسه فى تفهم :- طب تمام ..
و ادار نظراته لدلال وهم بسؤالها الرحيل الا ان شريف هتف بدوره و بأريحية كان يمكن ان يفقد قبالتها عمره:- ما تتفضلي أوصلك يا دكتورة .. طبعا البوكس مش قد المقام ... و ابتسم مستطردا :- بس الجودة بالموجودة ..
ما ان همت دلال بالرد على شريف حتى هتف عفيف مجيبا فى لهجة نارية :- ماهو عشان مش جد المجام يا شريف بيه مينفعش تعزم م الاساس ..
واستطرد والشرر يتطاير من حدقتيه :- طريجكم مش واحد يا حضرة الظابط ...
واستدار متطلعا لدلال هاتفا بلهجة حاول ضبط نبراتها لتخرج اكثر هدوءً :- اتفضلي يا داكتورة .. اتاخرنا ع الخالة وسيلة زمنها حضرت الغدا ..
شعرت دلال بحرج كبير وهى تنظر الى شريف و همت بالاعتذار الا انها لمحت ابتسامة عجيبة مرسومة على محياه لم تعرف لها مدلولا .. هل هى ابتسامة استهزاء!؟.. ام سخرية !؟.. ام ماذا بالضبط!؟.. مما جعلها تبتلع لسانها و هى تسير خلف عفيف فى خطوات واسعة تحاول مجاراة خطواته ..
صعدت الى الكارتة التي صعدها هو قبلها واتخذ موضعه منتظرا استقرارها بموضعها .. مرا على شريف الذي كان لايزل متسمرا مكانه لم يبرحه ولم يعره عفيف حتى إلتفاتة بل على غير العادة اطاح بسوطه الذي ما رأته استعمله قط ليهبط به على ظهر الفرس مصدرا صوتا مدويا جعل الفرس يصهل مندفعا فى طريقه كأن الريح تسابقه..
وصلا للبيت الكبير في لمح البصر فترجلت من العربة تدلف للداخل فى سبيلها لتساعد الخالة وسيلة فى إعداد الطعام الا ان صوتا كالرعد هتف يوقفها :- يا داكتورة ..!؟..
توقفت متسمرة بموضعها واخيرا ألتفتت تواجهه مستفسرة :- خير يا عفيف بيه !؟..
هتف غير قادر على كبح جماح ذاك الشعور المتنامى بداخله منذ وعى لها وهى امام الوحدة الصحية بصحبة الطبيب ومن بعدها مع الضابط :- اعذرينى ف اللي هجوله .. بس دي الأصول .. احنا هنا ف نچع ف جلب الصعيد .. يعنى اللي تعرفوه ف مصر مينفعش هنا ..
هتفت و قد ضافت عيناها متسائلة بتعجب:- وايه اللي نعرفه ف مصر مينفعش هنا يا عفيف بيه !؟.. اظن الأصول والصح مبيتجزأش سواء هنا اوهناك ..
هتف محتدا :- حيث كِده .. يبجى اسمحيلى اجول لك ان وجفتك مع كل من هب ودب وضحكك و هزارك يا داكتورة مينفعوش عندينا.. و اذا كان دِه العادى بتاعك .. ف يا ريت ..
هتفت محتدة مقاطعة اياه :- عفيف بيه .. انا مسمحش بالتشكيك ف ..
هتف صارخا مقاطعا إياها بدوره و بصوت هز جنبات البيت الكبير وتراقصت لاجله عمدانه:- بلا تسمحي بلا متسمحيش .. جاعدة تسلمي على دِه وتضحكي مع دِه و جال دِه واجف يعمل لك باي باي ..ايه المسخرة دي !!
همست مبهوتة فى صدمة :- مسخرة ..!؟..
ساد الصمت .. صمت احد من نصل سكين قاطع .. تطلع اليها و صدره يعلو ويهبط انفعالا وبدت على محياه بودار ندم لما تفوه به و خاصة بعد ان لمح قسمات وجهها الوضاء وقد تحول فى لحظة لشتاء غائم تهدد سحبه السمراء بهطول مطر شَديد الغزارة ..
هم بالتفوه بأي كلمة من شأنها تعديل الحال الا انها لم تمهله كالعادة ..فقد اندفعت من امامه كسهم فر من قوسه تاركة اياه مسربل بندم يكاد يورده موارد التهلكة ..
*******************
رفرفت اهدابه فى تيه محاولا تذكر اين يكون وهو يتطلع بنظراته فيما حوله حتى ادرك اخيرا انه بغرفة الفندق .. استدار في موضعه قليلا يشعر بتيبس فى فقرات ظهره من كثرة رقاده التي لا يعرف كم طالت ليصطدم بمحياها المجاور له .. تسمر وكاد يوقف رئتيه عن التنفس وهو يراها مكومة بهذا الشكل متلحفة بسترته الجلدية اتقاءً للبرد اما ما تبقى من جسدها فمدفوع تحت الغطاء المشترك بينهما ..
حاول ان يتنحنح مصدرا صوتا ما قد يوقظها مبتعدة الا انه لم يستطع الا التطلع اليها فى فضول .. نظراته كانت تنهب ملامحها الجميلة بشغف وتلهف غير معتاد ..
شعرها المحجوب عنه تحت حجابها والذى يذكر انه رأه مرة واحدة وحيدة عندما استيقظت مذعورة فى ليلتهما الاولى معا بعد هروبهما .. من بعدها اعتاد هو كوابيسها و اعتادتها هى بدورها فما عاد ينتفض باتجاه حجرتها لنجدتها كما حدث في المرة الاولى .. و هى ايضا كانت تغلق بابها بأحكام متحملة ذاك الوجع الذى يعتريها من جراء ازعاج أحلامها وحيدة غير راضية عن تدخله .. و قد استوعب هو ذلك و ابتعد فى احترام لرغبتها. امعن التطلع في طلتها البهية من جديد ليدرك ان بشرتها حنطية صافية مشربة بحمرة خفيفة جراء ذاك الدفء الذى يشملها اللحظة مما منحها مظهرا اشبه بالأطفال .. انفها شامخ و دقيق .. شفتاها ..
ازدرد ريقه عند هذه المرحلة من رحلته عبر محياها الناعس وأزاح ناظريه مبتعدا عن التطلع اليها هامسا لنفسه :- ماذا دهاك !؟.. انها
قاطعه صوتا داخليا :- انها ماذا !؟.. انها زوجتك ... انت لا ترتكب إثماً .. انها حلالك .. وهى ..
قاطع استرسال خواطره تنهدات من قبلها جعلته ينتفض داخليا وقد دعا الله سرا ان تستيقظ مبتعدة عنه .. و كأن ابواب السماء كانت منفرجة على مصرعيها لترفرف هى بأهدابها وما ان وعت موضعها حتى انتفضت و ما ان همت بالنهوض حتى تذكرت ان حرارته كانت مستعرة منذ ساعات فمدت كف مترددة الى جبينه لتدرك ان الامر على ما يرام .. لكن حاله هو لم يكن على ما يرام ابدا .. لمستها الرقيقة تلك لجبينه فعلت به فعل الأعاصير .. لا يعرف كيف استطاع السيطرة على تلك الرجفة التي اعترته جراءها لكنه تحكم فيها باعجوبة حتى خرجت هى من الفراش فى هدوء حتى لا توقظه فيدرك اين باتت ليلتها واتجهت لتلك الأريكة الضيقة واحتلتها في هدوء منتظرة استيقاظ من اعتقدت انه لايزل غارق فى نومه وهى لا تعلم انه استيقظ من زمن .. استيقظ ليواجه مشاعره المتنامية تجاهها وجها لوجه .. ليدرك ان هنا حيث موضع قلبه شئ ما قد تغير .. و لا يظن انه سيعود كالسابق ابدا..
قرر التخلص من تلك الخواطر الخطرة فسعل قليلا لتنتفض هى من اريكتها فى اتجاهه هاتفة :- انت بخير يا باشمهندس !؟.. مش بجيت احسن ..!؟
هتف مؤكدا و هو يحاول الا تسقط نظراته على محياها الذى سرق منه لمحات عذبة ستظل محفورة بذاكرته دوما و ستورثه أرقاً ليال طوال :- الحمد لله ..
و اعتدل فى موضعه مستندا على وسادة خلف ظهره حاولت هى ان تضعها بشكل اكثر اعتدالا الا انه كان الأسرع مؤكدا :- متتعبيش نفسك .. انا مرتاح عليها كده ..
ابتسمت في تفهم وابتعدت مما جعله يزفر فى راحة و قد اضحى ابتعادها اكثر مطلبا شَديد الضرورة فى تلك اللحظة .
هتف معاتبا :- خرجتِ لوحدك برضو !؟..
اكدت و هى تشعر بالحرج :- معلش .. اصلك يعنى مين كان هيچيب لك الدوا !؟.. حالتك كانت صعبة .. بس الحمد لله عدت على خير و انت اهاا بخير برضك ..
ابتسم لها و غلبت طبيعته المتسامحة هاتفا :- سماح المرة دي .. بس بعد كده متخرجيش لوحدك تانى ولو بموت ..
هتفت فى عجالة :- بعد الشر عنك..
صمت للحظات متطلعا اليها و شملها هى الحرج وكسا وجنتيها خجل جعل وجنتيها الشهيتان اكثر حمرة من زهرة جورية ..
هتف مازحا يغير الموضوع وهو يزيح ناظريه عن محياها :- طب فين الفطار بقى !؟.. الواحد حاسس انه مكلش من قرن ..
قهقهت هاتفة :- كان نفسى اچيب لك خروف .. بس ما باليد حيلة .. أخرنا شوية جبنة وطماطميتين ..
ابتسم بدوره :- رضاااا ..
اندفعت تحضر له الافطار وقد عزم داخليا على الرحيل من ذاك الفندق فوجودهما معا تحت سقف حجرة واحدة ينذر بالمزيد من التورط الخطر فى عشق تلك القابعة هناك تحضر له إفطاره البسيط و الذي يعلم انه سيكون مقدما من كفها كأنه الشهد المصفى ..
*****************
اربع ليال خلت لا لمح لها طرفا و لا رهفت أذنيه همسها.. اربع ليال عجاف طوال كأيام حزن لا نهاية لها.. اربع ليال انتظر ان يراها و لو صدفة او حتى يخيل اليه رؤياها فذاك الندم على ما تفوه به يتأكله كما تأكل النيران في اشتهاء أعواد حطب جافة ..
فقد الأمل فى مقدرته على رؤيتها فأصبح يقضي معظم نهاره خارج البيت الكبير وليلا يتعذب على فراش من جمر شوق الى ملاقاتها.. كم كبت رغبات كانت تهم بدفعه ليطرق بابها ليلا معتذرا .. و كم وأد من خيالات تراءت له حية امام ناظريه المعلقين بسقف غرفته و عيونه المسهدة لا شاغل لها الا محياها ..
وها هو اليوم قد اشرف على نهايته و ما عاد قادرًا على ما تفعل به تلك العزلة التى فرضتها على نفسها غير مدركة انها تعذبه اقسى انواع العذاب وانه نال عقابه على ما تفوه به وزيادة ..
كانت هى بالفعل تنأى بنفسها عن البيت الكبير واى مكان قد يجمعهما.. تحاشت بشكل قاس ان تتواجد فى مكان ما قد يفترض له ارتياده حتى و لو مصادفة ..
انها هنا لهدف ما ..لم يتحقق حتى اللحظة .. لكن فى سبيلها لتحقيقها ذاك الهدف لن تتنازل مطلقا عن كرامتها ولن تدعه ينل من كبرياءها او يقوض حريتها ..
تناه لمسامعها صوت أنشودة ما تصلها عبر ذاك الجدار الفاصل بين حجرتها ومكتبه العتيق ..
فتحت الباب فى حذّر و وقفت على أعتابه ترهف السمع لكلمات الاغنية لا تعرف لما .. كان ذو ذوق راق في اختيار ما يسمع .. هى تقر بهذا .. أعجبتها الاغنية و راحت ترهف السمع تلتقط كلماتها فى نشوة الا انه على ما يبدو قد اغلق مشغل الاغان…
تنهدت و عادت لغرفتها و بلا وعى منها اعترفت انها اشتاقته .. اشتاقت عينيها لمرأه و التكحل بمحياه .. عزت ذلك للتعود لا اكثر .. لكنها امسكت نفسها متلبسة بالتطلع من شرفة حجرتها فى اتجاه بوابة البيت الكبير مستنتجة انه فى سبيله للخارج .. و صح استنتاجها.. فها هو يندفع خارجا يقفز داخل عربته..
عادت القهقري لداخل الغرفة و قررت الدخول للمكتبة مستغلة غيابه حتى تحصل على بعض الروايات التى قد تعينها على قضاء الوقت بعيدا عن البيت الكبير او حتى الولوج الى المطبخ لمساعدة خالة وسيلة اتقاءً لصدفة مقابلته ..
فتحت باب المكتب في حذّر رغم علمها بانه بالخارج .. و ابتسمت رغما عنها فها هو يثير بها كوامن الخوف حتى في غيابه .. تسللت الى قلب المكتب وبدأت في فحص صف الروايات التى دلها عليه سابقا.. تناولت منها ما ارادت فى سرعة وما ان همت بالعودة من حيث أتت حتى اصطدمت عيناها بذاك الإطار المذهب المعلق على احد الحوائط الجانبية .. تساءلت كيف لم تلحظه من قبل رغم ولوجها الى هنا عدة مرات !؟..
اقتربت فى رهبة ووقفت تنظر الى ذاك الإطار القيم الذى يحيط بتلك الشهادة العلمية .. قرأتها حرفا حرفا..
وهمست :- الدكتور طارق كان عنده حق .. دى شهادة الماچستير ف علم الاجتماع فعلا ..
وتذكرت كيف كان يوجها للطرق المثلى للتعامل مع بعض المشكلات هنا وكيف كان يسخر منها لانها لم تراع طبيعة الصعيد وأهله و تقاليدهم وعاداتهم ..
تنهدت ورفعت ناظريها الى الشهادة من جديد وقرأت اسمه فى وجل و وجيب قلبها يتضاعف دون داع .. حتى مجرد ذكر اسمه يفعل بقلبها افعال لا سلطان عليها :- عفيف راغب النعماني ..
و كانها استحضرت جن المصباح ليظهر هو مندفعا من باب المكتب من ناحية البيت الكبير ما ان أنهت ذكر اسمه بهذا الشكل الساحر الذي كانت تنطق به بلا وعى منها .. انتفضت هى فى ذعر لدخوله الاعصاري ذاك حتى ان ما كانت تحمله من روايات سقط ارضا بالقرب من قدميها .. اما هو فلم يكن باحسن حالا منها .. فما ان طالعه محياها المذعور ذاك كغزال مضطرب امام قوس صياد حتى انتفض قلبه ما بين أضلعه يئن فى وجع .. اشبه بغائب عن الوعى ألقى على محياه الماء المثلج فجأة لينتفض مستفيقا من رقاده يرتجف طالبا الملاذ ..
تنحنح كعادته عندما يحاول استجماع نفسه المبعثرة فى حضرتها هاتفا فى لهجة هادئة :- السلام عليكم يا داكتورة ..
قررت الاندفاع مبتعدة حتى انها لم تع انه ألقى التحية وعليها ردها ..
انتفض مندفعا على غير طبيعته يقف فى طريق باب الخروج هاتفا :- السلام لله يا داكتورة ..
لم ترفع ناظريها لتقابل نظراته المشتاقة .. ليهمس هو فى نبرة هادئة جعلتها رغما عنها ترفع نظراتها المعاتبة لملاقات نظراته المعتذرة :- لسه واخدة على خاطرك من الكلام اللى جولته ..!؟
لم ترد ليهمس مستطردا :- انا بس .. كنت يعني ..
كانت نظراتها تستحثه على الاسترسال وكانت المرة الاولى التى تراه فيها بهذا الأضطراب .. بالطبع فعفيف النعمانى لا يعتذر مطلقا .. ايخطئ من الاساس !؟..
كادت ان تبتسم ساخرة الا انه اذهلها عندما هتف فى ثبات :- حجك علىّ يا داكتورة .. انى بس مش حابب حد يجول كلمة او يطولك بحرف .. اللى يمسك يمسني..
ثم استطرد في عجالة :- انتِ ضفتي ..
هتفت اخيرا :- اكيد طبعا .. انا مجرد ضيفة يا عفيف بيه .. و الضيف لازم يلتزم بقواعد اصحاب البيت ... و اكيد انت متحبش حد يمسك بكلمة من تحت راسي ..
هتف متعجبا :- لاااه .. مش دِه الجصد .. اجصد يعني.. ملوش لازمة الوجفة والحديت مع رچالة ف جلب النچع... و دِه يجول ودِه…
قاطعته هاتفة في سخرية :- يعمل باي باي ..
ابتسم محرجا وغض الطرف رغما عنه وهمس اخيرا :- دِه انتِ زعلك واعر ..
ابتسمت رغما عنها فتشجع هاتفا :- خلاص بجى .. صافي يا لبن ..
هزت رأسها ايجابا هاتفة :- حليب يا قشطة ..
همت بالاستئذان الا انه هتف وهو يندفع الى تلك الروايات التي أسقطتها لحظة دخوله المفاجئ :- رايحة وسايبة الروايات دي لمين!؟..
حملها بين كفيه وناولها إياها .. تناولتها فى أريحية وهتفت و هى تشير لشهادته العلمية :- انت واخد ماچستير في علم الاجتماع .. ليه مكملتش واخدت الدكتوراه!؟..
ابتسم عفيف وهو يتطلع لشهادته العلمية المعلقة على ذاك الجدار منذ أعوام طويلة وتنهد وهو شارد في كل حرف بها :- مكنش ينفع ..
شعرت بعمق الأسى الذي يعتريه اللحظة .. كانت تستشعر انه بين رغبتين متناقضتين كأنهما قطبي مغناطيس .. فهتفت فى فضول اصبح معتادا لكل ما يمت لعفيف النعمانى بصلة :- ليه !؟.. حد ياخد ماچستير بامتياز مع مرتبة الشرف وميكملش .. دي سابقة من نوعها..
اكد وهو يبتعد عن اطار شهادته المعلق هاتفا :- عشان دي كانت أوامر الحچ راغب النعماني .. و اوامره كانت سيف على رجبتي ..
هتفت متعجبة :- والدك !؟.. و ايه اللي يخلى والدك ياخد قرار قاسي كِده ومعارض لرغبتك !؟..
ابتسم عفيف في شجن هاتفا :- عشان كان شايف وواعي للي محدش واعيله ..
هتفت متعجبة :- مش فاهمة !؟..
اكد عفيف متطلعا الى الفراغ امامه في شرود:- جالهالى يومها .. سبتك تاخد الماچستير على هواك .. اكتر من كِده مش هينفع .. لو بجيت داكتور ف الچامعة هتروح ف السكة دي ومش هترچع .. ساعتها مين هيكون للنعمانية من بعدي و اني مخلفتش رچالة غيرك !؟.. يا الداكتوراه .. يا النعمانية ..
واستفاق من شروده هامسا وهو يتطلع اليها :- و كانت النعمانية ..
هتفت دلال متسائلة :- مندمتش!؟..
اكد عفيف فى صدق :- ولا لحظة يا داكتورة .. اللي بناه چدى وتعب فيه ابويا واچب علىّ صونته .. و أديني بحاول ..
وابتسم في رزانة مع كلمته الاخيرة تلك الابتسامة التي لا تظهر الا في مناسبات خاصة جدا والتي اصبحت تحفظ تفاصيلها ودوما ما تحرك شئ ما بالقرب من معدتها يورثها اضطرابا حاولت مداراته هامسة :- عن اذنك يا عفيف بيه .. و متشكرة ع الروايات ..
واندفعت من امامه تلوذ بحجرتها وهى لا تعلم لما اصبح عليها مؤخرا الهرب من ذاك الرجل الذي قلب موازين ثباتها رأسا على عقب!؟…
***************
يتبع