رواية شغفها عشقا الفصل السادس عشر 16 بقلم ولاء رفعت
ما أجمل لقاء الحبيب بعد طول فراق، وبعد سيل من الأشواق، إنها لحظة ترسم أحداثها في لوحة ربيع العمر، لحظة يزاد فيها نبض القلب، وتتجمد المشاعر من فرح القلوب، لحظة فيها من الوفاء ما يروي الأحاسيس.
لا تغيب عن ذهنه المنشغل بها، يلوم نفسه آلاف المرات بسبب تعامله معها بهذه الحدة، ربما جرح قلبه وكبريائه هما المسئولان لذلك يجب عليه في أقرب فرصة أن يصلح ما أفسده كليهما.
صدح رنين هاتفه، فرأى رقم العم عرفة الوحيد الذي أعطى له رقمه لكي يطمئن عليه من حين إلى آخر وكذلك يطمئن عن زوجة أبيه وأشقائه.
- ألو أزيك يا عم عرفة؟
أجاب عرفة بصوت أضناه الحزن:
- الحمد لله على كل حال، معلش لو اتصلت بيك، أنا عارف إنك مشغول ربنا يعينك، بس كان لازم أكلمك و أقولك إلحق شقى وتعب أبوك وتعبك طول السنين هيروح بسبب أخوك المستهتر،الضرايب بعتت إنذار وهو عمال يتهرب ويرشي المندوب عشان يقولهم مش موجود.
زفر ويشعر بالعجز فسأله:
- طيب دلوقتي المحلات باسم أخويا أنا هتصرف ازاي؟
أجاب عرفة:
- مصلحة الضرايب أهم حاجة عندهم الدفع وعشان دي سلسلة محلات هتبقي الغرامة كبيرة جدًا، فلو ليك سكة أو معرفة عند حد فيهم كلمهم وادفع المطلوب من غير غرامات أو حجز على المحلات لا قدر الله.
تنهد الأخر ثم قال:
- اطمن يا عم عرفة هروح لهم بكرة إن شاء الله وهشوف المبلغ كام وربنا يقدرني وأسدده ليهم.
- ربنا يعينك يا ابني، و يهدي لك أخوك.
و بعد تبادل السلام أنهى المكالمة فصدح رنين الهاتف الخاص بالشركة والاتصال على العملاء، أجاب بجدية يظن أن المتصل أحد العملاء:
- ألو.
أجابت بصوت باكٍ ومرتجف:
- إلحقني يا يوسف، أخوك نزل فيا ضرب وهربت منه، أنا في الشارع وخايفة أروح لخالي، وخالي ما بيقدرش يقف قصاده، أنا خايفة قوي.
سألها بلهفة وخوف عليها:
- قولي انتي فين كدا وأنا جايلك حالًا.
وبعد أن ذهب إلى المكان الذي وصفته له أخذها داخل سيارته ووصل أمام البناء الذي يمكث فيه، نظر إلى ملامحها وآثار أنامل شقيقه على خديها فقال لها:
- أنا آسف، يا ريتني ما كنت انشغلت عنك ولا سيبتك فريسة له.
نظرت إلى الأمام ولم تملك أي رد سوى الصمت، فأردف:
- ده مفتاح الشقة، تالت دور أول شقة على اليمين.
سألته على استحياء حتى لا يظن خطأ:
- هو أنت هتبات فين؟
أجاب وهو ينظر إلى الأمام، لا يتحمل رؤية وجهها في تلك الحالة المزرية:
- أنا هبات في الشركة وكمان أحسن كدا، عشان عندي شغل كتير لسه ما خلصتهوش.
ابتسمت بشفتيها المنتفختين من الضرب التي تلقته على يد شقيقه، فقالت:
- ربنا معاك، وآه صح نسيت أقولك ألف مبروك على الشركة، ربنا يبارك لك فيها.
عاد ببصره إليها وبادلها الابتسامة ثم أجاب:
- الله يبارك فيكي، هي شراكة ما بيني وما بين صاحبي اسمه ماجد وأخته آية، هاجي أعدي عليكي بكرة إن شاء الله، هاخدك في الشركة تتعرفي عليهم وهتحبيهم جدًا.
شعرت بغصة عندما سمعت اسم فتاة أخرى غيرها في حياته، لاحظ ملامحها التي تبدلت في لحظة من الفرح إلي الغيرة والحزن فأردف:
- على فكرة آية زي أختي بالظبط.
تنفست الصعداء لكنها تظاهرت بنقيض هذا قائلة:
- وأنا مسألتكش.
جز على فكه بحنق ثم أردفت:
- عن إذنك مضطرة أسيبك عايزة أطلع أنام، هبقي أكلمك أول ما هصحى، سلام.
ترجلت من السيارة تحت نظراته إليها، لوحت بيدها إليه ثم دخلت إلى البناء.
ــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي، ذهب إليها ينتظرها أسفل البناء ليعود معها إلى الشركة، وعندما وصل كليهما، قابل ماجد صديقه الذي سأله بمزاح:
- مش تعرفنا بالقمر اللي معاك؟
لكزه يوسف في كتفه وبتحذير قال له:
- اتلم، دي قريبتي.
كانت تخشى أن يخبره أنها زوجة شقيقه، يا لها من كلمة كريهة تمقتها بشدة وكأنها أبشع لقب، أجاب صديقه معتذرًاً:
- بعتذر أنا معرفش والله، كنت فاكر إنها عميلة.
رد يوسف وهو يشير نحوها:
- اسمها مريم.
مد ماجد يده ليصافحها قائلًا:
- أهلاً وسهلاً يا مريم الشركة نورت.
ابتسمت وأجابت:
- منورة بيكم، معلش ما بسلمش على رجالة.
كم أسعد يوسف هذا، فأشار إليها نحو صديقه:
- وده يبقى ماجد فؤاد صديقي طول أربع سنين الجامعة.
- هاي أزيكم يا شباب.
التفت ثلاثتهم إلى صاحبة الصوت الناعم، فأخبر يوسف مريم:
- ودي آية أخت ماجد والشريك التالت لينا.
وأشار لآية نحو مريم وأخبرها:
- مريم قريبتي.
لم تمد يدها لمصافحتها واكتفت بالنظر نحوها بشبه ابتسامة، بل تجاهلت وجودها بينهم، فقالت:
- يوسف عايزة أتكلم معاك خمس دقايق.
رد الأخر بعفوية:
- اتفضلي اتكلمي براحتك، مريم مش غريبة.
نظرت إليها من طرف عينيها وأخبرته:
- معلش الموضوع خاص.
- معلش يا مريم، خمس دقايق وراجع لك خليكي مكانك.
أخبرها يوسف بذلك فهزت رأسها بالموافقة، فذهب مع آية ووقفوا على بعد أمتار، لا تسمع حديثهما، لكنها على يقين أن هذه الآية تحبه كثيراً من خلال الغيرة الواضحة لديها وكذلك نظراتها إليه وهي تتحدث معه ، داهمها غصة في فؤادها عندما رأتهما معاً.
ولدى يوسف وآية...
- أنا خلاص هسافر بكرة وجيت عشان أسلم عليك.
كانت تخبره وكأنه وداعًا أكثر من كونه لقاء، فأجاب:
- ربنا يوفقك، وبتمنى ليكي حياة أحسن وحبيب يقدرك ويحبك.
حدقت بشبه ابتسامة ثم قالت:
- إن شاء الله.
ثم نظرت نحو مريم وسألته:
- حبيبتك؟
اكتفى بهز رأسه ولم يجرؤ البوح بالوضع الحالي بينهما حتى لا يعطي أملًا واهيًا لها، فأردفت:
- ربنا يسعدكم ويتمم لكم على خير.
وبالعودة إلى مريم التي تراقبهما، انتبهت إلى رنين هاتفها، وجدت المتصل ابنة خالها فأجابت وتخشى أن يكون قد أصابها مكروهًا على يد جاسر:
- ألو يا أمنية؟
انتبه يوسف إليها وهي تركض إلى الخارج، فذهب وترك آية قائلًا:
- معلش يا آية هروح أشوف مريم مالها.
لم يستطع اللحاق بها مثل المرة السابقة، ويخشى أن تعود إلى شقيقه مرة أخرى ويعتدي عليها بالضرب، لذلك استقل سيارته وانطلق خلف سيارة الأجرة التي هي بها.
ـــــــــــــ
ترجلت من السيارة أمام المستشفى ودخلت إلى ردهة الانتظار، فوجدت ابنة خالها في انتظارها وتبكي بشدة، سألتها بقلق وخوف:
- فيه إيه يا أمنية؟ خالو حصله حاجة؟
ارتمت بين ذراعيها وأجابت من بين دموعها الغزيرة كغيث الشتاء:
- ماما، ماما تعبت فجأة وجبناها على هنا، الدكتور بعد ما طلب تحاليل وأشعة اكتشف عندها كانسر في العضم.
رددت مريم بحزن وهي تربت على أمنية:
- لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يشفيها ويعافيها، هي فين دلوقتي؟
أجابت وهي تشير نحو الرواق:
- لسه منقولة في أوضة هناك، سيبتها ترتاح وتنام حبة، الوجع كان صعب عليها قوي، الدكتور حقنها بمسكن و نامت من حوالي ساعة.
- مش تقولي إنك ماشية عشان جاية على هنا.
التفتت مريم إليه فأجابت:
- معلش يا يوسف، أصل أمنية كانت عمالة تعيط ومافهمتش منها غير إنها هنا في المستشفي.
- أنا قابلت عم عرفة برة بيشتري حاجات وراجع، ألف سلامة على طنط أم محمود يا أمنية.
أجابت وما زالت تبكي:
- ادعي ليها بالله عليك يا يوسف، أنا خايفة يحصلها حاجة، أنا بحب ماما قوي وماقدرش أعيش من غيرها.
قامت مريم بمعانقتها وقالت بمواساة:
- يا حبيبتي ربنا يديها الصحة ويبارك لك فيها، ادعي ليها وهي هتقوم بالسلامة.
اقتربت نحوهم ممرضة لتسألهم:
- مدام أمنية، والدتك صحيت وعمالة تقول هاتولي مريم.
- أنا مريم.
فأشارت إليها الممرضة:
- طيب تعالي معايا عشان هي عايزاكي.
وقبل أن تذهب أمسكت أمنية يدها وقالت لها:
- أنا عارفة إنها زعلتك كتير، بس بالله عليكي سامحيها، هي قلبها أبيض وبتحبك.
أومأت إليها وأجابت:
- اطمني يا أمنية أنا مسامحها من غير حاجة لأنها في مقام ماما الله يرحمها، وربتني زي ما ربتك بالظبط من غير ما تفرق في المعاملة.
وعند هويدا الممددة على المضجع المعدني الخاص بالمرضى، دخلت مريم فرأتها هويدا ورفعت يدها بصعوبة وهي تقول بصوت يكافح الخروج من بين شفتيها حيث هزمها المرض المفاجئ شر هزيمة:
- تعالي يا مريم، تعالي يا حبيبتي.
ذهبت إليها وجلست على مقعد مجاور لها، أمسكت بيدها بين كفيها وابتسمت لها قائلة:
- ألف سلامة عليكي يا ماما هويدا.
- ياه لسه فاكراها، لما كنتي صغيرة وبتقوليها ليا.
هزت رأسها بالإيجاب وأخبرتها بامتنان:
- أنا عمري ما أنسى الحلو اللي قدمتيه ليا، مهما كان مقابله مواقف سيئة، خلاص تقريباً نسيتها.
- بس أنا ما نستهاش، أنا فعلًا جيت عليكي كتير والمفروض كنت أخدت حقك من ابني لما كان بيتعدى حدوده معاكي، كنت خليت خالك يكملك تعليمك من غير ما تروحي تشتغلي وتتبهدلي، كنت وقفت لجاسر وماخلتهوش يتجوزك، أنا مكسوفة أطلب منك تسامحيني، دا أنا مش مسامحة نفسي على كل اللي عملته معاكي.
ما زالت مريم تبتسم لها، وتمسك بيدها تمسحها بحنان فأخبرتها بسعادة:
- أنا قولتها لأمنية وبكررها لحضرتك، أنا مسامحاكي من غير أي حاجة.
ودنت منها ثم طبعت قبلة فوق جبينها:
- ألف سلامة عليكي.
كم من قلوب نقية قُذفت بالوحل فجاء الغيث عليها بغزارة لتعود إلى نقائها مرة أخرى.
ـــــــــــــــ
و بعد ثلاثة أيام صرح الطبيب بخروج السيدة هويدا من المستشفى والمتابعة من حين إلى آخر و تذهب لأخذ جلسات العلاج الكيميائي.
ذهبت أمنية إلى المنزل فوجدته رأسًا على عقب وزجاجات خمر فارغة ملقاة على الأرض وأعقاب سجائر متناثرة فوق السجادة، حدقت نحو هذا المنظر الشنيع بازدراء قائلة:
- إيه القرف اللي هو عامله ده؟
ذهبت إلى غرفة النوم وجدته يتمدد على بطنه فوق المضجع، على الكمود جواره صينية عليها بقايا طعام من الوجبات الجاهزة، تركت مُتعلقاتها وحقيبة يدها جانبًا وأخذت ترتب هذه الفوضى حتى انتهت، داهمها الشعور بالتعب، ارتمت فوق الأريكة فانتفضت عندما رأته يقف أمامها يسألها بلهجة حادة:
- كنتي فين من ورايا؟ كنتي بتقابلي بنت عمتك السافلة اللي وربنا أول ما هشوفها هكسر عضمها عشان ما تقدرش تخطي برة باب الشقة تاني"
أثارت كلماته غضبها حيث لم تتقبل وعيده على صديقتها، فصاحت في وجهه:
- حرام عليك، ما تسيبها في حالها، هي مش عايزاك ولا بتقبلك ماسك فيها ليه؟
قبض على عضدها بأنامله التي انغرست بقوة في ذراعها فأطلقت صرخة بألم.
- انتي مالك، أنا أعمل اللي أنا عايزه وانتي تسمعي الكلام وتخرسي خالص، بدل ما اللي بعمله فيها اطلعوا عليكي، فاهمة و لا لاء؟
هزت رأسها بالإيجاب فنفض ذراعها واتجه نحو المرحاض ملقياً عليها أمره:
- حضري ليا حاجة أكلها عشان خارج.
استدار إليها وأخبرها لإغاظتها:
- رايح أسهر مع بنات عندك اعتراض؟
نظرت إليه بامتعاض واكتفت بالصمت وذهبت إلى المطبخ لتعد له الطعام.
وفي ساعة متأخرة من الليل، يجلس داخل الملهي الليلي يحتسي الخمر بشراهة، كلما يتذكر رفض مريم له شعر كم هو أحمق، لمَ يريد امتلاك أحد يمقته إلي هذا الحد؟ تذكر السبب الرئيسي والذي جعله يفعل هذا ألا وهو شقيقه، يشعر اتجاهه دائماً بالحقد والضغينة.
- إلحق بص كدا، مش ده جاسر الراوي اللي اتجوز مريم اللي كانت بتشتغل في محل أبوه؟
قالها أحد الشباب الجالسين بجواره فأجاب صاحبه:
- أيوه البت القمر عارفها، دا كمان تجوز بنت خالها اللي اسمه عرفة.
عقب الأخر بحقد وسخرية:
- دا يا بخته وخسارة فيه.
أخبره الأول وتعمد رفع صوته ليصل إلى سمع جاسر الذي يسترق السمع إلى حديثهما عنه:
- دا أنا عرفت من البت نهى إنه اتجوز اتنين عشان يعمل لنفسه قيمة على إنه راجل جامد ومفيش زيه، وهو أصلًا عيل أهبل وشكل مرتاته لتنين بيدولوا على قفاه.
نزل من فوق المقعد المرتفع بجوار البار، وقف أمامهما ويحثه الشيطان عن أن يقطع ألسنتهما.
- جرى إيه يا حلو منك له؟ عمال تلقحوا عليَّ بالكلام وأنا ساكت لكم، أنا أهبل يا ولاد الـ... "
أمسكه إحداهما من تلابيب قميصه:
- طيب ليه الغلط بقى؟روح يلا من هنا مراتك بتنده عليك.
وربت على خده بحدة، فباغته جاسر بلكمة وهو يصيح في وجهه:
- ملكش دعوة بأهل بيتي يا... "
وضع أحدهما يده على أثر الضربة، ثم تناول زجاجة خمر وقام بكسرها على طاولة البار الرخامية، فصرخت الفتيات وابتعدن وتوقف الشباب يشاهدون ما يحدث، فعل جاسر المثل وأشهر الزجاج المدبب نحو أحدهما قائلاً:
- لو راجل قرب ووريني نفسك.
صاح الرجل قائلاً:
- أنا أرجل منك ووريني هتعمل إيه؟
بدأت المعركة بينهما وابتعد الذين يقفون للمشاهدة من حولهما، أتى رجال أمن الملهي من الخارج ليلحقوا بهما.
- أنت اللي جبته لنفسك.
قالها جاسر بعد أن تمكن من إيقاع الشاب على الأرض وهو غير مدرك لما يفعله لأنه يقع تحت تأثير الخمر، رفع يده لأعلى بنصف الزجاجة المدبب والحاد ثم وغزه بقوة في عنقه فأصابها بجرح قاطع وغائر أدى إلى قطع العرق النابض، أخذ ينتفض جسد هذا الشاب وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
لا تغيب عن ذهنه المنشغل بها، يلوم نفسه آلاف المرات بسبب تعامله معها بهذه الحدة، ربما جرح قلبه وكبريائه هما المسئولان لذلك يجب عليه في أقرب فرصة أن يصلح ما أفسده كليهما.
صدح رنين هاتفه، فرأى رقم العم عرفة الوحيد الذي أعطى له رقمه لكي يطمئن عليه من حين إلى آخر وكذلك يطمئن عن زوجة أبيه وأشقائه.
- ألو أزيك يا عم عرفة؟
أجاب عرفة بصوت أضناه الحزن:
- الحمد لله على كل حال، معلش لو اتصلت بيك، أنا عارف إنك مشغول ربنا يعينك، بس كان لازم أكلمك و أقولك إلحق شقى وتعب أبوك وتعبك طول السنين هيروح بسبب أخوك المستهتر،الضرايب بعتت إنذار وهو عمال يتهرب ويرشي المندوب عشان يقولهم مش موجود.
زفر ويشعر بالعجز فسأله:
- طيب دلوقتي المحلات باسم أخويا أنا هتصرف ازاي؟
أجاب عرفة:
- مصلحة الضرايب أهم حاجة عندهم الدفع وعشان دي سلسلة محلات هتبقي الغرامة كبيرة جدًا، فلو ليك سكة أو معرفة عند حد فيهم كلمهم وادفع المطلوب من غير غرامات أو حجز على المحلات لا قدر الله.
تنهد الأخر ثم قال:
- اطمن يا عم عرفة هروح لهم بكرة إن شاء الله وهشوف المبلغ كام وربنا يقدرني وأسدده ليهم.
- ربنا يعينك يا ابني، و يهدي لك أخوك.
و بعد تبادل السلام أنهى المكالمة فصدح رنين الهاتف الخاص بالشركة والاتصال على العملاء، أجاب بجدية يظن أن المتصل أحد العملاء:
- ألو.
أجابت بصوت باكٍ ومرتجف:
- إلحقني يا يوسف، أخوك نزل فيا ضرب وهربت منه، أنا في الشارع وخايفة أروح لخالي، وخالي ما بيقدرش يقف قصاده، أنا خايفة قوي.
سألها بلهفة وخوف عليها:
- قولي انتي فين كدا وأنا جايلك حالًا.
وبعد أن ذهب إلى المكان الذي وصفته له أخذها داخل سيارته ووصل أمام البناء الذي يمكث فيه، نظر إلى ملامحها وآثار أنامل شقيقه على خديها فقال لها:
- أنا آسف، يا ريتني ما كنت انشغلت عنك ولا سيبتك فريسة له.
نظرت إلى الأمام ولم تملك أي رد سوى الصمت، فأردف:
- ده مفتاح الشقة، تالت دور أول شقة على اليمين.
سألته على استحياء حتى لا يظن خطأ:
- هو أنت هتبات فين؟
أجاب وهو ينظر إلى الأمام، لا يتحمل رؤية وجهها في تلك الحالة المزرية:
- أنا هبات في الشركة وكمان أحسن كدا، عشان عندي شغل كتير لسه ما خلصتهوش.
ابتسمت بشفتيها المنتفختين من الضرب التي تلقته على يد شقيقه، فقالت:
- ربنا معاك، وآه صح نسيت أقولك ألف مبروك على الشركة، ربنا يبارك لك فيها.
عاد ببصره إليها وبادلها الابتسامة ثم أجاب:
- الله يبارك فيكي، هي شراكة ما بيني وما بين صاحبي اسمه ماجد وأخته آية، هاجي أعدي عليكي بكرة إن شاء الله، هاخدك في الشركة تتعرفي عليهم وهتحبيهم جدًا.
شعرت بغصة عندما سمعت اسم فتاة أخرى غيرها في حياته، لاحظ ملامحها التي تبدلت في لحظة من الفرح إلي الغيرة والحزن فأردف:
- على فكرة آية زي أختي بالظبط.
تنفست الصعداء لكنها تظاهرت بنقيض هذا قائلة:
- وأنا مسألتكش.
جز على فكه بحنق ثم أردفت:
- عن إذنك مضطرة أسيبك عايزة أطلع أنام، هبقي أكلمك أول ما هصحى، سلام.
ترجلت من السيارة تحت نظراته إليها، لوحت بيدها إليه ثم دخلت إلى البناء.
ــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي، ذهب إليها ينتظرها أسفل البناء ليعود معها إلى الشركة، وعندما وصل كليهما، قابل ماجد صديقه الذي سأله بمزاح:
- مش تعرفنا بالقمر اللي معاك؟
لكزه يوسف في كتفه وبتحذير قال له:
- اتلم، دي قريبتي.
كانت تخشى أن يخبره أنها زوجة شقيقه، يا لها من كلمة كريهة تمقتها بشدة وكأنها أبشع لقب، أجاب صديقه معتذرًاً:
- بعتذر أنا معرفش والله، كنت فاكر إنها عميلة.
رد يوسف وهو يشير نحوها:
- اسمها مريم.
مد ماجد يده ليصافحها قائلًا:
- أهلاً وسهلاً يا مريم الشركة نورت.
ابتسمت وأجابت:
- منورة بيكم، معلش ما بسلمش على رجالة.
كم أسعد يوسف هذا، فأشار إليها نحو صديقه:
- وده يبقى ماجد فؤاد صديقي طول أربع سنين الجامعة.
- هاي أزيكم يا شباب.
التفت ثلاثتهم إلى صاحبة الصوت الناعم، فأخبر يوسف مريم:
- ودي آية أخت ماجد والشريك التالت لينا.
وأشار لآية نحو مريم وأخبرها:
- مريم قريبتي.
لم تمد يدها لمصافحتها واكتفت بالنظر نحوها بشبه ابتسامة، بل تجاهلت وجودها بينهم، فقالت:
- يوسف عايزة أتكلم معاك خمس دقايق.
رد الأخر بعفوية:
- اتفضلي اتكلمي براحتك، مريم مش غريبة.
نظرت إليها من طرف عينيها وأخبرته:
- معلش الموضوع خاص.
- معلش يا مريم، خمس دقايق وراجع لك خليكي مكانك.
أخبرها يوسف بذلك فهزت رأسها بالموافقة، فذهب مع آية ووقفوا على بعد أمتار، لا تسمع حديثهما، لكنها على يقين أن هذه الآية تحبه كثيراً من خلال الغيرة الواضحة لديها وكذلك نظراتها إليه وهي تتحدث معه ، داهمها غصة في فؤادها عندما رأتهما معاً.
ولدى يوسف وآية...
- أنا خلاص هسافر بكرة وجيت عشان أسلم عليك.
كانت تخبره وكأنه وداعًا أكثر من كونه لقاء، فأجاب:
- ربنا يوفقك، وبتمنى ليكي حياة أحسن وحبيب يقدرك ويحبك.
حدقت بشبه ابتسامة ثم قالت:
- إن شاء الله.
ثم نظرت نحو مريم وسألته:
- حبيبتك؟
اكتفى بهز رأسه ولم يجرؤ البوح بالوضع الحالي بينهما حتى لا يعطي أملًا واهيًا لها، فأردفت:
- ربنا يسعدكم ويتمم لكم على خير.
وبالعودة إلى مريم التي تراقبهما، انتبهت إلى رنين هاتفها، وجدت المتصل ابنة خالها فأجابت وتخشى أن يكون قد أصابها مكروهًا على يد جاسر:
- ألو يا أمنية؟
انتبه يوسف إليها وهي تركض إلى الخارج، فذهب وترك آية قائلًا:
- معلش يا آية هروح أشوف مريم مالها.
لم يستطع اللحاق بها مثل المرة السابقة، ويخشى أن تعود إلى شقيقه مرة أخرى ويعتدي عليها بالضرب، لذلك استقل سيارته وانطلق خلف سيارة الأجرة التي هي بها.
ـــــــــــــ
ترجلت من السيارة أمام المستشفى ودخلت إلى ردهة الانتظار، فوجدت ابنة خالها في انتظارها وتبكي بشدة، سألتها بقلق وخوف:
- فيه إيه يا أمنية؟ خالو حصله حاجة؟
ارتمت بين ذراعيها وأجابت من بين دموعها الغزيرة كغيث الشتاء:
- ماما، ماما تعبت فجأة وجبناها على هنا، الدكتور بعد ما طلب تحاليل وأشعة اكتشف عندها كانسر في العضم.
رددت مريم بحزن وهي تربت على أمنية:
- لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يشفيها ويعافيها، هي فين دلوقتي؟
أجابت وهي تشير نحو الرواق:
- لسه منقولة في أوضة هناك، سيبتها ترتاح وتنام حبة، الوجع كان صعب عليها قوي، الدكتور حقنها بمسكن و نامت من حوالي ساعة.
- مش تقولي إنك ماشية عشان جاية على هنا.
التفتت مريم إليه فأجابت:
- معلش يا يوسف، أصل أمنية كانت عمالة تعيط ومافهمتش منها غير إنها هنا في المستشفي.
- أنا قابلت عم عرفة برة بيشتري حاجات وراجع، ألف سلامة على طنط أم محمود يا أمنية.
أجابت وما زالت تبكي:
- ادعي ليها بالله عليك يا يوسف، أنا خايفة يحصلها حاجة، أنا بحب ماما قوي وماقدرش أعيش من غيرها.
قامت مريم بمعانقتها وقالت بمواساة:
- يا حبيبتي ربنا يديها الصحة ويبارك لك فيها، ادعي ليها وهي هتقوم بالسلامة.
اقتربت نحوهم ممرضة لتسألهم:
- مدام أمنية، والدتك صحيت وعمالة تقول هاتولي مريم.
- أنا مريم.
فأشارت إليها الممرضة:
- طيب تعالي معايا عشان هي عايزاكي.
وقبل أن تذهب أمسكت أمنية يدها وقالت لها:
- أنا عارفة إنها زعلتك كتير، بس بالله عليكي سامحيها، هي قلبها أبيض وبتحبك.
أومأت إليها وأجابت:
- اطمني يا أمنية أنا مسامحها من غير حاجة لأنها في مقام ماما الله يرحمها، وربتني زي ما ربتك بالظبط من غير ما تفرق في المعاملة.
وعند هويدا الممددة على المضجع المعدني الخاص بالمرضى، دخلت مريم فرأتها هويدا ورفعت يدها بصعوبة وهي تقول بصوت يكافح الخروج من بين شفتيها حيث هزمها المرض المفاجئ شر هزيمة:
- تعالي يا مريم، تعالي يا حبيبتي.
ذهبت إليها وجلست على مقعد مجاور لها، أمسكت بيدها بين كفيها وابتسمت لها قائلة:
- ألف سلامة عليكي يا ماما هويدا.
- ياه لسه فاكراها، لما كنتي صغيرة وبتقوليها ليا.
هزت رأسها بالإيجاب وأخبرتها بامتنان:
- أنا عمري ما أنسى الحلو اللي قدمتيه ليا، مهما كان مقابله مواقف سيئة، خلاص تقريباً نسيتها.
- بس أنا ما نستهاش، أنا فعلًا جيت عليكي كتير والمفروض كنت أخدت حقك من ابني لما كان بيتعدى حدوده معاكي، كنت خليت خالك يكملك تعليمك من غير ما تروحي تشتغلي وتتبهدلي، كنت وقفت لجاسر وماخلتهوش يتجوزك، أنا مكسوفة أطلب منك تسامحيني، دا أنا مش مسامحة نفسي على كل اللي عملته معاكي.
ما زالت مريم تبتسم لها، وتمسك بيدها تمسحها بحنان فأخبرتها بسعادة:
- أنا قولتها لأمنية وبكررها لحضرتك، أنا مسامحاكي من غير أي حاجة.
ودنت منها ثم طبعت قبلة فوق جبينها:
- ألف سلامة عليكي.
كم من قلوب نقية قُذفت بالوحل فجاء الغيث عليها بغزارة لتعود إلى نقائها مرة أخرى.
ـــــــــــــــ
و بعد ثلاثة أيام صرح الطبيب بخروج السيدة هويدا من المستشفى والمتابعة من حين إلى آخر و تذهب لأخذ جلسات العلاج الكيميائي.
ذهبت أمنية إلى المنزل فوجدته رأسًا على عقب وزجاجات خمر فارغة ملقاة على الأرض وأعقاب سجائر متناثرة فوق السجادة، حدقت نحو هذا المنظر الشنيع بازدراء قائلة:
- إيه القرف اللي هو عامله ده؟
ذهبت إلى غرفة النوم وجدته يتمدد على بطنه فوق المضجع، على الكمود جواره صينية عليها بقايا طعام من الوجبات الجاهزة، تركت مُتعلقاتها وحقيبة يدها جانبًا وأخذت ترتب هذه الفوضى حتى انتهت، داهمها الشعور بالتعب، ارتمت فوق الأريكة فانتفضت عندما رأته يقف أمامها يسألها بلهجة حادة:
- كنتي فين من ورايا؟ كنتي بتقابلي بنت عمتك السافلة اللي وربنا أول ما هشوفها هكسر عضمها عشان ما تقدرش تخطي برة باب الشقة تاني"
أثارت كلماته غضبها حيث لم تتقبل وعيده على صديقتها، فصاحت في وجهه:
- حرام عليك، ما تسيبها في حالها، هي مش عايزاك ولا بتقبلك ماسك فيها ليه؟
قبض على عضدها بأنامله التي انغرست بقوة في ذراعها فأطلقت صرخة بألم.
- انتي مالك، أنا أعمل اللي أنا عايزه وانتي تسمعي الكلام وتخرسي خالص، بدل ما اللي بعمله فيها اطلعوا عليكي، فاهمة و لا لاء؟
هزت رأسها بالإيجاب فنفض ذراعها واتجه نحو المرحاض ملقياً عليها أمره:
- حضري ليا حاجة أكلها عشان خارج.
استدار إليها وأخبرها لإغاظتها:
- رايح أسهر مع بنات عندك اعتراض؟
نظرت إليه بامتعاض واكتفت بالصمت وذهبت إلى المطبخ لتعد له الطعام.
وفي ساعة متأخرة من الليل، يجلس داخل الملهي الليلي يحتسي الخمر بشراهة، كلما يتذكر رفض مريم له شعر كم هو أحمق، لمَ يريد امتلاك أحد يمقته إلي هذا الحد؟ تذكر السبب الرئيسي والذي جعله يفعل هذا ألا وهو شقيقه، يشعر اتجاهه دائماً بالحقد والضغينة.
- إلحق بص كدا، مش ده جاسر الراوي اللي اتجوز مريم اللي كانت بتشتغل في محل أبوه؟
قالها أحد الشباب الجالسين بجواره فأجاب صاحبه:
- أيوه البت القمر عارفها، دا كمان تجوز بنت خالها اللي اسمه عرفة.
عقب الأخر بحقد وسخرية:
- دا يا بخته وخسارة فيه.
أخبره الأول وتعمد رفع صوته ليصل إلى سمع جاسر الذي يسترق السمع إلى حديثهما عنه:
- دا أنا عرفت من البت نهى إنه اتجوز اتنين عشان يعمل لنفسه قيمة على إنه راجل جامد ومفيش زيه، وهو أصلًا عيل أهبل وشكل مرتاته لتنين بيدولوا على قفاه.
نزل من فوق المقعد المرتفع بجوار البار، وقف أمامهما ويحثه الشيطان عن أن يقطع ألسنتهما.
- جرى إيه يا حلو منك له؟ عمال تلقحوا عليَّ بالكلام وأنا ساكت لكم، أنا أهبل يا ولاد الـ... "
أمسكه إحداهما من تلابيب قميصه:
- طيب ليه الغلط بقى؟روح يلا من هنا مراتك بتنده عليك.
وربت على خده بحدة، فباغته جاسر بلكمة وهو يصيح في وجهه:
- ملكش دعوة بأهل بيتي يا... "
وضع أحدهما يده على أثر الضربة، ثم تناول زجاجة خمر وقام بكسرها على طاولة البار الرخامية، فصرخت الفتيات وابتعدن وتوقف الشباب يشاهدون ما يحدث، فعل جاسر المثل وأشهر الزجاج المدبب نحو أحدهما قائلاً:
- لو راجل قرب ووريني نفسك.
صاح الرجل قائلاً:
- أنا أرجل منك ووريني هتعمل إيه؟
بدأت المعركة بينهما وابتعد الذين يقفون للمشاهدة من حولهما، أتى رجال أمن الملهي من الخارج ليلحقوا بهما.
- أنت اللي جبته لنفسك.
قالها جاسر بعد أن تمكن من إيقاع الشاب على الأرض وهو غير مدرك لما يفعله لأنه يقع تحت تأثير الخمر، رفع يده لأعلى بنصف الزجاجة المدبب والحاد ثم وغزه بقوة في عنقه فأصابها بجرح قاطع وغائر أدى إلى قطع العرق النابض، أخذ ينتفض جسد هذا الشاب وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.