رواية شغفها عشقا الفصل التاسع 9 بقلم ولاء رفعت
الفصل التاسع
شغفها عشقاً
بقلم ولاء رفعت
غلاف: عطر الربيع
كانت تائهة في درب مظلم وكان كضوء القمر الذي أنار لها الطريق وتسير إلى فؤاده، وكما هو قانون الحياة المتعارف عليه، قليلًا من الفرح يقابله كثيرًا من الحزن.
في مطعم مطل على نهر النيل، منظر خلاب حيث مياه النهر الجارية والأبنية الشاهقة في الجهة الأخرى، نسمات الهواء العليل تداعب خصلاتها المتناثرة على خديها، بينما هو يتأملها, فما أجملها من لوحة قد رسمها الخالق العظيم.
قاطع تلك اللحظات قدوم النادل الذي توقف بجوار المنضدة، يمسك صينية يعلوها كأسين من العصير الطازج، وضع كل كأس أمام كل منهما على حده، وسأله:
- أي طلبات تاني يا فندم؟
أجاب يوسف بلباقة:
- تسلم.
ذهب النادل، فتحمحم يوسف قبل أن يتحدث ويسألها:
- إيه رأيك في المكان؟
ابتسمت والخجل يغزو ملامحها وخديها يتخضبان باللون الوردي فأجابت:
- حلو المنظر جدًا، مية النيل والخضرة على ضفافه والجو حلو قوي النهاردة.
استند بمرفقيه على حافة المنضدة وأخبرها بأعذب الكلمات:
- وأحلى ما في المكان انتي.
نظرت إلى أسفل بخجل وتوتر، رفعت وجهها تتناول كوب الماء، ابتسم من خجلها الجلي فقال:
- أنا والله ما بعاكس، أنا لما ببقى شايف حاجة جميلة بوصفها من قلبي.
و كأن الهرة قضمت لسانها أو ربما توقفت الكلمات على أعتاب حلقها، فكتم ضحكاته وأردف:
- بصراحة يا مريم ومن غير لف ودوران، من ساعة ما شوفتك وأنا حسيت بحاجة بتشدني ليكي، ممكن دا اللي بيقولوا عليه الحب من أول نظرة، لكن كنت بكدب نفسي ولاقيت الإحساس بيزيد جوايا يوم ورا التاني، أتمنى إن يكون إحساسي وصلك.
أنصتت إلى كلماته وكان لها الأثر القوي، فقلبها خفق بقوة وسرت رجفة في خلايا جسدها، استطاعت أخيرًا تلملم شتاتها فعقبت:
- كل كلمة قولتها بتعبر عني بالظبط.
تهربت من نظراته ونظرت نحو مياه النهر ثم استطردت:
- يعني كل حاجة انت حسيتها أنا كمان حسيت بيها، واحتفظت بإحساسي لنفسي عشان مش عايزة أعيش في وهم.
تعجب من ذكرها لآخر كلمة فسألها:
- ليه بتقولي وهم؟
التفتت لتنظر إليه فأجابت:
- فيه فرق واضح ما بينا، أنت يوسف ابن الحاج يعقوب الراوي، وأنا بنت أخت عم عرفة اللي بيشتغل عند والدك ومجرد موظفة.
مد يده ووضعها على يدها قائلًا:
- الكلام اللي بتقوليه دا كان زمان، أيام فيلم رد قلبي، دلوقتي مفيش أي فرق و اللي عايز يوصل بيوصل لما يجتهد ويعافر.
سحبت يدها بخجل وقالت:
- يعني لو حبينا واتعلقنا ببعض أخرتها إيه؟ وهل الحاج يعقوب هيوافق يجوز ابنه لبنت أخت الراجل اللي بيشتغل عنده؟
لم يستطع كتم ضحكاته تلك المرة فأثار غضبها:
- هو أنا قلت إيه بيضحك يا أستاذ يوسف؟
توقف عن الضحك فأجاب بجدية:
- أصل الحاج يعقوب بنفسه كلم عم عرفة امبارح وقرر بإذن الله بكرة نيجي عندكم نقرأ الفاتحة.
فتحت فاها وكأن على رأسها الطير، فأردف:
- أنا من الآخر بحبك جدًا وبدعي ربنا تكوني من نصيبي، تتجوزيني يا مريم؟
ـــــــــــــــــــــ
يقف مع العمال ويشير إليهم نحو الرفوف الشاغرة:
- حط العلب دي هنا والتانية على الرفوف اللي هناك.
أومأ إليه العامل وقال:
- أمرك يا حاج.
انتبه إلى هذا القادم إليه فباغت الغضب ملامحه، سأله:
- أنت إيه اللي جابك هنا؟
ابتسم حمزة بدهاء وأجاب:
- حد يستقبل جوز بنته كدا برضو يا عمي؟
صاح يعقوب ولوح بيده إليه:
- أنت بتخرف بتقول إيه ياض؟! مش قولت ليك خلاص سيرة وفضيناها؟
اقترب منه وبصوت هادئ أخبره:
- طيب يا حاج تعالى نتفاهم بالعقل عشان انت اللي محتاج ليا.
وقد داهم الشك قلب يعقوب فقال:
- والله لو هتجيب لبنتي وزنها دهب برضو مش موافق وأديك سمعتها بنفسك عمرها ما هتعصاني لأنها عارفة وواثقة إن ببقى عايز مصلحتها وبخاف عليها من أي أذى.
نظر إليه عن كثب مع ذكر أخر كلمة، ابتلع الأخر الإهانة قائلًا:
- طيب يا عمي، اللي أنا جاي لك فيه ما ينفعش أقوله ليك قدام العمال.
كان صبر يعقوب قد أوشك على النفاد، فأطلق زفرة وأشار إليه نحو المكتب على مضض قائلًا:
- أخلص.
جلس بكل ثقة وهو في وضع المنتصر وعلى وشك أن يربح أول جولة.
- طبعاً انت لسه على موقفك مني ورافض جوازي من بنتك.
رمقه يعقوب بامتعاض وأخبره بسخرية:
- والله كلك مفهومية.
اعتدل في جلسته ووضع ساق فوق الأخرى بزهو وأفاض بما سيضع رأس يعقوب الراوي في الوحل:
- طب إيه رأيك بنتك ما ينفعش تتجوز حد غيري لأنها مراتي.
- الله يطولك يا روح.
رددها بعدما أطلق زفرة لعلها تنفث ولو القليل من غضبه الذي لو أطلقه على هذا الأحمق لم يتركه حياً، ثم أردف:
- ياريت ربع الثقة اللي انت فيها دي يا أخي، وبعدين إيه مراتك دي يا ابن سعاد، اتلم أحسن لك، واللى عمال تلف وتدور عشانه، نجوم السما أقرب لك منه.
جز حمزة على أسنانه وقرر أن يتخلى عن حديثه المبهم ليلقي عليه مباشرة الآتي:
- هجيبهالك من الأخر يا يعقوب يا راوي، أنا نمت مع بنتك.
هب يعقوب كالعاصفة صائحًا:
- بتقول إيه يا كلب؟
نهض ووقف يجيب بكل جدية لا تحمل مزاح:
- زى ما سمعت ولو مش مصدقني، خدها عند أي دكتورة نسا هتقولك إنها مش بنت وما تخافش أنا كدا كدا هاستر عليها وهتجوزها، يعني المفروض تشكرني.
تجمع العمال على صياح يعقوب فصرخ بهم:
- واقفين بتهببوا إيه؟ كله يطلع برة.
خرج الجميع فجلس على المقعد ووضع يده على موضع قلبه، يرمق حمزة بنظرة قاتلة وأمره بصوت يكاد يكون مسموعًا:
- اطلع.. اطلع بره يا..
خارت قواه وأصابته حشرجة في حنجرته ثم فقد الوعي في الحال.
ــــــــــــــ
عاد يوسف من الخارج بعد أن أوصل مريم إلى منزل خالها لتعد نفسها إلى زيارة المساء كما أخبرها.
ولج ويردد كلمات إحدى الأغاني وقلبه يرقص طربًاً، وجد زوجة أبيه تجلس على الأريكة وتسند وجنتها على كفها، ذهب إليها وجلس بجوارها يسألها:
- مالك يا ماما راوية، قاعدة حزينة وحاطة إيدك على خدك كدا ليه؟
أجابت بحزن دفين:
- أختك من يوم ما رجعت انت وأبوك من السفر قافلة على نفسها ومش عايزة تخرج، حالها مش عاجبني من وقت ما أبوك رفض حمزة.
سألها بتعجب:
- هو حمزة عايز يتجوزها!
- جه هو وأختي وانت و أخوك مش موجودين لأنه عارف إنه هيترفض، وأبوك رفضه، فحمزة شد معاه راح أبوك طرده.
تمكث رقية داخل غرفتها في حالة من الضياع، تائهة ما بين أفكارها السوداء، كلما تتذكر ما فعله معها هذا الوغد حمزة تبكي بشدة وتصفع خديها بحسرة وقهر، حتى أصابها اليأس وقررت أن تتخلص من حياتها بدلًا من أن يفعل بها والدها أو شقيقيها ذلك.
فتحت درج المكتب وأخرجت القاطع الحاد، رفعت يدها وظلت تنظر إلى رسغها تارة و إلى القاطع تارة أخرى، أغمضت عينيها ورفعت القاطع إلى أعلى، وقبل أن تفعلها طُرق باب غرفتها فانتفضت وألقت ما بيدها، قلبها يخفق بقوة حتى سمعت صوت شقيقها:
- افتحي يا رقية أنا يوسف.
ظلت تلتقط أنفاسها ثم ألقت القاطع داخل الدرج وأغلقته وذهبت لتفتح الباب بوجه شاحب لاحظه جيداً شقيقها.
- مال القمر قافل على نفسه الأوضة وتقلان علينا ليه؟
ذهبت لتجلس على طرف الفراش فكانت منهكة القوى، أجابت بصوت خافت:
- تعبانة شوية.
تذكر حديث والدتها فسألها:
- تعبانة ولا زعلانة عشان بابا رفض حمزة؟
وعلى ذكر اسم هذا الذئب الوضيع اتسعت عينيها وقالت باستنكار:
- لا، مش ده السبب بقولك تعبانة يا يوسف، إيه الغريب في إن الواحد يكون تعبان؟
نبرتها التي أصبحت قوية جعلته يتعجب من ردها المبالغ، فقال لها:
- طيب قومي غيري هدومك وتعالي أوديكي للدكتور.
نهضت وبغضب قالت:
- يوسف ممكن تسيبني فى حالي، أنا هرتاح كدا، اعتبروني مش عايشة معاكم.
وعندما رأى رفضها للحديث أو إبداء السبب الحقيقي وغضبها غير المفهوم - قرر أن يتركها لبعض الوقت ثم سيطمئن عليها لاحقًا، فقال لها:
- براحتك، أنا كنت جاى أطمن عليكي مش أكتر.
ولت إليه ظهرها حتى لا يرى الدموع التي تجمعت في عينيها، وقبل أن يغادر الغرفة صدح رنين هاتفه باتصال من عرفة فأجاب:
- ألو يا عم عرفة.
أخبره الأخر:
- إلحق يا يوسف الحاج تعب ووقع من طوله فجأة وخدناه على المستشفي.
ـــــــــــــ
تنتظر عائلة يعقوب أمام الغرفة التي يتم إسعافه داخلها، ينظر الطبيب إلى شاشة الجهاز الطبي ويتابع مستوى الضغط والأكسجين في الدم وضربات القلب، دوى صفير يعلن وقوف القلب عن العمل فصاح الطبيب إلى الممرضة:
- الجهاز بسرعة.
أعطته جهاز الصدمات الكهربائية، أخذ الطبيب يضع الجهاز على صدر يعقوب فينتفض جسده بلا استجابة، كأنه لا يريد الاستيقاظ أبدًا، فما أخبره به هذا الشيطان حمزة جعل قلبه لم يتحمل تلك الصدمة التي هبطت على رأسه كالصاعقة التي تودي بحياة من تهبط عليه.
ما زال الصفير مستمرًا، وفي الخارج ينتظر كل من يوسف وراوية وعرفة ومريم، ويقف أمامهم جاسر وحمزة الذي تصنع البراءة كالحمل الوديع.
كانت راوية تردد:
- يا رب قومه بالسلامة مالناش غيره، يا رب اشفيه وعافيه من أي تعب.
خرج الطبيب وملامح الأسف والحزن على وجهه، ركض جميعهم نحوه يسألونه:
- خير يا دكتور؟
أخبرهم قائلًا:
- واضح إن الحاج يعقوب مريض قلب وماكنش متابع أو بياخد علاج، والتعب النفسي زى الصدمة خلت عضلة القلب وقفت تمامًا عن العمل، فيؤسفني أقولكم: البقاء لله.
دخل يوسف في نوبة بكاء وكذلك راوية التي تبكي بصراخ فاحتضنها جاسر وأبعدها من أمام الغرفة، بينما رقية أخذت تردد:
- لا يا بابا، ما تموتش وانت زعلان مني، أنا السبب، أنا السبب.
احتضنتها مريم وأخذت تربت عليها، فاقترب حمزة منها وقال محذرًا إياها بصوت خافت للغاية حتى لا تسمعه مريم:
- لسه شوفتي حاجة؟ ابقي خلي كلمة لا تنفعك، وبرضو هتجوزك.
رفعت وجهها ونظرت إليه بصدمة غير مصدقة ما أخبرها به للتو، هل أخبر والدها على فعلته الشنعاء بها؟ لذا لم يتحمل واستسلم إلى الموت، يعني ذلك إنه توفى غاضبًا عليها، لم يتقبل عقلها التفكير في هذا الأمر، شعرت بالخدر يسري في كل خلايا جسدها فسرعان استسلمت و فقدت الوعي في الحال.
يتبع..
شغفها عشقاً
بقلم ولاء رفعت
غلاف: عطر الربيع
كانت تائهة في درب مظلم وكان كضوء القمر الذي أنار لها الطريق وتسير إلى فؤاده، وكما هو قانون الحياة المتعارف عليه، قليلًا من الفرح يقابله كثيرًا من الحزن.
في مطعم مطل على نهر النيل، منظر خلاب حيث مياه النهر الجارية والأبنية الشاهقة في الجهة الأخرى، نسمات الهواء العليل تداعب خصلاتها المتناثرة على خديها، بينما هو يتأملها, فما أجملها من لوحة قد رسمها الخالق العظيم.
قاطع تلك اللحظات قدوم النادل الذي توقف بجوار المنضدة، يمسك صينية يعلوها كأسين من العصير الطازج، وضع كل كأس أمام كل منهما على حده، وسأله:
- أي طلبات تاني يا فندم؟
أجاب يوسف بلباقة:
- تسلم.
ذهب النادل، فتحمحم يوسف قبل أن يتحدث ويسألها:
- إيه رأيك في المكان؟
ابتسمت والخجل يغزو ملامحها وخديها يتخضبان باللون الوردي فأجابت:
- حلو المنظر جدًا، مية النيل والخضرة على ضفافه والجو حلو قوي النهاردة.
استند بمرفقيه على حافة المنضدة وأخبرها بأعذب الكلمات:
- وأحلى ما في المكان انتي.
نظرت إلى أسفل بخجل وتوتر، رفعت وجهها تتناول كوب الماء، ابتسم من خجلها الجلي فقال:
- أنا والله ما بعاكس، أنا لما ببقى شايف حاجة جميلة بوصفها من قلبي.
و كأن الهرة قضمت لسانها أو ربما توقفت الكلمات على أعتاب حلقها، فكتم ضحكاته وأردف:
- بصراحة يا مريم ومن غير لف ودوران، من ساعة ما شوفتك وأنا حسيت بحاجة بتشدني ليكي، ممكن دا اللي بيقولوا عليه الحب من أول نظرة، لكن كنت بكدب نفسي ولاقيت الإحساس بيزيد جوايا يوم ورا التاني، أتمنى إن يكون إحساسي وصلك.
أنصتت إلى كلماته وكان لها الأثر القوي، فقلبها خفق بقوة وسرت رجفة في خلايا جسدها، استطاعت أخيرًا تلملم شتاتها فعقبت:
- كل كلمة قولتها بتعبر عني بالظبط.
تهربت من نظراته ونظرت نحو مياه النهر ثم استطردت:
- يعني كل حاجة انت حسيتها أنا كمان حسيت بيها، واحتفظت بإحساسي لنفسي عشان مش عايزة أعيش في وهم.
تعجب من ذكرها لآخر كلمة فسألها:
- ليه بتقولي وهم؟
التفتت لتنظر إليه فأجابت:
- فيه فرق واضح ما بينا، أنت يوسف ابن الحاج يعقوب الراوي، وأنا بنت أخت عم عرفة اللي بيشتغل عند والدك ومجرد موظفة.
مد يده ووضعها على يدها قائلًا:
- الكلام اللي بتقوليه دا كان زمان، أيام فيلم رد قلبي، دلوقتي مفيش أي فرق و اللي عايز يوصل بيوصل لما يجتهد ويعافر.
سحبت يدها بخجل وقالت:
- يعني لو حبينا واتعلقنا ببعض أخرتها إيه؟ وهل الحاج يعقوب هيوافق يجوز ابنه لبنت أخت الراجل اللي بيشتغل عنده؟
لم يستطع كتم ضحكاته تلك المرة فأثار غضبها:
- هو أنا قلت إيه بيضحك يا أستاذ يوسف؟
توقف عن الضحك فأجاب بجدية:
- أصل الحاج يعقوب بنفسه كلم عم عرفة امبارح وقرر بإذن الله بكرة نيجي عندكم نقرأ الفاتحة.
فتحت فاها وكأن على رأسها الطير، فأردف:
- أنا من الآخر بحبك جدًا وبدعي ربنا تكوني من نصيبي، تتجوزيني يا مريم؟
ـــــــــــــــــــــ
يقف مع العمال ويشير إليهم نحو الرفوف الشاغرة:
- حط العلب دي هنا والتانية على الرفوف اللي هناك.
أومأ إليه العامل وقال:
- أمرك يا حاج.
انتبه إلى هذا القادم إليه فباغت الغضب ملامحه، سأله:
- أنت إيه اللي جابك هنا؟
ابتسم حمزة بدهاء وأجاب:
- حد يستقبل جوز بنته كدا برضو يا عمي؟
صاح يعقوب ولوح بيده إليه:
- أنت بتخرف بتقول إيه ياض؟! مش قولت ليك خلاص سيرة وفضيناها؟
اقترب منه وبصوت هادئ أخبره:
- طيب يا حاج تعالى نتفاهم بالعقل عشان انت اللي محتاج ليا.
وقد داهم الشك قلب يعقوب فقال:
- والله لو هتجيب لبنتي وزنها دهب برضو مش موافق وأديك سمعتها بنفسك عمرها ما هتعصاني لأنها عارفة وواثقة إن ببقى عايز مصلحتها وبخاف عليها من أي أذى.
نظر إليه عن كثب مع ذكر أخر كلمة، ابتلع الأخر الإهانة قائلًا:
- طيب يا عمي، اللي أنا جاي لك فيه ما ينفعش أقوله ليك قدام العمال.
كان صبر يعقوب قد أوشك على النفاد، فأطلق زفرة وأشار إليه نحو المكتب على مضض قائلًا:
- أخلص.
جلس بكل ثقة وهو في وضع المنتصر وعلى وشك أن يربح أول جولة.
- طبعاً انت لسه على موقفك مني ورافض جوازي من بنتك.
رمقه يعقوب بامتعاض وأخبره بسخرية:
- والله كلك مفهومية.
اعتدل في جلسته ووضع ساق فوق الأخرى بزهو وأفاض بما سيضع رأس يعقوب الراوي في الوحل:
- طب إيه رأيك بنتك ما ينفعش تتجوز حد غيري لأنها مراتي.
- الله يطولك يا روح.
رددها بعدما أطلق زفرة لعلها تنفث ولو القليل من غضبه الذي لو أطلقه على هذا الأحمق لم يتركه حياً، ثم أردف:
- ياريت ربع الثقة اللي انت فيها دي يا أخي، وبعدين إيه مراتك دي يا ابن سعاد، اتلم أحسن لك، واللى عمال تلف وتدور عشانه، نجوم السما أقرب لك منه.
جز حمزة على أسنانه وقرر أن يتخلى عن حديثه المبهم ليلقي عليه مباشرة الآتي:
- هجيبهالك من الأخر يا يعقوب يا راوي، أنا نمت مع بنتك.
هب يعقوب كالعاصفة صائحًا:
- بتقول إيه يا كلب؟
نهض ووقف يجيب بكل جدية لا تحمل مزاح:
- زى ما سمعت ولو مش مصدقني، خدها عند أي دكتورة نسا هتقولك إنها مش بنت وما تخافش أنا كدا كدا هاستر عليها وهتجوزها، يعني المفروض تشكرني.
تجمع العمال على صياح يعقوب فصرخ بهم:
- واقفين بتهببوا إيه؟ كله يطلع برة.
خرج الجميع فجلس على المقعد ووضع يده على موضع قلبه، يرمق حمزة بنظرة قاتلة وأمره بصوت يكاد يكون مسموعًا:
- اطلع.. اطلع بره يا..
خارت قواه وأصابته حشرجة في حنجرته ثم فقد الوعي في الحال.
ــــــــــــــ
عاد يوسف من الخارج بعد أن أوصل مريم إلى منزل خالها لتعد نفسها إلى زيارة المساء كما أخبرها.
ولج ويردد كلمات إحدى الأغاني وقلبه يرقص طربًاً، وجد زوجة أبيه تجلس على الأريكة وتسند وجنتها على كفها، ذهب إليها وجلس بجوارها يسألها:
- مالك يا ماما راوية، قاعدة حزينة وحاطة إيدك على خدك كدا ليه؟
أجابت بحزن دفين:
- أختك من يوم ما رجعت انت وأبوك من السفر قافلة على نفسها ومش عايزة تخرج، حالها مش عاجبني من وقت ما أبوك رفض حمزة.
سألها بتعجب:
- هو حمزة عايز يتجوزها!
- جه هو وأختي وانت و أخوك مش موجودين لأنه عارف إنه هيترفض، وأبوك رفضه، فحمزة شد معاه راح أبوك طرده.
تمكث رقية داخل غرفتها في حالة من الضياع، تائهة ما بين أفكارها السوداء، كلما تتذكر ما فعله معها هذا الوغد حمزة تبكي بشدة وتصفع خديها بحسرة وقهر، حتى أصابها اليأس وقررت أن تتخلص من حياتها بدلًا من أن يفعل بها والدها أو شقيقيها ذلك.
فتحت درج المكتب وأخرجت القاطع الحاد، رفعت يدها وظلت تنظر إلى رسغها تارة و إلى القاطع تارة أخرى، أغمضت عينيها ورفعت القاطع إلى أعلى، وقبل أن تفعلها طُرق باب غرفتها فانتفضت وألقت ما بيدها، قلبها يخفق بقوة حتى سمعت صوت شقيقها:
- افتحي يا رقية أنا يوسف.
ظلت تلتقط أنفاسها ثم ألقت القاطع داخل الدرج وأغلقته وذهبت لتفتح الباب بوجه شاحب لاحظه جيداً شقيقها.
- مال القمر قافل على نفسه الأوضة وتقلان علينا ليه؟
ذهبت لتجلس على طرف الفراش فكانت منهكة القوى، أجابت بصوت خافت:
- تعبانة شوية.
تذكر حديث والدتها فسألها:
- تعبانة ولا زعلانة عشان بابا رفض حمزة؟
وعلى ذكر اسم هذا الذئب الوضيع اتسعت عينيها وقالت باستنكار:
- لا، مش ده السبب بقولك تعبانة يا يوسف، إيه الغريب في إن الواحد يكون تعبان؟
نبرتها التي أصبحت قوية جعلته يتعجب من ردها المبالغ، فقال لها:
- طيب قومي غيري هدومك وتعالي أوديكي للدكتور.
نهضت وبغضب قالت:
- يوسف ممكن تسيبني فى حالي، أنا هرتاح كدا، اعتبروني مش عايشة معاكم.
وعندما رأى رفضها للحديث أو إبداء السبب الحقيقي وغضبها غير المفهوم - قرر أن يتركها لبعض الوقت ثم سيطمئن عليها لاحقًا، فقال لها:
- براحتك، أنا كنت جاى أطمن عليكي مش أكتر.
ولت إليه ظهرها حتى لا يرى الدموع التي تجمعت في عينيها، وقبل أن يغادر الغرفة صدح رنين هاتفه باتصال من عرفة فأجاب:
- ألو يا عم عرفة.
أخبره الأخر:
- إلحق يا يوسف الحاج تعب ووقع من طوله فجأة وخدناه على المستشفي.
ـــــــــــــ
تنتظر عائلة يعقوب أمام الغرفة التي يتم إسعافه داخلها، ينظر الطبيب إلى شاشة الجهاز الطبي ويتابع مستوى الضغط والأكسجين في الدم وضربات القلب، دوى صفير يعلن وقوف القلب عن العمل فصاح الطبيب إلى الممرضة:
- الجهاز بسرعة.
أعطته جهاز الصدمات الكهربائية، أخذ الطبيب يضع الجهاز على صدر يعقوب فينتفض جسده بلا استجابة، كأنه لا يريد الاستيقاظ أبدًا، فما أخبره به هذا الشيطان حمزة جعل قلبه لم يتحمل تلك الصدمة التي هبطت على رأسه كالصاعقة التي تودي بحياة من تهبط عليه.
ما زال الصفير مستمرًا، وفي الخارج ينتظر كل من يوسف وراوية وعرفة ومريم، ويقف أمامهم جاسر وحمزة الذي تصنع البراءة كالحمل الوديع.
كانت راوية تردد:
- يا رب قومه بالسلامة مالناش غيره، يا رب اشفيه وعافيه من أي تعب.
خرج الطبيب وملامح الأسف والحزن على وجهه، ركض جميعهم نحوه يسألونه:
- خير يا دكتور؟
أخبرهم قائلًا:
- واضح إن الحاج يعقوب مريض قلب وماكنش متابع أو بياخد علاج، والتعب النفسي زى الصدمة خلت عضلة القلب وقفت تمامًا عن العمل، فيؤسفني أقولكم: البقاء لله.
دخل يوسف في نوبة بكاء وكذلك راوية التي تبكي بصراخ فاحتضنها جاسر وأبعدها من أمام الغرفة، بينما رقية أخذت تردد:
- لا يا بابا، ما تموتش وانت زعلان مني، أنا السبب، أنا السبب.
احتضنتها مريم وأخذت تربت عليها، فاقترب حمزة منها وقال محذرًا إياها بصوت خافت للغاية حتى لا تسمعه مريم:
- لسه شوفتي حاجة؟ ابقي خلي كلمة لا تنفعك، وبرضو هتجوزك.
رفعت وجهها ونظرت إليه بصدمة غير مصدقة ما أخبرها به للتو، هل أخبر والدها على فعلته الشنعاء بها؟ لذا لم يتحمل واستسلم إلى الموت، يعني ذلك إنه توفى غاضبًا عليها، لم يتقبل عقلها التفكير في هذا الأمر، شعرت بالخدر يسري في كل خلايا جسدها فسرعان استسلمت و فقدت الوعي في الحال.
يتبع..