رواية طائف في رحلة أبدية كامله وحصريه بقلم تميمة نبيل
رواية طائف في رحلة أبدية الجزء الأول للكاتبة تميمة نبيل = ج 1/
من بين جموع البشر...
كان هو الاول والاخير...
واخر من رغبت بمواجهته
في هذه الارض القاصية الواسعة
صرخ بها والنار المشتعلة باللون الفيروزي
تزيد من جذور روحه
- اختاري
فتبسمت شفتاها بمرارة
بلون اكثر قتامة وهي تهمس بغضب
وهل بين القانون والحياة اختيار
ما بين عينيها وشفتيها العنديتين
كانت عيناه تطوفان في رحلتهما الابدية
الي ان تكلم اخير
- نعم اختاريني
الفصل الأول
يهتف منفعلا و الهاتف على أذنه، بينما يدور في أنحاء شقته الصغيرة و يده في خصره...
يقف قليلا لترتفع أصابعه الى خصلات شعره، ثم يعاود الكلام بحدة
(ماذا تعني لم يقبل الفكرة؟، و من هو ليبدي رأيه من الأساس؟، لقد قدمناها للمدير، فمن هو ليكون الوسيط ويدرسها قبل أن تصل؟، تبا لذلك، إنه يريد رشوة، صدقني. أخبرتك من قبل).
زفر بقوة وهو يستمع الى الطرف الآخر بينما سنوات عمره التي لم تتعدى الأربع و العشرين لا تمنحه الفرصة كي يتعقل أو أن يأخذ الأمور بروية، الهدف أمام عينيه لا يصبر و لا يهدأ، و روحه المقيدة تريد التحرر من أسرها...
الطريق يسبقه و هو يركض خلفه لاهثا...
فتح فمه كي يتابع هتافه المنفعل الحانق الا أن صوت جرس الباب قاطعه قبل أن يبدأ ثورة جديدة...
فعقد حاجبيه و هو يقول متذمرا.
(انتظر لحظة، سأرى من بالباب ثم أعود اليك)
اتجه الى الباب حافي القدمين، يرتدي بنطال منامته المريح، عاري الصدر مشعث الشعر وهو يقضي يوم عطلته بأريحية، بينما حالته العصبية هي أبعد ما يكون عن الراحة...
يتسائل عن الشخص الثقيل الذي يهدد هدوء يومه المفترض، فتح الباب بقوة ليوجه السؤال بحدة فظة.
الا أن لسانه تلجم قليلا و انعقد حاجبيه قبل أن يرتفع احداهما وهو ينظر الى الفتاة التي وقفت أمامه رافعة وجهها اليه بهدوء دون أن ترمش بعينيها...
ليست فتاة تماما، بل هي طفلة في الواقع، لا تتجاوز العاشرة من عمرها، الحادية عشر ربما!
عيناها تلمعان بترفع هادىء عجيب، و ثقة تفوق طولها المتآكل...
شعرها الفارق من منتصف رأسها مقسوم الى ضفيرتين من قمة رأسها و و بالكاد تلامسان كتفيها...
ذكره لون شعرها بلون شجر الأرز، بني متنافر الدرجات بوضوح، بينما عيناها بلون البحر شديد الخضار حين يفقد كل درجات الأزرق به في لحظة معينة من اليوم...
تمالك نفسه وهو يهز رأسه قليلا كي يستوعب وجود تلك الطفلة على باب شقته في هذا الوقت صباحا...
فقال بصوت متمهل بطيء
(مرحبا، هل أخطأت العنوان؟)
رفعت ذقنها أكثر، ثم فتحت شفتيها الكرزيتين بلون شفاه الأطفال، و تكلمت بهدوء
(أليست هذه شقة قاصي الحكيم؟).
ارتفع حاجبيه معا الآن، الا أنه سيطر على تعجبه وهو يقول ببطىء شديد مراقبا ملامح وجهها الثابتة.
(نعم صحيح، أنا هو، هلا تشرفت بمعرفتك آنسة؟)
ردت مبتسمة ابتسامة دبلوماسية لا تستطيعها الكثير من شابات هذه الأيام
(أنا تمارا)
مط قاصي شفتيه وهو يومىء برأسه قليلا متسليا، ثم قال ببطىء أكبر
(حسناااااااا، مرحبا تمارا، سررت بالتعرف اليك، هلا أخبرتني بسبب زيارتك الكريمة؟)
تأملها مليا أثناء القاءه السؤال عليها...
تمتلك رزانة و ثقة بالنفس أثارت اعجابه خلال اللحظتين اللتين وقفت بهما أمامه...
عيناها كبيرتان و تحدقان بعينيه بجرأة دون أن تخفضهما بخجل...
فعادة شكله الخشن يرعب الأطفال ممن هم في مثل عمرها...
لكنها مختلفة!
قالت تمارا بتململ و هي تعدل من حزامي الحقيبة الثقيلة المعلقة على ظهرها كالحقائب المدرسية
(لقد جئت لرؤية أبي).
لعدة لحظات بدا و كأنه لم يسمعها جيدا، فلم تهتز عضلة في وجهه المتبلد، ثم لم يلبث أن ضحك عاليا وهو يمد جسمه للأمام ناظرا لأعلى و أسفل خارج الشقة قائلا بتسلية
(حسنا، مقلب من هذا؟، حسين أم شاكر؟)
لم ترد تمارا بل نظرت اليه بنظرة ممتعضة دون أن تغفل عن الإبتعاد عنه قليلا وهو يمد نفسه مقتربا منها باحثا عن المجهولين اللذين يدبرون له المقلب في مثل هذا الوقت صباحا من يوم العطلة...
كانت ضحكته قد خفتت وهو يجد السلم ساكنا تماما، بينما وقفت تنتظره و هي عاقدة ذراعيها على صدرها...
فالتفت قاصي اليها رافعا احدى حاجبيه وهو يقول بغلظة
(حسنا يا صغيرة، انتهى وقت المرح و آن لك الآن أن تخبريني عن هويتك الحقيقية، فأنا لست في مزاج يسمح لي بعبث الأطفال هذا، من أنت و أي سمج ألقى بك على بابي في مثل هذه الساعة!)
رفعت تمارا وجهها و هي تقول بغرور زائد.
(لو علم أبي أنك تكلمني بتلك الطريقة لطردك من عملك، لذا احترم نفسك قبل أن أتصل به، لأنني سأفعل حالا ما أن تدعني أدخل الى هذا الجحر فقد تعبت من حمل الحقيبة!)
كان قاصي ينظر اليها مذهولا من وقاحتها التي لم يشهد لها مثيل من فتاة في مثل عمرها...
فانتفخ صدره وهو يوشك على أن ينفخ بها فيلقي بها من على السلالم...
الا أنه تمسك بآخر درجات صبره وهو يقول هازئا
(الجيد في الأمر هو أنني لست أباك اذن).
ارتفع حاجبيها باستنكار و هي تقول ممتعضة
(و كيف لصبي مثلك أن يكون والدا لفتاة في مثل عمري؟، هل أنت أحمق تماما تماما!)
فغر قاصي شفتيه وهو ينحني ليقول بذهول ساخر
(السماح منك يا صاحبة العقل الديناميكي، عذرا لسيادتك)
زفرت تمارا للمرة الأولى في بادرة لفقدان هدوءها الواضح، ثم قالت بتعب
(هلا ادخلتني الآن، الطريق من المحطة الى هنا كان طويلا جدا، وأبي سيكون شاكرا لإهتمامك بي الى أن يأتي و يصطحبني).
قال قاصي بهدوء و جدية
(من هو اباك اذن؟)
نظرت تمارا اليه بشك قبل أن تقول بحنق
(من سيكون؟، سالم الرفاعي)
تسمر قاصي مكانه وهو ينظر اليها بصدمة، قبل أن يعقد حاجبيه ليقول بخفوت
(ليست لسالم سوى، ابنتين، مسك و)
رفعت تمارا وجهها و هي تنظر اليه مبتسمة ابتسامة عريضة مزيفة
(تمارا)
ثم لم تلبث أن رمت الإبتسامة جانبا و هي تقول بحدة و انفعال.
(هلا أدخلتني و تكرمت بإظهار بعض الشهامة من فضلك في معاملة امرأة تحمل حقيبة ثقيلة!).
انعقد حاجبيه اكثر وهو يقول مستنكرا
(امرأة!، أنت امرأة!، بينما أنا صبي؟)
قالت من بين اسنانها
(امرأة رغم عن أنفك)
كانت تختبر صبره حقا، لكنه ودون أن يضيع المزيد من الوقت، عاد لينظر لأعلى و أسفل، خوفا من أن يفتح أحد الجيران باب شقته و يشهد تلك المصيبة التي سقطت على بابه صباحا.
ثم دون مقدمات امسك بالحقيبة المعلقة على ظهرها و رفعها لأعلى دون ان تنزعها عن كتفيها و جرها للداخل و هي تهتف متذمرة ان يحررها...
الا انه صفق الباب خلفهما دون ان يتركها، بينما هي تهتف منتزعة الحقيبة من قبضته
(اتركني ايها البغيض، ماذا تظن نفسك فاعلا؟)
استند قاصي الى الباب و عقد ذراعيه على صدره وهو يراقبها باهتمام، قبل ان يقول بهدوء
(كنت احاول اظهار بعض (الشهامة) لسيادتك، بحمل حقيبتك الثقيلة).
عدلت تمارا قميصها نفضا بغضب و قد احمر وجهها بجنون و هي تهتف
(تحمل الحقيبة فقط، ليست الحقيبة و انا معلقة بها!)
لم يرد قاصي على الفور، بل ظل يراقبها طويلا و الحق يقال انه قد بدأ يشعر بالتسلية فعلا رغم خطورة الموقف الكارثي الذي وضعت نفسها به...
كانت عفريتة صغيرة، حمراء الوجه من الغضب و ذات كبرياء و نضج يفوق عمرها...
لكنه اجبر نفسه على الكلام أخيرا بهدوء وهو يراها تخلع الحقيبة عن ظهرها اخيرا لتضعها ارضا و هي تحاول تسوية كتفيها بتعب
(مبدئيا و اعذريني في التطفل، اليس اسمك هو (تيماء)؟)
رفعت وجهها اليه و هي تقول بفظاظة
(بل تمارا)
رد قاصي بهدوء مستفز دون ان يتحرك من مكانه...
(أممممممم بل تيماء، فأنا من أنجز لك العديد من الأوراق الرسمية قبل أن أتشرف برؤية سيادتك، فلا تحاولي الانكار).
مطت شفتيها و هي تشيح بوجهها عنه قائلة بغيظ
(هذا الاسم من اختيار ابي، لا توجد فتاة واحدة أعرفها و اسمها تيماء
لا أحب أن يفرض أحد على اسمي حتى أن جميع صديقاتي بتن يعرفونني باسم تمارا)
وجدها قاصي تتحرك باريحية في الشقة و كأنه بيتها، قبل ان ترتمي جالسة على الاريكة متنهدة بتعب، فأرجعت رأسها للخلف مغمضة عينيها و هي تحك جبهتها قليلا...
رغم قوتها التي تحاول جاهدة اظهارها بشكل مبالغ فيه، الا ان الهشاشة بدت واضحة المعالم عليها، و الهالات الزرقاء تظلل عينيها، فهي مجرد طفلة رغم كل شيء و لا يعرف حتى الان كيف استطاعت السفر من مدينتها الساحلية الى هنا؟
مجرد طفلة!
لحظة واحدة، إن كانت هذه هي تيماء سالم البدري، و بما أنه قد أنهى لها بعض الأوراق مؤخرا في مدرستها، فهي...
عقد حاجبيه وهو يسألها فجأة بارتياب
(كم عمرك بالضبط؟).
فتحت عينيها بإرهاق و هي تنظر اليه بعدم اهتمام، ثم قالت بملل ما كان يفكر به للتو...
(ما دمت أنت البطل قاصي الحكيم الخفي و الذي ينهي لنا الكثير مما نريده في الخفاء، فمن المؤكد أنك تعرف عمري)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول بشك
(من المفترض أن تلتحقي بالصف الأول الثانوي العام المقبل، اليس كذلك؟)
مطت شفتيها بملل أكثر و هي تقول بعدم اهتمام.
(نعم، و هذا يجعلني على أعتاب الخامسة عشر، تستطيع القول أنه يفصلني عن الخامسة عشر تسعة أشهر و أسبوعين، و أربعة أيام تحديدا)
ارتفع حاجباه الآن وهو يقول بصدمة
(شكلك لا يوحي بأنك تزيدين عن العاشرة!)
ضحكت بسخرية و هي تقول
(حسنا هذه أكثر المبالغات سماجة في الواقع، هل أنت قصير النظر؟)
شعر بالغضب و نفاذ الصبر منها فقال باستهزاء واضح...
(هذا على أساس أن سن الرابعة عشر يشكل فارقا ضخما!، أنت لا تزالين طفلة، و مزعجة للغاية، ذلك النوع من الأطفال الذي يرغب والديه في إغراقه حيا)
شعر بحدقتي عينيها تبرقان بغضب اكبر، الا أنهما اهتزتا للحظة، و كم شعر حينها بالرغبة في لكم نفسه لتلك العبارة الغبية التي لم يكن لها داع...
فتحت تمارا فمها و كأنها سترد له الإهانة بأفظع منها، الا انها اثارت دهشته حين قالت بهدوء و ترفع.
(هلا أسرعت اذن باراحة نفسك من ازعاجي و هاتفت والدي الآن كي يأتي لإصطحابي)
أغمض قاصي عينيه للحظة وهو يضغط أعلى أنفه بعصبية متسائلا عن تلك الكارثة و كيفية التعامل معها...
ثم لم يلبث أن فتح عينيه وهو يمد يديه قائلا
(مهلا لحظة، الأمر ليس بهذه السهولة، علينا التحدث أولا).
اقترب منها ليجلس على المقعد المجاور لها، و اخذ عدة لحظات و هو يعاود تأملها، بدئا من حلتها ذات القطعة الواحدة من الجينز و التي ساهمت بشكل كبير في جعلها تبدو و كأنها لا تتعدى سن العاشرة، بخلاف طولها الأقرب للقزمية، هذا دون ذكر الضفيرتين القصيرتين!، و تلك الخصلات اللولبية العصية حول وجهها الوردي...
نعم وجهها وردي للغاية، تبا لذلك انها طفلة جدا، كيف وصلت الى هنا؟
أخذ نفسا غاضبا عميقا، بينما سبقته تمارا للقول
(هل ستجلس أمامي عاري الصدر هكذا!، الا قميص لديك لترتديه و أنت تستقبل ضيوف بيتك؟)
تسمر مكانه وهو يخفض نظره الى صدره العاري بالفعل، فانتفض واقفا و قد احمر وجهه رغم عنه...
رفع أصابعه الى خصلات شعره الطويلة يبعدها عن وجهه وهو يقول بخشونة صارمة
(ربما لو تفضل الضيوف الكرام بأخذ موعدا قبلا، لكنت قد تدبرت الأمر. ابقي هنا. دقيقة و أعود اليك).
تحرك في اتجاه احد الغرف، الا أنه توقف للحظة و استدار اليها قائلا بصرامة مجددا
(لا تتحركي من مكانك)
نظرت تمارا حولها، ثم اعادت عينيها اليه و قالت بامتعاض هادىء
(ليس هناك الكثير لأبحث عنه على ما يبدو)
رمقها قاصي مرة أخيرة، قبل أن يستدير على عقبيه شاتما بهمس غاضب، و ما أن صفق باب غرفته بقوة متعمدا أن تسمعه، حتى استند اليه و هو يكتف ذراعيه المفتولتين حول صدره القوي...
وجود هذه الطفلة هنا كارثة بكل المقاييس، كيف التصرف الآن؟
يشك في أن يفلح بإقناعها بالعدول عن قرارها و الرجوع بأدب الى والدتها، فهي تبدو كالعلقة صعبة المراس...
تحرك من مكانه متذمرا لينتزع قميصا قطنيا رياضيا، دسه في رأسه بعنف، مما أدى الى تشعث شعره أكثر...
ثم توقف لحظة أمام الباب، ليأخذ نفسا عميقا مصمما قبل أن يخرج، اليها...
كانت تيماء جالسة على الأريكة مكانها كما تركها، الا انه توقف مصدوما حين وجد على المائدة أمامها
طبقا يحتوى على عدة انواع من الأجبان، و قطعة خبز يابسة تأكلها بلا تذمر!
فغر قاصي شفتيه قليلا وهو يتأكد مما يراه بالفعل...
و ما أن وجد صوته حتى قال بصوت جاف
(هذا الخبز مر على وجوده هنا ثلاث أيام)
ردت تيماء بلامبالاة و هي تمضغ الطعام بصعوبة...
(هذا ما اكتشفته للتو، يمكنك دق المسامير بواسطته، لكن الجوع يجبر الإنسان على تناول أي شيء)
كتف قاصي ذراعيه وهو يقول بجمود
(و ماذا تعرفين عن الجوع يا ابنة سالم الرفاعي؟)
هزت كتفها و قالت ببساطة و هي تضع شريحة جبن كاملة في فمها
(أعرف أنني جائعة الآن بما يكفي لآكل هذا الجبن منتهى الصلاحية).
انتفض قاصي من مكانه بسرعة وهو يهجم على علبة الجبن ينتزعها منها وهو ينظر الى تاريخ الصلاحية، و هاله فعلا أن يجده قد انتهى من يومين...
فرماها بعيدا وهو يهتف بقلق
(ابصقي هذا الطعام فورا)
الا أنها رفعت عينيها الجميلتين اليه و هي تكمل مضغ الطعام ببساطة، ثم قالت بهدوء
(لا تقلق، الطعام لا يتحول الى سام ما ان ينقضي تاريخ الصلاحية، امنحه أسبوعين آخرين و قد يتسمم).
رفع قاصي يده الى جبهته وهو ينظر اليها مذهولا هاتفا
(يالهي، من أين وقعت على تلك المصيبة!)
الا أنها لم تهتم لهتافه الحانق و قضمت قطعة أخرى من الخبز اليابس، و قالت في أثناء ذلك ببساطة
(لن يطول الوقت قبل أن أختفي من حياتك المبعثرة، فقط الى أن يأتي والدي ليصطحبني)
اخذ قاصي نفسا آخر، ثم أغمض عينيه لعدة لحظات، قبل أن يعد للعشرة محاولا تهدئة نفسه...
ثم جلس برفق على الكرسي المقابل لها، مستندا بمرفقيه الى ركبتيه وهو يميل الى الأمام ناحيتتها...
يتأملها طويلا، فبادلته النظر بتلقائية...
للحظات كان عليه الإعتراف ان عينيها هما اجمل عيني طفلة شاهدهما...
لقد سمع كثيرا عن العيون الفيروزية اللون، الا أنه لم يقابل أحداها في الواقع، فحيث نشأ تعد هذه الأعين طفرة نادرة الحدوث...
لذلك كان النظر الى عينيه يعد كالنظر الى بحر بعيد عنه، بعيد تماما...
لم يتآلف يوما مع الأطفال، و لن يبدأ في هذا الآن لمجرد أنها طفلة ذات عينين فيروزيتي اللون، حمراء الوجنتين...
رفع ذقنه و نفخ صدره بنفس صارم، ثم قال بلطف
(تيماء)
الا أنها قاطعته ببساطة مصححة
(تمارا)
لكنه تجاهلها متعمدا و هو يشدد على حروف اسمها.
(تيمااااااااء، اسمعيني جيدا يا صغيرة، لقد اتفق والدك مع والدتك على أن تبقين معها بعد انفصالهما، فكيف تتهورين و تتصرفين بتلك الرعونة، هل لك أن تتخيلي حالة القلق التي ستنتابها الآن ما أن تكتشف غيابك!)
قالت تيماء بهدوء و هي تمضغ الخبز اليابس مصدرة صوتا عاليا في تكسيره
(نعم متخيلة تماما، امي لا تستيقظ قبل الظهيرة، لذا هي الآن في سابع نومة)
انعقد حاجبيه بحنق، لكنه لم ييأس، بل تابع بصلابة أكبر.
(أيا يكن، لا يمكنك أن تتصرفي بهذا الشكل المتهور من تلقاء نفسك، كان يمكنك التعرض الكثير من الخاطر في الطريق، كيف سمحوا لك بقطع تذكرة حافلة سفر؟، هذه جريمة!)
قالت تيماء بخفوت و عيناها تلمعان بالتحدي
(أنا لن أضر نفسي أبدا، لو كان شيئا لا أستطيعه لما أقدمت عليه)
تأفف قاصي بصوت عال وهو يحك شعره بنفاذ صبر، و كانت تيماء تتأمله طويلا ثم قالت فجأة
(لماذا شعرك طويلا بهذا الشكل كالفتيات؟، لماذا لا تقصه؟).
انتفض ناظرا اليها و هدر بها فجأة
(كنت صبي، و الآن أشبه الفتيات؟، أتعلمين لو أحد غيرك في موقعك هذا لما سلم من قبضتي ابدا، فاشكري حظك و اسم والدك)
لم تهتز عضلة في وجهها دليلا على الخوف منه كما كان يتمنى، بل ظلت تراقبه بصمت، فقال مستخدما اسلوبا آخر من المؤكد أنه سيكون أكثر فاعلية مع الفتيات
(ثم لماذا يغيظك شعري؟، الأنه ناعم؟، بعكس شعرك الذي يشبه أسلاك النحاس؟).
أظلمت عيناها، و تحول لونهما الى القاتم فجأة...
فرجع قاصي الى ظهر مقعده متفاخرا واضعا ساقا فوق الأخرى قائلا بداخله
نلت منك، رفعت تيماء احدى حاجبيها و هي تقول ببرود
(الرجل ليس بشعره)
رفع قاصي نفس الحاجب وهو يرد عليها متحديا
(لكن من المؤكد أن الفتاة كذلك)
ظلت صامتة عدة لحظات ثم قالت أخيرا
(هذه نظرة سطحية جدا للفتيات)
كان دوره في أن تظلم عيناه وهو يزفر نفسا حانقا من انفه، ثم قال أخيرا بصرامة.
(ما علينا من هذا الحوار، فلنعد الى موضوعنا)
الا أنها قاطعته قائلة باهتمام
(ما سبب الجروح الموجودة على صدرك و ذراعيك؟)
ارتفع حاجبيه متفاجئا، انها طفلة غريبة ذات عينين ثاقبتي النظر، على عكس المقولة التي تدعي أن أصاحب الأعين الملونة ضعاف النظر عادة...
لكنه أجابها بهدوء
(انا أروض خيول)
برقت عيناها باهتمام و قالت
(حقا؟، أين هي تلك الخيول؟)
رد عليها قاصي بخفوت.
(ليست هنا بل في البلدة، على بعد مئات الكيلومترات من هنا)
قالت بحماس
(بلدة أبي أليس كذلك؟، هل أنت من نفس البلدة؟)
تلبدت ملامحه قليلا، و شعرت بأنه قد بأكثر مما يريد، لكنه بعد عدة لحظات غمغم بإيجاز
(نعم)
ابتسمت للمرة الأولى منذ أن التقته، و هاله مدى جمال الغمازتين على وجنتيها الحمراوين و هي تقول
(نحن بلديات اذن)
وجد نفسه ينطق شاردا رغم عنه، و كأن لسان يتحدث دون اذن منه بخفوت شديد
(نعم، نحن كذلك).
ظل ينظر اليها قليلا دون حتى أن يبتسم، و كأنه يجد وجهها مادة مثيرة للإهتمام، آسرة للأعين...
و بعد فترة تنحنح قائلا بخشونة
(هلا تركت هذا الخبز اليابس من فضلك، سأطلب لك طعاما لائقا)
ابتسمت تيماء و قالت بهدوء
(لا شكرا، لا أريد أن أكلفك شيئا)
ابتسم هو الآن رغم عنه، ثم قال بخفوت.
(ستكلفينني أكثر مما تتخيلين لو لن تعودي لأمك في التو اللحظة، سأحضر لك ما تأكلينه ثم أقلك بنفسي، على الرغم من أن الذهاب الى مدينتك و العودة منها سيقضي على يوم عطلتي بأكمله)
استقامت في جلستها فجأة و برقت عيناها برفض صارم و هي تهتف
(أنت لم تفهمني على ما يبدو، أنا لن أعود الى أمي، أنا ذاهبة لأبي و سأبقى معه)
أسقط قاصي رأسه للخلف متنهدا بقسوة و يأس، قبل أن يرفع رأسه مجددا وهو يقول بغلظة و حدة.
(بالله عليك متى كانت آخر مرة رأيت بها والدك؟)
ظلت تجابه عينيه دون أن تحيد عنهما أو أن تتردد، لكنها قالت ببرود
(رأيته مرتين، آخرهما كانت منذ أربع سنوات)
تنهد قاصي مجددا وهو يقول بلهجة ذات مغزى علها تفهم
(رأيته مرتين، مرتين خلال اربعة عشر عاما، ما الذي يجعلك تظنينه أنه قد يقبل بتغيير الأمور الآن؟).
ظلت تيماء تنظر اليه بصمت، لكن لم يفته نظرة الألم بعينيها، لكنها نجحت في اخفائها بسرعة و مهارة بتحدي الأطفال المتمرد الرافض للخضوع، لذا قالت بقوة
(كان الأمر مختلفا قديما، هوا لم يحظى بالفرصة للتعرف الي، أنا واثقة أنه لو قابلني فسأستطيع اقناعه بشخصي، أنا كبرت و أصبحت أنضج من عمري أيضا، كما أنني متفوقة جدا في دراستي و رياضية كذلك، أي أنني أصبحت مثال للإبنة التي قد يتمناها).
رد قاصي قبل أن يستطيع أن يمنع نفسه
(لديه بالفعل ابنة تحمل كل هذه المواصفات و اقد اختارها هي، فلما سيحتاج الأخرى طالما افترقت بكما الطرق؟)
كان فظا، قاسيا، لا يعرف معنى المداهنة في الكلام...
لقد اعتاد طوال عمره أن يقطع عرقا فيسيح دمه، على أن يظل يدور في دوائر مفرغة لا طائل لها...
ربما سيؤلمها الآن قليلا، لكن هذا أفضل من أن تظل معشمة باحلام كاذبة لن تتحقق...
الا أنها لم تيأس، فهتفت بقوة.
(لا أحد يختار أبنائه، أنا ابنته و هذا ليس اختيار، يجب عليه أن يتقبلني)
أغمض قاصي عينيه يائسا وهو يضغط أعلى أنفه، ثم لم يلبث أن نظر اليها قائلا بهدوء
(اسمعي، لقد تكفل بك والدك و أمن لك حياة مرفهة تتمناها أي فتاة أخرى في مثل عمرك، و لديك أمك معك، فلماذا تتغاضين عن كل ذلك و تنظرين الى ما لا يمكن تحقيقه؟)
هتفت تيماء بقوة.
(أنا ابنته، و أريد أن أكون جزءا من عائلته، صدقني هو لا يريدني لأنه لا يعرفني، لو تعرف إلى جيدا فسيعجب بي، بل و سيصر على أخذي من أمي)
صمتت لحظة و هي تخفض عينيها الى أصابعها الصغيرة في حجرها، ثم تابعت بصوت اكثر خفوتا...
(أنا لم أنل الفرصة بعد كي استطيع اقناعه بنفسي، انه لا يترك لي رقم هاتف كي استطيع الإتصال به، لقد كان الوصول اليك أسهل من الوصول اليه، وجدت رقم هاتفك و عنوانك لدى أمي، بينما هو، لا شيء، يضع بيننا حواجز كي لا يراني، لأنه يعرف تماما أنه لو قابلني فسيقتنع بي، وهو لا يريد ذلك)
صمت قاصي وهو يتأملها طويلا، ثم قال بهدوء.
(لو اتصلت به الآن، سيجرحك جوابه، و قد تكون عواقب الإتصال سيئة، فقد يغضب و يعاقبك، فما هو رأيك؟، أمصممة على الإتصال به؟)
كانت تبادله النظر بقوة، دون أن تطرف عيناها، ثم قالت أخيرا
(نعم مصممة، أتصل به الآن)
ساد صمت مشحون بينهما و كلاهما ينظر لعين الآخر، قبل أن يقول قاصي أخيرا بفتور
(حسنا، لكن تذكري أنني قد حذرتك).
لم ترد تيماء على الفور، و كأن الرد قد خانها للمرة الأولى، فبقت مكانها تنظر اليه بصمت، و هو يبادلها النظر و كأنه يمنحها الفرصة الأخيرة، لكن حين لم تستغلها، نهض من مكانه ليلتقط هاتفه و طلب منه رقما، ووقف منتظرا أمامها، مخفض الرأس و شعره الكثيف يغطي وجهه، فيخفي عنها عينيه...
بينما كانت هذه الثواني الضئيلة مدمرة لتيماء و هي تنتظر مصير حياتها كما اعتقدت...
سرعان ما رفع قاصي رأسه وهو يرد قائلا.
(صباح الخير سيد سالم، نعم نعم بخير، آسف لأنني أهاتفك في مثل هذا الوقت، لكن)
صمت للحظة وهو ينظر الى تيماء من علو، ثم أضاف بجمود
(هناك وضع طارىء، ابنتك، لا. ، ليست مسك، بل تيماء، لقد عرفت الطريق الى بيتي و هي هنا الآن، تريد أن)
لم يستطع قاصي متابعة حواره، بل أبعد الهاتف عن أذنه وهو يغمض عينيه، بينما صوت رجولي خشن يندفع صادحا بقوة اخترقت المكان من حولهما.
ماذا؟، كيف وصلت اليك يا قاصي؟، لقد حذرتك، و كيف تخرج وحدها بل و تسافر بالحافلة أيضا دون رقيب؟، أحجز لها تذكرة حافلة أو قطار أيهما متوفر و أرجعها لأمها على الفور، لا تنقصني هذه المرأة بمشاكلها مجددا، و اصرف لهما مبلغا اضافيا إن كانا يحتاجان للمزيد، كان قاصي في هذه اللحظات لا يزال مغمضا عينيه وهو يعلم جيدا بأن صوت سالم قد وصل تيماء بوضوح، لكنه في الواقع لم يكن ليهتم، بل على العكس، يظن أن هذا أفضل لها...
لذا تابع قائلا
(ما فهمته أنها لا تحتاج لأي مال اضافي سيد سالم، انها فقط تحتاج الى فرصة في الوصول اليك و التحدث معك قليلا، تظن أنها تحتاجك)
شدد قاصدا على كلمة تظن، بطريقة مهينة نوعا ما...
الا أن سالم لم يلحظ نبرته، بل قاطعه قائلا بقوة.
اياك و أن تمنحها الرقم أو أي عنوان يا قاصي، فقد تأكد من وصولها لأمها و أنهي هذا الأمر سريعا و أحرص على الا تعيدها و الا عاقبتها كما لم افعل من قبل، أنذرها بذلك، رفع قاصي عينيه الى عيني تيماء التي كانت قابعة مكانها بصمت تبادله النظر، لم تبد ملامحها متغيرة
الا أن عيناها الفيروزيتين ابلغتاه بوضوح أنها قد سمعت كل كلمة هادرة، و الكبرياء بهما يرفض أن تظهر ذلك...
للحظات ظل النظر بينهما ممتدا، و كأن هناك حوارا طويلا بين أعينهما...
جعل قاصي ينهيه زافرا بقوة، شاتما همسا، فسمعه سالم و قال بقلق
ماذا قلت يا قاصي؟، ابتسم قاصي بسخرية و رد بتهذيب لا يظهر على ملامحه
(قلت أوامرك مجابة سيد سالم)
رد سالم قائلا بقوة و ارتياح
(جيد، اسمعني الآن جيدا، مسك على وشك الوصول الى المدينة، أريدك أن تنتظرها و تقلها الى حيث بطولة الفروسية، موعد وصولها بعد ساعتين، فلا تجعلها تنتظر).
أغلق قاصي الهاتف دون ان يجد نفسه قادرا على الرد بكلمة...
بل واقف مكانه، صلبا متجهما ويداه في خصره وهو ينظر الى تيماء التي انخفض رأسها بانكسار للمرة الأولى منذ أن دخلت الى هنا...
كانت عيناه تحترقان بنار وهجها قادر على احراق الهواء من حوله، و الغل يحرق صدره...
لقد ساعده سالم كثيرا و لا يستطيع انكار ذلك، ولولاه لربما انتهى الى نهاية سوداء لا قرار لها.
لكنه في تلك اللحظة يشعر به يكره كرها قريبا من الكره الذي يكنه لوالده...
عند هذه الكلمة تحولت عيناه الى جمرتين من الجحيم...
حين تكلم أخيرا، وجد نفسه يقول بصوت قاتم
(ماذا سأفعل بك الآن؟)
رفعت تيماء عينيها و قد بديتا فارغتين بشكل غريب، لكنها تكلمت بنفس هدوءها و بساطتها.
(هلا حجزت لي تذكرة في الحافلة كما طلب منك وا، والدي، لو كنت أمتلك المال الآن لأعطيتك ثمنها، لكن على ما يبدو أنني تأملت أكثر من اللازم، ووثقت في نفسي بدرجة تدعو للسخرية فتركت المال كله لأمي)
كان كلامها يفوق عمرها بالكثير، و هو لا يزال يراها لا تزيد عن العاشرة من عمرها
لذا كان هذا يجعله مرتبكا، غاضبا...
لا يعرف إن كان غاضبا منها أم من تهورها، ام من والدها و تصرفه النذل، ام ذكريات أشد سوادا تحيط به من كل اتجاه انبعثت بداخله فجأة...
اقترب منها ليعاود الجلوس أمامها، ثم قال بحنق و كأنه يحدث نفسه
(لا يمكنني السماح لك بالسفر بمفردك مجددا، كانت هذه مجازفة بالغة الحماقة من جانبك)
رفعت تيماء كتفيها بلا اهتمام حقيقي و هي تقول بفتور
(الأمر ليس خطير الى تلك الدرجة، مجرد ثلاث ساعات على الأكثر بالحافلة).
قال قاصي عابسا بشدة
(مستحيل)
رفعت حاجبيها و هي تقول
(ان كان والدي نفسه ليس قلقا، فلماذا تفعل أنت؟)
زم قاصي شفتيه وهو يقول بتذمر
(اعتبريني من النوع قديم الطراز).
نظر الى ساعة هاتفه، ثم زفر بقوة وهو يحادث نفسه
(لن يكفي الوقت كي أقلك و أعود خلال ساعتين بالتأكيد، اذن ما العمل؟)
رفع عينيه الصارمتين اليها و قال بشك آمرا
(لو تركتك هنا في البيت، هل تعدين بالجلوس مهذبة الى أن أعود اليك؟).
ارتفع حاجبي تيماء و هي تعطيه الجواب الصادق دون الحاجة للرد، فقال مغتاظا من بين أسنانه
(هذا ما توقعته تماما، تبا لك، أين ذهبت تربية الأطفال؟)
قالت تيماء بقسوة
(أنا لست طفلة)
الا انه قاطعها بفظاظة
(هلا أمددتني بسكوتك من فضلك!، يكفي ما فعلته حتى الآن)
رفع وجهه اليه و قال بعد تفكير عميق
(لا حل ثاني لدي، أنا سأدخل لأخذ حمام و اجهز نفسي ثم ننتظر الى أن يحين موعد خروجي، ستأتين معي).
ظلت تيماء جالسة مكانها، صامتة و هي ترفع عينيها الكبيرتين اليه...
فزفر مرة أخرى قبل ان يستدير مبتعدا عنها...
نظرت تيماء الى حيث ترك هاتفه مكانه على احدى الطاولات المرتفعة، فعضت على شفتيها بتوتر و طارت بعينيها الى حيث اختفى و ما أن سمعت صوت انغلاق الباب على ما يبدو أنه باب الحمام
نهضت من مكانها على الفور قافزة الى حيث هاتفه فالتقطته بأصابع مرتجفة...
و ما أن أضائت الشاشة حتى استدعت تلقائيا الرقم الأخير الذي اتصل به...
ظلت تنظر الى الرقم عدة لحظات قبل أن تضغط على زر الاتصال ثم رفعته ببطىء الى أذنها و قلبها الصغير يخفق بعنف و ترقب...
سرعان ما سمعت صوتا رجوليا خشنا يقول بصلابة و بلكنة لم يغيرها الزمن أو السفر المستمر
(ماذا هناك بعد يا قاصي؟، لم تأخذ وقتك بعد في حجز تذكرة لها، اسمع يا قاصي، اريد الانتهاء من هذه المشكلة في اسرع وقت).
كانت تيماء ترتجف بعنف، و عيناها متسعتان على أقصى اتساع، منبهرتين ووجنتيها حمراوين و شفتيها ترتعشان بابتسامة و كأنها مراهقة تتصل بحبيبها الأول...
ابتلعت ريقها حين سمعت صوت سالم الرافعي يقول بخشونة أكبر
(ما بالك صامتا يا قاصي؟)
استجمعت تيماء قواها الفتية و قالت بخفوت و بصوت ثابت
(هذه أنا يا أبي، تيماء)
سمعته يقول بصوت متباعد
(آآه يا الهي).
الا أنها قاطعته بسرعة و كأنها قد منحنت فرصة لعدة ثواني فقط كي تستطيع اقناعه بنفسها.
يهتف منفعلا و الهاتف على أذنه، بينما يدور في أنحاء شقته الصغيرة و يده في خصره...
يقف قليلا لترتفع أصابعه الى خصلات شعره، ثم يعاود الكلام بحدة
(ماذا تعني لم يقبل الفكرة؟، و من هو ليبدي رأيه من الأساس؟، لقد قدمناها للمدير، فمن هو ليكون الوسيط ويدرسها قبل أن تصل؟، تبا لذلك، إنه يريد رشوة، صدقني. أخبرتك من قبل).
زفر بقوة وهو يستمع الى الطرف الآخر بينما سنوات عمره التي لم تتعدى الأربع و العشرين لا تمنحه الفرصة كي يتعقل أو أن يأخذ الأمور بروية، الهدف أمام عينيه لا يصبر و لا يهدأ، و روحه المقيدة تريد التحرر من أسرها...
الطريق يسبقه و هو يركض خلفه لاهثا...
فتح فمه كي يتابع هتافه المنفعل الحانق الا أن صوت جرس الباب قاطعه قبل أن يبدأ ثورة جديدة...
فعقد حاجبيه و هو يقول متذمرا.
(انتظر لحظة، سأرى من بالباب ثم أعود اليك)
اتجه الى الباب حافي القدمين، يرتدي بنطال منامته المريح، عاري الصدر مشعث الشعر وهو يقضي يوم عطلته بأريحية، بينما حالته العصبية هي أبعد ما يكون عن الراحة...
يتسائل عن الشخص الثقيل الذي يهدد هدوء يومه المفترض، فتح الباب بقوة ليوجه السؤال بحدة فظة.
الا أن لسانه تلجم قليلا و انعقد حاجبيه قبل أن يرتفع احداهما وهو ينظر الى الفتاة التي وقفت أمامه رافعة وجهها اليه بهدوء دون أن ترمش بعينيها...
ليست فتاة تماما، بل هي طفلة في الواقع، لا تتجاوز العاشرة من عمرها، الحادية عشر ربما!
عيناها تلمعان بترفع هادىء عجيب، و ثقة تفوق طولها المتآكل...
شعرها الفارق من منتصف رأسها مقسوم الى ضفيرتين من قمة رأسها و و بالكاد تلامسان كتفيها...
ذكره لون شعرها بلون شجر الأرز، بني متنافر الدرجات بوضوح، بينما عيناها بلون البحر شديد الخضار حين يفقد كل درجات الأزرق به في لحظة معينة من اليوم...
تمالك نفسه وهو يهز رأسه قليلا كي يستوعب وجود تلك الطفلة على باب شقته في هذا الوقت صباحا...
فقال بصوت متمهل بطيء
(مرحبا، هل أخطأت العنوان؟)
رفعت ذقنها أكثر، ثم فتحت شفتيها الكرزيتين بلون شفاه الأطفال، و تكلمت بهدوء
(أليست هذه شقة قاصي الحكيم؟).
ارتفع حاجبيه معا الآن، الا أنه سيطر على تعجبه وهو يقول ببطىء شديد مراقبا ملامح وجهها الثابتة.
(نعم صحيح، أنا هو، هلا تشرفت بمعرفتك آنسة؟)
ردت مبتسمة ابتسامة دبلوماسية لا تستطيعها الكثير من شابات هذه الأيام
(أنا تمارا)
مط قاصي شفتيه وهو يومىء برأسه قليلا متسليا، ثم قال ببطىء أكبر
(حسناااااااا، مرحبا تمارا، سررت بالتعرف اليك، هلا أخبرتني بسبب زيارتك الكريمة؟)
تأملها مليا أثناء القاءه السؤال عليها...
تمتلك رزانة و ثقة بالنفس أثارت اعجابه خلال اللحظتين اللتين وقفت بهما أمامه...
عيناها كبيرتان و تحدقان بعينيه بجرأة دون أن تخفضهما بخجل...
فعادة شكله الخشن يرعب الأطفال ممن هم في مثل عمرها...
لكنها مختلفة!
قالت تمارا بتململ و هي تعدل من حزامي الحقيبة الثقيلة المعلقة على ظهرها كالحقائب المدرسية
(لقد جئت لرؤية أبي).
لعدة لحظات بدا و كأنه لم يسمعها جيدا، فلم تهتز عضلة في وجهه المتبلد، ثم لم يلبث أن ضحك عاليا وهو يمد جسمه للأمام ناظرا لأعلى و أسفل خارج الشقة قائلا بتسلية
(حسنا، مقلب من هذا؟، حسين أم شاكر؟)
لم ترد تمارا بل نظرت اليه بنظرة ممتعضة دون أن تغفل عن الإبتعاد عنه قليلا وهو يمد نفسه مقتربا منها باحثا عن المجهولين اللذين يدبرون له المقلب في مثل هذا الوقت صباحا من يوم العطلة...
كانت ضحكته قد خفتت وهو يجد السلم ساكنا تماما، بينما وقفت تنتظره و هي عاقدة ذراعيها على صدرها...
فالتفت قاصي اليها رافعا احدى حاجبيه وهو يقول بغلظة
(حسنا يا صغيرة، انتهى وقت المرح و آن لك الآن أن تخبريني عن هويتك الحقيقية، فأنا لست في مزاج يسمح لي بعبث الأطفال هذا، من أنت و أي سمج ألقى بك على بابي في مثل هذه الساعة!)
رفعت تمارا وجهها و هي تقول بغرور زائد.
(لو علم أبي أنك تكلمني بتلك الطريقة لطردك من عملك، لذا احترم نفسك قبل أن أتصل به، لأنني سأفعل حالا ما أن تدعني أدخل الى هذا الجحر فقد تعبت من حمل الحقيبة!)
كان قاصي ينظر اليها مذهولا من وقاحتها التي لم يشهد لها مثيل من فتاة في مثل عمرها...
فانتفخ صدره وهو يوشك على أن ينفخ بها فيلقي بها من على السلالم...
الا أنه تمسك بآخر درجات صبره وهو يقول هازئا
(الجيد في الأمر هو أنني لست أباك اذن).
ارتفع حاجبيها باستنكار و هي تقول ممتعضة
(و كيف لصبي مثلك أن يكون والدا لفتاة في مثل عمري؟، هل أنت أحمق تماما تماما!)
فغر قاصي شفتيه وهو ينحني ليقول بذهول ساخر
(السماح منك يا صاحبة العقل الديناميكي، عذرا لسيادتك)
زفرت تمارا للمرة الأولى في بادرة لفقدان هدوءها الواضح، ثم قالت بتعب
(هلا ادخلتني الآن، الطريق من المحطة الى هنا كان طويلا جدا، وأبي سيكون شاكرا لإهتمامك بي الى أن يأتي و يصطحبني).
قال قاصي بهدوء و جدية
(من هو اباك اذن؟)
نظرت تمارا اليه بشك قبل أن تقول بحنق
(من سيكون؟، سالم الرفاعي)
تسمر قاصي مكانه وهو ينظر اليها بصدمة، قبل أن يعقد حاجبيه ليقول بخفوت
(ليست لسالم سوى، ابنتين، مسك و)
رفعت تمارا وجهها و هي تنظر اليه مبتسمة ابتسامة عريضة مزيفة
(تمارا)
ثم لم تلبث أن رمت الإبتسامة جانبا و هي تقول بحدة و انفعال.
(هلا أدخلتني و تكرمت بإظهار بعض الشهامة من فضلك في معاملة امرأة تحمل حقيبة ثقيلة!).
انعقد حاجبيه اكثر وهو يقول مستنكرا
(امرأة!، أنت امرأة!، بينما أنا صبي؟)
قالت من بين اسنانها
(امرأة رغم عن أنفك)
كانت تختبر صبره حقا، لكنه ودون أن يضيع المزيد من الوقت، عاد لينظر لأعلى و أسفل، خوفا من أن يفتح أحد الجيران باب شقته و يشهد تلك المصيبة التي سقطت على بابه صباحا.
ثم دون مقدمات امسك بالحقيبة المعلقة على ظهرها و رفعها لأعلى دون ان تنزعها عن كتفيها و جرها للداخل و هي تهتف متذمرة ان يحررها...
الا انه صفق الباب خلفهما دون ان يتركها، بينما هي تهتف منتزعة الحقيبة من قبضته
(اتركني ايها البغيض، ماذا تظن نفسك فاعلا؟)
استند قاصي الى الباب و عقد ذراعيه على صدره وهو يراقبها باهتمام، قبل ان يقول بهدوء
(كنت احاول اظهار بعض (الشهامة) لسيادتك، بحمل حقيبتك الثقيلة).
عدلت تمارا قميصها نفضا بغضب و قد احمر وجهها بجنون و هي تهتف
(تحمل الحقيبة فقط، ليست الحقيبة و انا معلقة بها!)
لم يرد قاصي على الفور، بل ظل يراقبها طويلا و الحق يقال انه قد بدأ يشعر بالتسلية فعلا رغم خطورة الموقف الكارثي الذي وضعت نفسها به...
كانت عفريتة صغيرة، حمراء الوجه من الغضب و ذات كبرياء و نضج يفوق عمرها...
لكنه اجبر نفسه على الكلام أخيرا بهدوء وهو يراها تخلع الحقيبة عن ظهرها اخيرا لتضعها ارضا و هي تحاول تسوية كتفيها بتعب
(مبدئيا و اعذريني في التطفل، اليس اسمك هو (تيماء)؟)
رفعت وجهها اليه و هي تقول بفظاظة
(بل تمارا)
رد قاصي بهدوء مستفز دون ان يتحرك من مكانه...
(أممممممم بل تيماء، فأنا من أنجز لك العديد من الأوراق الرسمية قبل أن أتشرف برؤية سيادتك، فلا تحاولي الانكار).
مطت شفتيها و هي تشيح بوجهها عنه قائلة بغيظ
(هذا الاسم من اختيار ابي، لا توجد فتاة واحدة أعرفها و اسمها تيماء
لا أحب أن يفرض أحد على اسمي حتى أن جميع صديقاتي بتن يعرفونني باسم تمارا)
وجدها قاصي تتحرك باريحية في الشقة و كأنه بيتها، قبل ان ترتمي جالسة على الاريكة متنهدة بتعب، فأرجعت رأسها للخلف مغمضة عينيها و هي تحك جبهتها قليلا...
رغم قوتها التي تحاول جاهدة اظهارها بشكل مبالغ فيه، الا ان الهشاشة بدت واضحة المعالم عليها، و الهالات الزرقاء تظلل عينيها، فهي مجرد طفلة رغم كل شيء و لا يعرف حتى الان كيف استطاعت السفر من مدينتها الساحلية الى هنا؟
مجرد طفلة!
لحظة واحدة، إن كانت هذه هي تيماء سالم البدري، و بما أنه قد أنهى لها بعض الأوراق مؤخرا في مدرستها، فهي...
عقد حاجبيه وهو يسألها فجأة بارتياب
(كم عمرك بالضبط؟).
فتحت عينيها بإرهاق و هي تنظر اليه بعدم اهتمام، ثم قالت بملل ما كان يفكر به للتو...
(ما دمت أنت البطل قاصي الحكيم الخفي و الذي ينهي لنا الكثير مما نريده في الخفاء، فمن المؤكد أنك تعرف عمري)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول بشك
(من المفترض أن تلتحقي بالصف الأول الثانوي العام المقبل، اليس كذلك؟)
مطت شفتيها بملل أكثر و هي تقول بعدم اهتمام.
(نعم، و هذا يجعلني على أعتاب الخامسة عشر، تستطيع القول أنه يفصلني عن الخامسة عشر تسعة أشهر و أسبوعين، و أربعة أيام تحديدا)
ارتفع حاجباه الآن وهو يقول بصدمة
(شكلك لا يوحي بأنك تزيدين عن العاشرة!)
ضحكت بسخرية و هي تقول
(حسنا هذه أكثر المبالغات سماجة في الواقع، هل أنت قصير النظر؟)
شعر بالغضب و نفاذ الصبر منها فقال باستهزاء واضح...
(هذا على أساس أن سن الرابعة عشر يشكل فارقا ضخما!، أنت لا تزالين طفلة، و مزعجة للغاية، ذلك النوع من الأطفال الذي يرغب والديه في إغراقه حيا)
شعر بحدقتي عينيها تبرقان بغضب اكبر، الا أنهما اهتزتا للحظة، و كم شعر حينها بالرغبة في لكم نفسه لتلك العبارة الغبية التي لم يكن لها داع...
فتحت تمارا فمها و كأنها سترد له الإهانة بأفظع منها، الا انها اثارت دهشته حين قالت بهدوء و ترفع.
(هلا أسرعت اذن باراحة نفسك من ازعاجي و هاتفت والدي الآن كي يأتي لإصطحابي)
أغمض قاصي عينيه للحظة وهو يضغط أعلى أنفه بعصبية متسائلا عن تلك الكارثة و كيفية التعامل معها...
ثم لم يلبث أن فتح عينيه وهو يمد يديه قائلا
(مهلا لحظة، الأمر ليس بهذه السهولة، علينا التحدث أولا).
اقترب منها ليجلس على المقعد المجاور لها، و اخذ عدة لحظات و هو يعاود تأملها، بدئا من حلتها ذات القطعة الواحدة من الجينز و التي ساهمت بشكل كبير في جعلها تبدو و كأنها لا تتعدى سن العاشرة، بخلاف طولها الأقرب للقزمية، هذا دون ذكر الضفيرتين القصيرتين!، و تلك الخصلات اللولبية العصية حول وجهها الوردي...
نعم وجهها وردي للغاية، تبا لذلك انها طفلة جدا، كيف وصلت الى هنا؟
أخذ نفسا غاضبا عميقا، بينما سبقته تمارا للقول
(هل ستجلس أمامي عاري الصدر هكذا!، الا قميص لديك لترتديه و أنت تستقبل ضيوف بيتك؟)
تسمر مكانه وهو يخفض نظره الى صدره العاري بالفعل، فانتفض واقفا و قد احمر وجهه رغم عنه...
رفع أصابعه الى خصلات شعره الطويلة يبعدها عن وجهه وهو يقول بخشونة صارمة
(ربما لو تفضل الضيوف الكرام بأخذ موعدا قبلا، لكنت قد تدبرت الأمر. ابقي هنا. دقيقة و أعود اليك).
تحرك في اتجاه احد الغرف، الا أنه توقف للحظة و استدار اليها قائلا بصرامة مجددا
(لا تتحركي من مكانك)
نظرت تمارا حولها، ثم اعادت عينيها اليه و قالت بامتعاض هادىء
(ليس هناك الكثير لأبحث عنه على ما يبدو)
رمقها قاصي مرة أخيرة، قبل أن يستدير على عقبيه شاتما بهمس غاضب، و ما أن صفق باب غرفته بقوة متعمدا أن تسمعه، حتى استند اليه و هو يكتف ذراعيه المفتولتين حول صدره القوي...
وجود هذه الطفلة هنا كارثة بكل المقاييس، كيف التصرف الآن؟
يشك في أن يفلح بإقناعها بالعدول عن قرارها و الرجوع بأدب الى والدتها، فهي تبدو كالعلقة صعبة المراس...
تحرك من مكانه متذمرا لينتزع قميصا قطنيا رياضيا، دسه في رأسه بعنف، مما أدى الى تشعث شعره أكثر...
ثم توقف لحظة أمام الباب، ليأخذ نفسا عميقا مصمما قبل أن يخرج، اليها...
كانت تيماء جالسة على الأريكة مكانها كما تركها، الا انه توقف مصدوما حين وجد على المائدة أمامها
طبقا يحتوى على عدة انواع من الأجبان، و قطعة خبز يابسة تأكلها بلا تذمر!
فغر قاصي شفتيه قليلا وهو يتأكد مما يراه بالفعل...
و ما أن وجد صوته حتى قال بصوت جاف
(هذا الخبز مر على وجوده هنا ثلاث أيام)
ردت تيماء بلامبالاة و هي تمضغ الطعام بصعوبة...
(هذا ما اكتشفته للتو، يمكنك دق المسامير بواسطته، لكن الجوع يجبر الإنسان على تناول أي شيء)
كتف قاصي ذراعيه وهو يقول بجمود
(و ماذا تعرفين عن الجوع يا ابنة سالم الرفاعي؟)
هزت كتفها و قالت ببساطة و هي تضع شريحة جبن كاملة في فمها
(أعرف أنني جائعة الآن بما يكفي لآكل هذا الجبن منتهى الصلاحية).
انتفض قاصي من مكانه بسرعة وهو يهجم على علبة الجبن ينتزعها منها وهو ينظر الى تاريخ الصلاحية، و هاله فعلا أن يجده قد انتهى من يومين...
فرماها بعيدا وهو يهتف بقلق
(ابصقي هذا الطعام فورا)
الا أنها رفعت عينيها الجميلتين اليه و هي تكمل مضغ الطعام ببساطة، ثم قالت بهدوء
(لا تقلق، الطعام لا يتحول الى سام ما ان ينقضي تاريخ الصلاحية، امنحه أسبوعين آخرين و قد يتسمم).
رفع قاصي يده الى جبهته وهو ينظر اليها مذهولا هاتفا
(يالهي، من أين وقعت على تلك المصيبة!)
الا أنها لم تهتم لهتافه الحانق و قضمت قطعة أخرى من الخبز اليابس، و قالت في أثناء ذلك ببساطة
(لن يطول الوقت قبل أن أختفي من حياتك المبعثرة، فقط الى أن يأتي والدي ليصطحبني)
اخذ قاصي نفسا آخر، ثم أغمض عينيه لعدة لحظات، قبل أن يعد للعشرة محاولا تهدئة نفسه...
ثم جلس برفق على الكرسي المقابل لها، مستندا بمرفقيه الى ركبتيه وهو يميل الى الأمام ناحيتتها...
يتأملها طويلا، فبادلته النظر بتلقائية...
للحظات كان عليه الإعتراف ان عينيها هما اجمل عيني طفلة شاهدهما...
لقد سمع كثيرا عن العيون الفيروزية اللون، الا أنه لم يقابل أحداها في الواقع، فحيث نشأ تعد هذه الأعين طفرة نادرة الحدوث...
لذلك كان النظر الى عينيه يعد كالنظر الى بحر بعيد عنه، بعيد تماما...
لم يتآلف يوما مع الأطفال، و لن يبدأ في هذا الآن لمجرد أنها طفلة ذات عينين فيروزيتي اللون، حمراء الوجنتين...
رفع ذقنه و نفخ صدره بنفس صارم، ثم قال بلطف
(تيماء)
الا أنها قاطعته ببساطة مصححة
(تمارا)
لكنه تجاهلها متعمدا و هو يشدد على حروف اسمها.
(تيمااااااااء، اسمعيني جيدا يا صغيرة، لقد اتفق والدك مع والدتك على أن تبقين معها بعد انفصالهما، فكيف تتهورين و تتصرفين بتلك الرعونة، هل لك أن تتخيلي حالة القلق التي ستنتابها الآن ما أن تكتشف غيابك!)
قالت تيماء بهدوء و هي تمضغ الخبز اليابس مصدرة صوتا عاليا في تكسيره
(نعم متخيلة تماما، امي لا تستيقظ قبل الظهيرة، لذا هي الآن في سابع نومة)
انعقد حاجبيه بحنق، لكنه لم ييأس، بل تابع بصلابة أكبر.
(أيا يكن، لا يمكنك أن تتصرفي بهذا الشكل المتهور من تلقاء نفسك، كان يمكنك التعرض الكثير من الخاطر في الطريق، كيف سمحوا لك بقطع تذكرة حافلة سفر؟، هذه جريمة!)
قالت تيماء بخفوت و عيناها تلمعان بالتحدي
(أنا لن أضر نفسي أبدا، لو كان شيئا لا أستطيعه لما أقدمت عليه)
تأفف قاصي بصوت عال وهو يحك شعره بنفاذ صبر، و كانت تيماء تتأمله طويلا ثم قالت فجأة
(لماذا شعرك طويلا بهذا الشكل كالفتيات؟، لماذا لا تقصه؟).
انتفض ناظرا اليها و هدر بها فجأة
(كنت صبي، و الآن أشبه الفتيات؟، أتعلمين لو أحد غيرك في موقعك هذا لما سلم من قبضتي ابدا، فاشكري حظك و اسم والدك)
لم تهتز عضلة في وجهها دليلا على الخوف منه كما كان يتمنى، بل ظلت تراقبه بصمت، فقال مستخدما اسلوبا آخر من المؤكد أنه سيكون أكثر فاعلية مع الفتيات
(ثم لماذا يغيظك شعري؟، الأنه ناعم؟، بعكس شعرك الذي يشبه أسلاك النحاس؟).
أظلمت عيناها، و تحول لونهما الى القاتم فجأة...
فرجع قاصي الى ظهر مقعده متفاخرا واضعا ساقا فوق الأخرى قائلا بداخله
نلت منك، رفعت تيماء احدى حاجبيها و هي تقول ببرود
(الرجل ليس بشعره)
رفع قاصي نفس الحاجب وهو يرد عليها متحديا
(لكن من المؤكد أن الفتاة كذلك)
ظلت صامتة عدة لحظات ثم قالت أخيرا
(هذه نظرة سطحية جدا للفتيات)
كان دوره في أن تظلم عيناه وهو يزفر نفسا حانقا من انفه، ثم قال أخيرا بصرامة.
(ما علينا من هذا الحوار، فلنعد الى موضوعنا)
الا أنها قاطعته قائلة باهتمام
(ما سبب الجروح الموجودة على صدرك و ذراعيك؟)
ارتفع حاجبيه متفاجئا، انها طفلة غريبة ذات عينين ثاقبتي النظر، على عكس المقولة التي تدعي أن أصاحب الأعين الملونة ضعاف النظر عادة...
لكنه أجابها بهدوء
(انا أروض خيول)
برقت عيناها باهتمام و قالت
(حقا؟، أين هي تلك الخيول؟)
رد عليها قاصي بخفوت.
(ليست هنا بل في البلدة، على بعد مئات الكيلومترات من هنا)
قالت بحماس
(بلدة أبي أليس كذلك؟، هل أنت من نفس البلدة؟)
تلبدت ملامحه قليلا، و شعرت بأنه قد بأكثر مما يريد، لكنه بعد عدة لحظات غمغم بإيجاز
(نعم)
ابتسمت للمرة الأولى منذ أن التقته، و هاله مدى جمال الغمازتين على وجنتيها الحمراوين و هي تقول
(نحن بلديات اذن)
وجد نفسه ينطق شاردا رغم عنه، و كأن لسان يتحدث دون اذن منه بخفوت شديد
(نعم، نحن كذلك).
ظل ينظر اليها قليلا دون حتى أن يبتسم، و كأنه يجد وجهها مادة مثيرة للإهتمام، آسرة للأعين...
و بعد فترة تنحنح قائلا بخشونة
(هلا تركت هذا الخبز اليابس من فضلك، سأطلب لك طعاما لائقا)
ابتسمت تيماء و قالت بهدوء
(لا شكرا، لا أريد أن أكلفك شيئا)
ابتسم هو الآن رغم عنه، ثم قال بخفوت.
(ستكلفينني أكثر مما تتخيلين لو لن تعودي لأمك في التو اللحظة، سأحضر لك ما تأكلينه ثم أقلك بنفسي، على الرغم من أن الذهاب الى مدينتك و العودة منها سيقضي على يوم عطلتي بأكمله)
استقامت في جلستها فجأة و برقت عيناها برفض صارم و هي تهتف
(أنت لم تفهمني على ما يبدو، أنا لن أعود الى أمي، أنا ذاهبة لأبي و سأبقى معه)
أسقط قاصي رأسه للخلف متنهدا بقسوة و يأس، قبل أن يرفع رأسه مجددا وهو يقول بغلظة و حدة.
(بالله عليك متى كانت آخر مرة رأيت بها والدك؟)
ظلت تجابه عينيه دون أن تحيد عنهما أو أن تتردد، لكنها قالت ببرود
(رأيته مرتين، آخرهما كانت منذ أربع سنوات)
تنهد قاصي مجددا وهو يقول بلهجة ذات مغزى علها تفهم
(رأيته مرتين، مرتين خلال اربعة عشر عاما، ما الذي يجعلك تظنينه أنه قد يقبل بتغيير الأمور الآن؟).
ظلت تيماء تنظر اليه بصمت، لكن لم يفته نظرة الألم بعينيها، لكنها نجحت في اخفائها بسرعة و مهارة بتحدي الأطفال المتمرد الرافض للخضوع، لذا قالت بقوة
(كان الأمر مختلفا قديما، هوا لم يحظى بالفرصة للتعرف الي، أنا واثقة أنه لو قابلني فسأستطيع اقناعه بشخصي، أنا كبرت و أصبحت أنضج من عمري أيضا، كما أنني متفوقة جدا في دراستي و رياضية كذلك، أي أنني أصبحت مثال للإبنة التي قد يتمناها).
رد قاصي قبل أن يستطيع أن يمنع نفسه
(لديه بالفعل ابنة تحمل كل هذه المواصفات و اقد اختارها هي، فلما سيحتاج الأخرى طالما افترقت بكما الطرق؟)
كان فظا، قاسيا، لا يعرف معنى المداهنة في الكلام...
لقد اعتاد طوال عمره أن يقطع عرقا فيسيح دمه، على أن يظل يدور في دوائر مفرغة لا طائل لها...
ربما سيؤلمها الآن قليلا، لكن هذا أفضل من أن تظل معشمة باحلام كاذبة لن تتحقق...
الا أنها لم تيأس، فهتفت بقوة.
(لا أحد يختار أبنائه، أنا ابنته و هذا ليس اختيار، يجب عليه أن يتقبلني)
أغمض قاصي عينيه يائسا وهو يضغط أعلى أنفه، ثم لم يلبث أن نظر اليها قائلا بهدوء
(اسمعي، لقد تكفل بك والدك و أمن لك حياة مرفهة تتمناها أي فتاة أخرى في مثل عمرك، و لديك أمك معك، فلماذا تتغاضين عن كل ذلك و تنظرين الى ما لا يمكن تحقيقه؟)
هتفت تيماء بقوة.
(أنا ابنته، و أريد أن أكون جزءا من عائلته، صدقني هو لا يريدني لأنه لا يعرفني، لو تعرف إلى جيدا فسيعجب بي، بل و سيصر على أخذي من أمي)
صمتت لحظة و هي تخفض عينيها الى أصابعها الصغيرة في حجرها، ثم تابعت بصوت اكثر خفوتا...
(أنا لم أنل الفرصة بعد كي استطيع اقناعه بنفسي، انه لا يترك لي رقم هاتف كي استطيع الإتصال به، لقد كان الوصول اليك أسهل من الوصول اليه، وجدت رقم هاتفك و عنوانك لدى أمي، بينما هو، لا شيء، يضع بيننا حواجز كي لا يراني، لأنه يعرف تماما أنه لو قابلني فسيقتنع بي، وهو لا يريد ذلك)
صمت قاصي وهو يتأملها طويلا، ثم قال بهدوء.
(لو اتصلت به الآن، سيجرحك جوابه، و قد تكون عواقب الإتصال سيئة، فقد يغضب و يعاقبك، فما هو رأيك؟، أمصممة على الإتصال به؟)
كانت تبادله النظر بقوة، دون أن تطرف عيناها، ثم قالت أخيرا
(نعم مصممة، أتصل به الآن)
ساد صمت مشحون بينهما و كلاهما ينظر لعين الآخر، قبل أن يقول قاصي أخيرا بفتور
(حسنا، لكن تذكري أنني قد حذرتك).
لم ترد تيماء على الفور، و كأن الرد قد خانها للمرة الأولى، فبقت مكانها تنظر اليه بصمت، و هو يبادلها النظر و كأنه يمنحها الفرصة الأخيرة، لكن حين لم تستغلها، نهض من مكانه ليلتقط هاتفه و طلب منه رقما، ووقف منتظرا أمامها، مخفض الرأس و شعره الكثيف يغطي وجهه، فيخفي عنها عينيه...
بينما كانت هذه الثواني الضئيلة مدمرة لتيماء و هي تنتظر مصير حياتها كما اعتقدت...
سرعان ما رفع قاصي رأسه وهو يرد قائلا.
(صباح الخير سيد سالم، نعم نعم بخير، آسف لأنني أهاتفك في مثل هذا الوقت، لكن)
صمت للحظة وهو ينظر الى تيماء من علو، ثم أضاف بجمود
(هناك وضع طارىء، ابنتك، لا. ، ليست مسك، بل تيماء، لقد عرفت الطريق الى بيتي و هي هنا الآن، تريد أن)
لم يستطع قاصي متابعة حواره، بل أبعد الهاتف عن أذنه وهو يغمض عينيه، بينما صوت رجولي خشن يندفع صادحا بقوة اخترقت المكان من حولهما.
ماذا؟، كيف وصلت اليك يا قاصي؟، لقد حذرتك، و كيف تخرج وحدها بل و تسافر بالحافلة أيضا دون رقيب؟، أحجز لها تذكرة حافلة أو قطار أيهما متوفر و أرجعها لأمها على الفور، لا تنقصني هذه المرأة بمشاكلها مجددا، و اصرف لهما مبلغا اضافيا إن كانا يحتاجان للمزيد، كان قاصي في هذه اللحظات لا يزال مغمضا عينيه وهو يعلم جيدا بأن صوت سالم قد وصل تيماء بوضوح، لكنه في الواقع لم يكن ليهتم، بل على العكس، يظن أن هذا أفضل لها...
لذا تابع قائلا
(ما فهمته أنها لا تحتاج لأي مال اضافي سيد سالم، انها فقط تحتاج الى فرصة في الوصول اليك و التحدث معك قليلا، تظن أنها تحتاجك)
شدد قاصدا على كلمة تظن، بطريقة مهينة نوعا ما...
الا أن سالم لم يلحظ نبرته، بل قاطعه قائلا بقوة.
اياك و أن تمنحها الرقم أو أي عنوان يا قاصي، فقد تأكد من وصولها لأمها و أنهي هذا الأمر سريعا و أحرص على الا تعيدها و الا عاقبتها كما لم افعل من قبل، أنذرها بذلك، رفع قاصي عينيه الى عيني تيماء التي كانت قابعة مكانها بصمت تبادله النظر، لم تبد ملامحها متغيرة
الا أن عيناها الفيروزيتين ابلغتاه بوضوح أنها قد سمعت كل كلمة هادرة، و الكبرياء بهما يرفض أن تظهر ذلك...
للحظات ظل النظر بينهما ممتدا، و كأن هناك حوارا طويلا بين أعينهما...
جعل قاصي ينهيه زافرا بقوة، شاتما همسا، فسمعه سالم و قال بقلق
ماذا قلت يا قاصي؟، ابتسم قاصي بسخرية و رد بتهذيب لا يظهر على ملامحه
(قلت أوامرك مجابة سيد سالم)
رد سالم قائلا بقوة و ارتياح
(جيد، اسمعني الآن جيدا، مسك على وشك الوصول الى المدينة، أريدك أن تنتظرها و تقلها الى حيث بطولة الفروسية، موعد وصولها بعد ساعتين، فلا تجعلها تنتظر).
أغلق قاصي الهاتف دون ان يجد نفسه قادرا على الرد بكلمة...
بل واقف مكانه، صلبا متجهما ويداه في خصره وهو ينظر الى تيماء التي انخفض رأسها بانكسار للمرة الأولى منذ أن دخلت الى هنا...
كانت عيناه تحترقان بنار وهجها قادر على احراق الهواء من حوله، و الغل يحرق صدره...
لقد ساعده سالم كثيرا و لا يستطيع انكار ذلك، ولولاه لربما انتهى الى نهاية سوداء لا قرار لها.
لكنه في تلك اللحظة يشعر به يكره كرها قريبا من الكره الذي يكنه لوالده...
عند هذه الكلمة تحولت عيناه الى جمرتين من الجحيم...
حين تكلم أخيرا، وجد نفسه يقول بصوت قاتم
(ماذا سأفعل بك الآن؟)
رفعت تيماء عينيها و قد بديتا فارغتين بشكل غريب، لكنها تكلمت بنفس هدوءها و بساطتها.
(هلا حجزت لي تذكرة في الحافلة كما طلب منك وا، والدي، لو كنت أمتلك المال الآن لأعطيتك ثمنها، لكن على ما يبدو أنني تأملت أكثر من اللازم، ووثقت في نفسي بدرجة تدعو للسخرية فتركت المال كله لأمي)
كان كلامها يفوق عمرها بالكثير، و هو لا يزال يراها لا تزيد عن العاشرة من عمرها
لذا كان هذا يجعله مرتبكا، غاضبا...
لا يعرف إن كان غاضبا منها أم من تهورها، ام من والدها و تصرفه النذل، ام ذكريات أشد سوادا تحيط به من كل اتجاه انبعثت بداخله فجأة...
اقترب منها ليعاود الجلوس أمامها، ثم قال بحنق و كأنه يحدث نفسه
(لا يمكنني السماح لك بالسفر بمفردك مجددا، كانت هذه مجازفة بالغة الحماقة من جانبك)
رفعت تيماء كتفيها بلا اهتمام حقيقي و هي تقول بفتور
(الأمر ليس خطير الى تلك الدرجة، مجرد ثلاث ساعات على الأكثر بالحافلة).
قال قاصي عابسا بشدة
(مستحيل)
رفعت حاجبيها و هي تقول
(ان كان والدي نفسه ليس قلقا، فلماذا تفعل أنت؟)
زم قاصي شفتيه وهو يقول بتذمر
(اعتبريني من النوع قديم الطراز).
نظر الى ساعة هاتفه، ثم زفر بقوة وهو يحادث نفسه
(لن يكفي الوقت كي أقلك و أعود خلال ساعتين بالتأكيد، اذن ما العمل؟)
رفع عينيه الصارمتين اليها و قال بشك آمرا
(لو تركتك هنا في البيت، هل تعدين بالجلوس مهذبة الى أن أعود اليك؟).
ارتفع حاجبي تيماء و هي تعطيه الجواب الصادق دون الحاجة للرد، فقال مغتاظا من بين أسنانه
(هذا ما توقعته تماما، تبا لك، أين ذهبت تربية الأطفال؟)
قالت تيماء بقسوة
(أنا لست طفلة)
الا انه قاطعها بفظاظة
(هلا أمددتني بسكوتك من فضلك!، يكفي ما فعلته حتى الآن)
رفع وجهه اليه و قال بعد تفكير عميق
(لا حل ثاني لدي، أنا سأدخل لأخذ حمام و اجهز نفسي ثم ننتظر الى أن يحين موعد خروجي، ستأتين معي).
ظلت تيماء جالسة مكانها، صامتة و هي ترفع عينيها الكبيرتين اليه...
فزفر مرة أخرى قبل ان يستدير مبتعدا عنها...
نظرت تيماء الى حيث ترك هاتفه مكانه على احدى الطاولات المرتفعة، فعضت على شفتيها بتوتر و طارت بعينيها الى حيث اختفى و ما أن سمعت صوت انغلاق الباب على ما يبدو أنه باب الحمام
نهضت من مكانها على الفور قافزة الى حيث هاتفه فالتقطته بأصابع مرتجفة...
و ما أن أضائت الشاشة حتى استدعت تلقائيا الرقم الأخير الذي اتصل به...
ظلت تنظر الى الرقم عدة لحظات قبل أن تضغط على زر الاتصال ثم رفعته ببطىء الى أذنها و قلبها الصغير يخفق بعنف و ترقب...
سرعان ما سمعت صوتا رجوليا خشنا يقول بصلابة و بلكنة لم يغيرها الزمن أو السفر المستمر
(ماذا هناك بعد يا قاصي؟، لم تأخذ وقتك بعد في حجز تذكرة لها، اسمع يا قاصي، اريد الانتهاء من هذه المشكلة في اسرع وقت).
كانت تيماء ترتجف بعنف، و عيناها متسعتان على أقصى اتساع، منبهرتين ووجنتيها حمراوين و شفتيها ترتعشان بابتسامة و كأنها مراهقة تتصل بحبيبها الأول...
ابتلعت ريقها حين سمعت صوت سالم الرافعي يقول بخشونة أكبر
(ما بالك صامتا يا قاصي؟)
استجمعت تيماء قواها الفتية و قالت بخفوت و بصوت ثابت
(هذه أنا يا أبي، تيماء)
سمعته يقول بصوت متباعد
(آآه يا الهي).
الا أنها قاطعته بسرعة و كأنها قد منحنت فرصة لعدة ثواني فقط كي تستطيع اقناعه بنفسها.