رواية شبح حياتي الفصل التاسع 9 بقلم نورهان محسن
الفصل التاسع شبح حياتي
اللسان مجرم مسجون خلف الأسنان ، إن أفرجت عنه عند الغضب رماك في زنزانة الندم تحت حكم الضمير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سمعت أصواتا غريبة من حولها ، لكنها لم تفهم منهم شيئا ، ثم بعد لحظات فتحت عينيها المتشربة بلون الشمس ببطء وحذر بسبب الضوء القوي في عينيها حتى تعتاد على أشعة الشمس الساطعة فوقها.
نهضت متكئة على مرفقيها ، تدير رأسها وتنظر إلى اليسار واليمين حتى تستكشف هذا المكان الغير مألوف من حولها ، لتجد نفسها كانت مستلقية على العشب الأخضر في أرض مستوية كبيرة ، ولا يوجد فيها مخلوق أخر سواها.
قالت بخفوت ، بينما علامات الاستفهام تحوم فوق رأسها : انا بعمل ايه هنا..!!
اتسعت عيناها في دهشة عندما لم يستطع عقلها ترجمة ما تراه ، ثم تمتمت ببلاهة ، وهي تنهض ببطء من الأرض : اكنش موت و روحت الجنة
: حياة
استدارت بسرعة عندما سمعت ذلك الصوت المحفور في ذاكرتها إلى الأبد ، واتسعت مقل عينيها النرجسية في عدم تصديق ، وتلعثمت من المفاجأة : ب بابا!!
ظهرت ابتسامة عريضة على ذلك الوجه البشوش محدقا بها بشوق ، قائلا بنبرة مليئة بالحنان : عاملة ايه يا حبيبتي!! طمنيني عليكي..
رمشت عينها عدة مرات ، حتى أدركت أنه لا يوجد أحد أمامها إلا والدها الحبيب ، وسرعان ما ملأت الدموع عينيها قبل أن ترد عليه بلهفة مقتربة منه : انا كويسة انت وحشتني اوي يا بابا
أردفت حياة بنوع من الحيرة بعد بضع ثوان من الصمت : بابا احنا فين هو انا موت و جيتلك الجنة!!
هز رأسه سلبا ، ثم قال بجدية : لا يا حياة انتي لسه عايشة وانا اللي جيت اقولك الحقيه
جعدت حاجبيها بعدم إستيعاب قبل أن تسأل : مش فاهمه قصدك مين يا بابا!!
وضع يده على ظهرها ودفعها برفق حتى تمشي معه ، متحدثاً بهدوء : حياة .. مش فاكرة لما كنتي دايما تسأليني انا ليه مختلفة عن باقي الناس
أومأت حياة بالإيجاب دون أن تنبس ببنت شفة.
أستأنف قولا بإبتسامة صغيرة : فاكرة كنت برد اقولك ايه؟ دي خلقة ربنا ليكي وعمر ابدا ما ربنا ماخلق حاجة وحشة .. وكل حاجة دايما ليها سبب يا حياة حتي لو ماكناش نعرفه بس السبب دايما موجود
ابتسمت له حياة ، وهي تخفض بصرها إلى الأرض ، وهم يمشون ، ثم همست بخفوت : ونعم بالله..
توقف والدها فجأة عن المشي وهو يلتفت إليها ، ثم مد أطراف أصابعه برفق ، ورفع وجهها لتنظر إليه ، ليكرر كلماته بإصرار أكثر : المرة دي انا جاي اقولك نفس الكلام وافكرك بيه .. مافيش حاجة مالهاش سبب حتي لو مانعرفوش
حدقت به لبرهة دون أن تجيب قبل أن تشيح بنظرتها عنه بفكر مشوش بادياً على ملامحها ، لكنه قطع حبل أفكارها حين هتف بجدية : هي دي مهمتك يا حياة افتكري انك جيتي الدنيا عشانه و لازم تساعديه يا بنتي .. يمكن تتعبي شوية بس مفيش مستحيل ولا صعب هيحوشك ان شاء الله ماتيأسيش
رفعت بصرها إليه بعد خروجها من حالة ذهول التي انخرطت فيها عدة دقائق ، ثم حاولت الاعتراض على ذلك قائلة بمجادلة : بس يا بابا انا...
قطعت كلامها حالما وجدت المكان خاليًا ولا أثر لأبيها ، ثم صرخت مندهشة وهي تنظر حولها : بابا انت روحت فين!!
رفعت رأسها إلى السماء متنهدة بقلة حيلة ، ثم بعثرت شعرها بكلتا يديها ، وأحاطت بها علامات التعجب والاستفهام من جميع الجهات ، ثم تمتمت في حيرة من أمرها : دا انا اللي محتاجة مساعدة يا حج .. باينك هتشربي المر بشاليمو يا حياة!
وضعت يدها فوق عينيها حتى تحجب أشعة الشمس عنها حتى ترى من يقف بعيدًا ، يدير ظهره لها ، لم تتعرف عليه في البداية ، لكنها سارت في اتجاهه بفضول ، لعله يتمكن من مساعدتها.
اندهشت عندما لم تعد المسافة بينهما كبيرة حيث استطاعت تحديد هويته رغم أنها لم تفهم سبب وجوده هنا ، لكنها نادته بصوت عال حتي يلاحظ وجودها : بدر .. يا بدر
واصلت الركض نحوه حتى أصبحت المسافة بينهما بسيطة للغاية ، ولكن عندما التقطت أنفاسها حتى تتمكن من الكلام ، فجأة ، اهتزت الأرض بقوة تحت أقدامهم ، مما جعل حياة تفقد توازنها وتسقط على الأرض التي تغير لونها من تفقد الأخضر إلى الأسود.
شعر بدر أن الأرض تنفصل عن بعضها وتنقسم تحت قدميه ، لكنه لم يستطع الهروب وسقط في الهاوية.
صرخت حياة باسمه خوفًا ، وشعرت بألم يعتصر قلبها بشدة ، لكنها نهضت من الأرض وهرعت نحوه بأسرع ما يمكنها ، وعندما وصلت إلى حافة الأرض الممزقة ، نظرت إلى الأسفل بعيون منفرجة علي مصراعيها من هول ما تراه ، فالمسافة كانت شاهقة ومرعبة ، لكنها تنفست الصعداء عندما رأت بدر يتشبث بكلتا يديه على حجارة كبيرة تأخره عن الوقوع في تلك الهاوية التي في جوفها نار منصهرة.
جثت حياة على ركبتيها ، ومدّت يدها إليه لمساعدته ، تجمعت العبرات الساخنة داخل مقلتاها مهددة بالنزول ، صائحة بسرعة : بدر .. حاول تمسك في ايدي
ولكن قبل أن يمسك بيدها ، ظهرت مجموعة من الهياكل العظمية تحته ، محاطة بنيران مشتعلة ، وتمسكت بقدميه يرغبون أسقطوه بالقوة.
ألقى بدر نظرة إلى الأسفل وهو يقاوم من يجذبونه ، ثم نظر إلى حياة التي كانت تجتهد للوصول إلى يده الممدودة إليها بكل طاقتها ، وعندما كانت على وشك أن تلمس راحة يده ، قال لها : حياة .. لا تدعينني أرحل!!
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بإحدي المستشفيات
داخل غرفة بيضاء على سرير صغير حيث كانت حياة مستلقية عليه بوجه شاحب بينما كان بدر جاثياً بجوار رأسها مباشرة ، يراقب ما يحدث حولهم بتركيز.
على الجانب الآخر من السرير ، وقفت ممرضة تتفقد المغذي المعلق في يدها ، قبل أن تتجه إلى حمزة ، الذي قد دخل للتو ، وقال بلهفة : طمنينا عليها يا بنتي!!
ابتسمت الممرضة وقالت بنبرة طبيعية : ماتقلقش يا عم الحج كان ضغطها واطي وهي دلوقتي نايمة لما يخلص المحلول هتروح معاكو
قالت كريمة بابتسامة بينما كانت الممرضة تغادر الغرفة : متشكرين يا ست البنات ربنا يطمن قلبك
أمسك حمزة بذراع زوجته وقال بصوت هامس : خلينا نستني برا لحد ما تفوق براحتها يا ام كرم
سارت بكريمة ، متكئة عليه بحذر ، وقالت بطاعة : حاضر يا حج يلا بينا
★★★
أما بدر فلم يسمعهما لأنه كان غارقًا في أفكاره ، وداخل ذهنه تساؤلات كثيرة تطرح نفسها مرارًا وتكرارًا ، ما هذا الألم الغريب الذي استوطن في قلبه؟
ما الذي يمر به الآن ، هل هذا ما يسمى الشعور بتأنيب الضمير؟
لأن حرفيًا فرت الدماء من عروقه بذعر عندما وجدها فاقدة للوعي أمامه.
كان شعوره بالخوف عليها في تلك اللحظة كافياً لإقناعه بأن ما يحاول الوصول إليه وإثباته.
ما هو إلا سراب وأنه ليس إلا في المكان الخطأ ، ثم يعود عقله يجادل مرة أخرى ، قائلاً هذا الأمل الأخير لدينا ، كيف يمكنه التخلي عنه بهذه السهولة؟ ولماذا يضحي بهذا الأمل من أجلها؟
ليصدح صوتًا مجهولاً في أعماقه ، ويكرر أن آخر ما يريده الآن هو أن يكون سببا في إذيتها التي من الواضح إذا استمروا معًا أكثر من ذلك ، ستحدث لها المزيد والمزيد من المشاكل ، لكن هناك شيء مخبأ بداخله منعه من المغادرة رغم أنه لا يعلم إلى أين وجهته دون أن يودعها على الأقل ، معربًا عن ندمه الشديد على ضغطه عليها خلال اليومين الماضيين.
همهمت حياة في غفوتها باسم بدر الذي تصلب بصره عليها ، بمجرد أن سمع اسمه من شفتيها الشاحبتين دليلا علي إرهاقها ، وهناك عبره هاربة من عينها ، رآها بوضوح.
تململت في السرير ، وحاجبيها مجعدان بوهن ، تشعر بعبء ثقيل على رئتيها ، فتحت عيناها سريعًا حينما مرت عليها تلك الأحداث المرعبة التى راودتها مؤخراً.
رفرفت رموشها عدة مرات بسبب عدم وضوح الرؤية أمامها حتى تعتاد على الضوء تزامنا مع صوت إغلاق الباب ، بينما عيناها تجولان في الغرفة التي تقطن فيها ، ثم عفويا أدارت رأسها إلى الجانب الآخر لتلتقي بعينيه الغائرتين التي كانت تحدق بها بهدوء.
استمرت حياة تتأمل في ملامحه القريبة من وجهها بشرود عدة لحظات ، قبل أن تتنفس الصعداء عندما أدركت أن ما رأته ليس سوى حلم.
انتظرته قليلا ليبدأ الحديث معها ، لكنه بقي صامتاً وهو يحدق بها بعيون هادئة فقررت بتر ذلك الصمت ، وهمست بصوت متهدج : هتفضل ساكت كدا!! محدش موجود ممكن تتكلم
وقف بدر أمامها بإستقامة قبل أن يجلس بجوارها على حافة السرير ، قائلا بنبرة حزينة دون أن ينظر إليها : مش قادر اقول حاجة بعد اللي حصل بس انا بجد اسف
إعتدلت حياة قليلا في جلستها مع بعض التعب ، قائلة بغير فهم : أسف علي ايه!!
رد بدر ببساطة : علي رقدتك دي بسببي
رفع عينيه ليلتقي بنظرتها التي كانت تحدق به بدهشة ، ثم أردف : انا كنت اناني لما ضغطت عليكي ووصلتك للحالة دي
أراد أن يكمل كلماته ، لكن حياة أوقفته بإشارة من يدها ، ثم قالت بنفاذ صبر : هش!! ممكن تسكت وتسمعني شوية .. اللي حصلي دا سببه حاجات كتير من قبل ما اشوفك اصلا..!
الآن جاء دوره لمقاطعة كلماتها بصوت خافت يملؤُه الاعتراض : بس برده دا كان تصرف بشع مني اني استغل مساعدتك ليا بالطريقة دي..
طأطأ رأسه محاولا ضمر ما يعترى قلبه من مشاعر سلبية ، مخاطباً نفسه دون أن يلفظ بلسانه أمامها : حسيت بضعف وعجز لما شوفتك مرمية علي الارض وانا مش قادر اعمل حاجة خالص .. لولا عم حمزة سمع صوتك وانتي بتقعي ونقلوكي علي هنا معرفش كان ممكن يجرالك ايه!!
نظر إليها ، بينما قناع من البرود الزائف مرتسماً على وجهه ، قائلا بهدوء يتناقض مع فوران النار الذي ينهش قلبه : انا حبيت اشوفك قبل ما اختفي خالص عشان اقولك انا اسف ومش هحاول ازعجك تاني
تستمع إلى كلماته ، وهناك شعور غريب برفض ما كان يقوله ، مسبباً لها إختناق مجهول المصدر ، لكنها سرعان ما تجاهلت هذا الشعور ، وهزت رأسها بشكل سلبي ، ثم صاحت معارضة بصوت مبحوح : انت جرا لمخك حاجة!! اللي بتقوله دا مش هيحصل لازم نوصل لسبب اللي انت فيه .. ماتسيبنيش يا بدر
نظر في عينيها بعمق وكأنه يسبر أغوارها ، مما جعل حياة متوترة في مكانها ، وبحركة لا أرادية ، أشاحت بصرها بعيدًا عنه عندما تساءل : وايه اللي خلاكي تغيري رأيك؟ مش كنتي بتقولي ان دا جنان!! ليه صدقتي فجأة؟
تنهدت حياة وهي تنظر إليه مجددًا ، وتقول بإنزعاج مزيف : ما انا لازم اصدقه ماقدميش الا كدا يا اما هتأكد اني مجنونة بكلم مجرد طيف مالوش وجود وانا متأكدة انك موجود وبصراحة فضولي هيموتني عشان افهم
مرت بضع ثوانٍ من الصمت ، كان بدر خلالهم يجول بعينيه في ملامحها العابسة بلطافة ، ثم كسر ذلك الصمت قائلا ببعض التردد : يبقي خليني اقولك علي حاجة قبل ما تقرري هتكملي معايا ولا لا!!
تساءلت حياة بنوع من التشوق : حاجة ايه دي؟
لم يرد عليها ، بل تأمل فيها بصمت ، خصلاتها البرتقالية الثائرة مثل سجيتها حول وجهها الجميل ذو السحر الآخاذ ، خصلاتها تتدلى على ظهرها وكتفيها ، ثم أجاب بهدوء : انا افتكرتك لما كنتي صغيرة
ربتت على شعرها خفة تقوم ترتيبه بتلقائية ، عندما رأت عينيه مثبتتين عليه ، ثم تمتمت بتعجب وهي تشير على نفسها : افتكرتني انا!!
ابتسم بدر علي فعلتها العفوية ، قبل أن يهز رأسه قائلاً بجدية : ايوه افتكرت موقف وحش اوي حصل بينا
اتسعت حياة عينيها بذهول ، ورغم إرادتها مال جسدها نحوه باندفاع ، متسائلة باهتمام : ايه هو!!؟
ابتلع بدر لعابه قبل أن يخبرها بما تذكره بنبرة حزينة : كنت طالع من البيت مضايق اوي عشان ابويا صمم ادخل كلية الحقوق وانا ماكنتش عايزها .. فضغط عليا كعادته معايا ورضيت بالامر الواقع
رفع مقل عينيه إليها محدقاً فيها بنظرة لم تستطع تفسيرها ، لكنه كان يستعيد في ذاكرته الضعيفة صورة مشوشة لها إلى حد ما ، قبل أن يردف سارداً : خرجت من شقتنا لاقيت بنوته جسمها صغير اوي كأن عندها اربع سنين مش تمانية .. كل وقتها كانت بتلعب علي السلم عشان بتخاف تنزل تلعب مع عيال الجيران قدام البيت وانا ساعتها كنت متعصب و شايط .. حظها الوحش خلها في طريقي يومها طلعت غضبي المكتوم كله فيها..
تشكلت ابتسامة جذابة على شفتيه ، واستأنف حديثه بصوت هامس بعد أن أمال رأسه بالقرب منها كأنه يخبرها سراً : بيني وبينك انا كنت بغير منها ساعات .. أصلها واخدة اهتمام امي مني .. تخيلي انها كانت قبل حتي ما تعشيني تسأل الاول حياة اكلت ولالا اقولها انا مالي ومالها .. تقولي اسكت يا واد احنا عندنا كام حياة لازم نهتم بيها
ابتسمت حياة بخفة ، لكن تلك الابتسامة تلاشت فور أن أكمل كلامه : قولتلها كلام جرحها ووجعها .. اثر فيها اوي خليتها تفقد ثقتها في نفسها وندمان انه خرج من بوقي اصلا وياريتني ما قولته .. بس وقتها عصبيتي عميتني
ساد الصمت بينهما ليكون سيد المكان ، كل منهما سابحاً في أفكاره ، لكن بدر قال بصوت خافت أمام وجهها فجأة : أقولك سر..
كانت حياة تنظر إلى أصابعها بتفكير كأنها تبحث عن تلك الذكري داخل طيات عقلها ، ولكن حالما سمعت صوته الدافئ رفعت رأسها إليه بإهتمام ، وهمست بعيون واسعة ببراءة : قول!!
قال بدر بابتسامة حنونة تحمل في طياتها الكثير من المشاعر المجهولة لكليهما : انا كنت معجب جدا بشعرها اللي لونه غريب اوي واللي مستحيل يليق علي بنوته غيرها وماكنتش عايزها تفضل قاعدة بيه قدام اللي طالع واللي نازل علي السلالم
وضع بدر يده خلف رقبته ، وفركها بخفة ، ثم أضاف إليها نظرة براقة لم تلاحظها : بس بسبب غبائي برده لون شعرها اتغير من كتر ما صبغته عشان تداري علي جماله .. بس انا هفضل فاكر لونه الحلو وعمري ما هنساه تاني
ابتلعت حياة غصة في حلقها ، وانهمرت الدموع في عينيها من تلك الذكرى التي عادت إليها منذ الصغر ، لكنها متفاجئة جدًا من نفسها ، لماذا لا تشعر بالحقد والكراهية تجاهه؟
كيف يمكن أن يتأثر قلبها بكلماته الرقيقة لها التي لم تنكر أنها جعلتها سعيدة للغاية عندما تلامست فيها الصدق ، وقالت بصوت مبحوح دون أن تتطلع إليه : انت خوفتني اوي يومها يا بدر
ظهرت ابتسامة آسرة على شفتيه عندما تلفظت اسمه لأول مرة ، بهذا الصوت الناعم الخالي من أي السخرية ، ثم همس بهدوء : حقك عليا يا حياة انا ندمان علي اللي عملته وعايزك ماتزعليش مني
رفعت جفنيها إليه ، محدقة في عينيه المشعتين ببريق يعكس صورتها فيه بشكل جعل خفقاتها تتسارع في صدرها وكأنها دخلت في سباق سريع ، خاصة أنه كان يرمقها بعيونه العميقة وحواجبه المسترخية ، ووجدت نفسها تهتف بإندفاع أخفى توتر جسدها ، وهي تبعد أحد خصلاتها خلف أذنها : ايه ماتبصليش كدا!! ماهو اكيد انا مش هسامحك بسرعة اوي كدا .. اديني فرصة اعمل نفسي مقموصة يعني
سرعان ما تحولت نبرة صوتها المشاكسة إلى ضائقة عندما تذكرت ذلك الحلم الذي حلمت به منذ قليل ، واستأنفت حديثها وهي تنظر إلى يدها المعلقة فيها المحلول : اخر مرة دخلت فيها مستشفي يوم وفاة بابا من ساعتها بقيت بكرهها اوي و بكره ريحتها عايزة اخرج من هنا بسرعة
أطبق بدر جفنيه قليلاً ، حيث أرهقته نغمة صوتها الخافتة الحزينة ورق قلبه لها ، ثم سرعان ما فتحهما متسائلاً بتردد : حياة .. ممكن نبدأ من اول وجديد!!
نظرت في عينيه الداكنتين لبضع ثوان ، لكنها اتخذت قرارها في النهاية ، ثم أومأت إليه بالإيجاب لأول مرة دون أن يكون هناك أي شعور بالتردد بداخلها.
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
جاء الليل يسحب ستاره بعد غروب الشمس
كانت حياة نائمة وسط سرير بدر بالعرض ، بطريقة فوضوية تمامًا ، وساقها تتدلى من السرير وتعانق الوسادة بوداعة تتعارض مع أسلوب نومها الغريب من وجهة نظر بدر ، الذي لا يفعل شيئًا سوى مشاهدتها.
رغم أنه يحب مظهرها البريء وهي نائمة ، لكنه يفضلها وهي مستيقظة وتتشاجر معه بدلا من أن تتشاجر مع ذاتها أثناء نومها هكذا ، منذ عودتها من المستشفى وهي على هذه الحالة وكأنها لم تتذوق طعم النوم منذ عدة أشهر ، ولا ينكر أن حالتها تحسنت كثيرًا عن الصباح ، وهذا ما جعله يشعر براحة بسيطة.
اكتشف أن رؤيتها متعبة أمامه دون أن يكون قادرًا على تقديم أي شيء للمساعدة ، يجعله ضعيفًا جدًا أمام نفسه ، لأن ذلك الوجه الملائكي لا يستحق الإرهاق والحيرة التي سيطرت عليها منذ دخوله حياتها دون موعد ، فإنقلبت رأسًا على عقب ، لكن رغبته في البقاء بجانبها تزداد مع مرور الوقت ، فماذا يمكنه أن يفعل؟
تململ بدر بضجر قبل أن ينحني بخفة أمامها على السرير ، ثم صرخ متذمراً : حياة .. يا حياة أصحي بقي ايه النوم دا كلو!!
فجأة رفعت حياة رأسها بعيون نصف مغمضتين بينما ارتدت مرعوبة على صوت صراخه الذي اخترق أذنيها أثناء سباتها العميق وقالت بفزع : يمه العمارة بتتهد .. فين تليفوني .. ايه في ايه!!
عبست ملامحه الجذابة في استنكار حيث سألها ببراءة متناقضة مع صوته القاسي : انتي ليه بتتخضي مني كدا كل ما بصحيكي؟ ولو البيت اتهد تنفدي بجلدك ولا هدوري علي التليفون!!
فركت حياة فروة رأسها ، وهي تتثاءب بصوت مسموع ، ودلكت قلبها بيديها في محاولة لتهدئة دقاته السريعة بعد أن امسكت هاتفها العزيز وقبلته بإطمئنان ، ثم ردت عليه بابتسامة ساخرة : صحيح تفتكر ليه بتخض !! طالعلي عفريت بيفوت من جوا الحيطة و دايما قاعد فوق راسي وانا نايمة .. المفروض اخدو بالبوس و الاحضان واعملو عشاء كمان مش كدا!!
همهم بدر يلمس أنفه بحرج ، وقال ببرود استفزازي : من باب الذوق المفروض تعملي كدا..
ألقت حياة الوسادة التي كانت تحت رأسها لتوها تجاهه ، وتمتمت بسخط بينما مرت الوسادة من خلاله : عبو رخامتك
زأر صوت ضحكته الرجولي عالياً قبل أن يقول بدهشة ، ويشير إليها بإصبعه السبابة : سبحان الله اللي يشوفك دلوقتي مايشوفكيش الصبح قد ايه كنتي رقيقة و هادية بتتحولي بليل ولا ايه!!!
أنهي بدر جملته وهو يغمز لها ، مما جعل نبض قلبها يرتفع في صدرها مفتونًا ، لكنها تجاهلت سؤاله الساخر ثم التفتت لتنظر إلى الساعة المعلقة على الحائط ، و هتفت منزعجة بعد أن ترك النوم عينيها : عايز ايه يا بدر!! حرام عليك الساعة 8 بليل كنت سيبتني انام للفجر
مط بدر شفتيه إلى الخارج ، وسألها بصوت مذهول : وانا هقعد لوحدي للفجر!!
تشدق صدغها بسخرية وهي تجلس متربعة أمامه مباشرة على السرير واضعة قبضتيها تحت ذقنها ، وهناك نظرة زائفة من الدهشة على وجهها ، ثم سألته بمكر : ليه بتتكلم زي ما تكون عيل صغير وبتخاف من القعدة لوحدك!! دا احنا دفنينو سوا..
صر بدر أسنانه بغضب من أسلوبها الاستفزازي معه ، ثم تمتم بسباب : يلعن ابو ملافظك .. بتفولي عليا!!
مدت لسانها تجاهه ، وهي تضحك ثم نهضت من السرير ، ولم ترد عليه بل تجاوزته ، وإتجهت نحو الحمام لتستحم
اللسان مجرم مسجون خلف الأسنان ، إن أفرجت عنه عند الغضب رماك في زنزانة الندم تحت حكم الضمير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سمعت أصواتا غريبة من حولها ، لكنها لم تفهم منهم شيئا ، ثم بعد لحظات فتحت عينيها المتشربة بلون الشمس ببطء وحذر بسبب الضوء القوي في عينيها حتى تعتاد على أشعة الشمس الساطعة فوقها.
نهضت متكئة على مرفقيها ، تدير رأسها وتنظر إلى اليسار واليمين حتى تستكشف هذا المكان الغير مألوف من حولها ، لتجد نفسها كانت مستلقية على العشب الأخضر في أرض مستوية كبيرة ، ولا يوجد فيها مخلوق أخر سواها.
قالت بخفوت ، بينما علامات الاستفهام تحوم فوق رأسها : انا بعمل ايه هنا..!!
اتسعت عيناها في دهشة عندما لم يستطع عقلها ترجمة ما تراه ، ثم تمتمت ببلاهة ، وهي تنهض ببطء من الأرض : اكنش موت و روحت الجنة
: حياة
استدارت بسرعة عندما سمعت ذلك الصوت المحفور في ذاكرتها إلى الأبد ، واتسعت مقل عينيها النرجسية في عدم تصديق ، وتلعثمت من المفاجأة : ب بابا!!
ظهرت ابتسامة عريضة على ذلك الوجه البشوش محدقا بها بشوق ، قائلا بنبرة مليئة بالحنان : عاملة ايه يا حبيبتي!! طمنيني عليكي..
رمشت عينها عدة مرات ، حتى أدركت أنه لا يوجد أحد أمامها إلا والدها الحبيب ، وسرعان ما ملأت الدموع عينيها قبل أن ترد عليه بلهفة مقتربة منه : انا كويسة انت وحشتني اوي يا بابا
أردفت حياة بنوع من الحيرة بعد بضع ثوان من الصمت : بابا احنا فين هو انا موت و جيتلك الجنة!!
هز رأسه سلبا ، ثم قال بجدية : لا يا حياة انتي لسه عايشة وانا اللي جيت اقولك الحقيه
جعدت حاجبيها بعدم إستيعاب قبل أن تسأل : مش فاهمه قصدك مين يا بابا!!
وضع يده على ظهرها ودفعها برفق حتى تمشي معه ، متحدثاً بهدوء : حياة .. مش فاكرة لما كنتي دايما تسأليني انا ليه مختلفة عن باقي الناس
أومأت حياة بالإيجاب دون أن تنبس ببنت شفة.
أستأنف قولا بإبتسامة صغيرة : فاكرة كنت برد اقولك ايه؟ دي خلقة ربنا ليكي وعمر ابدا ما ربنا ماخلق حاجة وحشة .. وكل حاجة دايما ليها سبب يا حياة حتي لو ماكناش نعرفه بس السبب دايما موجود
ابتسمت له حياة ، وهي تخفض بصرها إلى الأرض ، وهم يمشون ، ثم همست بخفوت : ونعم بالله..
توقف والدها فجأة عن المشي وهو يلتفت إليها ، ثم مد أطراف أصابعه برفق ، ورفع وجهها لتنظر إليه ، ليكرر كلماته بإصرار أكثر : المرة دي انا جاي اقولك نفس الكلام وافكرك بيه .. مافيش حاجة مالهاش سبب حتي لو مانعرفوش
حدقت به لبرهة دون أن تجيب قبل أن تشيح بنظرتها عنه بفكر مشوش بادياً على ملامحها ، لكنه قطع حبل أفكارها حين هتف بجدية : هي دي مهمتك يا حياة افتكري انك جيتي الدنيا عشانه و لازم تساعديه يا بنتي .. يمكن تتعبي شوية بس مفيش مستحيل ولا صعب هيحوشك ان شاء الله ماتيأسيش
رفعت بصرها إليه بعد خروجها من حالة ذهول التي انخرطت فيها عدة دقائق ، ثم حاولت الاعتراض على ذلك قائلة بمجادلة : بس يا بابا انا...
قطعت كلامها حالما وجدت المكان خاليًا ولا أثر لأبيها ، ثم صرخت مندهشة وهي تنظر حولها : بابا انت روحت فين!!
رفعت رأسها إلى السماء متنهدة بقلة حيلة ، ثم بعثرت شعرها بكلتا يديها ، وأحاطت بها علامات التعجب والاستفهام من جميع الجهات ، ثم تمتمت في حيرة من أمرها : دا انا اللي محتاجة مساعدة يا حج .. باينك هتشربي المر بشاليمو يا حياة!
وضعت يدها فوق عينيها حتى تحجب أشعة الشمس عنها حتى ترى من يقف بعيدًا ، يدير ظهره لها ، لم تتعرف عليه في البداية ، لكنها سارت في اتجاهه بفضول ، لعله يتمكن من مساعدتها.
اندهشت عندما لم تعد المسافة بينهما كبيرة حيث استطاعت تحديد هويته رغم أنها لم تفهم سبب وجوده هنا ، لكنها نادته بصوت عال حتي يلاحظ وجودها : بدر .. يا بدر
واصلت الركض نحوه حتى أصبحت المسافة بينهما بسيطة للغاية ، ولكن عندما التقطت أنفاسها حتى تتمكن من الكلام ، فجأة ، اهتزت الأرض بقوة تحت أقدامهم ، مما جعل حياة تفقد توازنها وتسقط على الأرض التي تغير لونها من تفقد الأخضر إلى الأسود.
شعر بدر أن الأرض تنفصل عن بعضها وتنقسم تحت قدميه ، لكنه لم يستطع الهروب وسقط في الهاوية.
صرخت حياة باسمه خوفًا ، وشعرت بألم يعتصر قلبها بشدة ، لكنها نهضت من الأرض وهرعت نحوه بأسرع ما يمكنها ، وعندما وصلت إلى حافة الأرض الممزقة ، نظرت إلى الأسفل بعيون منفرجة علي مصراعيها من هول ما تراه ، فالمسافة كانت شاهقة ومرعبة ، لكنها تنفست الصعداء عندما رأت بدر يتشبث بكلتا يديه على حجارة كبيرة تأخره عن الوقوع في تلك الهاوية التي في جوفها نار منصهرة.
جثت حياة على ركبتيها ، ومدّت يدها إليه لمساعدته ، تجمعت العبرات الساخنة داخل مقلتاها مهددة بالنزول ، صائحة بسرعة : بدر .. حاول تمسك في ايدي
ولكن قبل أن يمسك بيدها ، ظهرت مجموعة من الهياكل العظمية تحته ، محاطة بنيران مشتعلة ، وتمسكت بقدميه يرغبون أسقطوه بالقوة.
ألقى بدر نظرة إلى الأسفل وهو يقاوم من يجذبونه ، ثم نظر إلى حياة التي كانت تجتهد للوصول إلى يده الممدودة إليها بكل طاقتها ، وعندما كانت على وشك أن تلمس راحة يده ، قال لها : حياة .. لا تدعينني أرحل!!
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بإحدي المستشفيات
داخل غرفة بيضاء على سرير صغير حيث كانت حياة مستلقية عليه بوجه شاحب بينما كان بدر جاثياً بجوار رأسها مباشرة ، يراقب ما يحدث حولهم بتركيز.
على الجانب الآخر من السرير ، وقفت ممرضة تتفقد المغذي المعلق في يدها ، قبل أن تتجه إلى حمزة ، الذي قد دخل للتو ، وقال بلهفة : طمنينا عليها يا بنتي!!
ابتسمت الممرضة وقالت بنبرة طبيعية : ماتقلقش يا عم الحج كان ضغطها واطي وهي دلوقتي نايمة لما يخلص المحلول هتروح معاكو
قالت كريمة بابتسامة بينما كانت الممرضة تغادر الغرفة : متشكرين يا ست البنات ربنا يطمن قلبك
أمسك حمزة بذراع زوجته وقال بصوت هامس : خلينا نستني برا لحد ما تفوق براحتها يا ام كرم
سارت بكريمة ، متكئة عليه بحذر ، وقالت بطاعة : حاضر يا حج يلا بينا
★★★
أما بدر فلم يسمعهما لأنه كان غارقًا في أفكاره ، وداخل ذهنه تساؤلات كثيرة تطرح نفسها مرارًا وتكرارًا ، ما هذا الألم الغريب الذي استوطن في قلبه؟
ما الذي يمر به الآن ، هل هذا ما يسمى الشعور بتأنيب الضمير؟
لأن حرفيًا فرت الدماء من عروقه بذعر عندما وجدها فاقدة للوعي أمامه.
كان شعوره بالخوف عليها في تلك اللحظة كافياً لإقناعه بأن ما يحاول الوصول إليه وإثباته.
ما هو إلا سراب وأنه ليس إلا في المكان الخطأ ، ثم يعود عقله يجادل مرة أخرى ، قائلاً هذا الأمل الأخير لدينا ، كيف يمكنه التخلي عنه بهذه السهولة؟ ولماذا يضحي بهذا الأمل من أجلها؟
ليصدح صوتًا مجهولاً في أعماقه ، ويكرر أن آخر ما يريده الآن هو أن يكون سببا في إذيتها التي من الواضح إذا استمروا معًا أكثر من ذلك ، ستحدث لها المزيد والمزيد من المشاكل ، لكن هناك شيء مخبأ بداخله منعه من المغادرة رغم أنه لا يعلم إلى أين وجهته دون أن يودعها على الأقل ، معربًا عن ندمه الشديد على ضغطه عليها خلال اليومين الماضيين.
همهمت حياة في غفوتها باسم بدر الذي تصلب بصره عليها ، بمجرد أن سمع اسمه من شفتيها الشاحبتين دليلا علي إرهاقها ، وهناك عبره هاربة من عينها ، رآها بوضوح.
تململت في السرير ، وحاجبيها مجعدان بوهن ، تشعر بعبء ثقيل على رئتيها ، فتحت عيناها سريعًا حينما مرت عليها تلك الأحداث المرعبة التى راودتها مؤخراً.
رفرفت رموشها عدة مرات بسبب عدم وضوح الرؤية أمامها حتى تعتاد على الضوء تزامنا مع صوت إغلاق الباب ، بينما عيناها تجولان في الغرفة التي تقطن فيها ، ثم عفويا أدارت رأسها إلى الجانب الآخر لتلتقي بعينيه الغائرتين التي كانت تحدق بها بهدوء.
استمرت حياة تتأمل في ملامحه القريبة من وجهها بشرود عدة لحظات ، قبل أن تتنفس الصعداء عندما أدركت أن ما رأته ليس سوى حلم.
انتظرته قليلا ليبدأ الحديث معها ، لكنه بقي صامتاً وهو يحدق بها بعيون هادئة فقررت بتر ذلك الصمت ، وهمست بصوت متهدج : هتفضل ساكت كدا!! محدش موجود ممكن تتكلم
وقف بدر أمامها بإستقامة قبل أن يجلس بجوارها على حافة السرير ، قائلا بنبرة حزينة دون أن ينظر إليها : مش قادر اقول حاجة بعد اللي حصل بس انا بجد اسف
إعتدلت حياة قليلا في جلستها مع بعض التعب ، قائلة بغير فهم : أسف علي ايه!!
رد بدر ببساطة : علي رقدتك دي بسببي
رفع عينيه ليلتقي بنظرتها التي كانت تحدق به بدهشة ، ثم أردف : انا كنت اناني لما ضغطت عليكي ووصلتك للحالة دي
أراد أن يكمل كلماته ، لكن حياة أوقفته بإشارة من يدها ، ثم قالت بنفاذ صبر : هش!! ممكن تسكت وتسمعني شوية .. اللي حصلي دا سببه حاجات كتير من قبل ما اشوفك اصلا..!
الآن جاء دوره لمقاطعة كلماتها بصوت خافت يملؤُه الاعتراض : بس برده دا كان تصرف بشع مني اني استغل مساعدتك ليا بالطريقة دي..
طأطأ رأسه محاولا ضمر ما يعترى قلبه من مشاعر سلبية ، مخاطباً نفسه دون أن يلفظ بلسانه أمامها : حسيت بضعف وعجز لما شوفتك مرمية علي الارض وانا مش قادر اعمل حاجة خالص .. لولا عم حمزة سمع صوتك وانتي بتقعي ونقلوكي علي هنا معرفش كان ممكن يجرالك ايه!!
نظر إليها ، بينما قناع من البرود الزائف مرتسماً على وجهه ، قائلا بهدوء يتناقض مع فوران النار الذي ينهش قلبه : انا حبيت اشوفك قبل ما اختفي خالص عشان اقولك انا اسف ومش هحاول ازعجك تاني
تستمع إلى كلماته ، وهناك شعور غريب برفض ما كان يقوله ، مسبباً لها إختناق مجهول المصدر ، لكنها سرعان ما تجاهلت هذا الشعور ، وهزت رأسها بشكل سلبي ، ثم صاحت معارضة بصوت مبحوح : انت جرا لمخك حاجة!! اللي بتقوله دا مش هيحصل لازم نوصل لسبب اللي انت فيه .. ماتسيبنيش يا بدر
نظر في عينيها بعمق وكأنه يسبر أغوارها ، مما جعل حياة متوترة في مكانها ، وبحركة لا أرادية ، أشاحت بصرها بعيدًا عنه عندما تساءل : وايه اللي خلاكي تغيري رأيك؟ مش كنتي بتقولي ان دا جنان!! ليه صدقتي فجأة؟
تنهدت حياة وهي تنظر إليه مجددًا ، وتقول بإنزعاج مزيف : ما انا لازم اصدقه ماقدميش الا كدا يا اما هتأكد اني مجنونة بكلم مجرد طيف مالوش وجود وانا متأكدة انك موجود وبصراحة فضولي هيموتني عشان افهم
مرت بضع ثوانٍ من الصمت ، كان بدر خلالهم يجول بعينيه في ملامحها العابسة بلطافة ، ثم كسر ذلك الصمت قائلا ببعض التردد : يبقي خليني اقولك علي حاجة قبل ما تقرري هتكملي معايا ولا لا!!
تساءلت حياة بنوع من التشوق : حاجة ايه دي؟
لم يرد عليها ، بل تأمل فيها بصمت ، خصلاتها البرتقالية الثائرة مثل سجيتها حول وجهها الجميل ذو السحر الآخاذ ، خصلاتها تتدلى على ظهرها وكتفيها ، ثم أجاب بهدوء : انا افتكرتك لما كنتي صغيرة
ربتت على شعرها خفة تقوم ترتيبه بتلقائية ، عندما رأت عينيه مثبتتين عليه ، ثم تمتمت بتعجب وهي تشير على نفسها : افتكرتني انا!!
ابتسم بدر علي فعلتها العفوية ، قبل أن يهز رأسه قائلاً بجدية : ايوه افتكرت موقف وحش اوي حصل بينا
اتسعت حياة عينيها بذهول ، ورغم إرادتها مال جسدها نحوه باندفاع ، متسائلة باهتمام : ايه هو!!؟
ابتلع بدر لعابه قبل أن يخبرها بما تذكره بنبرة حزينة : كنت طالع من البيت مضايق اوي عشان ابويا صمم ادخل كلية الحقوق وانا ماكنتش عايزها .. فضغط عليا كعادته معايا ورضيت بالامر الواقع
رفع مقل عينيه إليها محدقاً فيها بنظرة لم تستطع تفسيرها ، لكنه كان يستعيد في ذاكرته الضعيفة صورة مشوشة لها إلى حد ما ، قبل أن يردف سارداً : خرجت من شقتنا لاقيت بنوته جسمها صغير اوي كأن عندها اربع سنين مش تمانية .. كل وقتها كانت بتلعب علي السلم عشان بتخاف تنزل تلعب مع عيال الجيران قدام البيت وانا ساعتها كنت متعصب و شايط .. حظها الوحش خلها في طريقي يومها طلعت غضبي المكتوم كله فيها..
تشكلت ابتسامة جذابة على شفتيه ، واستأنف حديثه بصوت هامس بعد أن أمال رأسه بالقرب منها كأنه يخبرها سراً : بيني وبينك انا كنت بغير منها ساعات .. أصلها واخدة اهتمام امي مني .. تخيلي انها كانت قبل حتي ما تعشيني تسأل الاول حياة اكلت ولالا اقولها انا مالي ومالها .. تقولي اسكت يا واد احنا عندنا كام حياة لازم نهتم بيها
ابتسمت حياة بخفة ، لكن تلك الابتسامة تلاشت فور أن أكمل كلامه : قولتلها كلام جرحها ووجعها .. اثر فيها اوي خليتها تفقد ثقتها في نفسها وندمان انه خرج من بوقي اصلا وياريتني ما قولته .. بس وقتها عصبيتي عميتني
ساد الصمت بينهما ليكون سيد المكان ، كل منهما سابحاً في أفكاره ، لكن بدر قال بصوت خافت أمام وجهها فجأة : أقولك سر..
كانت حياة تنظر إلى أصابعها بتفكير كأنها تبحث عن تلك الذكري داخل طيات عقلها ، ولكن حالما سمعت صوته الدافئ رفعت رأسها إليه بإهتمام ، وهمست بعيون واسعة ببراءة : قول!!
قال بدر بابتسامة حنونة تحمل في طياتها الكثير من المشاعر المجهولة لكليهما : انا كنت معجب جدا بشعرها اللي لونه غريب اوي واللي مستحيل يليق علي بنوته غيرها وماكنتش عايزها تفضل قاعدة بيه قدام اللي طالع واللي نازل علي السلالم
وضع بدر يده خلف رقبته ، وفركها بخفة ، ثم أضاف إليها نظرة براقة لم تلاحظها : بس بسبب غبائي برده لون شعرها اتغير من كتر ما صبغته عشان تداري علي جماله .. بس انا هفضل فاكر لونه الحلو وعمري ما هنساه تاني
ابتلعت حياة غصة في حلقها ، وانهمرت الدموع في عينيها من تلك الذكرى التي عادت إليها منذ الصغر ، لكنها متفاجئة جدًا من نفسها ، لماذا لا تشعر بالحقد والكراهية تجاهه؟
كيف يمكن أن يتأثر قلبها بكلماته الرقيقة لها التي لم تنكر أنها جعلتها سعيدة للغاية عندما تلامست فيها الصدق ، وقالت بصوت مبحوح دون أن تتطلع إليه : انت خوفتني اوي يومها يا بدر
ظهرت ابتسامة آسرة على شفتيه عندما تلفظت اسمه لأول مرة ، بهذا الصوت الناعم الخالي من أي السخرية ، ثم همس بهدوء : حقك عليا يا حياة انا ندمان علي اللي عملته وعايزك ماتزعليش مني
رفعت جفنيها إليه ، محدقة في عينيه المشعتين ببريق يعكس صورتها فيه بشكل جعل خفقاتها تتسارع في صدرها وكأنها دخلت في سباق سريع ، خاصة أنه كان يرمقها بعيونه العميقة وحواجبه المسترخية ، ووجدت نفسها تهتف بإندفاع أخفى توتر جسدها ، وهي تبعد أحد خصلاتها خلف أذنها : ايه ماتبصليش كدا!! ماهو اكيد انا مش هسامحك بسرعة اوي كدا .. اديني فرصة اعمل نفسي مقموصة يعني
سرعان ما تحولت نبرة صوتها المشاكسة إلى ضائقة عندما تذكرت ذلك الحلم الذي حلمت به منذ قليل ، واستأنفت حديثها وهي تنظر إلى يدها المعلقة فيها المحلول : اخر مرة دخلت فيها مستشفي يوم وفاة بابا من ساعتها بقيت بكرهها اوي و بكره ريحتها عايزة اخرج من هنا بسرعة
أطبق بدر جفنيه قليلاً ، حيث أرهقته نغمة صوتها الخافتة الحزينة ورق قلبه لها ، ثم سرعان ما فتحهما متسائلاً بتردد : حياة .. ممكن نبدأ من اول وجديد!!
نظرت في عينيه الداكنتين لبضع ثوان ، لكنها اتخذت قرارها في النهاية ، ثم أومأت إليه بالإيجاب لأول مرة دون أن يكون هناك أي شعور بالتردد بداخلها.
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
جاء الليل يسحب ستاره بعد غروب الشمس
كانت حياة نائمة وسط سرير بدر بالعرض ، بطريقة فوضوية تمامًا ، وساقها تتدلى من السرير وتعانق الوسادة بوداعة تتعارض مع أسلوب نومها الغريب من وجهة نظر بدر ، الذي لا يفعل شيئًا سوى مشاهدتها.
رغم أنه يحب مظهرها البريء وهي نائمة ، لكنه يفضلها وهي مستيقظة وتتشاجر معه بدلا من أن تتشاجر مع ذاتها أثناء نومها هكذا ، منذ عودتها من المستشفى وهي على هذه الحالة وكأنها لم تتذوق طعم النوم منذ عدة أشهر ، ولا ينكر أن حالتها تحسنت كثيرًا عن الصباح ، وهذا ما جعله يشعر براحة بسيطة.
اكتشف أن رؤيتها متعبة أمامه دون أن يكون قادرًا على تقديم أي شيء للمساعدة ، يجعله ضعيفًا جدًا أمام نفسه ، لأن ذلك الوجه الملائكي لا يستحق الإرهاق والحيرة التي سيطرت عليها منذ دخوله حياتها دون موعد ، فإنقلبت رأسًا على عقب ، لكن رغبته في البقاء بجانبها تزداد مع مرور الوقت ، فماذا يمكنه أن يفعل؟
تململ بدر بضجر قبل أن ينحني بخفة أمامها على السرير ، ثم صرخ متذمراً : حياة .. يا حياة أصحي بقي ايه النوم دا كلو!!
فجأة رفعت حياة رأسها بعيون نصف مغمضتين بينما ارتدت مرعوبة على صوت صراخه الذي اخترق أذنيها أثناء سباتها العميق وقالت بفزع : يمه العمارة بتتهد .. فين تليفوني .. ايه في ايه!!
عبست ملامحه الجذابة في استنكار حيث سألها ببراءة متناقضة مع صوته القاسي : انتي ليه بتتخضي مني كدا كل ما بصحيكي؟ ولو البيت اتهد تنفدي بجلدك ولا هدوري علي التليفون!!
فركت حياة فروة رأسها ، وهي تتثاءب بصوت مسموع ، ودلكت قلبها بيديها في محاولة لتهدئة دقاته السريعة بعد أن امسكت هاتفها العزيز وقبلته بإطمئنان ، ثم ردت عليه بابتسامة ساخرة : صحيح تفتكر ليه بتخض !! طالعلي عفريت بيفوت من جوا الحيطة و دايما قاعد فوق راسي وانا نايمة .. المفروض اخدو بالبوس و الاحضان واعملو عشاء كمان مش كدا!!
همهم بدر يلمس أنفه بحرج ، وقال ببرود استفزازي : من باب الذوق المفروض تعملي كدا..
ألقت حياة الوسادة التي كانت تحت رأسها لتوها تجاهه ، وتمتمت بسخط بينما مرت الوسادة من خلاله : عبو رخامتك
زأر صوت ضحكته الرجولي عالياً قبل أن يقول بدهشة ، ويشير إليها بإصبعه السبابة : سبحان الله اللي يشوفك دلوقتي مايشوفكيش الصبح قد ايه كنتي رقيقة و هادية بتتحولي بليل ولا ايه!!!
أنهي بدر جملته وهو يغمز لها ، مما جعل نبض قلبها يرتفع في صدرها مفتونًا ، لكنها تجاهلت سؤاله الساخر ثم التفتت لتنظر إلى الساعة المعلقة على الحائط ، و هتفت منزعجة بعد أن ترك النوم عينيها : عايز ايه يا بدر!! حرام عليك الساعة 8 بليل كنت سيبتني انام للفجر
مط بدر شفتيه إلى الخارج ، وسألها بصوت مذهول : وانا هقعد لوحدي للفجر!!
تشدق صدغها بسخرية وهي تجلس متربعة أمامه مباشرة على السرير واضعة قبضتيها تحت ذقنها ، وهناك نظرة زائفة من الدهشة على وجهها ، ثم سألته بمكر : ليه بتتكلم زي ما تكون عيل صغير وبتخاف من القعدة لوحدك!! دا احنا دفنينو سوا..
صر بدر أسنانه بغضب من أسلوبها الاستفزازي معه ، ثم تمتم بسباب : يلعن ابو ملافظك .. بتفولي عليا!!
مدت لسانها تجاهه ، وهي تضحك ثم نهضت من السرير ، ولم ترد عليه بل تجاوزته ، وإتجهت نحو الحمام لتستحم