رواية شغفها عشقا الفصل الخامس 5 بقلم ولاء رفعت
༺الفصل الخامس༻
شغفها عشقاً
كان هناك أيضًا مَنْ ينتظر الفرحة بترقب، تمسك بهاتفها وتنتظر مكالمة هاتفية، تقضم أظافرها بتوتر، فقالت لها ابنة خالها القريبة منها في العمر وصديقتها:
- إيه يا بنتي عمالة تاكلي في ضوافرك قربتي تاكلي صوابعك نفسها.
ألتفتت إليها بزاوية لتخبرها:
- خايفة قوي يا أمنية، نفسي أجيب تقدير عالي عشان أدخل الكلية اللي نفسي فيها.
أخبرتها أمنية بمزاح:
- ما تخافيش يا مريم بإذن الله هاتجيبي أعلى تقدير، ما هو مش بعد ما كنتي بتفضلي سهرانة لحد الفجر بتذاكري ومش بعرف أنام بسببك وفي الأخر كل دا يروح على الفاضي.
ابتسمت مريم فازدادت جمالًا، تلك التي تمتلك ملامح والدتها بالإضافة إلى قدها الممشوق، فالجمال نعمة ولدى البعض يصبح نقمة إذا أتى على رأس صاحبته بالمصائب والابتلاءات.
- ادعي ليا انتي بس من قلبك.
رفعت أمنية يدها في وضع الدعاء قائلة:
- يا رب يا مريم يا بنت عمتو ليلى تجيبي امتياز وتدخلي الكلية، وأنا يا رب خلاص رضيت بالدبلوم بس مش عايزة غير حاجة واحدة بس، إنه يكون جاسر الراوي يبقى من نصيبي، قولي آمين يا بت يا مريم.
كانت تضحك على صيغة دعاء ابنة خالها، هزت رأسها بسأم وقالت:
- آمين يا بنت خالي.
صدح رنين هاتفها الخلوي فانتفضت، أجابت على الاتصال بقلب يخفق بقوة ويد ترتجف من التوتر والقلق:
- ألو.
- ….
- أيوه أنا مريم هشام الوكيل.
- ….
اتسع ثغرها من الجانبين بابتسامة كادت تصل إلى أذنيها، نهضت أمنية من مكانها والتصقت بها ثم وضعت أذنها على الهاتف، بينما مريم كانت تكمل حديثها قائلة:
- حاضر، شكراً لحضرتك، الله يبارك فيك، سلام.
لمست علامة إنهاء المكالمة وأظهرت الحزن على ملامحها، رأتها أمنية في تلك الحالة فسألتها بقلق:
- هو قالك إيه؟
وإذا بها تصرخ بفرحٍ عارم:
- أنا نجحت يا أونا وبتقدير جيد جداً كمان.
احتضنتها أمنية بقوة:
- ألف مبروك يا حبيبتي، وعقبال العريس بقى، وعقبالي يا رب أكون حرم جاسر الراوي.
لكزتها مريم بمزاح في كتفها:
- يا بنتي أتقلي دا زمانه كل ما بيشوفك يعرف إنك هتموتي عليه.
أمسكت بكلتا يديها لتخبرها عن مشاعرها تجاه هذا الجاسر:
- بحبه يا مريم، بموت فيه، بحبه يا ناس.
انفتح الباب بغتةً ودخلت هويدا تحدق ابنتها بغضب تسألها:
- هو مين دا اللى بتحبيه يا مقصوفة الرقبة؟
اختبأت خلف ابنة عمتها وأجابت بإنكار:
- لا يا ماما، أنا كنت بقول أشكرك يا رب، أصل مريم نجحت وجابت جيد جداً وهتدخل الجامعة.
نظرت هويدا نحو مريم وكأن أمر نجاحها غير هام، وبدلًا من أن تهنئها أو تبادر بالمباركة إليها قالت:
- دبلوم ولا معهد ولا حتى الجامعة، كله محصل بعضه ومصاريف على الفاضي، في الأخر هتتجوزي.
شعرت أمنية بالحرج من حديث والدتها التي لم تكف عن إزعاج ابنة عمتها كلما تنجح أو تفعل شيئاً جيدًا تأتي هي وتلقي عليها كلمات تجعل من جبل صامد فتات صخور محطمة، لذا عقبت:
- الكلام دا يا أمي كان زمان، ومريم شاطرة وإن شاء الله هتبقى دكتورة في الجامعة.
اكتفت والدتها برفع جانب فمها بتهكم ثم أمرت كليهما:
- يلا يا هانم منك ليها ورانا غسيل وطبيخ وأبوكي بعد ساعة هيجي يتغدى.
※※※
أتي المساء بظلامه الذي يغلب على قلوب البعض، ونجوم سمائه تنير الدروب للبعض، وهناك من يقضي لياليه في ملذاته التي لا تأتي سوى بالخطايا.
يسجل رسالة صوتية إلى الفتاة التي يراسلها منذ أكثر من شهرين، يخبرها بالآتي:
- مش هتقولي ليا انتي مين برضو، دا أنا قايلك كل حاجة عني حتى ببعت لك رسايل بصوتي، مش واثقة فيا و لا إيه؟
أرسلت إليه صاحبة الحساب باسم «حبيبي حياتي» رسالة نصية عبر تطبيق الدردشة الشهير
- طبعًا واثقة فيك، بس بصراحة مش هقدر أكلمك ولا تشوفني، خليها تيجي بظروفها يا عالم يمكن تلاقيني قدامك في الحقيقة.
عقب بداخل عقله ونظراته التي تنضح بالشهوة:
- تعالي انتي بس وأنا هخليكي واثقة فيا على الأخر.
اندفع الباب على مصراعيه، فوجد والدته تضع يديها على جانبي خصرها توبخه:
- هى دي هاتفضل حياتك على طول؟ تشتغل يومين مع أبوك وعشرة تقعد في البيت، اللي قدك معاه عيال بقوا فى المدرسة، وانت كل ما نجيب لك سيرة الجواز أو أكلمك على عروسة تقعد تطلع حجج ومبررات ملهاش لازمة، كل ده عشان تعيش حياتك على كيفك.
ألقى هاتفه وأطلق زفرة بضجر فأردفت والدته:
- انفخ يا أخويا انفخ، أهو أخوك اللي أصغر منك بتسع سنين نجح في الكلية وهيتعين كمان في الجامعة وانت خليك كدا قاعد زى الولايا في البيت.
صاح بغضب ملوحًا بيده:
- هو احنا مش هنخلص من حكاية أخوك عمل وهبب دي؟ أروح أخلص لك عليه عشان ترتاحي؟
توقفت لوهلة حتى تستوعب الكلمة التي تفوه بها ابنها، فهي تعلم مدى كراهيته لشقيقه وذلك منذ أن جلبه والده إلى المنزل وهذا يعود إلى التفريق في المعاملة بينهما، فكان يعقوب كثيراً يطلق غضبه ويعاقبه كلما أخطأ و في نفس الوقت يحنو على صغيره ويفضله في المعاملة بل ووالدته كانت كذلك، تهتم كثيراً بيوسف الذي يطيعها دائماً بكل حب، في المقابل كان ابن رحمها يفعل العكس ويجلب لها المشكلات ويجلب لها توبيخ زوجها إليها بأنها لم تستطع تربيته، مما جعل الكيل يفيض بها ولم تعد تكترث إليه.
- أنا مش بكرهك في أخوك، بس بقولك كون زيه في الصح، أنت بقى اللي بتاخد نصايحي ليك على هواك.
نهض من على الفراش واقترب منها ليخبرها بنظرة أتت من قعر الجحيم:
- بس أنا بكرهه، وهفضل أكرهه لحد أخر يوم في عمري، تقدري تقولي عدوي اللدود، وأنا اللي بيبقى عدوي بمحيه من على وش الدنيا، احمدي ربنا إن أنا سايبه لحد دلوقت عايش، ويلا عن إذنك أنا عايز أنام.
قالها ودفعها بقليل من العنف إلى الخارج وأغلق الباب في وجهها، تركها في حالة صدمة، تقسم بخالقها أن من كان يحدثها للتو كان شيطاناً وليس ابنها!
※※※
ظلت جالسة في الغرفة من بعد الانتهاء من وجبة الغداء، وذلك بعد أن أخبرت خالها برغبتها لإكمال تعليمها و الذهاب إلى الجامعة، اكتفى بكلمة المباركة لها على مضض وبعدم اكتراث إلى الأمر، مما جعلها تشعر بالحزن بدلاً من الفرح.
شعرت بالملل والضجر من التمدد على الفراش والتقلب يميناً ويساراً دون أن تغفو، شعرت بالظمأ فنهضت لتذهب إلى المطبخ حيث يوجد البراد، دخلت وفتحت الخزانة الخاصة بالأكواب وجدت يد أخرى تسبقها لتمسك بالكوب ويد أخرى تحيط خصرها المنحوت بحميمية، على الفور استدارت ثم شهقت قائلة:
- محمود!
حدق إليها بنظرة ساخرة يشوبها نظرات أخرى تعلم إلى ماذا ستنتهي، مجيبًا:
- فيه إيه مالك أتخضيتي كدة ليه؟ دا أنا كنت بقولك مبروك.
ابتعدت إلى الوراء قليلًا ونظرت إليه بغضب تنهره:
- مش هتبطل حركاتك الزبالة دي يا أخي؟!
أجاب وهو يجول ببصره على جسدها بنظرة ذئب جائع يريد التهام فريسته بضراوة.
- تنكري إن الحركات دي كانت بتعجبك زمان؟ ما هي لو مش على هواكي كان زمانك قولتي لأبويا.
نظرت إليه بازدراء ولن تنسى هذا اليوم التي ذهبت لتخبر زوجة خالها عما يفعله بها ابنها، فوجدتها توبخها و تقوم بتهديدها إذا تفوهت بهذا الهراء إلى خالها، وذلك بإخبار خالها أنها هي من تراود ولدها عن نفسه، وأنها تدخل إلي داخل غرفته من دون علمهم، حولتها هذه المرأة -التي يرفع إليها إبليس القبعة- من دور الضحية إلى الجاني، وكم من مرة ترى خالها يذعن إلى أوامر زوجته أو ربما يخشى من إغضابها، فمن المؤكد إذا أخبرته عن أفعال ولده الدنيئة سوف يخذلها، لذا قررت الدفاع عن نفسها وأن تأخذ بثأرها من كل من يقترب منها.
أجابت على اتهامه الوضيع لها:
- ومين قالك إن أنا كنت ساكتة عشان اللي بتعمله كان على هوايا؟ بص فى إيدك وأنت هتعرف.
نظر إلى يده ليتمعن في ندبة جراء ما فعلته به عندما اقترب منها وأراد تقبيلها عنوة فاستلت سكيناً صغيراً و أصابت يده بجرح قطعي.
رفع وجهه وحدق إليها بغضب وقال:
- طيب المرة اللي فاتت ماكنش فيه حد في البيت وقدرتي تجري منى، لكن دلوقتي أي حركة هتصحي أبويا وأمي و منظرك هيبقى وحش لما كمان أقولهم إنك انتي اللي جيتي صحتينى.
اقترب أكثر منها حتى أصبح أمامها مباشرة، بينما هي تمكنت بفطنة أن تفتح درج الملاعق والسكاكين، سحبت السكين دون أن تصدر صوت وعيناها لا تحيد عن هذا الذئب، وفي لحظة كاد ينقض عليها فأشهرت السكين أمام وجهه، تهدده من بين أسنانها وبصوت خافت:
- أقسم بالله لو قربت مني لأقتلك المرة دي.
تراجع بضع خطوات إلى الخلف رافعاً يديه في وضع الدفاع وظهر الخوف على ملامحه.
- نزلي السكينة دي يا مجنونة.
- ابعد من قدامي وأنا هنزلها.
قرأت الغدر في عينيه وقدمه تتأهب للقفز نحوها قائلًا:
- انتي أصلًا جبانة ولا هتقدري تعملي حاجة.
وثب نحوها ليختطف من قبضتها السكين، لكنها باغتته بغرزها في كفه فتأوه وكتم تأوهه في الحال، شهقت بفزع فألقت السكين من يدها وركضت نحو غرفتها، وفي طريقها وصل إلى سمعها صوت زوجة خالها تتشدق بحنق:
- جامعة إيه اللي البرنسيسة بنت أختك عايزة تروحها، احنا ناقصين وجع قلب ومصاريف؟ مش تحمد ربنا إنك ربتها وكبرتها وعلمتها لحد ما خلصت المعهد؟
نهاها زوجها عن ما تتفوه به:
- أخرسي يا وليه ووطي حسك للبنت تسمعك، ولا عايزة تعملي معاها زي ما عملتي مع أمها زمان لحد ما طفشت من كلامك يا مفترية.
شهقت باعتراض قائلة:
- نعم! هو أنا ضربت أختك على إيدها ولا طردتها، هي اللي ما صدقت تمشي ورجعت على ليبيا تاني لما عرفت إن جوزها طلق الست الخواجاية، داست على كرامتها ورجعت له، لا وكمان راحت تخلف منه، ورجع لعادته تاني يضرب فيها لحد ما جاب لها اكتئاب وانتحرت.
لم تتحمل سماع أكثر من ذلك، وضعت يدها على فمها لتمنع صوت شهقاتها وهي تبكي، عادت إلى الغرفة وتمددت على الفراش ثم تدثرت بالغطاء بعدما شعرت بالقشعريرة وبالبرد الذي أصاب أطرافها.
※※※
أتى صباح يوم جديد وهنا في منزل عائلة الراوي، يتجمعون حول المائدة لتناول وجبة الإفطار، يترأس يعقوب المائدة وعلى يمينه زوجته وبجوارها ابنتها الشاردة في الصحن الذي أمامها، بينما على يساره يجلس يوسف و يتناول طعامه في صمت.
سأل يعقوب زوجته:
- هو المحروس ابنك لسه نايم لحد دلوقتي؟
أجابت بسأم من ولدها العاق هذا:
- ما أنت عارف بينام متأخر ويصحى الضهر.
انتهى من تناول الطعام، نفض يديه ثم قال:
- الحمد لله.
وأردف قائلًا:
- لما تخلص فطار جهز نفسك عشان هتيجي تقف في المحل.
أومأ إليه ابنه بطاعة:
- حاضر يا بابا.
نظر يعقوب نحو كرسي ابنه الأخر ليجده شاغرًا، نظر فى ساعة يده وقال:
- ابنك بقى عنده تلاتين سنة ولا أتجوز ولا بيعمل حاجة غير إنه مقضيها مع أصحابه وابن خالته الصايع الفاشل.
- أهو عندك جوا، أدخل صحيه وقوله الكلام دا، ويا ريته زي ابن خالته، على الأقل عنده محل موبايلات و شغال زى الفل.
قالتها راوية بينما ابنتها انتبهت عندما جاء كلا من والدها ووالدتها بذكر مَنْ تحب، نهضت و قالت:
"الحمد لله"
كادت تذهب فأوقفها والدها:
- استني هنا، اقعدي.
جلست ونظرت إليه بتوتر فسألته بتوجس:
- فيه حاجة يا بابا؟
حدق إليها بنظرة زادت من توترها فسألها:
- إيه حكايتك انتي كمان، كل ما يجي لك عريس ترفضيه من غير ما حتى تقعدي معاه، كانت حجتك الأول الدراسة والمعهد، دلوقتي بقالك سنتين مخلصة.
ابتلعت ريقها ثم أجابت:
- مش شايفة حد فيهم مناسب ليا.
نظر إليها بامتعاض وسألها بسخرية:
- لما مهندس ودكتور ومحاسب، مفيش حد فيهم مناسب ليكي أُمال إيه اللي يناسبك يا أستاذة رقية؟
ترددت في إجابتها، لأنها تعلم أن ما سوف تتفوه به سيثير غضب والدها، وبعد صمت دام لثوانٍ قالت:
- أنا مش عايزة جواز صالونات، مش مقتنعة بيه خالص.
عقد ما بين حاجبيه وتمعن فيما قالت، فتدخلت والدتها بتهكم:
- قصدها يعنى يا حاج إنها عايزة واحد يكون بيحبها وبتحبه، من الأخر يكونوا بيحبوا بعض.
صاح يعقوب بغضب:
- مفيش المسخرة والكلام الفارغ دا، الحب بيجى بعد الجواز.
فقالت باندفاع:
- اشمعنا حضرتك أتجوزت أم يوسف -الله يرحمها- على ماما؟ بالتأكيد عشان كنت بتحبها قبل ما تتجوزها.
حدقت إليها والدتها بنظرة نارية ثم قالت:
- أنا هروح أصب الشاي.
أراد يوسف أن يهدأ من الأجواء المشتعلة فتدخل قائلًا:
- معلش يا بابا رقية بالتأكيد مش قصدها حاجة من اللي حضرتك فهمته، هى زي أي بنت عايزة اللى تتجوزه تكون مقتنعة بيه أو فيه إعجاب متبادل.
نهض والده وكأن الحوار الذي دار للتو لم يكن، فقال:
- سيبك منها أنا فاهم اللى فى دماغها، لأنه لو طلع إحساسي صح؟ هيبقى على جثتي إن ده يحصل.
ثم نظر إليها بحدة وتحدٍ يخبرها أن زواجها من ابن خالتها من المستحيل أن يوافق عليه.
※※※
وفي منزل عرفة كانت الأجواء ملبدة بالغيوم وكأن هناك عاصفة قادمة، يتجمعون حول المائدة، سأل زوجته:
- فين محمود؟
ابتلعت ما بفمها وأجابت:
- راح شغله من بدري.
لاحظ غياب مريم فسأل ابنته:
- مريم ما جتش تفطر ليه؟
وقبل أن تجيب خرجت مريم من الغرفة متجهة نحو خالها، مرتدية ثوب محتشم وتطلق خصلاتها على ظهرها، تمسك حقيبة يد، وقفت في مقابل المائدة، فسألها:
- لابسة كدا ورايحة على فين؟
أجابت بجدية وإصرار:
- أنا نازلة أدور على شغل.
ظهر على ملامحه الدهشة فسألها بتعجب:
- شغل! هو أنا قصرت معاكي فى حاجة يا مريم؟
هزت رأسها بالنفي وقالت:
- لا يا خالو، بس أنا عايزة أشتغل عشان مصاريف الكلية هتبقى كتير، وكفاية عليك اللي عملته معايا من وقت ما أخدتني عندك وربتني.
تبادل النظر مع زوجته، رمقها بعتاب وتأكد أن حديثهما وصل إلى ابنة شقيقته، عليه أن يصلح ما أفسدته زوجته حتى لا يخسر الأخرى كما خسر شقيقته للأبد، تنهد وألتفت إلى مريم قائلًا:
- ليه بتقولي كدا يا بنتي، أنا زى باباكي وواجب عليَّ أكبرك وأعلمك لحد ما أسلمك لعريسك، والشقة دى ليكي فيها ورث أمك الله يرحمها.
لا تريد أن تخوض مناقشة قد برمت أمرها من قبل:
- أنا طلبي واضح جداً، كل اللي أنا طلباه عايزة أشتغل، وأظن أنا خلاص ما بقتش صغيرة، وما تقلقش عليَّ، أنا بعرف أحافظ على نفسي قوي من أي حد يسمح لنفسه يتطاول عليَّ، أو حتى يجى جمبي.
نظرت إلى هويدا التي تهربت من النظر إليها، فقالت هويدا:
- وماله يا حبيبتي، الشغل مش عيب، سيبها يا عرفة تعمل اللي يريحها، مريم جدعة وشاطرة.
عقبت أمنية بعد ما جال في ذهنها فكرة لتتمكن من رؤية مَنْ يسلب قلبها:
- آه صح يا بابا مش الحاج يعقوب عنده كذا فرع وبالتأكيد بيبقى عايز بنات تشتغل عنده، ما تقوله على مريم وأنا كمان، وأنا واثقة إنه مش هيرفض لحضرتك طلب.
عقب والدها على حديثها:
- الحاج يعقوب ما بيشغلش عنده بنات، والسبب إنه مش عايز مشكلات خصوصًا إن جاسر ابنه ما بيسبش أي واحدة بتيجى تشتغل عندهم في حالها.
علقت والدتها على طلبها بامتعاض:
- شغل إيه يا بت اللي عايزة تنزليه دا، وإن شاء الله لما انتي ومريم تنزلوا الشغل مين اللي هيساعدني فى شغل البيت؟ ولا أنا الخدامة اللي جابها لكم أبوكي.
امتعضت ملامحها بحزن فقال لها والدها:
- أمك عندها حق يا أمنية، كفاية واحدة فيكم تشتغل.
التفت إلى مريم ونهض ليردف:
- وانتي يا مريم معلش، ادخلي غيري هدومك وأنا النهاردة بإذن الله هكلم الحاج عليكي ما تقلقيش، أهو على الأقل هتبقي قدام عيني.
※※※
- عمال تلف وتدور في الكلام ليه يا عرفة، كلم مريم وخليها تيجي، أنا هلاقي فين حد شاطر زيها و أمين يمسك الحسابات عندي؟
كان حديث يعقوب قد أثلج صدر عرفة، الذي شعر بالفرح فسأله ليتأكد:
- يعني يا حاج انت موافق تشتغل عندك بجد؟
ضحك من بطء استيعاب عرفة وقال:
- مالك يا عرفة؟ دا أنت بتسمع أحسن مني، ما أنا لسه قايلك هاتها تشتغل تمسك حسابات المحل، وأهي فرصة يوسف موجود يفهمها الشغل ماشي ازاي.
- ربنا يبارك لنا فيك يا حاج يعقوب وتفرح بيهم وهما عرسان وتشوف أحفادك يا رب.
عقب يعقوب بسرور:
"يا رب"
وكان يحدق نحو ابنه بنظرة تخفي أمرًا يريد حدوثه منذ سنوات، وها قد جاء الآن الوقت المناسب.
يتبع.
شغفها عشقاً
كان هناك أيضًا مَنْ ينتظر الفرحة بترقب، تمسك بهاتفها وتنتظر مكالمة هاتفية، تقضم أظافرها بتوتر، فقالت لها ابنة خالها القريبة منها في العمر وصديقتها:
- إيه يا بنتي عمالة تاكلي في ضوافرك قربتي تاكلي صوابعك نفسها.
ألتفتت إليها بزاوية لتخبرها:
- خايفة قوي يا أمنية، نفسي أجيب تقدير عالي عشان أدخل الكلية اللي نفسي فيها.
أخبرتها أمنية بمزاح:
- ما تخافيش يا مريم بإذن الله هاتجيبي أعلى تقدير، ما هو مش بعد ما كنتي بتفضلي سهرانة لحد الفجر بتذاكري ومش بعرف أنام بسببك وفي الأخر كل دا يروح على الفاضي.
ابتسمت مريم فازدادت جمالًا، تلك التي تمتلك ملامح والدتها بالإضافة إلى قدها الممشوق، فالجمال نعمة ولدى البعض يصبح نقمة إذا أتى على رأس صاحبته بالمصائب والابتلاءات.
- ادعي ليا انتي بس من قلبك.
رفعت أمنية يدها في وضع الدعاء قائلة:
- يا رب يا مريم يا بنت عمتو ليلى تجيبي امتياز وتدخلي الكلية، وأنا يا رب خلاص رضيت بالدبلوم بس مش عايزة غير حاجة واحدة بس، إنه يكون جاسر الراوي يبقى من نصيبي، قولي آمين يا بت يا مريم.
كانت تضحك على صيغة دعاء ابنة خالها، هزت رأسها بسأم وقالت:
- آمين يا بنت خالي.
صدح رنين هاتفها الخلوي فانتفضت، أجابت على الاتصال بقلب يخفق بقوة ويد ترتجف من التوتر والقلق:
- ألو.
- ….
- أيوه أنا مريم هشام الوكيل.
- ….
اتسع ثغرها من الجانبين بابتسامة كادت تصل إلى أذنيها، نهضت أمنية من مكانها والتصقت بها ثم وضعت أذنها على الهاتف، بينما مريم كانت تكمل حديثها قائلة:
- حاضر، شكراً لحضرتك، الله يبارك فيك، سلام.
لمست علامة إنهاء المكالمة وأظهرت الحزن على ملامحها، رأتها أمنية في تلك الحالة فسألتها بقلق:
- هو قالك إيه؟
وإذا بها تصرخ بفرحٍ عارم:
- أنا نجحت يا أونا وبتقدير جيد جداً كمان.
احتضنتها أمنية بقوة:
- ألف مبروك يا حبيبتي، وعقبال العريس بقى، وعقبالي يا رب أكون حرم جاسر الراوي.
لكزتها مريم بمزاح في كتفها:
- يا بنتي أتقلي دا زمانه كل ما بيشوفك يعرف إنك هتموتي عليه.
أمسكت بكلتا يديها لتخبرها عن مشاعرها تجاه هذا الجاسر:
- بحبه يا مريم، بموت فيه، بحبه يا ناس.
انفتح الباب بغتةً ودخلت هويدا تحدق ابنتها بغضب تسألها:
- هو مين دا اللى بتحبيه يا مقصوفة الرقبة؟
اختبأت خلف ابنة عمتها وأجابت بإنكار:
- لا يا ماما، أنا كنت بقول أشكرك يا رب، أصل مريم نجحت وجابت جيد جداً وهتدخل الجامعة.
نظرت هويدا نحو مريم وكأن أمر نجاحها غير هام، وبدلًا من أن تهنئها أو تبادر بالمباركة إليها قالت:
- دبلوم ولا معهد ولا حتى الجامعة، كله محصل بعضه ومصاريف على الفاضي، في الأخر هتتجوزي.
شعرت أمنية بالحرج من حديث والدتها التي لم تكف عن إزعاج ابنة عمتها كلما تنجح أو تفعل شيئاً جيدًا تأتي هي وتلقي عليها كلمات تجعل من جبل صامد فتات صخور محطمة، لذا عقبت:
- الكلام دا يا أمي كان زمان، ومريم شاطرة وإن شاء الله هتبقى دكتورة في الجامعة.
اكتفت والدتها برفع جانب فمها بتهكم ثم أمرت كليهما:
- يلا يا هانم منك ليها ورانا غسيل وطبيخ وأبوكي بعد ساعة هيجي يتغدى.
※※※
أتي المساء بظلامه الذي يغلب على قلوب البعض، ونجوم سمائه تنير الدروب للبعض، وهناك من يقضي لياليه في ملذاته التي لا تأتي سوى بالخطايا.
يسجل رسالة صوتية إلى الفتاة التي يراسلها منذ أكثر من شهرين، يخبرها بالآتي:
- مش هتقولي ليا انتي مين برضو، دا أنا قايلك كل حاجة عني حتى ببعت لك رسايل بصوتي، مش واثقة فيا و لا إيه؟
أرسلت إليه صاحبة الحساب باسم «حبيبي حياتي» رسالة نصية عبر تطبيق الدردشة الشهير
- طبعًا واثقة فيك، بس بصراحة مش هقدر أكلمك ولا تشوفني، خليها تيجي بظروفها يا عالم يمكن تلاقيني قدامك في الحقيقة.
عقب بداخل عقله ونظراته التي تنضح بالشهوة:
- تعالي انتي بس وأنا هخليكي واثقة فيا على الأخر.
اندفع الباب على مصراعيه، فوجد والدته تضع يديها على جانبي خصرها توبخه:
- هى دي هاتفضل حياتك على طول؟ تشتغل يومين مع أبوك وعشرة تقعد في البيت، اللي قدك معاه عيال بقوا فى المدرسة، وانت كل ما نجيب لك سيرة الجواز أو أكلمك على عروسة تقعد تطلع حجج ومبررات ملهاش لازمة، كل ده عشان تعيش حياتك على كيفك.
ألقى هاتفه وأطلق زفرة بضجر فأردفت والدته:
- انفخ يا أخويا انفخ، أهو أخوك اللي أصغر منك بتسع سنين نجح في الكلية وهيتعين كمان في الجامعة وانت خليك كدا قاعد زى الولايا في البيت.
صاح بغضب ملوحًا بيده:
- هو احنا مش هنخلص من حكاية أخوك عمل وهبب دي؟ أروح أخلص لك عليه عشان ترتاحي؟
توقفت لوهلة حتى تستوعب الكلمة التي تفوه بها ابنها، فهي تعلم مدى كراهيته لشقيقه وذلك منذ أن جلبه والده إلى المنزل وهذا يعود إلى التفريق في المعاملة بينهما، فكان يعقوب كثيراً يطلق غضبه ويعاقبه كلما أخطأ و في نفس الوقت يحنو على صغيره ويفضله في المعاملة بل ووالدته كانت كذلك، تهتم كثيراً بيوسف الذي يطيعها دائماً بكل حب، في المقابل كان ابن رحمها يفعل العكس ويجلب لها المشكلات ويجلب لها توبيخ زوجها إليها بأنها لم تستطع تربيته، مما جعل الكيل يفيض بها ولم تعد تكترث إليه.
- أنا مش بكرهك في أخوك، بس بقولك كون زيه في الصح، أنت بقى اللي بتاخد نصايحي ليك على هواك.
نهض من على الفراش واقترب منها ليخبرها بنظرة أتت من قعر الجحيم:
- بس أنا بكرهه، وهفضل أكرهه لحد أخر يوم في عمري، تقدري تقولي عدوي اللدود، وأنا اللي بيبقى عدوي بمحيه من على وش الدنيا، احمدي ربنا إن أنا سايبه لحد دلوقت عايش، ويلا عن إذنك أنا عايز أنام.
قالها ودفعها بقليل من العنف إلى الخارج وأغلق الباب في وجهها، تركها في حالة صدمة، تقسم بخالقها أن من كان يحدثها للتو كان شيطاناً وليس ابنها!
※※※
ظلت جالسة في الغرفة من بعد الانتهاء من وجبة الغداء، وذلك بعد أن أخبرت خالها برغبتها لإكمال تعليمها و الذهاب إلى الجامعة، اكتفى بكلمة المباركة لها على مضض وبعدم اكتراث إلى الأمر، مما جعلها تشعر بالحزن بدلاً من الفرح.
شعرت بالملل والضجر من التمدد على الفراش والتقلب يميناً ويساراً دون أن تغفو، شعرت بالظمأ فنهضت لتذهب إلى المطبخ حيث يوجد البراد، دخلت وفتحت الخزانة الخاصة بالأكواب وجدت يد أخرى تسبقها لتمسك بالكوب ويد أخرى تحيط خصرها المنحوت بحميمية، على الفور استدارت ثم شهقت قائلة:
- محمود!
حدق إليها بنظرة ساخرة يشوبها نظرات أخرى تعلم إلى ماذا ستنتهي، مجيبًا:
- فيه إيه مالك أتخضيتي كدة ليه؟ دا أنا كنت بقولك مبروك.
ابتعدت إلى الوراء قليلًا ونظرت إليه بغضب تنهره:
- مش هتبطل حركاتك الزبالة دي يا أخي؟!
أجاب وهو يجول ببصره على جسدها بنظرة ذئب جائع يريد التهام فريسته بضراوة.
- تنكري إن الحركات دي كانت بتعجبك زمان؟ ما هي لو مش على هواكي كان زمانك قولتي لأبويا.
نظرت إليه بازدراء ولن تنسى هذا اليوم التي ذهبت لتخبر زوجة خالها عما يفعله بها ابنها، فوجدتها توبخها و تقوم بتهديدها إذا تفوهت بهذا الهراء إلى خالها، وذلك بإخبار خالها أنها هي من تراود ولدها عن نفسه، وأنها تدخل إلي داخل غرفته من دون علمهم، حولتها هذه المرأة -التي يرفع إليها إبليس القبعة- من دور الضحية إلى الجاني، وكم من مرة ترى خالها يذعن إلى أوامر زوجته أو ربما يخشى من إغضابها، فمن المؤكد إذا أخبرته عن أفعال ولده الدنيئة سوف يخذلها، لذا قررت الدفاع عن نفسها وأن تأخذ بثأرها من كل من يقترب منها.
أجابت على اتهامه الوضيع لها:
- ومين قالك إن أنا كنت ساكتة عشان اللي بتعمله كان على هوايا؟ بص فى إيدك وأنت هتعرف.
نظر إلى يده ليتمعن في ندبة جراء ما فعلته به عندما اقترب منها وأراد تقبيلها عنوة فاستلت سكيناً صغيراً و أصابت يده بجرح قطعي.
رفع وجهه وحدق إليها بغضب وقال:
- طيب المرة اللي فاتت ماكنش فيه حد في البيت وقدرتي تجري منى، لكن دلوقتي أي حركة هتصحي أبويا وأمي و منظرك هيبقى وحش لما كمان أقولهم إنك انتي اللي جيتي صحتينى.
اقترب أكثر منها حتى أصبح أمامها مباشرة، بينما هي تمكنت بفطنة أن تفتح درج الملاعق والسكاكين، سحبت السكين دون أن تصدر صوت وعيناها لا تحيد عن هذا الذئب، وفي لحظة كاد ينقض عليها فأشهرت السكين أمام وجهه، تهدده من بين أسنانها وبصوت خافت:
- أقسم بالله لو قربت مني لأقتلك المرة دي.
تراجع بضع خطوات إلى الخلف رافعاً يديه في وضع الدفاع وظهر الخوف على ملامحه.
- نزلي السكينة دي يا مجنونة.
- ابعد من قدامي وأنا هنزلها.
قرأت الغدر في عينيه وقدمه تتأهب للقفز نحوها قائلًا:
- انتي أصلًا جبانة ولا هتقدري تعملي حاجة.
وثب نحوها ليختطف من قبضتها السكين، لكنها باغتته بغرزها في كفه فتأوه وكتم تأوهه في الحال، شهقت بفزع فألقت السكين من يدها وركضت نحو غرفتها، وفي طريقها وصل إلى سمعها صوت زوجة خالها تتشدق بحنق:
- جامعة إيه اللي البرنسيسة بنت أختك عايزة تروحها، احنا ناقصين وجع قلب ومصاريف؟ مش تحمد ربنا إنك ربتها وكبرتها وعلمتها لحد ما خلصت المعهد؟
نهاها زوجها عن ما تتفوه به:
- أخرسي يا وليه ووطي حسك للبنت تسمعك، ولا عايزة تعملي معاها زي ما عملتي مع أمها زمان لحد ما طفشت من كلامك يا مفترية.
شهقت باعتراض قائلة:
- نعم! هو أنا ضربت أختك على إيدها ولا طردتها، هي اللي ما صدقت تمشي ورجعت على ليبيا تاني لما عرفت إن جوزها طلق الست الخواجاية، داست على كرامتها ورجعت له، لا وكمان راحت تخلف منه، ورجع لعادته تاني يضرب فيها لحد ما جاب لها اكتئاب وانتحرت.
لم تتحمل سماع أكثر من ذلك، وضعت يدها على فمها لتمنع صوت شهقاتها وهي تبكي، عادت إلى الغرفة وتمددت على الفراش ثم تدثرت بالغطاء بعدما شعرت بالقشعريرة وبالبرد الذي أصاب أطرافها.
※※※
أتى صباح يوم جديد وهنا في منزل عائلة الراوي، يتجمعون حول المائدة لتناول وجبة الإفطار، يترأس يعقوب المائدة وعلى يمينه زوجته وبجوارها ابنتها الشاردة في الصحن الذي أمامها، بينما على يساره يجلس يوسف و يتناول طعامه في صمت.
سأل يعقوب زوجته:
- هو المحروس ابنك لسه نايم لحد دلوقتي؟
أجابت بسأم من ولدها العاق هذا:
- ما أنت عارف بينام متأخر ويصحى الضهر.
انتهى من تناول الطعام، نفض يديه ثم قال:
- الحمد لله.
وأردف قائلًا:
- لما تخلص فطار جهز نفسك عشان هتيجي تقف في المحل.
أومأ إليه ابنه بطاعة:
- حاضر يا بابا.
نظر يعقوب نحو كرسي ابنه الأخر ليجده شاغرًا، نظر فى ساعة يده وقال:
- ابنك بقى عنده تلاتين سنة ولا أتجوز ولا بيعمل حاجة غير إنه مقضيها مع أصحابه وابن خالته الصايع الفاشل.
- أهو عندك جوا، أدخل صحيه وقوله الكلام دا، ويا ريته زي ابن خالته، على الأقل عنده محل موبايلات و شغال زى الفل.
قالتها راوية بينما ابنتها انتبهت عندما جاء كلا من والدها ووالدتها بذكر مَنْ تحب، نهضت و قالت:
"الحمد لله"
كادت تذهب فأوقفها والدها:
- استني هنا، اقعدي.
جلست ونظرت إليه بتوتر فسألته بتوجس:
- فيه حاجة يا بابا؟
حدق إليها بنظرة زادت من توترها فسألها:
- إيه حكايتك انتي كمان، كل ما يجي لك عريس ترفضيه من غير ما حتى تقعدي معاه، كانت حجتك الأول الدراسة والمعهد، دلوقتي بقالك سنتين مخلصة.
ابتلعت ريقها ثم أجابت:
- مش شايفة حد فيهم مناسب ليا.
نظر إليها بامتعاض وسألها بسخرية:
- لما مهندس ودكتور ومحاسب، مفيش حد فيهم مناسب ليكي أُمال إيه اللي يناسبك يا أستاذة رقية؟
ترددت في إجابتها، لأنها تعلم أن ما سوف تتفوه به سيثير غضب والدها، وبعد صمت دام لثوانٍ قالت:
- أنا مش عايزة جواز صالونات، مش مقتنعة بيه خالص.
عقد ما بين حاجبيه وتمعن فيما قالت، فتدخلت والدتها بتهكم:
- قصدها يعنى يا حاج إنها عايزة واحد يكون بيحبها وبتحبه، من الأخر يكونوا بيحبوا بعض.
صاح يعقوب بغضب:
- مفيش المسخرة والكلام الفارغ دا، الحب بيجى بعد الجواز.
فقالت باندفاع:
- اشمعنا حضرتك أتجوزت أم يوسف -الله يرحمها- على ماما؟ بالتأكيد عشان كنت بتحبها قبل ما تتجوزها.
حدقت إليها والدتها بنظرة نارية ثم قالت:
- أنا هروح أصب الشاي.
أراد يوسف أن يهدأ من الأجواء المشتعلة فتدخل قائلًا:
- معلش يا بابا رقية بالتأكيد مش قصدها حاجة من اللي حضرتك فهمته، هى زي أي بنت عايزة اللى تتجوزه تكون مقتنعة بيه أو فيه إعجاب متبادل.
نهض والده وكأن الحوار الذي دار للتو لم يكن، فقال:
- سيبك منها أنا فاهم اللى فى دماغها، لأنه لو طلع إحساسي صح؟ هيبقى على جثتي إن ده يحصل.
ثم نظر إليها بحدة وتحدٍ يخبرها أن زواجها من ابن خالتها من المستحيل أن يوافق عليه.
※※※
وفي منزل عرفة كانت الأجواء ملبدة بالغيوم وكأن هناك عاصفة قادمة، يتجمعون حول المائدة، سأل زوجته:
- فين محمود؟
ابتلعت ما بفمها وأجابت:
- راح شغله من بدري.
لاحظ غياب مريم فسأل ابنته:
- مريم ما جتش تفطر ليه؟
وقبل أن تجيب خرجت مريم من الغرفة متجهة نحو خالها، مرتدية ثوب محتشم وتطلق خصلاتها على ظهرها، تمسك حقيبة يد، وقفت في مقابل المائدة، فسألها:
- لابسة كدا ورايحة على فين؟
أجابت بجدية وإصرار:
- أنا نازلة أدور على شغل.
ظهر على ملامحه الدهشة فسألها بتعجب:
- شغل! هو أنا قصرت معاكي فى حاجة يا مريم؟
هزت رأسها بالنفي وقالت:
- لا يا خالو، بس أنا عايزة أشتغل عشان مصاريف الكلية هتبقى كتير، وكفاية عليك اللي عملته معايا من وقت ما أخدتني عندك وربتني.
تبادل النظر مع زوجته، رمقها بعتاب وتأكد أن حديثهما وصل إلى ابنة شقيقته، عليه أن يصلح ما أفسدته زوجته حتى لا يخسر الأخرى كما خسر شقيقته للأبد، تنهد وألتفت إلى مريم قائلًا:
- ليه بتقولي كدا يا بنتي، أنا زى باباكي وواجب عليَّ أكبرك وأعلمك لحد ما أسلمك لعريسك، والشقة دى ليكي فيها ورث أمك الله يرحمها.
لا تريد أن تخوض مناقشة قد برمت أمرها من قبل:
- أنا طلبي واضح جداً، كل اللي أنا طلباه عايزة أشتغل، وأظن أنا خلاص ما بقتش صغيرة، وما تقلقش عليَّ، أنا بعرف أحافظ على نفسي قوي من أي حد يسمح لنفسه يتطاول عليَّ، أو حتى يجى جمبي.
نظرت إلى هويدا التي تهربت من النظر إليها، فقالت هويدا:
- وماله يا حبيبتي، الشغل مش عيب، سيبها يا عرفة تعمل اللي يريحها، مريم جدعة وشاطرة.
عقبت أمنية بعد ما جال في ذهنها فكرة لتتمكن من رؤية مَنْ يسلب قلبها:
- آه صح يا بابا مش الحاج يعقوب عنده كذا فرع وبالتأكيد بيبقى عايز بنات تشتغل عنده، ما تقوله على مريم وأنا كمان، وأنا واثقة إنه مش هيرفض لحضرتك طلب.
عقب والدها على حديثها:
- الحاج يعقوب ما بيشغلش عنده بنات، والسبب إنه مش عايز مشكلات خصوصًا إن جاسر ابنه ما بيسبش أي واحدة بتيجى تشتغل عندهم في حالها.
علقت والدتها على طلبها بامتعاض:
- شغل إيه يا بت اللي عايزة تنزليه دا، وإن شاء الله لما انتي ومريم تنزلوا الشغل مين اللي هيساعدني فى شغل البيت؟ ولا أنا الخدامة اللي جابها لكم أبوكي.
امتعضت ملامحها بحزن فقال لها والدها:
- أمك عندها حق يا أمنية، كفاية واحدة فيكم تشتغل.
التفت إلى مريم ونهض ليردف:
- وانتي يا مريم معلش، ادخلي غيري هدومك وأنا النهاردة بإذن الله هكلم الحاج عليكي ما تقلقيش، أهو على الأقل هتبقي قدام عيني.
※※※
- عمال تلف وتدور في الكلام ليه يا عرفة، كلم مريم وخليها تيجي، أنا هلاقي فين حد شاطر زيها و أمين يمسك الحسابات عندي؟
كان حديث يعقوب قد أثلج صدر عرفة، الذي شعر بالفرح فسأله ليتأكد:
- يعني يا حاج انت موافق تشتغل عندك بجد؟
ضحك من بطء استيعاب عرفة وقال:
- مالك يا عرفة؟ دا أنت بتسمع أحسن مني، ما أنا لسه قايلك هاتها تشتغل تمسك حسابات المحل، وأهي فرصة يوسف موجود يفهمها الشغل ماشي ازاي.
- ربنا يبارك لنا فيك يا حاج يعقوب وتفرح بيهم وهما عرسان وتشوف أحفادك يا رب.
عقب يعقوب بسرور:
"يا رب"
وكان يحدق نحو ابنه بنظرة تخفي أمرًا يريد حدوثه منذ سنوات، وها قد جاء الآن الوقت المناسب.
يتبع.