رواية لعنة الخطيئة الفصل الثلاثون 30 بقلم فاطمة احمد
الفصل الثلاثون : اعتراف.
________________
نسمة منعشة تغلغلت في أنفها بلا استئذان وهي تقف في الشرفة التابعة للغرفة تراقب قرص الشمس التي طفقت تغرب شيئا فشيئا حتى استحال لون الشفق لمزيج بين البرتقالي والأصفر ...
كان الربيع الجميل قد عاد من جديد، ذلك الربيع المزاجي المتمنع الذي تلكأ عند المرتفعات وتتالى في تعاقب من الأيام المنعشة والباردة حتى أمسى دافئا مسالما، كدفء شمسه وأزهاره ...
غزت عقلها فجأة ذكريات لأواخر أيام الربيع الماضي فاِحتشدت أنفاسها وغامت عيناها في ذلك اليوم، عندما التقت بآدم عند البحيرة وجلسا يطالعان مياهها الصافية برائحة العشب والورود بصمت اغتنمته في تأمل المكان الجميل ككل مرة حتى أخبرها بأنه معجب بها ويوَدُّ التقدم لخطبتها.
حينها أصيبت بالذهول والدهشة لأنها لم تتوقع بأن يتطور الأمر لهذا الحد وللصراحة دخلت هي في هذه اللعبة على أساس أن تحدثه بضع مرات قليلة وتسحب من لسانه معلومات تفيدها فاِعتقدت ببساطة أن آدم بدوره يتسلى أو ينوي اضاعة الوقت معها فقط ..
بَيد أنه فاجأها بجديته وحين لاحظ دهشتها قال لها بجدية شديدة أنه رجل بالغ وليس مراهقا كي يستمر بملاقاتها في الخفاء.
في ذلك اليوم علمت نيجار بأنها على وشك السقوط في توابع لعبتها معه وفي نفس الوقت أدركت أن هذا الرجل ورغم عداوته مع عائلتها لم يحاول استغلالها والتعامل معها بشكل مُشين كي يضر بسمعة نسلها مثلما أقنعها صفوان بفعله، ومع ذلك ظلت عمياء البصيرة ولم تجرب فتح عينيها المغمضتين عن الحقيقة حتى فات الأوان ...
أفاقت من شرودها على صوت فتح الباب وغلقه فاِنتفضت باِنتباه وولجت إلى الغرفة هاتفة :
- حمد لله على السلامة انت جاي النهارده بدري.
رد عليها بعدم اهتمام وهو ينزع سترته الخفيفة فسارعت لالتقاطها من يديه :
- ايوة مكنش في شغل كتير يدوب خلصت اللي ف ايدي ... خير مكنتيش عايزاني اجي ؟
- لا مش قصدي أنا كنت بستناك أصلا.
أجابته نيجار بتلقائية استدركتها على الفور :
- لأنك كنت هتقولي حاجة مهمة النهارده الصبح بس ملحقتش وطلعت من البيت فـ انشغل بالي واستنيتك عشان تجي تقولي ايه الحاجة المهمة ديه.
- ايوة أنا كنت هكلمك بخصوص موضوعنا واسألك اذا فكرتي فمكان مناسب تروحيله ولا لسه.
هتف بجدية مطلقة قاصدا الطلاق فوُئِدت ابتسامتها قبل ظهورها وانقلبت إلى عبوس وهي تعود لواقعها الذي تناسته فتنهدت وهمهمت :
- اه تمام بتسأل عشان عاوز تعرف امتى هتقدر تخلص مني للدرجة ديه مستعجل.
- مش بالضبط بس في حاجات اتجددت ومحتاجين بقى نعيد الموازين من تاني.
- مش فاهمة.
- كنت قاعد مع العمدة امبارح وجاب سيرتك في النص باِعتبار انك بقيتي بطلة دلوقتي ده فضل يمدح فصدقك وشجاعتك وقد ايه انتي بنت أصول وزوجة صالحة لأنك بتقفي مع الحق حتى لو كان ضد عيلتك.
التمست نيجار بودار السخرية في نبرته ونظرته لكنها تجاهلت الأمر عندما أردف :
- فلما لقيت انك كسبتي احترامه وبقى شايفك ست كويسة للدرجة ديه فكرت ان طلاقك مني في الفترة ديه هيخليه ينصدم اللي هو ازاي خليفتي يبقى راجل جاحد للخير ويتخلى عن مراته بعد ما ضحت بعيلتها عشان تاخدله حقه.
- يعني انت عاوز تقول اننا لازم نأجل الطلاق حاليا عشان شكلك قدامه.
- لا مش علشان شكلي، بس أنا بعرف طبيعة العمدة كويس اوي وبعتقد ان انتي كمان بقيتي بتعرفي قد ايه هو شخص ذكي وداهية ده قدر يكتشف اني قتلت الراجل اللي حاول يغتالني ووصل لجثته كمان.
وبما انه عارف كويس اوي ان راجل زيي مستحيل يتخلى عن زوجة زيك بالبساطة ديه فهو هيشك ويسأل ليه اتخليت عنك بدل ما احاول اعوضك ده تصرف غريب عن شخصيتي بالتالي هيدور في الموضوع ومش هيهدا غير لما يوصل للمشكلة اللي ما بيننا وطبعا ديه آخر حاجة بتمناها تحصل.
رفع نيجار حاجباها مستدركة قصده ولاذت بالصمت وهي تجد بأنه محق تماما لأن طلاقهما سيجلب الشكوك عليهما وبالفعل لن يهدأ العمدة حتى يعلم ما سبب تخليه عنها بعدما وقفت إلى جانبه، ثم تهدلت ملامح وجهها بذنب من جريمتها التي تجعل آدم يحس كل مرة بأنه قد تم استغباؤه وخداعه من الفتاة التي أحبها، وتساءلت في هذه اللحظة عن ما إذا كانت قادرة حقا على امتلاك فرصة للتكفير عن ذنبها بينما يعاني هو بسببها من شعوره الدائم بالسوء أم أن لعنة خطيئتها ستصاحبهما لمدى الحياة.
طالَ سكوتها وانهمارها في الشرود بشكل جعل آدم يعتقد بأنها لا تود تأجيل الطلاق فبرطم بنبرة هادئة :
- على فكرة القرار ليكي انتي مش عاوزك تحسي اني بضغط عليكِ كوني متأكدة من اني هلتزم بإتفاقنا الأولاني لو قولتي انك لقيتي مكان تعيشي فيه ومش عايزة تكملي معايا.
- لو سمحت ممكن متبقاش كويس للدرجة ديه !
- نعم ؟
- يعني فكل مرة بتقف مع الحق حتى لو اضطريت تنصف عدوك بتحميني اذا اتظلمت رغم اني اكتر واحدة ظلمتك بترفض اشهد معاك لان كرامتي هتنجرح ودلوقتي بتقولي مش هجبرك وانت أصلا ممكن تتضرر لو انا رفضت.
- ملوش علاقة ب اذا كنت كويس ولا لأ بس الكلمة بتطلع من لسان الراجل مرة واحدة وطالما اتفقت معاكي من الاول اني خلاص هتتحرر من العلاقة وابعدك عن هنا يبقى مستحيل اجبرك ع حاجة متناقضة مع الوعد بتاعي حتى اذا اتأذيت اكتر من الأذى اللي اتعرضتله من قبل.
- ماشي خلينا حاليا نأجل مسألة الطلاق لأني أنا كمان مش عاوزة القصة القديمة تتكشف ... مع اني كنت مرتاحة لاني هخلص من حكمت هانم بس أمري على الله لازم اصبر كمان شويا.
تمتمت وهي تتنهد بقلة حيلة مصطنعة محاولة كبت فرحتهل ببقائها معه لأيام إضافية ثم استطردت رافعة رأسها بغرور :
- قولتلي بقى ان العمدة قعد يمدح فيا وقال عليا شجاعة وجدعة وكده ... طيب انت رديت عليه بـ ايه.
تنحنح آدم وجلب لفمه ابتسامة لئيمة وعبثا خفيا وهو يجيبها بينما يخلع كنزته ويفتح الخزانة ليجلب غيارا آخر :
- بصراحة مفهمتش في البداية انه كان بيقصدك انتي وكنت لسه هسأله مين الست اللي بتتكلم عنها ديه أنا مبعرفهاش بس لحقت نفسي لما قالي مراتك كويس انه ملاحظش صدمتي.
زمت نيجار شفتها بحنق منه وجزت على أسنانها مبرطمة :
- لا وعلى ايه أهم حاجة انت متتصدمش.
ضحك بخفوت واستدار إليها قاصدا ازعاجها أكثر لكنه أجفل فجأة عندما شهقت هي ووضعت يدها على صدره هاتفة :
- ايه ده ايه اللي حصلك !
نظر لعلامة الجرح الذي أصيب به وقال بعدم اكتراث :
- حاجة بسيطة اتجرحت النهارده الصبح وانا بساعد العمال في المحل الجديد كنت بنقل العمود بس وقع عليا وكان جواه مسمار مخدتش بالي منه.
رمقته بإستهجان وأمسكت يده لتأخذه إلى إحدى المقاعد مرددة :
- بسيطة ايه انت بتهزر مش شايفه ملتهب ازاي.
أحضرت علبة الإسعافات الأولية وجلست بجواره فحاول آدم ثنيها عما تفعله لكنها أشاحت يده وشرعت في تطهير الجرح بحرص وهي تتابع :
- مينفعش تتجاهل اصاباتك بالشكل ده لازم تاخد بالك من نفسك كويس وبعدين ايه لازمة وجود العمال مادامك بتفضل تشتغل شغلهم طول الوقت ولا هي زيادة تعب وخلاص.
كانت تمرر أناملها عليه بأريحية وقريبة بالشكل الكافي الذي يجعل رأسها يكاد يلتصق بصدره المتصلب ويدها الأخرى تتمسك بكتفه كي لا يتحرك فاِحتشد أنفاسه وازدرد ريقه محاولا السيطرة على نفسه محتبسا بداخله رغبة تذكره باللحظات النادرة التي جمعت بينهما من قبل، فأخفض رأسه إليها وهمس بصوت مثقل ومبحوح :
- خلصتي ؟
لفحتها حرارة هوجاء واهتاج نبضها متأثرة بهمسته التي حطت على أذنها مباشرة لتدرك الوضع الذي هما به فسارعت تضمد الجرح وانزاحت ببضع إنشات مجيبة بصوت وصله بصعوبة :
- ايوه تمام كده خلصت.
- كويس ... شكرا.
بالكاد استطاع اخراج الكلمتين من فمه فتلجلجت روحها عندما همّت بالنهوض والتفت أصابعه حول يدها مانعا إياها وتصدَّع برودها المزعوم بلفحات عينيه لتلتمع حدقتيها الصارختين بالحب، تشتعل بعشق مستتر كان عليها أن تكظمه بداخلها وتغلق عليه بين تلافيف روحها...
وكم كان الأمر مؤلما بقدر الإطباق على جمرة مشتعلة بين كفي يديك فوق أرض بارودية ... فلا أنت بقادر على تحمل احتراق يديك ولا بقادر على إفلاتها فتضرم حريقا وتشتعل مع من حولك !!
أخفضت نيجار عيناها مختزنة أحاسيسها وقالت بخفوت :
- عاوز حاجة تانية اعملهالك ؟
وكأن صوتها كان كدلو ماء بارد سكب على رأسه وأفاقه من الهاوية التي أوشك على الغرق بها فأفلتها وأبعد ناظريه عنها مغمغما :
- لا خلاص أنا كويس.
- ماشي ... هاخد الكنزة ديه واحطها مع الغسيل.
برطمت نيجار بما جاء بعقلها في هذه اللحظة وسارعت تهرب من الغرفة أما آدم فأخذ نفسا عميقا وزفره على عدة دفعات وهو يتلمَّس بشرته المتعرقة هاتفا :
- الجو بقى حر كده ليه.
________________
في اليوم التالي.
وبعدما عاد آدم من صلاة الجمعة جلس رفقة عائلته في البهو وقالت ليلى ببهجة :
- الربيع دخل والجو بقى حلو اوي حتى التلال والجناين منظرها بقى بيجنن.
تبسمت حليمة موافقة إياها :
- ايوة بجد انا خرجت امبارح المسا وشوفت الزرايع والبساتين والورود فكل حته ماشاء الله المناظر ديه مكنتش بشوفها في المدينة خالص.
- وطلعتي روحتي على فين بقى.
كان هذا السؤال صادرا من حكمت التي رمقتها بغموض وأردفت :
- لأنك طولتي برا لدرجة قلقت وقولت ممكن تاهت ولا حاجة.
تهكمت في داخلها لأنها تعلم جيدا بأن بؤرة الشر هذه أرسلت من خلفها رجلا يلحقها لحيث تسير لكنها استطاعت التخفي منه وذهبت إلى مراد، ثم ردت عليها ببرود متجاهلة ما ترمي إليه :
- تسلمي يا حكمت هانم بس متقلقيش عليا لأني هعرف ادبر نفسي حتى لو توهت.
همهمت الأخرى بتفهم مصطنع قطعته نيجار وهي تقترب منهم حاملة صينية الشاي بين يديها وضعتها على الطاولة لتقول ليلى بتلقائية :
- أنا بشربه بمعلقتين سكر.
أومأت بإيجاب والتقطت الملعقة إلا أن آدم رفع يده وخاطبها مبرطما بجدية :
- مفيش داعي حطي اللي فـ ايدك وامشي.
انكمشت ملامحها بتعجب لكنها فعلت ما طلبه على أي حال وغادرت وهي تحدث نفسها بضيق :
- كان يجيب الصينية بنفسه لو هيتضايق من وجودي للدرجة ديه وكأني هاكله.
أما هذا الأخير فنظر لشقيقته بصرامة وتشدق :
- ابقي حطي سكرك بنفسك تاني مرة متستنيش من حد يشغل ايده مكانك.
بهتت من تحوله واعتدلت في جلستها مهمهمة بحرج :
- مقصديش حاجة وحشة يا ابيه الكلمة طلعت مني كده.
رفعت حكمت حاجبها مستنكرة ولم تعلق وبعد دقائق رن هاتف آدم بمكالمة من فاروق فنهض مبتعدا قليلا وأجاب :
- متحكيليش عن اي حاجة تخص الشغل لأننا فـ اجازة النهارده.
- لا انا اتصلت بيك عشان احكيلك ع حاجة حصلت.
- في ايه ؟
- سمعت أن والدة السمسار مراد اتوفت.
- انت بتقول ايه امتى ده حصل.
- امبارح المسا واتدفنت من شويا ... اللي مستغرب منه ان محدش من قرايبينه حضر العزا غير اتنين ولا تلاتة من اللي بيتعامل معاهم جم وعملو الواجب ومشيو بسرعة.
لاذ آدم بالصمت ولم يسعه سوى الشعور بالأسى على مراد لأنه جرب نفس إحساس فقدان الأم منذ سنتين ونصف كما أنه رأى فزع مراد الكبير ناحية والدته يوم انتكست وخوفه الشديد من خسارتها لا بد أنها كانت عائلته الوحيدة لذلك حقد على عائلة الصاوي باِعتبار أنهم أذوها - وهو يجهل نوع هذا الأذى للآن -
دعى بالرحمة لها بصوت خافت ثم برطم بهدوء :
- طالما محدش جه للعزا يبقى مش هنعرف اذا مراد كان عنده عيلة نقدر نوصل لهوية فردوس سليمان من خلالهم ولا هنعرف طبيعة علاقتها بعيلتنا حتى ستي لما سألتها قالتلي مبعرفهاش وده بيخليني مستغرب اكتر لانه هي عادة مبتوهش عن اي اسم حد بيعدي عليها.
- ممكن تكون واحدة من الحريم اللي اشتغلو عند حكمت هانم من زمان وحصلت مشكلة مابينهم و اتطردت.
- وممكن معندهاش علاقة مباشرة بستي أصلا يعني مرتبطة بواحد تاني من العيلة.
ألقى فاروق فرضية عشوائية جعلت آدم يتدارك فكرة مختلفة عما كانوا يظنونه فاِحتار الآخر وتدارك بتساؤل :
- حضرتك بتقصد ان مشكلة فردوس سليمان كانت مع حد غير الست هانم وده خلى ابنها يحقد عليكم بس ايه علاقتك انت عشان حاسس ان كرهه موجه ليك بالذات.
هز كتفاه بجهل وعلق ساخرا :
- ماهو كل شويا بيطلعي واحد بيكرهني وعاوز ينتقم مني جت عليه يعني ... صحيح انت بتعرف الست ديه اندفنت في انهي مقبرة ؟
بعد دقيقتين أنهى المكالمة واستدار ليجد نيجار واقفة خلفه طالعها بتعجب وأشار بإصبعه مستفسرا :
- من امتى وانتي هنا !
ابتسمت هذه الأخيرة وردت ببراءة :
- لسه واصلة دلوقتي، في حاجة ؟
لوَّح يده في الهواء بتجاهل وغادر المنزل فراقبته حتى اختفى عن أنظارها وهنا رفعت إحدى حاجبيها مهمهمة بتفكير :
- مين فردوس المتوفية ديه ومراد اللي بيكرهه وايه علاقة آدم بيهم ؟ معقوله يبقى نفسه مراد اللي اتعاون مع صفوان من قبل عشان سبايك الدهب.
***
نسمة قاسية لفحت وجهه الشاحب فأسقطت دمعة محتجزة بين جفنيه، جالسا بين الأموات يتقاسم مرارة قلبه مع عزيزة رحلت دون عودة، يتطلع لشاهد قبرها بعينين مليئتان بالتشتت والضياع ويتلمّس حروف اسمها المنقوشة بقلب معتصر وأنفاس مثقلة ...
- جه اليوم اللي كنت خايف منه والكابوس اتحول لحقيقة.
همس بيأس وملامح باهتة، ثم ضغط على أصابع يده هادرا بنشيج حارق :
- أنا هعمل ايه من غيرك يا ماما هعيش ازاي ده انا كنت مستحمل عشانك عملت كل حاجة علشان اخليكي مبسوطة بس دلوقتي حاسس نفسي هموت من القهر لأني خسرتك.
ضرب صدره عدة مرات متابعا بخنقة :
- قلبي واجعني اوي يا ماما ... حاسس بضياع كبير وكأن حياتي مبقاش ليها لازمة.
تأوه بوجع وطأطأ رأسه باكيا ومتجرعا مرارة الوحدة ... وحدة لم تدم طويلا لأنه سرعان ما وطأت أقدام أخرى المكان فحول بصره لصاحبها وتفاجأ عندما لمح آدم واقفا بتصلب ووجه قاتم قائلا :
- البقاء لله.
زال تفاجؤه وحلَّ مكانه السخط فاِنتفض واقفا بِدوره واحتدت عيناه بغضب وهو يغمغم بقتامة :
- انت اتجننت ايه جابك هنا !
في الحقيقة حتى آدم لم يعلم إجابة هذا السؤال ولا يدري أساسا لماذا جاء إليه ومع أن الكثير من أمثال مراد مروا عليه في حياته إلا أنه لم يتعاطف معهم أو يحاول فهم سبب كرههم له وتقديم تبريرات فارغة، لم يقف يوما أمام أحدهم وأصرَّ عليه كي يخبره عن مشكلته معه مثلما يفعل الآن بل على العكس كان يستمتع وهو يضع خططا لهزمهم وإذلالهم حقا.
بيد أن الوضع يختلف مع مراد لسبب يجهله بالفعل، شخصيته وغضبه وتصرفاته كلها تثير اهتمامه وفضوله ولسبب ما أيضا ... فإن حزن هذا الشاب لا يروقه !!
تنهد آدم وعلى عكس الآخر فإنه كان غاية في الهدوء والصبر حيث تجاهل فظاظته وقال بجدية :
- سمعت ان والدتك اتوفت عشان كده جيت اعمل الواجب واعزيك.
- وانت مين أصلا عشان تجي وتعزيني فاكرني هصدق حسن نواياك !
- بعتقد ان الحاجات ديه ملهاش علاقة بالعداوة لأن حتى لو انت عدوي فـ من الأصول اعزيك ومن الأدب بردو انك تقابلني بشكل كويس لو مش عشانك فعلشان خاطر والدتك.
فتح فمه ليرد عليه لكنه لم يجد كلمات مناسبة لأن آدم أخرسه بلباقته فزفر بامتعاض وتمتم :
- ماشي شكر الله سعيكم ... عرفت منين انت بتراقبني ولا ايه.
تهكم منه وعلق باستنكار :
-- هراقبك ليه يابني معنديش غيرك اشغل بالي بيه ؟ بس متنساش انا مين عيوني ووداني فكل مكان يعني اي حاجة بتحصل هتوصلي لوحدها من غير ما ادور عليها.
ثم استطرد وهو يطالع شحوبه وهالاته السوداء :
- انت كويس ؟
- ايوة كويس ومتشكر ليك تقدر تمشي دلوقتي.
همهم مراد بعدم اكتراث وتحرك كي يذهب لكن أصابه الدوار على حين غرة ومال جسده للخلف فـأدركه آدم والتقطه بتلقائية قبل سقوطه وقال :
- انت مش قادر تقف ع رجليك حتى تعالى معايا.
تعجب مراد بداخله وتساءل عن سبب معاملته بهذه الطريقة الجيدة وساوره الشك بخصوص أن آدم عرف طبيعة العلاقة بينهما لذا هو يعامله بعطف زائف حتى يلمِّع صورته لكنه سار معه على أي حال حتى غادرا المقبرة وأخرج له قارورة ماء من سيارته متشدقا :
- باين عليك تعبان خد اشرب.
أمسكها الآخر وطالعها بتردد فهمه آدم الذي أردف بنبرة تحمل السخرية بين طياتها :
- متقلقش لو أنا مبغدرش ولو عايز اؤذيك هعمل كده وانا ببص في وشك.
نزلت كلماته على شكل رصاصات أصابته بعنف فاِرتجفت يده وطفق يتجرع من القارورة مبللا حلقه الجاف ثم سأله بفتور :
- انت بتتعامل بنفس الطريقة ديه مع كل اعدائك ؟ يعني بتواسيهم وبتساعدهم وتتصرف معاهم بشكل كويس.
همهم بتفكير مصطنع وردّ :
- لا، انا متعود اخلص من اعدائي برصاصة واحدة ولا بفضحهم قدام أهل البلد وبنفيهم بس انت شكلك وراك حكاية وجايلي فضول اعرف ايه هي.
وكمان أنا عشت نفس وجعك لأني فقدت والدتي زيك وعارف انت بتحس بـ ايه دلوقتي.
عادت لمحة الحزن والانكسار تغطي عيناه البنيتان وتهدَّل جفناه ببطء ليهمس بصوت مثقل بالهموم :
- بس انت مكنتش لوحدك عندك عيلة بتقف جمبك ومبتسيبكش.
- طيب وانت عيلتك فين ؟
جاءه السؤال من آدم على غفلة فأجفل وتحول حزنه لغضب وحقد واضح ولوهلة كاد يتبع وسوسة الشيطان ويخبره بأنه قد كتب عليه العيش من دون عائلة بسبب عائلته هو إلا أنه تراجع وتمتم بتزمت قبل أن يرحل :
- شكرا على المياه.
ركب سيارته وانطلق بها مخفيا دموع عينيه تاركا آدم يتتبع أثره ليهمس في النهاية :
- الولد ده غريب بس شخصيته مألوفة ... كأني بيشبه حد بس مش عارف هو مين.
تأفف بحنق مستغربا لطافته الزائدة مع رجل يكن له كرها خالص ثم استقل سيارته هو الآخر...
*** من ناحية أخرى في بيت الصاوي.
حلَّ الليل وازدانت السماء بقمرها ونجومها فوقفت نيجار في منتصف البهو متلكئة يمينا وشمالا تنظر للباب من حين لآخر وهي تحدث نفسها :
- آدم اتأخر ليه مش كان بيقول النهارده اجازة ومفيش شغل اومال قاعد برا لغاية دلوقتي ليه ... معقول يكون روّح للي اسمه مراد ده وحصلت مشكلة معاه.
زاد توترها من مجرد طرأ الفكرة وعضت على شفتها بذعر يتفاقم مع كل ثانية تمرّ لتنتفض فجأة عندما صدع صوت حليمة من خلفها :
- انتي بتعملي ايه هنا.
نظرت إليها وأجابت بإيجاز :
- مفيش.
وقفت بجوارها ورفعت حاجبها بتهكم من ردَّها مبرطمة :
- اومال بتبصي ع الباب ليه طالما مفيش حاجة ... لتكوني مستنية آدم.
حمحمت نيجار وأومأت بنعم فاِبتسمت حليمة على اهتمامها الواضح به وعقبت :
- طب هو طول عمره بيتأخر برا اشمعنا قاعدة مستنياه المرة ديه وقلقانة كده.
تململت بتردد في إجابتها حتى حسمت أمرها وقالت :
- بصراحة أنا سمعته بيتكلم مع فاروق ع واحد كده باين في مشكلة مابينهم وقلقت لانه طلع بعدها مباشرة.
توجست وكادت تسألها عن هويته لكن الأخرى استطردت :
- معلش تديني تلفونك اكلمه ؟ بعرف اني ببالغ بس بجد مش ههدا الا لما اسمع صوته.
- تمام ماشي.
أعطتها الهاتف وهمَّت بالإتصال لتجده يُسحب من يدها على حين غرة عندما ظهرت الجدة من الخلف وأخذته مرددة بصوت عالٍ :
- انتي بتديها تلفونك ليه مش عارفة ان الحية ديه ناقص تقعديها وتخلينا نخدمها.
طالعتها حليمة بتعجب واِستنكار فرددت :
- اهدي يا حكمت هانم البنت قلقانة ع جوزها و عاوزة تكلمه مش مستاهلة العصبية ديه كلها.
- وتكلمه ليه وتقلق عليه ليه أصلا !
صاحت بشرٍّ ووجهت عيناها لنيجار مضيفة بإزدراء :
- اوعى تفتكري انك مراته بجد ومن حقك تتعاملي كأنكم أزواج طبيعيين سبق وقولتلك انك ولا حاجة اخرك تخدمينا احنا الصبح وتشوفي احتياجاته بليل متطمعيش في اكتر من كده.
تشجنت نيجار واشتعلت حدقتاها بالغضب من إهانتها فهدرت فيها بعنفوان :
- وانا سبق وقولتلك أن اللي بيني وبين آدم هو حاجة خاصة بيننا احنا الاتنين وحضرتك ملكيش دعوة بعلاقتنا.
توحشت عينا حكمت مناظرة جرأتها التي لا تنضب وقالت بسخط :
- البيت ده بيتي وليا حق على كل واحد جواه بس شكلك بدأتي تنسي نفسك ودماغك بيصورلك ان قعدتك معانا ودور الزوجة اللي بيقرف ده هيخلي حفيدي يسامحك.
- أنا أدرى بأموري وحتى حفيدك أدرى بحياته ونفسه وايوة أنا بعمل كل اللي ف ايدي عشان يسامحني ونرجع مع بعض هتعملي ايه هتخليني اعمل كل شغل البيت ولا تحبسيني في القبو ولا تضربيني ؟
في نفس الوقت دخل آدم باحتراز متبينا مصدر الجلبة لكن نيجار التي مازالت تحت وطأة إهاناتها المستمرة لم تنتبه لوجوده وهي تتابع :
- تصرفاتك ديه مش هتثبت ان حضرتك هي ست البيت على العكس بتوضح قد ايه انتي غرقانة في تسلطك وتحكمك المريض.
- ايه الهبل ده اللي بيحصل هنا.
صرخ آدم بخشونة مقتحما البهو واقترب منهن فهتفت حكمت بإستهزاء حاد :
- تعالى اتفرج على الست مراتك وهي بتقلل أدبها على جدتك.
تعلقت عينا نيجار عليه بمشاعر مختلطة مابين الارتياح لمجيئه والغضب من حكمت لكنه لم ينتبه لما يدور في خلدها بل اعتقل يدها بين أصابعه ووبخها بخشونة :
- انتي اتجننتي ايه الكلام اللي سمعتك بتقوليه ده.
- اهدا يا آدم انت فاهم الموضوع غلط.
تمتمت حليمة محاولة تهدئة العاصفة التي هبَّت دون سابق إنذار لكنه أوقفها بإشارة من يده وأردف بحزم :
- هو انا كل مرة هجي والاقيكم متخانقين وصوتكم واصل لبرا ايه مبتزهقوش مصممين تفضحونا قدام الحرس والناس.
تأوهت بألم من قوة إطباقه عليها وحاولت التملص منه لكنه سحبها وراءه وصعدا إلى الغرفة ليتركها ويغلق الباب مزمجرا :
- خير يا هانم مشاكلك مش هتخلص ؟
- أنا مغلطتش وستك هي اللي بدأت الأول !!
- عارف أنها هي اللي بدأت بس كام مرة نبهتك وقولتلك تسكتي ومترديش عليها عشان القصة متكبرش هتبقو مبسوطين وانتو بتعملو المشاكل ديه.
- عملت زي ما طلبت مني وبقيت اتجاهلها ومردش عليها رغم اني مش متعودة اسكت بس أنا ليا طاقة محددة وصبري بيخلص.
صاحت بعنفوان تغطي به قهرها لأنها دائما ما تنال نصيبها من توبيخه مهما فعلت وأردفت :
- يعني مش كفاية مستحملة نظراتهم ليا وكأني مجرد واحدة ملهاش لازمة غير انها تخدمهم لازم اقبل انها تذلني بردو ؟
- بس أنا خيرتك بين انك تمشي أو تفضلي في البيت لغاية ما مشكلة العمدة تخلص ونتطلق وانتي وافقتي يبقى ليه جاية تشتكي دلوقتي.
تهدلّ كتفاها وتنهدت بيأس متسائلة :
- انت بجد فاكر اني لسه قاعدة في بيتك عشان العمدة ؟ هو مبيهمنيش أصلا أنا وافقت وفرحت كمان بتأجيل الطلاق علشانك انت ... علشاننا احنا.
- عشاننا احنا ؟
انكمشت ملامحه بغرابة غير مستوعب لمقصدها فهزت نيجار رأسها مؤكدة بابتسامة دامعة :
- أيوة ... بص في كلام بقالي كتير كاتماه جوايا وكل مرة بحاول اقولهولك وبتراجع بس خلاص أنا تعبت ومش هكتمه أكتر من كده.
توتر الجو وأحس آدم بأن الجدال يأخذ مسارا آخر وكان ظنه صحيحا لأن نيجار التي أمسك يده وضغطت عليها انهمرت دموعها من الجانبين تضخم قلبها بعاطفة لم تعد تعرف سبيلا لإخمادها لتهمس في النهاية بنبرة مليئة بالهيام :
- آدم أنا ... أنا بـحـبـك !
________________
نسمة منعشة تغلغلت في أنفها بلا استئذان وهي تقف في الشرفة التابعة للغرفة تراقب قرص الشمس التي طفقت تغرب شيئا فشيئا حتى استحال لون الشفق لمزيج بين البرتقالي والأصفر ...
كان الربيع الجميل قد عاد من جديد، ذلك الربيع المزاجي المتمنع الذي تلكأ عند المرتفعات وتتالى في تعاقب من الأيام المنعشة والباردة حتى أمسى دافئا مسالما، كدفء شمسه وأزهاره ...
غزت عقلها فجأة ذكريات لأواخر أيام الربيع الماضي فاِحتشدت أنفاسها وغامت عيناها في ذلك اليوم، عندما التقت بآدم عند البحيرة وجلسا يطالعان مياهها الصافية برائحة العشب والورود بصمت اغتنمته في تأمل المكان الجميل ككل مرة حتى أخبرها بأنه معجب بها ويوَدُّ التقدم لخطبتها.
حينها أصيبت بالذهول والدهشة لأنها لم تتوقع بأن يتطور الأمر لهذا الحد وللصراحة دخلت هي في هذه اللعبة على أساس أن تحدثه بضع مرات قليلة وتسحب من لسانه معلومات تفيدها فاِعتقدت ببساطة أن آدم بدوره يتسلى أو ينوي اضاعة الوقت معها فقط ..
بَيد أنه فاجأها بجديته وحين لاحظ دهشتها قال لها بجدية شديدة أنه رجل بالغ وليس مراهقا كي يستمر بملاقاتها في الخفاء.
في ذلك اليوم علمت نيجار بأنها على وشك السقوط في توابع لعبتها معه وفي نفس الوقت أدركت أن هذا الرجل ورغم عداوته مع عائلتها لم يحاول استغلالها والتعامل معها بشكل مُشين كي يضر بسمعة نسلها مثلما أقنعها صفوان بفعله، ومع ذلك ظلت عمياء البصيرة ولم تجرب فتح عينيها المغمضتين عن الحقيقة حتى فات الأوان ...
أفاقت من شرودها على صوت فتح الباب وغلقه فاِنتفضت باِنتباه وولجت إلى الغرفة هاتفة :
- حمد لله على السلامة انت جاي النهارده بدري.
رد عليها بعدم اهتمام وهو ينزع سترته الخفيفة فسارعت لالتقاطها من يديه :
- ايوة مكنش في شغل كتير يدوب خلصت اللي ف ايدي ... خير مكنتيش عايزاني اجي ؟
- لا مش قصدي أنا كنت بستناك أصلا.
أجابته نيجار بتلقائية استدركتها على الفور :
- لأنك كنت هتقولي حاجة مهمة النهارده الصبح بس ملحقتش وطلعت من البيت فـ انشغل بالي واستنيتك عشان تجي تقولي ايه الحاجة المهمة ديه.
- ايوة أنا كنت هكلمك بخصوص موضوعنا واسألك اذا فكرتي فمكان مناسب تروحيله ولا لسه.
هتف بجدية مطلقة قاصدا الطلاق فوُئِدت ابتسامتها قبل ظهورها وانقلبت إلى عبوس وهي تعود لواقعها الذي تناسته فتنهدت وهمهمت :
- اه تمام بتسأل عشان عاوز تعرف امتى هتقدر تخلص مني للدرجة ديه مستعجل.
- مش بالضبط بس في حاجات اتجددت ومحتاجين بقى نعيد الموازين من تاني.
- مش فاهمة.
- كنت قاعد مع العمدة امبارح وجاب سيرتك في النص باِعتبار انك بقيتي بطلة دلوقتي ده فضل يمدح فصدقك وشجاعتك وقد ايه انتي بنت أصول وزوجة صالحة لأنك بتقفي مع الحق حتى لو كان ضد عيلتك.
التمست نيجار بودار السخرية في نبرته ونظرته لكنها تجاهلت الأمر عندما أردف :
- فلما لقيت انك كسبتي احترامه وبقى شايفك ست كويسة للدرجة ديه فكرت ان طلاقك مني في الفترة ديه هيخليه ينصدم اللي هو ازاي خليفتي يبقى راجل جاحد للخير ويتخلى عن مراته بعد ما ضحت بعيلتها عشان تاخدله حقه.
- يعني انت عاوز تقول اننا لازم نأجل الطلاق حاليا عشان شكلك قدامه.
- لا مش علشان شكلي، بس أنا بعرف طبيعة العمدة كويس اوي وبعتقد ان انتي كمان بقيتي بتعرفي قد ايه هو شخص ذكي وداهية ده قدر يكتشف اني قتلت الراجل اللي حاول يغتالني ووصل لجثته كمان.
وبما انه عارف كويس اوي ان راجل زيي مستحيل يتخلى عن زوجة زيك بالبساطة ديه فهو هيشك ويسأل ليه اتخليت عنك بدل ما احاول اعوضك ده تصرف غريب عن شخصيتي بالتالي هيدور في الموضوع ومش هيهدا غير لما يوصل للمشكلة اللي ما بيننا وطبعا ديه آخر حاجة بتمناها تحصل.
رفع نيجار حاجباها مستدركة قصده ولاذت بالصمت وهي تجد بأنه محق تماما لأن طلاقهما سيجلب الشكوك عليهما وبالفعل لن يهدأ العمدة حتى يعلم ما سبب تخليه عنها بعدما وقفت إلى جانبه، ثم تهدلت ملامح وجهها بذنب من جريمتها التي تجعل آدم يحس كل مرة بأنه قد تم استغباؤه وخداعه من الفتاة التي أحبها، وتساءلت في هذه اللحظة عن ما إذا كانت قادرة حقا على امتلاك فرصة للتكفير عن ذنبها بينما يعاني هو بسببها من شعوره الدائم بالسوء أم أن لعنة خطيئتها ستصاحبهما لمدى الحياة.
طالَ سكوتها وانهمارها في الشرود بشكل جعل آدم يعتقد بأنها لا تود تأجيل الطلاق فبرطم بنبرة هادئة :
- على فكرة القرار ليكي انتي مش عاوزك تحسي اني بضغط عليكِ كوني متأكدة من اني هلتزم بإتفاقنا الأولاني لو قولتي انك لقيتي مكان تعيشي فيه ومش عايزة تكملي معايا.
- لو سمحت ممكن متبقاش كويس للدرجة ديه !
- نعم ؟
- يعني فكل مرة بتقف مع الحق حتى لو اضطريت تنصف عدوك بتحميني اذا اتظلمت رغم اني اكتر واحدة ظلمتك بترفض اشهد معاك لان كرامتي هتنجرح ودلوقتي بتقولي مش هجبرك وانت أصلا ممكن تتضرر لو انا رفضت.
- ملوش علاقة ب اذا كنت كويس ولا لأ بس الكلمة بتطلع من لسان الراجل مرة واحدة وطالما اتفقت معاكي من الاول اني خلاص هتتحرر من العلاقة وابعدك عن هنا يبقى مستحيل اجبرك ع حاجة متناقضة مع الوعد بتاعي حتى اذا اتأذيت اكتر من الأذى اللي اتعرضتله من قبل.
- ماشي خلينا حاليا نأجل مسألة الطلاق لأني أنا كمان مش عاوزة القصة القديمة تتكشف ... مع اني كنت مرتاحة لاني هخلص من حكمت هانم بس أمري على الله لازم اصبر كمان شويا.
تمتمت وهي تتنهد بقلة حيلة مصطنعة محاولة كبت فرحتهل ببقائها معه لأيام إضافية ثم استطردت رافعة رأسها بغرور :
- قولتلي بقى ان العمدة قعد يمدح فيا وقال عليا شجاعة وجدعة وكده ... طيب انت رديت عليه بـ ايه.
تنحنح آدم وجلب لفمه ابتسامة لئيمة وعبثا خفيا وهو يجيبها بينما يخلع كنزته ويفتح الخزانة ليجلب غيارا آخر :
- بصراحة مفهمتش في البداية انه كان بيقصدك انتي وكنت لسه هسأله مين الست اللي بتتكلم عنها ديه أنا مبعرفهاش بس لحقت نفسي لما قالي مراتك كويس انه ملاحظش صدمتي.
زمت نيجار شفتها بحنق منه وجزت على أسنانها مبرطمة :
- لا وعلى ايه أهم حاجة انت متتصدمش.
ضحك بخفوت واستدار إليها قاصدا ازعاجها أكثر لكنه أجفل فجأة عندما شهقت هي ووضعت يدها على صدره هاتفة :
- ايه ده ايه اللي حصلك !
نظر لعلامة الجرح الذي أصيب به وقال بعدم اكتراث :
- حاجة بسيطة اتجرحت النهارده الصبح وانا بساعد العمال في المحل الجديد كنت بنقل العمود بس وقع عليا وكان جواه مسمار مخدتش بالي منه.
رمقته بإستهجان وأمسكت يده لتأخذه إلى إحدى المقاعد مرددة :
- بسيطة ايه انت بتهزر مش شايفه ملتهب ازاي.
أحضرت علبة الإسعافات الأولية وجلست بجواره فحاول آدم ثنيها عما تفعله لكنها أشاحت يده وشرعت في تطهير الجرح بحرص وهي تتابع :
- مينفعش تتجاهل اصاباتك بالشكل ده لازم تاخد بالك من نفسك كويس وبعدين ايه لازمة وجود العمال مادامك بتفضل تشتغل شغلهم طول الوقت ولا هي زيادة تعب وخلاص.
كانت تمرر أناملها عليه بأريحية وقريبة بالشكل الكافي الذي يجعل رأسها يكاد يلتصق بصدره المتصلب ويدها الأخرى تتمسك بكتفه كي لا يتحرك فاِحتشد أنفاسه وازدرد ريقه محاولا السيطرة على نفسه محتبسا بداخله رغبة تذكره باللحظات النادرة التي جمعت بينهما من قبل، فأخفض رأسه إليها وهمس بصوت مثقل ومبحوح :
- خلصتي ؟
لفحتها حرارة هوجاء واهتاج نبضها متأثرة بهمسته التي حطت على أذنها مباشرة لتدرك الوضع الذي هما به فسارعت تضمد الجرح وانزاحت ببضع إنشات مجيبة بصوت وصله بصعوبة :
- ايوه تمام كده خلصت.
- كويس ... شكرا.
بالكاد استطاع اخراج الكلمتين من فمه فتلجلجت روحها عندما همّت بالنهوض والتفت أصابعه حول يدها مانعا إياها وتصدَّع برودها المزعوم بلفحات عينيه لتلتمع حدقتيها الصارختين بالحب، تشتعل بعشق مستتر كان عليها أن تكظمه بداخلها وتغلق عليه بين تلافيف روحها...
وكم كان الأمر مؤلما بقدر الإطباق على جمرة مشتعلة بين كفي يديك فوق أرض بارودية ... فلا أنت بقادر على تحمل احتراق يديك ولا بقادر على إفلاتها فتضرم حريقا وتشتعل مع من حولك !!
أخفضت نيجار عيناها مختزنة أحاسيسها وقالت بخفوت :
- عاوز حاجة تانية اعملهالك ؟
وكأن صوتها كان كدلو ماء بارد سكب على رأسه وأفاقه من الهاوية التي أوشك على الغرق بها فأفلتها وأبعد ناظريه عنها مغمغما :
- لا خلاص أنا كويس.
- ماشي ... هاخد الكنزة ديه واحطها مع الغسيل.
برطمت نيجار بما جاء بعقلها في هذه اللحظة وسارعت تهرب من الغرفة أما آدم فأخذ نفسا عميقا وزفره على عدة دفعات وهو يتلمَّس بشرته المتعرقة هاتفا :
- الجو بقى حر كده ليه.
________________
في اليوم التالي.
وبعدما عاد آدم من صلاة الجمعة جلس رفقة عائلته في البهو وقالت ليلى ببهجة :
- الربيع دخل والجو بقى حلو اوي حتى التلال والجناين منظرها بقى بيجنن.
تبسمت حليمة موافقة إياها :
- ايوة بجد انا خرجت امبارح المسا وشوفت الزرايع والبساتين والورود فكل حته ماشاء الله المناظر ديه مكنتش بشوفها في المدينة خالص.
- وطلعتي روحتي على فين بقى.
كان هذا السؤال صادرا من حكمت التي رمقتها بغموض وأردفت :
- لأنك طولتي برا لدرجة قلقت وقولت ممكن تاهت ولا حاجة.
تهكمت في داخلها لأنها تعلم جيدا بأن بؤرة الشر هذه أرسلت من خلفها رجلا يلحقها لحيث تسير لكنها استطاعت التخفي منه وذهبت إلى مراد، ثم ردت عليها ببرود متجاهلة ما ترمي إليه :
- تسلمي يا حكمت هانم بس متقلقيش عليا لأني هعرف ادبر نفسي حتى لو توهت.
همهمت الأخرى بتفهم مصطنع قطعته نيجار وهي تقترب منهم حاملة صينية الشاي بين يديها وضعتها على الطاولة لتقول ليلى بتلقائية :
- أنا بشربه بمعلقتين سكر.
أومأت بإيجاب والتقطت الملعقة إلا أن آدم رفع يده وخاطبها مبرطما بجدية :
- مفيش داعي حطي اللي فـ ايدك وامشي.
انكمشت ملامحها بتعجب لكنها فعلت ما طلبه على أي حال وغادرت وهي تحدث نفسها بضيق :
- كان يجيب الصينية بنفسه لو هيتضايق من وجودي للدرجة ديه وكأني هاكله.
أما هذا الأخير فنظر لشقيقته بصرامة وتشدق :
- ابقي حطي سكرك بنفسك تاني مرة متستنيش من حد يشغل ايده مكانك.
بهتت من تحوله واعتدلت في جلستها مهمهمة بحرج :
- مقصديش حاجة وحشة يا ابيه الكلمة طلعت مني كده.
رفعت حكمت حاجبها مستنكرة ولم تعلق وبعد دقائق رن هاتف آدم بمكالمة من فاروق فنهض مبتعدا قليلا وأجاب :
- متحكيليش عن اي حاجة تخص الشغل لأننا فـ اجازة النهارده.
- لا انا اتصلت بيك عشان احكيلك ع حاجة حصلت.
- في ايه ؟
- سمعت أن والدة السمسار مراد اتوفت.
- انت بتقول ايه امتى ده حصل.
- امبارح المسا واتدفنت من شويا ... اللي مستغرب منه ان محدش من قرايبينه حضر العزا غير اتنين ولا تلاتة من اللي بيتعامل معاهم جم وعملو الواجب ومشيو بسرعة.
لاذ آدم بالصمت ولم يسعه سوى الشعور بالأسى على مراد لأنه جرب نفس إحساس فقدان الأم منذ سنتين ونصف كما أنه رأى فزع مراد الكبير ناحية والدته يوم انتكست وخوفه الشديد من خسارتها لا بد أنها كانت عائلته الوحيدة لذلك حقد على عائلة الصاوي باِعتبار أنهم أذوها - وهو يجهل نوع هذا الأذى للآن -
دعى بالرحمة لها بصوت خافت ثم برطم بهدوء :
- طالما محدش جه للعزا يبقى مش هنعرف اذا مراد كان عنده عيلة نقدر نوصل لهوية فردوس سليمان من خلالهم ولا هنعرف طبيعة علاقتها بعيلتنا حتى ستي لما سألتها قالتلي مبعرفهاش وده بيخليني مستغرب اكتر لانه هي عادة مبتوهش عن اي اسم حد بيعدي عليها.
- ممكن تكون واحدة من الحريم اللي اشتغلو عند حكمت هانم من زمان وحصلت مشكلة مابينهم و اتطردت.
- وممكن معندهاش علاقة مباشرة بستي أصلا يعني مرتبطة بواحد تاني من العيلة.
ألقى فاروق فرضية عشوائية جعلت آدم يتدارك فكرة مختلفة عما كانوا يظنونه فاِحتار الآخر وتدارك بتساؤل :
- حضرتك بتقصد ان مشكلة فردوس سليمان كانت مع حد غير الست هانم وده خلى ابنها يحقد عليكم بس ايه علاقتك انت عشان حاسس ان كرهه موجه ليك بالذات.
هز كتفاه بجهل وعلق ساخرا :
- ماهو كل شويا بيطلعي واحد بيكرهني وعاوز ينتقم مني جت عليه يعني ... صحيح انت بتعرف الست ديه اندفنت في انهي مقبرة ؟
بعد دقيقتين أنهى المكالمة واستدار ليجد نيجار واقفة خلفه طالعها بتعجب وأشار بإصبعه مستفسرا :
- من امتى وانتي هنا !
ابتسمت هذه الأخيرة وردت ببراءة :
- لسه واصلة دلوقتي، في حاجة ؟
لوَّح يده في الهواء بتجاهل وغادر المنزل فراقبته حتى اختفى عن أنظارها وهنا رفعت إحدى حاجبيها مهمهمة بتفكير :
- مين فردوس المتوفية ديه ومراد اللي بيكرهه وايه علاقة آدم بيهم ؟ معقوله يبقى نفسه مراد اللي اتعاون مع صفوان من قبل عشان سبايك الدهب.
***
نسمة قاسية لفحت وجهه الشاحب فأسقطت دمعة محتجزة بين جفنيه، جالسا بين الأموات يتقاسم مرارة قلبه مع عزيزة رحلت دون عودة، يتطلع لشاهد قبرها بعينين مليئتان بالتشتت والضياع ويتلمّس حروف اسمها المنقوشة بقلب معتصر وأنفاس مثقلة ...
- جه اليوم اللي كنت خايف منه والكابوس اتحول لحقيقة.
همس بيأس وملامح باهتة، ثم ضغط على أصابع يده هادرا بنشيج حارق :
- أنا هعمل ايه من غيرك يا ماما هعيش ازاي ده انا كنت مستحمل عشانك عملت كل حاجة علشان اخليكي مبسوطة بس دلوقتي حاسس نفسي هموت من القهر لأني خسرتك.
ضرب صدره عدة مرات متابعا بخنقة :
- قلبي واجعني اوي يا ماما ... حاسس بضياع كبير وكأن حياتي مبقاش ليها لازمة.
تأوه بوجع وطأطأ رأسه باكيا ومتجرعا مرارة الوحدة ... وحدة لم تدم طويلا لأنه سرعان ما وطأت أقدام أخرى المكان فحول بصره لصاحبها وتفاجأ عندما لمح آدم واقفا بتصلب ووجه قاتم قائلا :
- البقاء لله.
زال تفاجؤه وحلَّ مكانه السخط فاِنتفض واقفا بِدوره واحتدت عيناه بغضب وهو يغمغم بقتامة :
- انت اتجننت ايه جابك هنا !
في الحقيقة حتى آدم لم يعلم إجابة هذا السؤال ولا يدري أساسا لماذا جاء إليه ومع أن الكثير من أمثال مراد مروا عليه في حياته إلا أنه لم يتعاطف معهم أو يحاول فهم سبب كرههم له وتقديم تبريرات فارغة، لم يقف يوما أمام أحدهم وأصرَّ عليه كي يخبره عن مشكلته معه مثلما يفعل الآن بل على العكس كان يستمتع وهو يضع خططا لهزمهم وإذلالهم حقا.
بيد أن الوضع يختلف مع مراد لسبب يجهله بالفعل، شخصيته وغضبه وتصرفاته كلها تثير اهتمامه وفضوله ولسبب ما أيضا ... فإن حزن هذا الشاب لا يروقه !!
تنهد آدم وعلى عكس الآخر فإنه كان غاية في الهدوء والصبر حيث تجاهل فظاظته وقال بجدية :
- سمعت ان والدتك اتوفت عشان كده جيت اعمل الواجب واعزيك.
- وانت مين أصلا عشان تجي وتعزيني فاكرني هصدق حسن نواياك !
- بعتقد ان الحاجات ديه ملهاش علاقة بالعداوة لأن حتى لو انت عدوي فـ من الأصول اعزيك ومن الأدب بردو انك تقابلني بشكل كويس لو مش عشانك فعلشان خاطر والدتك.
فتح فمه ليرد عليه لكنه لم يجد كلمات مناسبة لأن آدم أخرسه بلباقته فزفر بامتعاض وتمتم :
- ماشي شكر الله سعيكم ... عرفت منين انت بتراقبني ولا ايه.
تهكم منه وعلق باستنكار :
-- هراقبك ليه يابني معنديش غيرك اشغل بالي بيه ؟ بس متنساش انا مين عيوني ووداني فكل مكان يعني اي حاجة بتحصل هتوصلي لوحدها من غير ما ادور عليها.
ثم استطرد وهو يطالع شحوبه وهالاته السوداء :
- انت كويس ؟
- ايوة كويس ومتشكر ليك تقدر تمشي دلوقتي.
همهم مراد بعدم اكتراث وتحرك كي يذهب لكن أصابه الدوار على حين غرة ومال جسده للخلف فـأدركه آدم والتقطه بتلقائية قبل سقوطه وقال :
- انت مش قادر تقف ع رجليك حتى تعالى معايا.
تعجب مراد بداخله وتساءل عن سبب معاملته بهذه الطريقة الجيدة وساوره الشك بخصوص أن آدم عرف طبيعة العلاقة بينهما لذا هو يعامله بعطف زائف حتى يلمِّع صورته لكنه سار معه على أي حال حتى غادرا المقبرة وأخرج له قارورة ماء من سيارته متشدقا :
- باين عليك تعبان خد اشرب.
أمسكها الآخر وطالعها بتردد فهمه آدم الذي أردف بنبرة تحمل السخرية بين طياتها :
- متقلقش لو أنا مبغدرش ولو عايز اؤذيك هعمل كده وانا ببص في وشك.
نزلت كلماته على شكل رصاصات أصابته بعنف فاِرتجفت يده وطفق يتجرع من القارورة مبللا حلقه الجاف ثم سأله بفتور :
- انت بتتعامل بنفس الطريقة ديه مع كل اعدائك ؟ يعني بتواسيهم وبتساعدهم وتتصرف معاهم بشكل كويس.
همهم بتفكير مصطنع وردّ :
- لا، انا متعود اخلص من اعدائي برصاصة واحدة ولا بفضحهم قدام أهل البلد وبنفيهم بس انت شكلك وراك حكاية وجايلي فضول اعرف ايه هي.
وكمان أنا عشت نفس وجعك لأني فقدت والدتي زيك وعارف انت بتحس بـ ايه دلوقتي.
عادت لمحة الحزن والانكسار تغطي عيناه البنيتان وتهدَّل جفناه ببطء ليهمس بصوت مثقل بالهموم :
- بس انت مكنتش لوحدك عندك عيلة بتقف جمبك ومبتسيبكش.
- طيب وانت عيلتك فين ؟
جاءه السؤال من آدم على غفلة فأجفل وتحول حزنه لغضب وحقد واضح ولوهلة كاد يتبع وسوسة الشيطان ويخبره بأنه قد كتب عليه العيش من دون عائلة بسبب عائلته هو إلا أنه تراجع وتمتم بتزمت قبل أن يرحل :
- شكرا على المياه.
ركب سيارته وانطلق بها مخفيا دموع عينيه تاركا آدم يتتبع أثره ليهمس في النهاية :
- الولد ده غريب بس شخصيته مألوفة ... كأني بيشبه حد بس مش عارف هو مين.
تأفف بحنق مستغربا لطافته الزائدة مع رجل يكن له كرها خالص ثم استقل سيارته هو الآخر...
*** من ناحية أخرى في بيت الصاوي.
حلَّ الليل وازدانت السماء بقمرها ونجومها فوقفت نيجار في منتصف البهو متلكئة يمينا وشمالا تنظر للباب من حين لآخر وهي تحدث نفسها :
- آدم اتأخر ليه مش كان بيقول النهارده اجازة ومفيش شغل اومال قاعد برا لغاية دلوقتي ليه ... معقول يكون روّح للي اسمه مراد ده وحصلت مشكلة معاه.
زاد توترها من مجرد طرأ الفكرة وعضت على شفتها بذعر يتفاقم مع كل ثانية تمرّ لتنتفض فجأة عندما صدع صوت حليمة من خلفها :
- انتي بتعملي ايه هنا.
نظرت إليها وأجابت بإيجاز :
- مفيش.
وقفت بجوارها ورفعت حاجبها بتهكم من ردَّها مبرطمة :
- اومال بتبصي ع الباب ليه طالما مفيش حاجة ... لتكوني مستنية آدم.
حمحمت نيجار وأومأت بنعم فاِبتسمت حليمة على اهتمامها الواضح به وعقبت :
- طب هو طول عمره بيتأخر برا اشمعنا قاعدة مستنياه المرة ديه وقلقانة كده.
تململت بتردد في إجابتها حتى حسمت أمرها وقالت :
- بصراحة أنا سمعته بيتكلم مع فاروق ع واحد كده باين في مشكلة مابينهم وقلقت لانه طلع بعدها مباشرة.
توجست وكادت تسألها عن هويته لكن الأخرى استطردت :
- معلش تديني تلفونك اكلمه ؟ بعرف اني ببالغ بس بجد مش ههدا الا لما اسمع صوته.
- تمام ماشي.
أعطتها الهاتف وهمَّت بالإتصال لتجده يُسحب من يدها على حين غرة عندما ظهرت الجدة من الخلف وأخذته مرددة بصوت عالٍ :
- انتي بتديها تلفونك ليه مش عارفة ان الحية ديه ناقص تقعديها وتخلينا نخدمها.
طالعتها حليمة بتعجب واِستنكار فرددت :
- اهدي يا حكمت هانم البنت قلقانة ع جوزها و عاوزة تكلمه مش مستاهلة العصبية ديه كلها.
- وتكلمه ليه وتقلق عليه ليه أصلا !
صاحت بشرٍّ ووجهت عيناها لنيجار مضيفة بإزدراء :
- اوعى تفتكري انك مراته بجد ومن حقك تتعاملي كأنكم أزواج طبيعيين سبق وقولتلك انك ولا حاجة اخرك تخدمينا احنا الصبح وتشوفي احتياجاته بليل متطمعيش في اكتر من كده.
تشجنت نيجار واشتعلت حدقتاها بالغضب من إهانتها فهدرت فيها بعنفوان :
- وانا سبق وقولتلك أن اللي بيني وبين آدم هو حاجة خاصة بيننا احنا الاتنين وحضرتك ملكيش دعوة بعلاقتنا.
توحشت عينا حكمت مناظرة جرأتها التي لا تنضب وقالت بسخط :
- البيت ده بيتي وليا حق على كل واحد جواه بس شكلك بدأتي تنسي نفسك ودماغك بيصورلك ان قعدتك معانا ودور الزوجة اللي بيقرف ده هيخلي حفيدي يسامحك.
- أنا أدرى بأموري وحتى حفيدك أدرى بحياته ونفسه وايوة أنا بعمل كل اللي ف ايدي عشان يسامحني ونرجع مع بعض هتعملي ايه هتخليني اعمل كل شغل البيت ولا تحبسيني في القبو ولا تضربيني ؟
في نفس الوقت دخل آدم باحتراز متبينا مصدر الجلبة لكن نيجار التي مازالت تحت وطأة إهاناتها المستمرة لم تنتبه لوجوده وهي تتابع :
- تصرفاتك ديه مش هتثبت ان حضرتك هي ست البيت على العكس بتوضح قد ايه انتي غرقانة في تسلطك وتحكمك المريض.
- ايه الهبل ده اللي بيحصل هنا.
صرخ آدم بخشونة مقتحما البهو واقترب منهن فهتفت حكمت بإستهزاء حاد :
- تعالى اتفرج على الست مراتك وهي بتقلل أدبها على جدتك.
تعلقت عينا نيجار عليه بمشاعر مختلطة مابين الارتياح لمجيئه والغضب من حكمت لكنه لم ينتبه لما يدور في خلدها بل اعتقل يدها بين أصابعه ووبخها بخشونة :
- انتي اتجننتي ايه الكلام اللي سمعتك بتقوليه ده.
- اهدا يا آدم انت فاهم الموضوع غلط.
تمتمت حليمة محاولة تهدئة العاصفة التي هبَّت دون سابق إنذار لكنه أوقفها بإشارة من يده وأردف بحزم :
- هو انا كل مرة هجي والاقيكم متخانقين وصوتكم واصل لبرا ايه مبتزهقوش مصممين تفضحونا قدام الحرس والناس.
تأوهت بألم من قوة إطباقه عليها وحاولت التملص منه لكنه سحبها وراءه وصعدا إلى الغرفة ليتركها ويغلق الباب مزمجرا :
- خير يا هانم مشاكلك مش هتخلص ؟
- أنا مغلطتش وستك هي اللي بدأت الأول !!
- عارف أنها هي اللي بدأت بس كام مرة نبهتك وقولتلك تسكتي ومترديش عليها عشان القصة متكبرش هتبقو مبسوطين وانتو بتعملو المشاكل ديه.
- عملت زي ما طلبت مني وبقيت اتجاهلها ومردش عليها رغم اني مش متعودة اسكت بس أنا ليا طاقة محددة وصبري بيخلص.
صاحت بعنفوان تغطي به قهرها لأنها دائما ما تنال نصيبها من توبيخه مهما فعلت وأردفت :
- يعني مش كفاية مستحملة نظراتهم ليا وكأني مجرد واحدة ملهاش لازمة غير انها تخدمهم لازم اقبل انها تذلني بردو ؟
- بس أنا خيرتك بين انك تمشي أو تفضلي في البيت لغاية ما مشكلة العمدة تخلص ونتطلق وانتي وافقتي يبقى ليه جاية تشتكي دلوقتي.
تهدلّ كتفاها وتنهدت بيأس متسائلة :
- انت بجد فاكر اني لسه قاعدة في بيتك عشان العمدة ؟ هو مبيهمنيش أصلا أنا وافقت وفرحت كمان بتأجيل الطلاق علشانك انت ... علشاننا احنا.
- عشاننا احنا ؟
انكمشت ملامحه بغرابة غير مستوعب لمقصدها فهزت نيجار رأسها مؤكدة بابتسامة دامعة :
- أيوة ... بص في كلام بقالي كتير كاتماه جوايا وكل مرة بحاول اقولهولك وبتراجع بس خلاص أنا تعبت ومش هكتمه أكتر من كده.
توتر الجو وأحس آدم بأن الجدال يأخذ مسارا آخر وكان ظنه صحيحا لأن نيجار التي أمسك يده وضغطت عليها انهمرت دموعها من الجانبين تضخم قلبها بعاطفة لم تعد تعرف سبيلا لإخمادها لتهمس في النهاية بنبرة مليئة بالهيام :
- آدم أنا ... أنا بـحـبـك !