رواية إغواء حواء الفصل الثالث 3 بقلم شروق حسن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بكىٰ عمر بن عبد العزيز ثُمَّ قال :
اللُهمَّ إنَّك قلت:
وأنا شيء، فلتسَعني رحمتك!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
•(الفصل الثالث)
•(نـدم ووعـيـد)
•(إغـواء حـواء)
كم من متاهاتٍ قد دخلت طيلة حياتك؟ مع كل عُسرٍ تتوقع أن يكون الأخير، فتُصدَم بأنه لم يكن سوى بداية لجحيمٍ جديد، تتخبط في الجدران هُنا وهُناك، وتظن أنك ناجٍ والحقيقة أنكَ في هلاك، حتى الحب لم يعد يشفع لك، والابتسامة لا تُصلِح فساد القلب، الحديث يُضيف جروحًا فوق الجروح، والذكريات تطرق فوق الحديد الكليم!
يتأوه بألمٍ وبأنينٍ خافت، هو "نوح تشارلي" الذي أُصيب بإحدى الطلقات في ذراعه لتوه، كتم أنينه ونظر حوله بحذرٍ بعد أن تأكد من أمان المكان، ثم حوَّل نظراته إلى تلك الفتاة التي تُجاوره، فتاةٌ بجسد نحيل مُلوث وأعيُن هرة ترجوه أن يُنقذها، تقدمت منه "آريانا" تسأله بصوت هامس لكنه مذعور:
_سيدي هل أنت بخير؟
كان صوت الطلقات المُبادلة بالخارج بين فريقه والقتلة الآخرين تصم آذانه، إلا أنه استطاع أن يسمع همسها، لذلك أومأ لها إيجايا وهو يُجيبها بالروسية:
_نعم "آريانا" أنا بخير، استمعي إلىّ جيدًا حتى نخرج من هُنا بسلام.
ثبتت عيناها الواسعة عليه تستحثه أن يُكمل الحديث، لكنه ضغط على أسنانه بقوة حينما اشتد الألم بذراعه الذي ينزف بغزارة، فلم تنتظر "آريانا" لثانية أخرى وهي تخلع ذلك الوشاح من على رقبتها وتلفه حول جرحه النازف، ضغطت عليه بقوة بالرغم من ارتعاش كفها، حتى نجحت أخيرًا في وقف الدماء مؤقتًا، تنفس "نوح" بعنفٍ وهو ينظر بتشوش نحو إحدى النوافذ الصغيرة المُقابلة لهما، ثم قال بنهيج:
_اركضي نحو تلك النافذة واقفزي منها، لقد أمَّنتُ لكِ الطريق، لا تتوقفي أبدًا مهما حدث، أسمعتي؟
أدمعت عيني "آريانا" بفزع، ثم قالت بأعين دامعة:
_لكن سيدي أنت مُصاب، لا يمكنني...
قاطع "نوح" حديثها وهو يُعنفها بغضب:
_استمعي لحديثي ولا تُجادليني، اهربي الآن.
وأمام غضبه انصاعت إلى أوامره، فابتعدت عن مُحيطه وهرولت إلى النافذة المقصودة، لكن ولسوء حظها قد أدركتها الطلقات، جاعلة جسدها يهوىٰ على الأرض بعد أن فقدت روحها الحياة! وهذا آخر ما شاهده "نوح" قبل أن يفقد وعيه من شدة الإنهاك!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا تدري أي نفسٍ في أي مكانٍ ستتنفس، المرء فقط يُجازف حتى يعيش.
تقف أمام مرآتها بابتسامة هادئة، تُحاول أن تُقاوم صداع رأسها الطفيف، والذي يُداهمها كل صباح، لملمت خصلاتها معًا قبل أن تُدرايهم أسفل حجاب رأسها الأسود القُطني المُزين بنقوش صغيرة مُهندمة، نظرت لذاتها برضا قبل أن تستدير وتتجه نحو هاتفها الذي صدح رنينه بارتفاع، زوت ما بين حاجبيها باستغراب للرقم المجهول أمامها، قبل أن تحسم أمرها وتُجيب بصوتٍ هاديء ورقيق:
_آلو!
وجهها كان هادئًا، مُريحًا، وجميلًا، وعيناها كانت صافية وراقية، لكن بعد أن استمعت إلى صوت المُتحدث، تحولت فيروزية عيناها إلى زرقاء قاتمة من شدة غضبها، خاصةً حينما قال الطرق الآخر:
_لو سِمعت إنك ورا اللي حصل لأختي يا "شمس" همحيكِ من على وش الأرض.
لتكون إجابتها كصفعة قوية له:
_مترنش على رقمي تاني يا ظابط نُص كُم أنت، وروح شوف أختك اللي مقضياها من شقة للتانية، اعتقد كدا هيبقى أفضل ليك.
وبعدها أغلقت الهاتف بوجهه دون أن تستمع إلى أي كلمة أخرى، غافلة عن سبابه اللاذع وغضبه الجم الذي كان سيرميه فوقها، تنفس "خالد" بعنفٍ وبرزت عروق يده من شدة الضغط على الهاتف، هو الآن على آخره، يُريد أن يصب غضبه في أي شخصٍ كان، لكن لن يستطيع، خصوصًا في ذلك المكان الذي يقف به الآن!
حاول ضبط نفسه حينما رأى الأمين يقترب منه، وحينما وقف قبالته أدىٰ له تحيته العسكرية ومن ثَم قال:
_"يزيد" باشا مستني سيادتك جوا يا "خالد" بيه.
أومأ له "خالد" ودلف بثقة نحو مكتب "يزيد"، لاحظ رُقيه عكس البقية، يتمتع بالطابع الكلاسيكي الجاد، حيث يطغي اللون الأسود على كل شيء، رسم ابتسامة صغيرة على شفتيه قبل أن يمد يده نحو "يزيد" لمُصافحته، مُتزامنًا مع قوله:
_"يزيد" باشا عامل إيه؟
بادله "يزبد" المُصافحة وهو يقول:
_الحمد لله يا "خالد" باشا، اتفضل اقعد.
جلس "خالد" أمامه لا يعلم من أين يبدأ الحديث، أحيانًا يسب شقيقته بس فعلتها التي سببت له الإحراج والعار من الجميع، وأحيانًا أخرى يُنفِّض تلك الفكرة عن رأسه مُتيقنًا بأن أخته من المستحيل أن تقوم بذلك الفعل الفاحش، طال صمته فقال "يزيد" بهدوء:
_جاي تتابع قضية أخت حضرتك صح؟
رفع "خالد" أنظاره إليه مومئًا له بانزعاج، فقال "يزيد" بأسف:
_أنا مقدر موقفك يا "خالد" باشا بس التهمة ثابتة على الآنسة "سكن"، خصوصًا إن إحنا لقينا في الشقة رجالة وستات تانيين غيرها.
ليتشدق "خالد" مُدافعًا:
_بس أنا أختي مستحيل تعمل كدا، إيه اللي يخليها تدخل المجال دا أصلًا؟ الحوار دا مش مظبوط يا "يزيد" باشا، أكيد فيه حاجة غلط وأختي مزقوقة في العك دا.
تشابكت أصابع "يزيد" معًا، واستند بمرفقيه على زجاج مكتبه، ومن ثَم قال:
_والله إحنا لحد دلوقتي بنحقق وأكيد أي معلومة بنوصلها بتفيدنا، لكن لا أختك ولا اللي كانوا معاها عايزين يتكلموا، ودا بيثبت التهمة عليهم أكتر!
_أكيد خايفين أو حد مهددهم، صدقني يا "يزيد" باشا أنا "سكن" أختي متعملش كدا أبدًا، أنا واثق فيها.
_بس ثقتك متعملش حاجة في التحقيقات والأدلة اللي بتجيلنا، إحنا هنا بنشوف شغلنا صح، مش هناخدها بالإحساس.
انزعج "خالد" من نبرته المُتهكمة التي طغت على حديث "يزيد" رغمًا عنه، فقطب الأول جبينه بانزعاجٍ وهو يتسائل:
_قصدك إيه يا "يزيد" باشا؟
ثلجت نظرات "يزيد" فجأة وهو يُجيبه:
_أنت أكيد ظابط وعارف قصدي كويس يا "خالد" باشا، اقعد مع أختك وافهم منها وخليها تعترف، وسواء فعلًا ليها يد في القضية أو لأ فإحنا هنوصل لكل حاجة، وللي ورا الشبكة اللي بتديرها هي واللي معاها.
انفلت غضب "خالد" وطفت عصبيته على هدوئه الذي كان يرسمه، وثب من مجلسه وضرب على سطح المكتب بكلِ عُنفوان وهي يُصيح بغضب أعمى:
_أنا أختي مش بتدير حاجة وملهاش ذنب، أنت سامع؟
احتدت عيني "يزيد" غضبًا، والذي وقف بدوره من مكانه وصاح بعصبية:
_إلزم حدودك واعرف أنت بتكلم مين كويس، أنا ممكن دلوقتي أطردك وأقل منك، بس أنا هعذرك بس وهقدَّر الظرف اللي أنت بتمر بيه.
كم يكره أن يكون موضع ضعف أو شفقة، لذلك غادر المكان بعد أن رمق "يزيد" بغضب، تاركًا الأخير يُفكِّر جيدًا في أمره، فهمهم مُفكرًا:
_اممممم.. "خالد نصر الدين"؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فليسمع العالم إني ما عُدت أحمِلُ،
أثقالّا فوق أثقالي وأتعابي".
تركت المنزل لترى العالم، تُريد أن تتحرر من عقدة أفكارها، أن تجعل كل ذكرياتها رمادًا، وأن تسبح في فضاء روحها مع ذكرياتها التي نستها بخضم إرادتها، هي قررت وسارت شوطًا يصعب اجتيازه، هي "سچىٰ" التي قررت التخلي عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها، الهِرة التي رفضت الانصياع لحقيقتها، بل وحاربت الخضوع وهربت!
كانت تسير غافلة عن كل شيءٍ حولها، ناظرة إلى مظهر الغروب الذي غزا نفسها المُرهقة؛ فأراحها، توقفت صارخة حينما أوشك جسدها في التصادم مع إحدى السيارات التي توقفت على بُعدِ خطواتٍ قليلة منها، تنفست بعنفٍ أثر خوفها، لكن عيناها قد اتسعتا حينما لمحت "مُغيث" يخرج من السيارة ويُتمتم بغيظ:
_لأ ما هو مش معقول مكتوبلي أنا اللي أخبطك في كل مرة!
زوت ما بين حاجبيها بضيقٍ وهي تُجيبه بتبجح:
_دا يوضحلك إن العيب منك أنت مش مني!
اقترب منها حتى توقف قبالتها، واستند بظهره على مقدمة السيارة بذراعين معقودين أمام صدره، ومن ثَم قال:
_لأ دا من حظك الحلو إن أنا اللي بظهر قدامك كل مرة، وإلا كان زمانك بقيتي في عداد الموتى دلوقتي.
رمقته مُستنكرة قبل أن تُربِّع ذراعيها أمام صدرها هي الأخرى، تُفكر لما يرميها القدر في طريقه كل مرة، هل يمكن أن يطبع هو الآخر نقطة سوداء في حياتها! أم سيمر مرور الكِرام كما مرَّ غيره سابقًا! اعتدل "مُغيث" في وقفته وتسائل بجدية حينما لاحظ انزعاج تقاسيمها:
_مالِك فيه إيه؟ حد ضايقك من البيت عندي؟
هزت رأسها نفيًا كاذبة عليه بشأن والدته، المرأة التي تتسبب في رهبتها في كل مرة تراها بها، لا تعلم سبب خوفها منها، لكن الذي تتأكد منه هو أن "أهلة" ليست من النوع السهل أبدًا، لكن "مُغيث" ليس بالأبله ليُصدقها، هو يعلم أساليبها جيدًا، خاصةً مع الغُرباء المجهولين كخاصتها، لذلك ابتسم بلطفٍ وهو يسألها:
_ماما ضايقتك صح؟
حدجته باستغراب لثقة نبرته، فاتسعت ابتسامته واتبعها بقوله:
_دي أمي وأنا عارفها وعارف طبعها، بس أنتِ مش عارفاها علشان كدا مفكرة حذرها منك قلة قبول وعدم راحة، لكن الحقيقة عكس كدا بكتير، "هولا" لو وثقت فيكِ هتلاقي قدامك واحدة مخزون حنان الدنيا كله فيها، لكن علشان هي وبابا مروا بظروف وحشة كتير دا مخليهم ميثقوش في حد بسهولة أبدًا، وعلى فكرة بابا زيها مش واثق فيكِ، بس الفرق إن هو بيعرف يفرَّق بين معاملته وشكه، غير ماما، مبتعرفش تجامل أو تزوَق الكلام.
"سچىٰ" لم ترى مجرد شخصًا يُدافع عن والديه، وإنما ترى طفلًا تلتمع عيناه فخرًا بأبويه، رغم أن الحديث لم يكن بذلك الدفئ وأخافها قليلًا، إلا أنها لم تستطيع أن تتجاهل كل ذلك الحب المُقطَّر بين كلماته، يالحظِه بعائلته، تلك التي تجعله يتحدث بكل ثقة عنهم وكأنهم أعظم ما في الوجود، على عكسها تمامًا، هي التي تريد أن تتجرد من اسمها، وتلفظ لقب عائلتها بعيدًا!
ابتسمت بشجن جِراء حديثه، ثم قالت:
_أختك حوراء واخدة طبع والدتك هي كمان، حسيتها عايزة تحرقني في مكاني.
ضحك "مُغيث" عاليًا وقال ببعضِ الاندهاش:
_أنتِ قابلتي "حوراء" إمتى؟
ردت عليه "سچىٰ" بغيظٍ وهي تُجيبه:
_إمبارح، جت ليا هي ومامتك وباباك و"فيروزة"، زيارتهم كانت لطيفة ومامتك كانت ألطف بصراحة، ويا عيني على نظرات "حوراء" ليا، ولا كلامها اللي يتحط على الجرح يطيب!
تعالت ضحكاتهما معًا عقب انتهائها من حديثها، تزامنًا مع اهتزاز رأس "مُغيث" بيأس والذي قال:
_والله أنا مش عارف أثبتلك إزاي إنهم طيبين بأفعالهم دي!
_بكرة الزمن هيثبتلي كل حاجة متستعجلش، ولو نكدوا عليا هاجي أنكد أنا عليك.
انمحت ابتسامة "مُغيث" الذي تشدق باستنكار:
_أنتِ مفكراني خطيبك ولا إيه؟ لأ روحي نكدي على "فيروزة" أحسن، هتعمل من زعلك نُكت والدنيا هتعدي بسلام.
ابتسمت "سچىٰ" بخفة، واقتربت تستند على مقدمة السيارة بجانبه؛ لتُكمِل مشاهدة الغروب الذي ينتهي، يومٌ خلف يومٍ يذهب ويزول وألمها الذي يطول، انقبض فؤادها حينما لمحت بطرف عينها طيفًا لشخصٍ تعرفه، بل تحفظ خياله وظله أيضًا، استدارت برأسها نحو محل البقالة الذي يبتعد عنهما ببضعة أمتار قليلة، ليتأكد حدسها حينما رأت أبغض الأشخاص على قلبها، بل سبب كوابيسها وكُرهها لحياتها، وقبل أن تتقابل أوجههما، استدارت بسرعة نحو "مُغيث" وقالت:
_يلا نمشي.
تعجب "مُغيث" تحول حالتها فجأة بين الثانية والأخرى، ليتسائل مُستغربًا:
_مالك وشك مخطوف كدا ليه؟
لم تُعطِه فرصة للرد، وإنما سارت بخُطىٰ واسعة نحو السيارة قبل أن تُجيبه وصعدت بداخلها، ليختفي وجهها خلف الزجاج الأسود من الخارج، شكَّ "مُغيث" في أمرها للحظات، ونظر حوله للمارة فلم يجد أيًا منهم ينظر تجاههم، ما خطبها تلك؟ وما سبب ذعرها هذا؟
هز كتفه بجهلٍ قبل أن يصعد للسيارة بجانبها، مُتجاهلًا صوت أنفاسها العالية، وارتعاشتها الواضحة، وبؤبؤي عينها المُتوتر، سيتناقش مع أبيه حول هذا الأمر، لا بُد وأن "سچىٰ" تخفي الكثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دوائي كان نفسي ونفسي هي المؤذية.
تجلس "حوراء" خلف مقعد مكتبها وأمامها أحد الأطفال يجلس على قدم والدته التي تُحطيه بخوفٍ وترمقها باستجداءٍ أن تُطمئنها، ابتسمت "حوراء" لوالدة الطفل وهي تُدون بعض الأشياء التي تحتاجها في ورقة ناصعة البياض، إلا مِن هامشها الذي يُكتَب عليه اسمها كاملًا ويسبقه لقبها، رفعت نظرها إليها ثم قالت:
_إن شاء الله خير يا أم "زياد"، أنا بس طالبة منك شوية تحاليل تعمليها علشان نتطمن أكتر على "زياد"، ولحد ما نتيجة التحاليل تظهر أنا هكتبله مُسكن ياخده مرة الصبح بعد الفطار، ومرة بالليل بعد العَشا.
_طيب يا دكتورة بالله عليكِ طمنيني، ابني هيبقى كويس؟
رأت منها رجاءً صامتًا ودموعًا صامتة داخل حدقتيها، فابتسمت "حوراء" التي قالت مؤكدة:
_هيبقى كويس إن شاء الله، أنا مش عارفة أنتِ خايفة ليه كدا، دا كلهم شوية مغص، ولا "زياد" بقى هو دلوعة العيلة علشان كدا خايفة عليه؟
هزت الأخيرة رأسها بنفيٍ بعد أن سمحت لدمعة حارة بشق طريقها على وجنتيها، قبل أن تهتف بنشيجٍ صامت:
_لأ الموضوع مش كدا، بس زياد نجىٰ من الموت بصعوبة، كان عنده كانسر وبيشتكي من نفس الأعراض، وبعد 3 سنين الحمد لله ربنا شافاه بعد ما بيعنا اللي ورانا واللي قدامنا علشان نجيب تمن علاجه، خايفة يكون المرض رَد ليه من تاني، وقتها مش هنعرف نعالجه علشان مش معانا فلوس نعالجه بيها.
رمقتها "حوراء" بحزنٍ بالغ، التي أمامها هي أم مكلومة ضحت بالكثير من أجل فلذة كبدها، تُذكرها بوالديها، لذلك هبت من مقعدها واتجهدت إليها لتجلس بجانبها، ثم قالت بصوتٍ يملؤه اليقين:
_أنا متأكدة إن ربنا مش هيخيب ظنه فيكِ، وبعدين خليكِ واثقة فيه، ما يمكن عنده الجرثومة ودا اللي أنا متأكدة منه بنسبة كبيرة، بس أنا مرضتش أقولك علشان فيه أمهات بيخافوا من الحوار دا، اعملي التحاليل اللي قولتلك عليها وغذيه كويس وبعد كدا تعالي الأسبوع الجاي، اتفقنا؟
حديثها قد أعطاها أملًا كانت تفقده بسبب سواد تفكيرها، أومأت لها بالإيجاب، قبل أن تمسح دموعها تأخذ روشتة الدواء وتخرج مع ابنها، الذي رمىٰ ابتسامة آسرة لـ"حوراء" التي بادلته إياها تلقائيًا.
تنهدت براحة بعد أن وجدت جميع مواعيدها قد انتهت، تعمل كآلة من الساعة الثامنة صباحًا وحتى الساعة السادسة مساءًا، عملها مُتعب، وظهرها يؤلمها في كثيرٍ من الأحيان، لكنها تعشقه، هي وأخيها قد اقتبسا حُب العمل من أبيها الذي مازال يُواظب على مهنته حتى الآن، أراحت ظهرها على المقعد المائل، ورغمًا عنها أخذها عقلها في نُقطة لا تُحبها، وهي نبذ الجميع لها وكأنها مسخٌ مُشوه!
لا تستطيع تجاهل نظرات المقط من البعض ناحيتها، بالرغم من إتقانها دور البرود واللامُبالاة دائمًا، لكن الذي يُقلل الشعور بآلامها، هي حب عائلتها التي تُغدقها به، ترتشفه رشفة برشفة وكأنهم يُدللونها، ولِمَ لا؟ وهي ابنة "قاسم" الكُبرى، ومعشوقة فؤاده الثانية بعد "أهلة"، وبالرغم من شغفه اللامُتناهي بزوجته، إلا أنَّ شعوره بالسعادة حينما يُناظرها يفوق كل الأوصاف، قطعة منه كبرت كل دقيقة أمام عينيه، كيف له ألا يكون مُتيم بها!
فاقت من شرودها على صوت طرق الباب، تلاه دخول المُمرضة التي مدت يدها إليها بمظروف صغير وهي تقول:
_دا جواب جِه لحضرتك يا دكتورة.
اعتدلت "حوراء" في جلستها وهي تتسائل بجبينٍ مُقطب:
_مين اللي بعته؟
_معرفش والله، أنا لقيته موجود على الكرسي اللي برا وعليه اسم حضرتك.
التقطته منها "حوراء" رغم الاستغراب الذي يُداهمها، ثم سمحت لها بالذهاب، لتُقلِّب المظروف بين يديها قبل أن تُقرر فتحه، كان داخله ورقة بيضاء مطوية مطبوع عليها رمز الشمس، ومُعلَّق بها سلسال فِضي صغير يتدلىٰ منه حورية بحر فضية وقالبها أزرق اللون.
تألقت عيناها ببعضٍ من الإعجاب قبل أن تقع عيناها على الكلمات المُدونة بخطِ اليد، فقرأتها بصوتٍ مسموع:
_"لم تكن السماء هي مكانك، ولن تتألقي كنجمٍ يلمع وَسط الكثير من النجوم، أنتِ بالأسفل مع الحوريات، تغوصين بالبحرِ، والبحر هو قلبي".
رمشت "حوراء" بعينيها عدة مرات، طيلة حياتها لم تكن من مُحبي تلك العبارات، ولا تُعير أيًا منهم أي انتباه، ولم تُلمِّح يومًا برغبتها في مثل ذلك الحديث، فلِمَ قد يُرسِل أحدهم لها تلك الكلمات؟ لن تُنكِر تألقها ورُقيها، ولن تتجاهل تأثرها بمعانيها العريقة، ولن تتغاضىٰ عن سحرها وبراعتها، لكن مَن المُرسل؟
طال تفكيرها لعدة دقائق، وحينما أدركت وقتها؛ وقفت من مكانها واضعة المظروف برسالته وسلساله داخل حقيبتها، ومن ثَم غادرت المشفى، غافلة عن روح الأنثى التي تتراقص بفرحٍ داخلها!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جميع الظروف سيئة، فلا تعلم أتلوم البحر على عُمقه، أم تلوم السماء على بُكائها!
فتح عيناه بعد ليلة طويلة قضاها في الجحيم، لم تتركه أفكاره، ولم يهدأ عقله عن التفكير ولو لثانية واحدة، هو حُوصِر بين شكه وآلامه، هو يُعاني للمرة المائة بعد الألف من فكرة عدم وجود والديه معه، لكن تلك الليلة كانت الأصعب، شعر فيها بأن روحه كانت على وشك الصعود، وأن المكان الذي فيه ليس مكانه من البداية، وإنما وجوده هو وشقيقته نوع من أنواع تكفير الذنوب!
وقف "معاذ" من مضجعه بصعوبة، واتجه نحو المرحاض مُتجاهلًا رنين هاتفه الذي صدح لأكثر من مرة، وضع رأسه أسفل صنبور المياة، يطلب من عقله برجاء أن يتوقف عن شيطانه، وحينما فشل في لجم الزمام، صرخ بتعبٍ أحرق روحه:
_كفايـــــــــــة بقى.. كفايـــــــــــة.
أنهى حديثه تزامنًا مع تحطيمه لمرآة المرحاض التي أمامه بكلِ غضبٍ وأسىٰ، سقط أرضًا بعد أن فشلت قدماه في حمله، الحقيقة كانت مُرة ولاذعة لدرجة لم يكن ليتخيلها، والدته قتلت والده، والسبب؟ "قاسم وأهلة"!
جاءت إليه ركضًا "سما" التي استمعت إلى صوت تحطيمٍ قوي، شهقت خوفًا وهي تتجه إليه بحذرٍ حتى جلست القرفصاء أمامه، ثم تسائلت بفزع:
_"معاذ" مالك؟ إيه اللي حصلك قاعد كدا ليه، أنت كويس؟
لمحت دموع عينه التي تحررت من محبسها، فأمسكت بوجهه بين يديها وعادت لتسأله بخوف:
_"معاذ" حبيبي رُد عليا علشان خاطري، مالك إيه اللي حصل؟
لكن لسانه صامت بالرغم من محاولاتها لجعله يتحدث، هو فقط يبكي كطفلٍ صغيرٍ ضائع، لكن الفرق بأنه طفل كبير وتائه! لا يعلم أيُخبرها بما يعلم، أم يناظر ليعرف الحقيقة كاملة بنفسه! حتى الآن المُرسَل مجهول وينتظر منه جوابًا آخر علَّه يجد مرسىٰ لأفكاره، تنفس بعنفٍ بعد أن مرت دقائق مُتتالية أخرى، قبل أن يُسيطر على ذاته ويقول بصوتٍ ثابت:
_مفيش حاجة يا "سما" أنا كويس.
_كويس إزاي يعني أنت مش شايف حالتك! بتعيط ليه قولي علشان خاطري، دا أنت طول عمرك مخبتش عني حاجة ووجعنا بنتقاسمه سوا.
كانت تتحدث بصوتٍ مُرتعش أوشك على البكاء، نقطة ضعفها هي أخيها في تلك الحياة، عاشا كلاهما تحت كنف جميع رجال ونساء العائلة، لم يشعرا يومًا بغرابة بينهم، وبالرغم من ذلك فإن علاقتهما بينهما البعض كانت أقوى من أي علاقة في العائلة بأكملها، لم يرا أيًا من والديهما، لكنهما يشعران بروحهما حولهما طيلة تلك السنوات، خاصةً مع حديث "قاسم" عنهما، والذي كان يخبرهما بأنهما كانا من أنقى الأشخاص في هذا العالم.
استند "معاذ" على الأرضية السيراميكية المُبتلة ثم وقف من مجلسه، وسحب مع شقيقته لتقف هي الأخرى دون أي حديث أو إجابة، كاد أن يتجاهلها ويذهب، لكنها أوقفته قائلة برجاء:
_متخبيش عني حاجة وقولي مالك!
ابتسم بشحوبٍ قبل أن يقترب ويُقبلها من جبينها بحب، ثم تركها وغادر دون أي كلمة أخرى، وما سيُضيف؟ مازال لا يُصدق تلك الرسالة المبعوثة مع الصور، ولأول مرة يشعر بالصور تتحدث وتنطق، لكن هو! عاجز مشلول لا يفهم ولا يتحرك!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطُرق مُتعثرة، والنَفس مُتعبة لا تتحمل.
يشعر بهمهماتٍ من حوله فتُخرِجه من غيبوبته المُؤقتة، أبعد "نوح" جفناه عن بعضهما البعض، فوجد. عدة أشخاص أمامه لا تتبين وجوههم، الرؤية مازالت مُشوشة أمام ناظريه، والألم في ذراعه حارق لا يُحتمل، حتى أن صداع رأسه يكاد أن يفتك به، شعر بيدٍ توضع على خده، وصوت والدته يخترق مسامعه بنشيجٍ باكٍ:
_"نوح".. "نوح" حبيبي أنت سامعني؟
تأوه بأنين خافت، لا يتذكر الأحداث الأخيرة التي مرت، عقله مُشوش وذاكرته لا تُسعفه، كل ما يشعر به هو الألم الذي يخترق جسده وروحه، ظل يقاوم لعدة دقائق، حتى استعاد جزءًا من عافيته المُهدرة، واتضحت الرؤية أمام، هو بالمشفى، ذراعه مُضمد ورأسه كذلك، عائلته حوله يُطالعونه بقلق، وأبيه شاحب الوجه وكأنه أوشك على فقد روحه.
_ماذا حدث.
نبس بها بلكنته الروسية المُعتادة، قبل أن يستمع إلى صوت "سهيلة" تهتف ببكاء:
_الحمد لله يارب، الحمد لله، أنت عايش يا "نوح"، عايش يا حبيبي؟
أبعدتها "مهرائيل" قليلًا حتى تسنح لها رؤية هذا المُصاب وهي تهتف بسخطٍ نتج عن فزعها:
_مبنسألش السؤال بالطريقة دي يا حبيبتي، أنتِ بتهببي إيه؟ وسعي سيبيني اتصرف.
امسكت بيده ومسدت بكفها على رأسه بمسحاتٍ صغيرة، ثم تسائلت بحنان:
_قولي يا "نوح" يا حبيبي، أنت شايفني ولا اتعميت؟
نكزها "آلبرت" في جانبها بقوة جعلتها تتأوه بعنفٍ قبل أن ترمقه بحدة، في حين تشدق هو ساخطًا:
_أنتِ اللي بتنيلي إيه بجد والله؟ وأنا اللي فكرتك هتسأليه سؤال عاقل زي الناس الطبيعيين عشان تطمني عليه!
لتصرخ بغضب جعلت المسكين النائم جانبها ينتفض بفزع:
_أنت بتنغزني كدا ليه؟ ما الدكتور قال إن خبطة دماغه ممكن تسببله آثار جانبية، دي غلطتي إني عايزة اتطمن على عينيه؟
أغمض "آلبرت" عيناه بيأس، ثم جذب يده زوجته ليُبعدها عن جسد "نوح" المُنهك والذي مازال عقله مشوشًا، ثم اقترب منه بدوره يُربت على كتفه السليم ويقول:
_ألف سلامة عليك يا بطل، مبيقعش إلا الشاطر، شِد حيلك كدا علشان ترجع أقوى من الأول.
ابتسم له "نوح" بخفة، قبل أن تنتقل نظراته نحو أبيه الذي كان صامتًا، لكن عيناه تعكس مقدار الضغط النفسي الذي مرَّ به طيلة فترة مكوثه داخل غرفة العناية، وشحوب وجهه يُثبت هلعه، أطال النظر به وكان "فور" يُبادله النظرات، فمد "نوح" يده نحو يحثه على التقدم وهو يُناديه:
_بابا.
اقترب "فور" منه مُمسكًا بكفه، لا يُصدِّق بأنه كاد أن يفقده، لم تكن تلك المرة الأولى التي يُصاب بها، لكن تلك المرة كانت الأخطر وكاد أن يفقده، فما كان سؤال "فور" سوى أن قال:
_أنت كويس؟
أومأ له "نوح" بالإيجاب، ثم ابتسم مُقررًا مُمازحته وهو يقول:
_متقوليش إنك مكلتش! هتفضل تذلني بيها أسبوع.
ابتسم "فور" بطريقة باهتة، لا يستطيع مُجاراة مزاحه في تلك اللحظة تحديدًا، شعوره بأن روحه قد سُحِبَت منه وعادت مُجددًا مؤلم للغاية، أحيانًا يتمنى لو لم يُطاوع ابنه ويقبل بدخوله كلية الشرطة، لو كان رجل أعمال مثل "ماكسيم" لكان أفضل له مئة مرة، على الأقل كان سيطمئن عليه أكثر، تنهد براحة قبل أن يقول:
_هستناك تفوق علشان تاكل معايا، ما أنت عارف إني مش بعرف آكل من غيرك.
مسحت "سهيلة" دموعها السائلة على خديها وقالت بصوتٍ مُتحشرج:
_بس أنت واكل النهاردة أربع مرات.
رمقها بطرفِ عينه ثم قال مُبررًا:
_بس أكل أي كلام يعني، أنا قصدي الأكل اللي بحق وحقيقي، اللي بنتجمع فيه كلنا دا، بستناه علشان قلبي مبيطاوعنيش آكل من غيره، دا مهما كان ابني حبيبي برضه ومقدرش أحط اللقمة في بوقي من غير وجوده.
رمقه الجميع باستنكار جَلي، مهما جعل "فور" يُحمحم بجرأة ويُطالع ابنه براحة من جديد، وتلك المرة تحدثت "سهيلة" قائلة برجاء:
_ما تسيب الشغل دا يا "نوح" علشان خاطري، أنت مش عارف أنا إزاي عايشة في قلق وخوف من إني أخسرك بسبب مأمورياتك اللي مش بتخلص.
_يا ماما إحنا اتكلمنا في الحوار دا كذا مرة وقولتلك إني بحب شغلي، أنا عايز ابقى زي بابا وأعمامي، ما تتكلم يا بابا وتقول حاجة.
نبس بحديثه ببعض الضيق الممزوج بتعبه، هو شغوف بعمله للغاية، وازداد حبه له منذ الصِغر بسبب الحكايات التي كان يستمع إليها من أبيه وأخواته الستة، حتى درس بجِد وعمل بجدٍ أكبر حتى يصل لما وصل إليه الآن، وبعد كل هذا تُريد والدته أن يترك الشيء الوحيد الذي يُسعده؟ اهتزت حدقتي "فور" وقال مُقترحًا:
_ما تجرب تسمع كلام أمك وتشتغل مع "ماكسيم" ابن عمك!
رمق "نوح" والده بذهولٍ للحظات، وما كاد أن يتحدث، حتى استمع إلى صوت "آلبرت" الصارم:
_سيب ابنك يعمل اللي هو عايزه يا "فور"، إحنا لما بدأنا حياتنا محدش اتدخل في قرارات التاني، متجبرهوش يسيب شغله اللي بيحبه بسبب خوفك عليه، ومتنساش إننا عدينا بظروف أصعب من دي بكتير، وأوقات بنكون طالعين المهمة وعارفين إننا ممكن نخسر حد فينا، فالمفروض تكون اتعودت!
برر "فور" حديثه بحديثٍ آخر أكثر بلاهة:
_بس دا ابني وانتوا إخواتي، انتوا ستة يعني لو واحد مات فيكم هيتبقى خمسة غيره، إنما أنا معنديش غيره الحيلة اللي عندي.
أغمض "آلبرت" عيناه يُحاول ضبط أعصابه حتى لا ينقض على أخيه الأحمق ويفتك برأسه، ثم فتحهما مُجددًا وتسائل بصبرٍ طويل:
_يعني أنت عايز دلوقتي إيه؟
ليُجيبه "فور" ساخطًا:
_عايزه يجرب الشغل مع "ماكسيم" يمكن يحب شغل رجال الأعمال أكتر، على الأقل لا فيه نار ولا مهمات ولا ضرب نار، وابنك بخير دايمًا.
حديثه كان عفويًا غير مقصود، وقبل أن يُجيبه "آلبرت"، أتاه اتصالًا على هاتفه فأجاب وهو يُطالع "فور" بغضب، فاستمع إلى الطرف الآخر يقول:
_سيد "آلبرت"، لقد تعرض السيد "ماكسيم" لهجوم ناري وهو الآن بالمشفى.
_مــــــــــــــاذا؟؟؟؟؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل تلك الشرور والعالم مُنتهي، فماذا إن كان دائم والأرواح باقية؟
منذ عدة أيام كانت تُخطط للانتقال من مكانها، بعد أن عثر "خالد" على مكانها وتوصل إليها، الآن هي تقف في منطقة أكثر رُقيًا، يعيش بها طبقات المُجتمع الكُبرى، وبين العمائر الشاهقة والنظيفة، هي تقف أمام محلها الكبير والذي قامت بإنهائه على اكمل شكل مُمكن، آخذة مكان كبير قامت بتقسيمه إلى فئتين، فئة للآلات التي تصنع بها المُصوغات الفضية بنفسها، وفئة للواجهة الأصلية فضية اللون بأشكال فضية كلاسيكية راقية.
فتحت "شمس" الباب الزجاجي ببطئٍ، ليأسرها مظهر المحل من الداخل، حيث قامت مساعدتها بـ رَص كل المصوغات في أرفف زُجاجية لامعة، وفي الجوانب يوجد باقات من الزهور المُلونة أضفت جاذبية في المكان، وبالجانب يوجد مكتب كبير أسود اللون مكتوب عليه اسم ماركتها "فضيَّات الشمس"، كل شيء مُهذب كما تخيلته من قبل، لقد تحقق حُلمها وحُلم والدها، وأصبحت من أشهر الماركات لبيع الفضيات المصنوعة بيدها.
نظرت "شمس" إلى مساعدتها وقالت لها بلُطف:
_روَّحي أنت يا "مودة" وخُديلك إجازة أسبوع، أنتِ تعبتي معايا جامد الفترة اللي فاتت.
_لا تعب ولا حاجة يا أستاذة "شمس"، أنتِ مش متخيلة أنا مبسوطة إزاي إنك وأخيرًا أخدتي الخطوة دي ونقلتي المحل والورشة لمكان أحسن، وبسم الله ما شاء الله المكان واسع أوي عن المحل القديم، أنا متأكدة إن فرصة البيع هنا هتبقى أحسن وسط الهوانم والبشوات.
كانت تتحدث بحماسة شديدة جعلت "شمس" تبتسم بسعادة كانت واضحة داخل عينيها البلورية التي اتسعت حدقتاها، تنفست براحة ولاحت بنظراتها في المكان لمرة أخيرة وهي تقول:
_أنتِ مش متخيلة أنا تعبت قد إيه علشان أوصل للي أنا فيه دا، دا كان حلم بابا الله يرحمه والشغل دا كان شغفه وأنا اتعلمته منه، ومستحيل أفرَّط فيه أبدًا.
ابتسمت لها "مودة" ومن ثَم قالت:
_إن شاء الله هيكون فَتحة خير عليك أنا مُتأكدة من دا.
رمقتها "شمس" بامتنان، قبل أن تودعها وتظل هي وحدها بالمكان، تنظر حولها مُفتخرة لِمَ وصلت إليه بعد تعب كل تلك السنوات، لقد عانت لسنواتٍ عدة، وبكت لليالٍ كثيرة، وانهارت في أيامٍ طويلة، لكنها أمام الناس جامدة صلبة، تُخفي ضعف شعورها خلف قناع من الصمود والقوة، توقفت عيناها على المرآة التي تحتل جانب من الحائط، بأطرافها المُتعرجة والغير مُنتظمة، وأطرافها مُزينة بصلصالٍ صلب على شكل ورود صغيرة وبعدة ألوان مُختلفة، صورتها المُعاكسة كانت جميلة، وازداد جمالها بوجود حلقات الفضية الموضوعة خلفها في الأرفف الزجاجية.
اتجهت لتجلس على مكتبها، ها هي نالت ما تمنت، والآن ستفعل ما خططت له، ستُعيق طريق "خالد" وتُبكي عائلته دمًا بدلًا من الدموع، ستأخذ بثأر والدها ووالدتها، هي فقط ستُشاهد وهُم سيخوضون التجربة!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حينما تُحاول أن تسبح من أعماقك لتغوص على سفح مدينتك، تشعر بأن المدينة تلفظك كمسخٍ منبوذ، فلا تدري إلى أين تذهب، إلى الأعماق الذي يخنقك، أم نحو المدينة التي تنبذك؟
أمسك "يحيى" بيدِ "آلاء" أمام غرفة المشفى الخاصة بـ"آسر"، وجميع الشباب مُلتفين من حوله، يُناظرون تلك الخائفة وكأنها ذاهبة لمُقابلة وحشًا، وليس أخيها الذي ترعرعت في كنفِه طيلة حياتها، تنفست عدة مرات بصخبٍ عالٍ، حتى استمعت إلى صوت "يحيى" يقول بحسم:
_"آلاء" أنتِ داخلة تقابلي "آسر" مش حد غريب، و"آسر" غِلط وكلنا متفقين على دا، بس هو دلوقتي بيتعاقب أشد عقاب وبيموت بالبطيء بسبب إحساسه بالذنب، والحل في إيدك أنتِ مش حد تاني، علشان كدا اظبطي نفسك كدا بدل ما أخدك ونمشي.
أومأت له ببطئٍ، تعلم أن أبيها يتألم أكثر منها لكنه يُداري هذا خلف قناع جموده، استدارت مُتخذة طريقة نحو باب الغرفة، توقفت أمامها لثوانٍ مُترددة، قبل أن تحسم أمرها بالدخول بغتةً، قاطعة على نفسها جحيم التفكير القاتل، في حين كان الترقب يظهر على أوجه الجميع، وحينما اختفت من أمام أعينهم، هتف "غيث" بقلق:
_يارب خير، يارب محدش يفتح دماغ التاني يارب، استرها على عيلتنا التعبانة يارب، هما عالم معفنة بس طيبين والله يارب.
فأضاف "مُغيث" فوق حديثه:
_يارب ولد.
كذلك قال "يزيد":
_يارب أنا عايز بنت.
رمقه الجميع باستنكار، عدا "يحيى" الذي كان يُطالع الجميع باشمئزاز منذ البداية، وحين تحدث الأخوان هتف فيهما بحدة:
_ولا أنت وهو بقولك إيه أنا مش ناقصكم، اقفوا انتوا الاتنين باحترام بدل ما أكلم أبوكوا يجي يشيلكوا انتوا الاتنين من قدامي، أنا أعصابي بايظة لوحدها أنا بقولكم أهو.
ربت "يامن" على كتفه مواسيًا إياه، ثم أردف بحبٍ يُقطِّر من بين كلماته تقطيرًا:
_إهدى يا عمي وخُد نَفسك لتموت إحنا لسه عايزينك، افرض بنتك انحرفت زي أخوها مين اللي هيلمها لو مُت؟ يرضيك بنتك تنحرف؟
حدجه "يحيى" بعصبية قبل أن يدفعه بعيدًا ويُصيح بهم:
_بقولك إيه يا حيوان أنت وهو! انتوا موترني، فانزلوا تحت استنوا في أي مصيبة لحد ما البت تخرج من عند الواد.
احتضنه "غيث" غصبًا رغم محاولات "يحيى" المُستميتة لدفعه، لكنه في النهاية فشل، ليستمع إلى صوت "غيث" يهتف برفضٍ مُنفعل:
_لأ يا عمي لأ مستحيل نسيبك لوحدك، زي ما جينا سوا هنمشي سوا، أنا لا يمكن اتخلى عنك يا "يحيى" دا أنت حبيب قلبي.
_ابعـــــــد يا حيوان الكُل بيبص علينا، هتشبهنا يا مُتخلف أنت!!!
ابتعد "غيث" بمضض أثر صراخ "يحيى" عليه، فجذبه "مُغيث" لأحضانه وهو يهتف مُستنكرًا:
_تعالى يا "غيث" يا حبيبي في حضني أنا، أصل اللي زي عمك "يحيى" بيرفص النعمة ومبيعرفش قيمتها غير لما تروح منه.
ليهتف "يامن" بضيق:
_والله!! يعني بتحضنوا بعض واتخليتوا عني أنا؟
جذبه "مُغيث" إليه هو و"يزيد" وهو يقول بابتسامة مُتسعة:
_تعالى ياض معانا أنت كمان، دايرة الحب كبيرة وتسيع كل الأشكال والألوان والنسوان.
رمقهم "يحيى" باشمئزاز في البداية، لكن بعدها هز رأسه بيأسٍ وهو يضحك على أحاديثهم، يعلم بأنهم يُحاولون تخفيف توتره، لكن خوفه على أبنائه يتعدى كل الحدود، ياليت ذلك البلاء يمُر دون أن يترك أي مُر.
وفي الداخل... كان "آسر" جالسًا أمام "مؤمن" الذي لم يُخبره حتى الآن بوجود شقيقته، قرابة الساعة وهو واقف تلك الوقفة أمامه دون أن يتحدث، وحينما طال ذلك، هتف "آسر" بانفعال:
_هو فيه إيه يا "مؤمن" أنت عايز مني إيه في يومك دا! ما تسيبني في حالي واخرج يا أخي!
رمقه "مؤمن" شزرًا وهو يلعن ويسب "مغيث" والبقية بداخله، لقد أخبروه بإلهاء "آسر" لبعض الوقت القليل وعدم إخباره لأي شيء، وها هو ذا، يقف كالقرد قرابة الساعة دون أي جديد، ليهمس بصوتٍ خفيض:
_إخس على تربيتكوا المعفنة، دا انتوا عالم تِعر، أنا غلطان أساسًا إني اتعرفت على أشكال زي أشكالكم.
انفرجت شفتاه للحديث، لكنه أغلقهما مُجددًا حينما استمع إلى صوت "آلاء" التي دلفت لتوها تقول بنشيجٍ باكٍ:
_كنت خايفة آجي ألاقيك هادي ومحترم، بس خلاص أنا كدا اتطمنت.
صُدِمَ "آسر" من وجودها أمامه، في البداية ظن نفسه يتخيل وجودها، لكنها تتقدم منه بخُطىٰ رتيبة لكنها مُتوترة قليلًا، ظل على نفس حالته ولم يتحرك، وكأنه شُلَّ وتوقفت جميع أعضائه عن الحراك، لاحظ "مؤمن" حالتهما المُتوترة فتركهما بالغرفة معًا وغادر ليتصافا، اقتربت "آلاء" من فراش أخيها حتى توقفت جانبه، ثم تسائلت بصوتٍ مبحوح:
_عامل إيه يا "آسر"؟!
لم يخفى عليها ذُبل عينه، ولا شحوب وجهه، ولا هالاته التي ازدادت سوادًا، لم تكن لتتخيل في أقصى كوابيسها أن يصل أخيها إلى تلك الدرجة من الذبول، حالته مُثيرة للشفقة تدفعها للبكاء، وبالفعل بدأت دموعها بالهطول، وفي الثاننية الأخرى وجدت ذاتها داخل أحضان "آسر" الذي التقطتها يُحيطها بذراعه على الفور، لتبدأ في البكاء عاليًا شاهقة بعنف، الكثير من المشاعر تجتاحها، الخوف، الشفقة، الحزن، العتاب، الألم، والحب الذي لم يقل ناحيته، لكن دفئ أحضانه أنساها كل شيء وأحاطته هي الأخرى لتنعم بتلك اللحظة التي حُرِمَت منها طويلًا.
_أنا آسف.. آسف والله حقك عليا.. مكانش قصدي والله.. أنا مش عايز أخسرك ومش هقدر أخسرك.
كان يُتمتم بحديثٍ غير متوازن لكنه صادق، استشعرته بكل ذرَّة في كيانها، نست كل شيء وأعماها اشتياقها، وكيف لا وهي أميرته المُدللة، وبالرغم من ذلك مازال هُناك رهبة تُحيط بها، أبعد وجهها قليلًا عنها وأحاط به بكفيه، ثم مال على جبينها يُقبله بحنوٍ ومن ثَم قال:
_وحشتيني.. وحشتيني أوي.. هونت عليكِ متجيش ليا الوقت دا كله؟
تورمت عيناها من البكاء، فأجابته بصوتٍ مبحوح ونحيبٍ عنيف:
_كنت خايفة منك، أنا أول مرة في حياتي أخاف منك يا "آسر"، ولسه خايفة منك بس أنت وحشتني أوي.
تشاركا البكاء، الأحضان، والحب، واختلفا في الأسف والعتاب، كُلٌ كان مشاعره الخاصة، أحدهما يشعر بالأسف ولديه نية للاعتذار طيلة حياته، والآخر يُعاتب بعيونٍ صارخة رغم صمتها، لكن المُفرِح في الأمر بأن الأخوات قد عادا أخيرًا بعد شهورٍ كثيرة افترقوا بها، رغم مكنونات الصدور المخفية.
مر وقت طويل يُعانقان بعضهما البعض، حتى استمعا إلى صوت طرق الباب تلاه دخول "مؤمن" والبقية خلفه، انشرح قلب الجميع حينما رأوا هذا المشهد أمام أعينهم، وها هو قد اجتمع الشمل مُجددًا، ابتعدت "آلاء" عن "آسر" عقب اقتراب الشباب منه وهجموا عليه معًا مُعانقين إياه، وأخيرًا استطاعوا سماع ضحكة "آسر" ترن داخل أذانهم، فضرب "يزيد" على ظهره بقوة قبل أن يهتف بغيظ:
_بقى أنا كنت بجيلك لحد هنا يا حيوان وأنت مش عايز تشوفني؟ دا عديت مرحلة الندالة باكتساح.
تأوه "آسر" بخفة قائلًا وهو يضحك:
_يا عم بالراحة صحتي لسه على قدها.
ابتعدوا عنه يرمقونه باشتياقٍ ممزوج بالأسي، قبل أن تتوجه أنظار "آسر" نحو أبيه الذي مازال واقفًا محله على أعتاب باب الغرفة، فناداه برجاء:
_بابا!!
لكن "يحيى" لم يهتز أو يرمش، بل ظل وجهه جامدًا كالحجر، كان يأتي كل يوم لزيارته لكنه لم يُخبِر أحدًا سوى "مؤمن" الذي كان يستقبله، وها هو الآن بعد أن أتته لضمه وريّ عطش فؤاده، استدار مُتجاهلًا إياه ونادىٰ بصوتٍ حاسم:
_يلا يا "آلاء".
قالها ثم ابتعد عن محيط غرفته، تاركًا الجميع ينظرون لأثره بأسىٰ، خاصةً" آسر" الذي تعاظم شعوره بالذنب جهة أبيه الذي لم يُقصِّر في تربيته ولو للحظة، ربت "غيث" على كتفه وقال:
_متزعلش منه هو أكيد لسه متأثر باللي حصل.
_مش زعلان منه، أنا بس متضايق إني خيبت ظنه فيا، مش عارف أعمل إيه تاني بجد.
أمسكت "آلاء" بيده وقالت بحنو:
_متعملش حاجة، خِف بس أنت بسرعة واحنا معاك، وأكيد بابا هيسامحك دا ملهوش غيرك.
ضمها "آسر" إليه مُجددًا وكأنه يُطفيء لهيب شوقه، ثم قال هامسًا بحسم يشوبه الوعيد:
_هخرج قريب، قُريب أوي، لازم أصلح كل اللي أنا عملته، من البداية لحد النهاية.
الرابع من هنا