رواية شبح حياتي الفصل الخامس عشر15 بقلم نورهان محسن
الفصل الخامس عشر شبح حياتي
أحببتك في أيام سريـعة ، وأصـبحـت تملكَ كـل وقـتي ، لا أعـلم ماذا حدث لي ، ولكـن لا أطيق ابتعادك عني فهو يتعبني كثيـراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل ساعات قليلة من بزوغ الفجر
داخل سيارة سوداء على الطريق السريع
حياة جالسة بجانب مازن الذي كان جالسًا خلف عجلة مقود السيارة ، وهي شاردة الفكر بما حدث بعد أن تلقت مكالمة هاتفية من المستشفى الذي يرقد فيه بدر في الإسكندرية ، على حد قولهم.
ظلت تنظر حول نفسها بضياع عدة دقائق ، من جهة أرادت الذهاب إليه ، لكن الوقت متأخر كثيراً ، وفي ذات الوقت لم تكن قادرة على الانتظار حتى الصباح.
يأست بعد أن حاولت عدة مرات الاتصال على جاسر ، لكن لم يصلها أي رد منه.
وضعت حياة يدها على فمها ، وغطت ابتسامة عريضة على شفتيها ، وهي تتطلع نحو النافذة المجاورة لها عندما تذكرت رد فعل بدر الغاضب عندما اقترحت عليه طلب المساعدة من مازن ، فهو الوحيد الذي سيوافق على توصيلها في ذلك الوقت المتأخر.
وقد حدث ذلك بالفعل بالرغم من معارضة بدر الشديدة ، لكنها ضاعت هباءاً عندما تجاوزته وتوجهت مباشرة إلى شقة مازن ، الذي رحب على الفور بمساعدتها ، فشكرته كثيرًا هو ووالدته التي وافقت على أخذ الهرة ، والاعتناء بها لحين عودتهم ، فلا أحد يعلم كم من الوقت سيغيبون ؟
عادت بسرعة إلى شقة بدر لإحضار حقيبة سفر صغيرة لها وبعض أغراض شخصية لبدر ، بينما بقيت في نفس الملابس التى قضت بها اليوم لأنه لم يكن لديها الوقت لتغييرها.
كان مازن أثناء قيادته يختلس النظر إلى حياة مستكينة بجانبه ، ويبدو أنها ضاعت في أفكارها داخل عالم آخر.
فجأة انقطع الصمت بصوت بدر الحاد الذي صر على أسنانه بقوة ، وتمتم من بينهم ، فهو بالكاد يمسك نفسه حتى لا ينفجر في حياة العنيده بشكل غير طبيعي يضايقه بخطورة : حياة .. انا مش مستحمل ضغط عصبي وركوبنا في عربية النحنوح دا خنقاني اكتر
لا شعوريًا ، تحركت في مقعدها ونظرت إليه وهو جالس في المقعد الخلفي ، ثم سرعان ما اتعدلت في مقعدها قائلة بتلعثم وارتباك : شكرا يا دكتور مازن عارفة اني ازعجتك في وقت متأخر...
لم تكد تنتهي من حديثها الذى زاد الطين بلة ، حتى صرخ عليها بدر في فورة غضب ، بعد أن خرج عن طوره ، وهو ينظر إلى مازن بعدائية : وحياة امك ماتبوسي علي ايده بالمرة
كتمت حياة ردًا لاذعًا كانت على وشك أن تقوله له عندما لاحظت الشخص الجالس على اليسار ينظر إليها ، فابتلعته قسراً أثناء الاستماع إلى إجابة مازن الهادئة : ماتقوليش كدا يا حياة .. انا لا مضايق ولا حاجة بس فهميني براحة الموضوع مالحقتش افهم من كلامك حاجة
استشعرت حياة تعجّبه الذى ارتسم بوضوحٍ على ملامحه ، ثم أردفت لتُوَضّح ما حدث بصوت هادئ نسبيًا : اتصلو بيا من اسكندرية و بلغوني ان بدر عامل حادثة و موجود في المستشفي اللي قولتلك اسمها في اسكندرية
قال مازن بتساؤل وعيناه مثبتتان على الطريق : ومعرفتيش ايه حالته!!؟
هزت حياة رأسها بنفى ، ثم واصلت حديثها ببعض الإحراج : لا مالحقتش افهم اي حاجة من اللي كلمني وماعرفتش اوصل للمساعد بتاع بدر ولا في وسيلة اسافر بيها بسرعة في وقت متأخر زي دا .. لاقيت نفسي بجري عليكو .. ميرسي لمامتك انها خلت ميجو عندها
تحدث مازن بابتسامة جذابة زينت ثغره ، جعلت القابع ورائه يغضب جزاً على أسنانه بغيرة ، ويضم قبضته الفولاذية بحنق ، لاعناً بداخله مازن وحياة أيضًا : انا مبسوط انك فكرتي فيا اول واحد .. والحمدلله اني وقتها كنت موجود في البيت
سرح عقلها في عدة اتجاهات مختلفة واختلطت المشاعر في قلبها بين الخوف والأمل والقلق والترقب ، بينما كانت عيناها تحدقان في الطرقات بصمت تام دام لحظات ، تدعى إلى ربها بأشياء كثيرة ، غير منتبهة إلى المشاعر المختلفة داخل الرجلين الموجودين في السيارة معها.
انقطع حبل أفكارها عندما حمحم مازن الذى أراد إخراجها من قوقعة أفكارها بطريقة غير مباشرة ، فابتسمت وقالت بامتنان صادق : شكرا يا دكتور معرفش من غيرك بجد كنت اتصرفت ازاي .. وانا اسفة علي الازعاج دا مرة تانية
شعر مازن بالانزعاج من تمسكها الشديد بعدم رفع الكلفة وإزالة الألقاب بينهما ، ليقول بنبرة هادئة حاول بها إخفاء ضيقه : ولا يهمك .. المهم نطمن علي بدر .. حاولي تنامي شوية لسه قدامنا وقت طويل في الطريق
اعتدلت حياة في مقعدها ، وأومأت برأسها لتقول بهدوء بعد أن أسندت رأسها على حافة المقعد خلفها : تمام هنام شوية
أثناء حديثهما ، كان بدر صامتًا على مضض ، وأغمض عينيه وشد قبضته بعنف مثل أنفاسه المضطربة من غضبه المفرط.
فلا يكفي الهالة العصيبة المحيطة به من جميع النواحي حتى يكتمل الموقف بالتصاق مازن بهم ، وبناءً على رغبتها تلك الغيبة لا تعلم شيئاً ، فلن ينسى الحوار الذي دار بين مازن وشقيقته بعد أن قاموا بتوصيل حياة أول البارحة ، عن خلافه معه بسبب شقة حياة ، وطبعا استمع للحديث بالكامل ولم يشعر أحد بوجوده.
زفر الهواء بقوة ، ربما يساعده ذلك على تهدئة أعصابه الثائرة.
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بعد مرور عدة ساعات
أشرقت الشمس الدافئة على مدينة الإسكندرية ، معلنة حلول يوم جديد مختلف تماما يحمل طياته أحداثا جديدة وصادمة للجميع.
داخل المستشفى
تسير حياة بقلب مرتبك ومازن وبدر إلى جانبها.
سبقها مازن متجهًا نحو موظف الاستقبال ، وفي غضون دقائق عاد مرة أخرى ، وجعلها تصعد معه إلى أحد الطوابق فى الأعلى.
طرق مازن على أحد الأبواب ، بعد التأكد من أنها نفس الغرفة التي وصفها له الموظف ، ليدلفو معاً ، بعد أن سمح لهم بالدخول الجالس في الداخل.
: ايه المفاجأة دي معقوله!! ازيك يا دكتور مازن عاش من شافك
هتف رجل يبدو أنه في الثلاثينيات من عمره يرتدي معطفًا طبيًا أبيض ، بعد أن وقف مسرعاً بمفاجأة وهو يدور حول مكتبه ، فأجابه مازن بابتسامة وهو يصافحه بحرارة : الله يسلمك يا علاء اعذرني مشاغل الدنيا انت عارف
سأل علاء بدهشة ، وهو ينظر إلى حياة نظرة خاطفة : ايه جاي في زيارة لحد عندنا؟!
تنهد مازن بخفة ثم أشار إلى حياة التي تقف بجانبه وبدت متوترة ، ليرد على سؤال صديقه بجدية : لا الحقيقة احنا بنسأل عن واحد اسمه بدر عز الدين جالكم هنا في حادثة عربية
نظر إليه علاء متفاجئًا ، وتمتم : هو يقربلك!!
وضع مازن يديه في جيوب بنطاله ، ثم أجاب مصححاً : لا احنا جيرانه في نفس العمارة و بلغونا بالتليفون انه موجود هنا
عدل علاء نظارته الطبية على وجهه ، وأومأ بفهم مؤكداً : ايوه هو اتنقل من ايام بسيطة وكان وضعه مايطمنش ابدا
كانت حياة تتلفت بعينيها بينما يتحدثون في الغرفة تبحث عن بدر الذي اختفى عن نظرها منذ دخولهم غرفة الطبيب ، ثم هتفت للمرة الأولى متداخلة في الحديث لتتساءل بسرعة ، وامتلأت عيناها بالقلق : ممكن نعرف ايه اللي حصل بالظبط!!؟
هز علاء رأسه ليستطرد بجدية تامة : العربية عملت الحادثة في ساعة متأخرة من الليل و في منطقة مقطوعة من الناس .. استاذ بدر فضل في العربية اكتر من خمس ساعات قبل ما يلاقوه ولاد الحلال الفجر ويسعفوه علي مستشفي بسيطة في المنطقة
تابع حديثه بتأني بعد أن رأى بوادر استغراب ورهبة على ملامح حياة ، بينما كان مازن يستمع إليه بهدوء : دا اللي عرفته .. لما وصل هناك كان نزف كتير جدا للأسف المخ اتأثر ودا دخله في غيبوبة من وقتها .. حاليا جسمه بدأ يتعافي من الكدمات و الجروح دي علامة كويسة لكن مافيش اي استجابة من المخ لحد دلوقتي
جف حلق حياة من الصدمة ، لكنها لم تستطع الصمت قائلةً باندفاع : ليه محدش عمل بلاغ عن الحادثة دي يا دكتور!!
أومأ علاء برأسه مؤكدا بنبرة هادئة ومتوازنة : اتعمل محضر طبعا اول مادخل المستشفي .. بس زي ما قولتلكو المستشفي اللي كان فيها متواضعة جدا وامكانياتها مش عالية ودا برده كان سبب في تأخير تحسين حالته .. وكمان محدش اهتم بالموضوع بسرعة لان المريض كان معهوش اي اثبات شخصية .. لكن الظابط اللي بيحقق في الحادثة كشف عن العربية عشان نعرف هويته والمستشفي هنا اتصلو برقم بيته
: يعني هيبقي كويس يا دكتور .. هيبقي كويس!!؟
رددت حياة السؤال بلهفة ، دون أن تعى ذلك ، جعلت مازن ينظر إليها بريبة ويساوره الشك ، لكنه تأمل أن يكون هذا الاهتمام منها بدافع التعاطف مع بدر ، مقنعاً نفسه بأنها لم تره منذ أمد طويلاً.
تنهد الطبيب قائلا بموضوعية : املنا في ربنا كبير .. لكن مافيش استجابة منه لاكتر من اسبوعين مع مرور الوقت اذا استمر حاله علي كدا هنضطر نفصل عنه أجهزة التنفس في النهاية ونعلن وفاته انا اسف
قرع قلب حياة هلعاً لتصيح لا شعوريًا باندفاع : لا يا دكتور لو سمحت ماتعملش كدا!!
نظر علاء ومازن إلى بعضهما البعض ، وشعر الشخص الأول بغرابة تصرفها أمامه ، بدا أنها مهتمة بهذا البدر بشكل مبالغ فيه ليشعر بالدهشة والحيرة بداخله ، خاصة وأن مازن عرفها عليه بأنها جارته ليجيب عليها بسؤال : انتي مراته؟!
اندفَعت الدماء لوجنتيها ، معبرة عن خجلها ، بعد أن أدركت أنها تعجلت في الرد ، لتفرك كفيها معًا بإرتباك ، ثم أجابته بصوت منخفض : لا انا .. انا جارته
زفر مازن بضيق ، ثم استطرد بهدوء : مراته في القاهرة ولسه ماتعرفش
أومأ علاء برأسه متفاهمًا قائلاً بجدية : في الحالة دي هي اذا وافقت علي قرار فصل الاجهزة عنه مانقدرش نعمل حاجة
حدقت حياة بهم بحدة ، وقالت بمعارضة : بس هي مش مراته دي طليقته
رفع مازن حاجبيه مصدوماً ، وأردف بدهشة عارمة : ايه اللي بتقوليه يا حياة عرفتي ازاي الكلام دا اصلا؟!
: محدش هيفصل الأجهزة عن المريض الا بعد اذن مباشر مننا احنا يا دكتور
تجمدت حياة للحظة عندما سمعت ذلك الصوت المألوف في أذنها ، قبل أن تلتفت إلى الشخص الذي دخل الغرفة ، والذي فُتح بابها دون إذن ، لتتوسع عينيها بصدمة ، قائلة بإنشداه : معاذ .. انت بتعمل ايه هنا!!
نطق مازن بدهشة بعد أن وزع نظراته بينهما : هو انتي تعرفيه يا حياة!!
لم يختلف رد فعل معاذ كثيرًا عنها ، حيث صُدم أيضًا برؤيتها الغير متوقعة تمامًا وصاح بغرابة ، قاطعًا بصرامة رد حياة على مازن : انتي ايه اللي جابك هنا يا حياة ورجعتي اسكندرية امتي!!؟
: هو دا بقي معاذ اللي كان خطيبك
الآن ، لم يكتمل هذا الموقف المتوتر لحياة إلا بظهور بدر المفاجئ والمربك لنبضها عندما سمعت صوته بجوار أذنها ، لتتحرك حدقتيها تلقائياً تجاهه ، متعجبة من عودته إلى الغرفة بهذا الوقت تحديداً ، لكن لا وقت للتوتر الآن لتقول بصمود زائف بعد العودة للنظر إلى معاذ : انا اللي بسألك!!
وضع بدر إحدى يديه على خصره ، وقال ببغض متجاهلاً النظرة التحذيرية التي أعطتها إياه حياة : باين عليه سئيل
أجاب معاذ على سؤالها ببرود ليس جديد عليه ، فهو إما بارد كالصقيع أو غاضب كبركان ليس لديه وسط : ماشي .. انا الظابط اللي بحقق في حادثة بدر المحامي .. مين الباشا؟
تابع معاذ كلماته بنبرة تهكمية لاذعة بعد أن انتقلت عيناه ، لمازن الذي قال بصوت يتسم بالهدوء والثبات الانفعالي : انا دكتور مازن كمال جار بدر في العمارة
نطق معاذ ببحة ساخرة : تشرفنا يا دوك
الصدمة لم تكن من نصيب مازن وحده الذي لم يكن مرتاحا لأسلوب معاذ معه ، لكن أكبر جرعة كانت من نصيب بدر ، وهو يضغط على قبضته بقوة وهتف بصوت داخلى فى سخط ، وهو يحرك نظراته بين مازن ومعاذ : ليه يارب حظي مهبب كدا ليه؟! من دون كل الظباط دا اللي يكون من نصيبي .. مش كفاية المصايب اللي واقع فيها
أخذت حياة بعض الوقت لتفكر في صمت قبل أن تهمس بحسرة في نفسها من هذا الحظ العاثر الذي يطاردها ، والخوف نشب مخالبه في قلبها وخدشها بعنف ، أن وجود معاذ لا يبشر بالخير بل سيعرقل الأمر أكثر ، لكنها حاولت جاهدة عدم إظهار ذلك الخوف إليه : هي كدا كملت!!
عقد معاذ ذراعيه أمام صدره العريض بعضلات طبيعية نتيجة تدريباته الجسدية القاسية ، وسأل بتأنئ ومكر : دورك بقي تفهميني بتعملي ايه هنا يا حياة؟
وجدت حياة لسانها يرد عليه بتحدٍ دون تفكير : انا هنا عشان بدر
تحولت الغرفة إلى ساحة معركة بالنظرات بين معاذ الغاضب وحياة المتحدية ، وبدر الذى يقف بجانبها وعقله على مشارف الجنون من ذلك الدخيل إلى حياته المبعثرة.
أما مازن وعلاء ، فكانا يشاهدان ذلك المشهد بصمت ، ربما يفهمون شيئًا ما ، لتتركز أعينهم على معاذ وهو يقول بتوجس : وانتي تعرفيه منين؟
تجهمت ملامح بدر ، استطرَد الحديثَ بخشونة مستفسراً ، وكأن الآخر سيرد عليه أو يشعر بوجوده : وانت مال اللي خلفوك!!
أغمضت حياة عينيها محاولة السيطرة على انفعالاتها ، وهي تطبق بشفتيها للداخل ، بعدما كادت ضحكة مفاجئة أن تفلت منها ، ثم فتحت عينيها وقالت بصوت بارد : ممكن تبطل استجواب فيا مش وقته ولا مكانه
رمقها معاذ بنظرات حارقة بسبب حديثها الذي لم يعجبه إطلاقا ، محاولا إيصال رسالة مبطنة لها بعدم إغضابه ، فربما تتراجع عن استفزازه ، لكن لا حياة لمن تنادي : انتي شكلك نسيتي انك خطيبتي ومحتاجة اللي يفكرك يا انسة
قلبت حياة عينيها لتقول بملل وبرود ظاهرى ، لكن ذلك لم يمنعها من استشعار الخطر من رؤية عروقه التي أصبحت نافرة دلالة على غضبه المكتوم : واضح ان شغلك اثر علي ذاكرتك .. كان فيه وخلص دبلتك رجعتلك من اسبوعين
حمحم علاء بحرج لينبّههم بوجود آخرين في الغرفة معهم قبل أن يردف بجدية : معاذ باشا .. انت قولت اننا مانقدرش نفصل الاجهزة عنه الا بعد موافقتك ممكن اعرف السبب ؟
سرعان ما جمع معاذ أفكاره المشتتة بسبب البرتقالية قائلا بنبرة جادة قوية : لان الحادثة مدبرة بفعل فاعل فرامل العربية مفكوكة بالعمد وفي الحالة دي ممنوع تفصلو الاجهزة الا بأمر مني شخصيا
خرج مازن بصعوبة من الصدمة التي وقع فيها عندما علم بهوية معاذ وأنه خطيب حياة ، لينغمس في صدمة أقوى ، فرفع أحد حاجبيه ليسأله بإستنكار : يعني في حد قاصد يقتل بدر !؟
ارتجافة قوية إستهدفت قلب حياة في تلك اللحظة لتقول دون وعي : انا هدخل اشوفه فين اوضته ؟
كشّر معاذ عن أسْنانه وصاح فيها باستهجان غير مكترث بمن حولهم وقد طفح الكيل : نعم .. تدخلي فين!! انتي ماجاوبتنيش علي سؤالي انتي هنا ليه؟
حدقت به حياة بنظرة حادة ، فقد سبق لها أن ذكرت السبب بالفعل قبل أن تتجاهل الرد عليه تمامًا ، فلن تجد فائدة في الحديث معه لأنه لا يفهم الأمور إلا من وجهة نظره فقط.
نظرت إلى مازن الذي لا يفهم شيئًا ، وتحوم أسئلة فوق رأسه حول طبيعة علاقة حياة مع ذلك الضابط ، ليفيق من خواطره على صوتها الهادئ رغم الاضطراب المستعمر في روحها : ممكن يا دكتور مازن تفهم حضرة الظابط احنا هنا عشان نطمن علي بدر؟
أردفت حياة بأدب بعد أن نظرت إلى علاء : ياريت تقولي اوضة بدر فين يا دكتور من فضلك!!
أنهت كلامها ، التى زادت من عبوس معاذ اكثر ، ولم يخفي عليه السخرية الواضحة في صوتها ونظراتها إليه ، لتتجاوزه مغادرة الغرفة دون أن توليه أدنى اهتمام.
تساءل معاذ بتعجب في خاطره منذ متى كانت لديها تلك الثقة والثبات ، وما سبب هذا التغيير الملحوظ فيها؟
"معاذ الدرديري"
"31 سنة"
"رئيس المباحث بالإسكندرية"
"الأخ الأصغر لزوج ميساء"
"متعجرف ، عنيد ، يصعب إقناعه ، خاصة عندما لا يستسلم الآخرون لقيادته ، فهو سريع الغضب وسريع الإرضاء ، محب للقيادة والسلطة ، يتسم بالغموض وعدم الإفصاح عن أسباب أفعاله ، ولا يحب التبرير ولا يجد له داعي ، يظهر بخلاف ما يخفي ولديه ثقة عميقة بأن قيمته الشخصية تدعوه للسيطرة على العالم المحيط به ، فهو يقظ ، وجريء ، ومجازف ، ويحب الجمال والتحكم بالأمور ، يهوى استكشاف الألغاز ومغامراته العاطفية كثيرة ، ولا يشارك أحد في اتخاذ قراراته لأن هذا يمنحه ثقة أكبر ، يتعامل مع حياة وكأنها شيء يمتلكه فهو من النوع الغيور والأناني عندما يحب.
طويل القامة ، وعيونه فيروزية ساحرة ، وذو وجهًا دائري ، وملامحًا صارمة ، وشعرًا بني كثيفًا."
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بعد مرور دقائق معدودة
ولجت حياة إلى غرفة بيضاء واسعة ، ثم تأملتها للحظة حتى وقعت عيناها عليه.
جسد بدر مستلقي على سرير في منتصف الغرفة بسكون بسبب فقدان الوعي العميق الذى سقط فيه ، ومحاطًا بالأجهزة الطبية التي تحافظ على استقرار التنفس والدورة الدموية من خلال استخدام إدخال أنابيب التنفس التى تنقل الأوكسجين إلى رئتيه.
تدريجيًا ، اتسعت ابتسامتها وهي تتجه نحو السرير ، وتقترب منه محدقة في ملامحه الباهتة ، لتهمس بغبطة لم تستطيع كبح جماحها : بدر .. انا مش مصدقة!! انت عايش مش ميت زي ماكنت فاكر اهو قدامي انت...
قاطعها صوته الهادئ قائلا بقلق : ايوه بس الكلام اللي قاله الدكتور مش مطمني يا حياة
رفعت أهدابها الكثيفة ، ونظرت إليه ثوان ، بعد أن أنهى كلامه ، ورأته واقفا عند الجانب الآخر من السرير.
أطلقت حياة زفيرًا قويًا قبل أن ترد بضيق بعد أن تذكرت ما حدث منذ قليل : ولا انا مطمنة خصوصا من وجود معاذ هنا .. يعني جه في بالي اشوفه بس مش اول ما احط رجلي في اسكندرية بنص ساعة
دمدم بدر بنبرة خافتة وثقيلة ، وهو يضيق عينيه في حالة من الاستياء : تصدقي بالله دي اكتر حاجة غيظاني من كل اللي بيجري .. انتي ليه ماقولتليش انه ظابط؟
اندهشت حياة من رد فعله المحتدم ، و ردت دفاعا عن النفس : كانت هتفرق لو قولتلك!! وبعدين انا مش حابة اتكلم عنه اصلا
حاولت تغيير مسار الحديث واستأنفت كلامها بعد أن أنزلت جفنيها على وجه بدر الراقد بسكون ، واقترحت بتفكير : سيبك من كل دا .. انت مش حاسس بأي تغيير وانت قريب من جسمك .. يعني حاول تدخل في جسمك يمكن يحصل اي تحسن وتقوم
هز بدر رأسه وفرك رقبته قائلا بيأس : جربت اعمل كدا وانتي واقفة معهم برا .. بس مافيش أي حاجة اتغيرت مش قادر أصحي ولا حصل اي استجابة
خطرت كلمات معاذ في ذهنها ، وتمتمت بقلق : الحادثة كانت جامدة عليك و كمان مقصودة
: بتكلمي مع مين!!
أحببتك في أيام سريـعة ، وأصـبحـت تملكَ كـل وقـتي ، لا أعـلم ماذا حدث لي ، ولكـن لا أطيق ابتعادك عني فهو يتعبني كثيـراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل ساعات قليلة من بزوغ الفجر
داخل سيارة سوداء على الطريق السريع
حياة جالسة بجانب مازن الذي كان جالسًا خلف عجلة مقود السيارة ، وهي شاردة الفكر بما حدث بعد أن تلقت مكالمة هاتفية من المستشفى الذي يرقد فيه بدر في الإسكندرية ، على حد قولهم.
ظلت تنظر حول نفسها بضياع عدة دقائق ، من جهة أرادت الذهاب إليه ، لكن الوقت متأخر كثيراً ، وفي ذات الوقت لم تكن قادرة على الانتظار حتى الصباح.
يأست بعد أن حاولت عدة مرات الاتصال على جاسر ، لكن لم يصلها أي رد منه.
وضعت حياة يدها على فمها ، وغطت ابتسامة عريضة على شفتيها ، وهي تتطلع نحو النافذة المجاورة لها عندما تذكرت رد فعل بدر الغاضب عندما اقترحت عليه طلب المساعدة من مازن ، فهو الوحيد الذي سيوافق على توصيلها في ذلك الوقت المتأخر.
وقد حدث ذلك بالفعل بالرغم من معارضة بدر الشديدة ، لكنها ضاعت هباءاً عندما تجاوزته وتوجهت مباشرة إلى شقة مازن ، الذي رحب على الفور بمساعدتها ، فشكرته كثيرًا هو ووالدته التي وافقت على أخذ الهرة ، والاعتناء بها لحين عودتهم ، فلا أحد يعلم كم من الوقت سيغيبون ؟
عادت بسرعة إلى شقة بدر لإحضار حقيبة سفر صغيرة لها وبعض أغراض شخصية لبدر ، بينما بقيت في نفس الملابس التى قضت بها اليوم لأنه لم يكن لديها الوقت لتغييرها.
كان مازن أثناء قيادته يختلس النظر إلى حياة مستكينة بجانبه ، ويبدو أنها ضاعت في أفكارها داخل عالم آخر.
فجأة انقطع الصمت بصوت بدر الحاد الذي صر على أسنانه بقوة ، وتمتم من بينهم ، فهو بالكاد يمسك نفسه حتى لا ينفجر في حياة العنيده بشكل غير طبيعي يضايقه بخطورة : حياة .. انا مش مستحمل ضغط عصبي وركوبنا في عربية النحنوح دا خنقاني اكتر
لا شعوريًا ، تحركت في مقعدها ونظرت إليه وهو جالس في المقعد الخلفي ، ثم سرعان ما اتعدلت في مقعدها قائلة بتلعثم وارتباك : شكرا يا دكتور مازن عارفة اني ازعجتك في وقت متأخر...
لم تكد تنتهي من حديثها الذى زاد الطين بلة ، حتى صرخ عليها بدر في فورة غضب ، بعد أن خرج عن طوره ، وهو ينظر إلى مازن بعدائية : وحياة امك ماتبوسي علي ايده بالمرة
كتمت حياة ردًا لاذعًا كانت على وشك أن تقوله له عندما لاحظت الشخص الجالس على اليسار ينظر إليها ، فابتلعته قسراً أثناء الاستماع إلى إجابة مازن الهادئة : ماتقوليش كدا يا حياة .. انا لا مضايق ولا حاجة بس فهميني براحة الموضوع مالحقتش افهم من كلامك حاجة
استشعرت حياة تعجّبه الذى ارتسم بوضوحٍ على ملامحه ، ثم أردفت لتُوَضّح ما حدث بصوت هادئ نسبيًا : اتصلو بيا من اسكندرية و بلغوني ان بدر عامل حادثة و موجود في المستشفي اللي قولتلك اسمها في اسكندرية
قال مازن بتساؤل وعيناه مثبتتان على الطريق : ومعرفتيش ايه حالته!!؟
هزت حياة رأسها بنفى ، ثم واصلت حديثها ببعض الإحراج : لا مالحقتش افهم اي حاجة من اللي كلمني وماعرفتش اوصل للمساعد بتاع بدر ولا في وسيلة اسافر بيها بسرعة في وقت متأخر زي دا .. لاقيت نفسي بجري عليكو .. ميرسي لمامتك انها خلت ميجو عندها
تحدث مازن بابتسامة جذابة زينت ثغره ، جعلت القابع ورائه يغضب جزاً على أسنانه بغيرة ، ويضم قبضته الفولاذية بحنق ، لاعناً بداخله مازن وحياة أيضًا : انا مبسوط انك فكرتي فيا اول واحد .. والحمدلله اني وقتها كنت موجود في البيت
سرح عقلها في عدة اتجاهات مختلفة واختلطت المشاعر في قلبها بين الخوف والأمل والقلق والترقب ، بينما كانت عيناها تحدقان في الطرقات بصمت تام دام لحظات ، تدعى إلى ربها بأشياء كثيرة ، غير منتبهة إلى المشاعر المختلفة داخل الرجلين الموجودين في السيارة معها.
انقطع حبل أفكارها عندما حمحم مازن الذى أراد إخراجها من قوقعة أفكارها بطريقة غير مباشرة ، فابتسمت وقالت بامتنان صادق : شكرا يا دكتور معرفش من غيرك بجد كنت اتصرفت ازاي .. وانا اسفة علي الازعاج دا مرة تانية
شعر مازن بالانزعاج من تمسكها الشديد بعدم رفع الكلفة وإزالة الألقاب بينهما ، ليقول بنبرة هادئة حاول بها إخفاء ضيقه : ولا يهمك .. المهم نطمن علي بدر .. حاولي تنامي شوية لسه قدامنا وقت طويل في الطريق
اعتدلت حياة في مقعدها ، وأومأت برأسها لتقول بهدوء بعد أن أسندت رأسها على حافة المقعد خلفها : تمام هنام شوية
أثناء حديثهما ، كان بدر صامتًا على مضض ، وأغمض عينيه وشد قبضته بعنف مثل أنفاسه المضطربة من غضبه المفرط.
فلا يكفي الهالة العصيبة المحيطة به من جميع النواحي حتى يكتمل الموقف بالتصاق مازن بهم ، وبناءً على رغبتها تلك الغيبة لا تعلم شيئاً ، فلن ينسى الحوار الذي دار بين مازن وشقيقته بعد أن قاموا بتوصيل حياة أول البارحة ، عن خلافه معه بسبب شقة حياة ، وطبعا استمع للحديث بالكامل ولم يشعر أحد بوجوده.
زفر الهواء بقوة ، ربما يساعده ذلك على تهدئة أعصابه الثائرة.
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بعد مرور عدة ساعات
أشرقت الشمس الدافئة على مدينة الإسكندرية ، معلنة حلول يوم جديد مختلف تماما يحمل طياته أحداثا جديدة وصادمة للجميع.
داخل المستشفى
تسير حياة بقلب مرتبك ومازن وبدر إلى جانبها.
سبقها مازن متجهًا نحو موظف الاستقبال ، وفي غضون دقائق عاد مرة أخرى ، وجعلها تصعد معه إلى أحد الطوابق فى الأعلى.
طرق مازن على أحد الأبواب ، بعد التأكد من أنها نفس الغرفة التي وصفها له الموظف ، ليدلفو معاً ، بعد أن سمح لهم بالدخول الجالس في الداخل.
: ايه المفاجأة دي معقوله!! ازيك يا دكتور مازن عاش من شافك
هتف رجل يبدو أنه في الثلاثينيات من عمره يرتدي معطفًا طبيًا أبيض ، بعد أن وقف مسرعاً بمفاجأة وهو يدور حول مكتبه ، فأجابه مازن بابتسامة وهو يصافحه بحرارة : الله يسلمك يا علاء اعذرني مشاغل الدنيا انت عارف
سأل علاء بدهشة ، وهو ينظر إلى حياة نظرة خاطفة : ايه جاي في زيارة لحد عندنا؟!
تنهد مازن بخفة ثم أشار إلى حياة التي تقف بجانبه وبدت متوترة ، ليرد على سؤال صديقه بجدية : لا الحقيقة احنا بنسأل عن واحد اسمه بدر عز الدين جالكم هنا في حادثة عربية
نظر إليه علاء متفاجئًا ، وتمتم : هو يقربلك!!
وضع مازن يديه في جيوب بنطاله ، ثم أجاب مصححاً : لا احنا جيرانه في نفس العمارة و بلغونا بالتليفون انه موجود هنا
عدل علاء نظارته الطبية على وجهه ، وأومأ بفهم مؤكداً : ايوه هو اتنقل من ايام بسيطة وكان وضعه مايطمنش ابدا
كانت حياة تتلفت بعينيها بينما يتحدثون في الغرفة تبحث عن بدر الذي اختفى عن نظرها منذ دخولهم غرفة الطبيب ، ثم هتفت للمرة الأولى متداخلة في الحديث لتتساءل بسرعة ، وامتلأت عيناها بالقلق : ممكن نعرف ايه اللي حصل بالظبط!!؟
هز علاء رأسه ليستطرد بجدية تامة : العربية عملت الحادثة في ساعة متأخرة من الليل و في منطقة مقطوعة من الناس .. استاذ بدر فضل في العربية اكتر من خمس ساعات قبل ما يلاقوه ولاد الحلال الفجر ويسعفوه علي مستشفي بسيطة في المنطقة
تابع حديثه بتأني بعد أن رأى بوادر استغراب ورهبة على ملامح حياة ، بينما كان مازن يستمع إليه بهدوء : دا اللي عرفته .. لما وصل هناك كان نزف كتير جدا للأسف المخ اتأثر ودا دخله في غيبوبة من وقتها .. حاليا جسمه بدأ يتعافي من الكدمات و الجروح دي علامة كويسة لكن مافيش اي استجابة من المخ لحد دلوقتي
جف حلق حياة من الصدمة ، لكنها لم تستطع الصمت قائلةً باندفاع : ليه محدش عمل بلاغ عن الحادثة دي يا دكتور!!
أومأ علاء برأسه مؤكدا بنبرة هادئة ومتوازنة : اتعمل محضر طبعا اول مادخل المستشفي .. بس زي ما قولتلكو المستشفي اللي كان فيها متواضعة جدا وامكانياتها مش عالية ودا برده كان سبب في تأخير تحسين حالته .. وكمان محدش اهتم بالموضوع بسرعة لان المريض كان معهوش اي اثبات شخصية .. لكن الظابط اللي بيحقق في الحادثة كشف عن العربية عشان نعرف هويته والمستشفي هنا اتصلو برقم بيته
: يعني هيبقي كويس يا دكتور .. هيبقي كويس!!؟
رددت حياة السؤال بلهفة ، دون أن تعى ذلك ، جعلت مازن ينظر إليها بريبة ويساوره الشك ، لكنه تأمل أن يكون هذا الاهتمام منها بدافع التعاطف مع بدر ، مقنعاً نفسه بأنها لم تره منذ أمد طويلاً.
تنهد الطبيب قائلا بموضوعية : املنا في ربنا كبير .. لكن مافيش استجابة منه لاكتر من اسبوعين مع مرور الوقت اذا استمر حاله علي كدا هنضطر نفصل عنه أجهزة التنفس في النهاية ونعلن وفاته انا اسف
قرع قلب حياة هلعاً لتصيح لا شعوريًا باندفاع : لا يا دكتور لو سمحت ماتعملش كدا!!
نظر علاء ومازن إلى بعضهما البعض ، وشعر الشخص الأول بغرابة تصرفها أمامه ، بدا أنها مهتمة بهذا البدر بشكل مبالغ فيه ليشعر بالدهشة والحيرة بداخله ، خاصة وأن مازن عرفها عليه بأنها جارته ليجيب عليها بسؤال : انتي مراته؟!
اندفَعت الدماء لوجنتيها ، معبرة عن خجلها ، بعد أن أدركت أنها تعجلت في الرد ، لتفرك كفيها معًا بإرتباك ، ثم أجابته بصوت منخفض : لا انا .. انا جارته
زفر مازن بضيق ، ثم استطرد بهدوء : مراته في القاهرة ولسه ماتعرفش
أومأ علاء برأسه متفاهمًا قائلاً بجدية : في الحالة دي هي اذا وافقت علي قرار فصل الاجهزة عنه مانقدرش نعمل حاجة
حدقت حياة بهم بحدة ، وقالت بمعارضة : بس هي مش مراته دي طليقته
رفع مازن حاجبيه مصدوماً ، وأردف بدهشة عارمة : ايه اللي بتقوليه يا حياة عرفتي ازاي الكلام دا اصلا؟!
: محدش هيفصل الأجهزة عن المريض الا بعد اذن مباشر مننا احنا يا دكتور
تجمدت حياة للحظة عندما سمعت ذلك الصوت المألوف في أذنها ، قبل أن تلتفت إلى الشخص الذي دخل الغرفة ، والذي فُتح بابها دون إذن ، لتتوسع عينيها بصدمة ، قائلة بإنشداه : معاذ .. انت بتعمل ايه هنا!!
نطق مازن بدهشة بعد أن وزع نظراته بينهما : هو انتي تعرفيه يا حياة!!
لم يختلف رد فعل معاذ كثيرًا عنها ، حيث صُدم أيضًا برؤيتها الغير متوقعة تمامًا وصاح بغرابة ، قاطعًا بصرامة رد حياة على مازن : انتي ايه اللي جابك هنا يا حياة ورجعتي اسكندرية امتي!!؟
: هو دا بقي معاذ اللي كان خطيبك
الآن ، لم يكتمل هذا الموقف المتوتر لحياة إلا بظهور بدر المفاجئ والمربك لنبضها عندما سمعت صوته بجوار أذنها ، لتتحرك حدقتيها تلقائياً تجاهه ، متعجبة من عودته إلى الغرفة بهذا الوقت تحديداً ، لكن لا وقت للتوتر الآن لتقول بصمود زائف بعد العودة للنظر إلى معاذ : انا اللي بسألك!!
وضع بدر إحدى يديه على خصره ، وقال ببغض متجاهلاً النظرة التحذيرية التي أعطتها إياه حياة : باين عليه سئيل
أجاب معاذ على سؤالها ببرود ليس جديد عليه ، فهو إما بارد كالصقيع أو غاضب كبركان ليس لديه وسط : ماشي .. انا الظابط اللي بحقق في حادثة بدر المحامي .. مين الباشا؟
تابع معاذ كلماته بنبرة تهكمية لاذعة بعد أن انتقلت عيناه ، لمازن الذي قال بصوت يتسم بالهدوء والثبات الانفعالي : انا دكتور مازن كمال جار بدر في العمارة
نطق معاذ ببحة ساخرة : تشرفنا يا دوك
الصدمة لم تكن من نصيب مازن وحده الذي لم يكن مرتاحا لأسلوب معاذ معه ، لكن أكبر جرعة كانت من نصيب بدر ، وهو يضغط على قبضته بقوة وهتف بصوت داخلى فى سخط ، وهو يحرك نظراته بين مازن ومعاذ : ليه يارب حظي مهبب كدا ليه؟! من دون كل الظباط دا اللي يكون من نصيبي .. مش كفاية المصايب اللي واقع فيها
أخذت حياة بعض الوقت لتفكر في صمت قبل أن تهمس بحسرة في نفسها من هذا الحظ العاثر الذي يطاردها ، والخوف نشب مخالبه في قلبها وخدشها بعنف ، أن وجود معاذ لا يبشر بالخير بل سيعرقل الأمر أكثر ، لكنها حاولت جاهدة عدم إظهار ذلك الخوف إليه : هي كدا كملت!!
عقد معاذ ذراعيه أمام صدره العريض بعضلات طبيعية نتيجة تدريباته الجسدية القاسية ، وسأل بتأنئ ومكر : دورك بقي تفهميني بتعملي ايه هنا يا حياة؟
وجدت حياة لسانها يرد عليه بتحدٍ دون تفكير : انا هنا عشان بدر
تحولت الغرفة إلى ساحة معركة بالنظرات بين معاذ الغاضب وحياة المتحدية ، وبدر الذى يقف بجانبها وعقله على مشارف الجنون من ذلك الدخيل إلى حياته المبعثرة.
أما مازن وعلاء ، فكانا يشاهدان ذلك المشهد بصمت ، ربما يفهمون شيئًا ما ، لتتركز أعينهم على معاذ وهو يقول بتوجس : وانتي تعرفيه منين؟
تجهمت ملامح بدر ، استطرَد الحديثَ بخشونة مستفسراً ، وكأن الآخر سيرد عليه أو يشعر بوجوده : وانت مال اللي خلفوك!!
أغمضت حياة عينيها محاولة السيطرة على انفعالاتها ، وهي تطبق بشفتيها للداخل ، بعدما كادت ضحكة مفاجئة أن تفلت منها ، ثم فتحت عينيها وقالت بصوت بارد : ممكن تبطل استجواب فيا مش وقته ولا مكانه
رمقها معاذ بنظرات حارقة بسبب حديثها الذي لم يعجبه إطلاقا ، محاولا إيصال رسالة مبطنة لها بعدم إغضابه ، فربما تتراجع عن استفزازه ، لكن لا حياة لمن تنادي : انتي شكلك نسيتي انك خطيبتي ومحتاجة اللي يفكرك يا انسة
قلبت حياة عينيها لتقول بملل وبرود ظاهرى ، لكن ذلك لم يمنعها من استشعار الخطر من رؤية عروقه التي أصبحت نافرة دلالة على غضبه المكتوم : واضح ان شغلك اثر علي ذاكرتك .. كان فيه وخلص دبلتك رجعتلك من اسبوعين
حمحم علاء بحرج لينبّههم بوجود آخرين في الغرفة معهم قبل أن يردف بجدية : معاذ باشا .. انت قولت اننا مانقدرش نفصل الاجهزة عنه الا بعد موافقتك ممكن اعرف السبب ؟
سرعان ما جمع معاذ أفكاره المشتتة بسبب البرتقالية قائلا بنبرة جادة قوية : لان الحادثة مدبرة بفعل فاعل فرامل العربية مفكوكة بالعمد وفي الحالة دي ممنوع تفصلو الاجهزة الا بأمر مني شخصيا
خرج مازن بصعوبة من الصدمة التي وقع فيها عندما علم بهوية معاذ وأنه خطيب حياة ، لينغمس في صدمة أقوى ، فرفع أحد حاجبيه ليسأله بإستنكار : يعني في حد قاصد يقتل بدر !؟
ارتجافة قوية إستهدفت قلب حياة في تلك اللحظة لتقول دون وعي : انا هدخل اشوفه فين اوضته ؟
كشّر معاذ عن أسْنانه وصاح فيها باستهجان غير مكترث بمن حولهم وقد طفح الكيل : نعم .. تدخلي فين!! انتي ماجاوبتنيش علي سؤالي انتي هنا ليه؟
حدقت به حياة بنظرة حادة ، فقد سبق لها أن ذكرت السبب بالفعل قبل أن تتجاهل الرد عليه تمامًا ، فلن تجد فائدة في الحديث معه لأنه لا يفهم الأمور إلا من وجهة نظره فقط.
نظرت إلى مازن الذي لا يفهم شيئًا ، وتحوم أسئلة فوق رأسه حول طبيعة علاقة حياة مع ذلك الضابط ، ليفيق من خواطره على صوتها الهادئ رغم الاضطراب المستعمر في روحها : ممكن يا دكتور مازن تفهم حضرة الظابط احنا هنا عشان نطمن علي بدر؟
أردفت حياة بأدب بعد أن نظرت إلى علاء : ياريت تقولي اوضة بدر فين يا دكتور من فضلك!!
أنهت كلامها ، التى زادت من عبوس معاذ اكثر ، ولم يخفي عليه السخرية الواضحة في صوتها ونظراتها إليه ، لتتجاوزه مغادرة الغرفة دون أن توليه أدنى اهتمام.
تساءل معاذ بتعجب في خاطره منذ متى كانت لديها تلك الثقة والثبات ، وما سبب هذا التغيير الملحوظ فيها؟
"معاذ الدرديري"
"31 سنة"
"رئيس المباحث بالإسكندرية"
"الأخ الأصغر لزوج ميساء"
"متعجرف ، عنيد ، يصعب إقناعه ، خاصة عندما لا يستسلم الآخرون لقيادته ، فهو سريع الغضب وسريع الإرضاء ، محب للقيادة والسلطة ، يتسم بالغموض وعدم الإفصاح عن أسباب أفعاله ، ولا يحب التبرير ولا يجد له داعي ، يظهر بخلاف ما يخفي ولديه ثقة عميقة بأن قيمته الشخصية تدعوه للسيطرة على العالم المحيط به ، فهو يقظ ، وجريء ، ومجازف ، ويحب الجمال والتحكم بالأمور ، يهوى استكشاف الألغاز ومغامراته العاطفية كثيرة ، ولا يشارك أحد في اتخاذ قراراته لأن هذا يمنحه ثقة أكبر ، يتعامل مع حياة وكأنها شيء يمتلكه فهو من النوع الغيور والأناني عندما يحب.
طويل القامة ، وعيونه فيروزية ساحرة ، وذو وجهًا دائري ، وملامحًا صارمة ، وشعرًا بني كثيفًا."
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بعد مرور دقائق معدودة
ولجت حياة إلى غرفة بيضاء واسعة ، ثم تأملتها للحظة حتى وقعت عيناها عليه.
جسد بدر مستلقي على سرير في منتصف الغرفة بسكون بسبب فقدان الوعي العميق الذى سقط فيه ، ومحاطًا بالأجهزة الطبية التي تحافظ على استقرار التنفس والدورة الدموية من خلال استخدام إدخال أنابيب التنفس التى تنقل الأوكسجين إلى رئتيه.
تدريجيًا ، اتسعت ابتسامتها وهي تتجه نحو السرير ، وتقترب منه محدقة في ملامحه الباهتة ، لتهمس بغبطة لم تستطيع كبح جماحها : بدر .. انا مش مصدقة!! انت عايش مش ميت زي ماكنت فاكر اهو قدامي انت...
قاطعها صوته الهادئ قائلا بقلق : ايوه بس الكلام اللي قاله الدكتور مش مطمني يا حياة
رفعت أهدابها الكثيفة ، ونظرت إليه ثوان ، بعد أن أنهى كلامه ، ورأته واقفا عند الجانب الآخر من السرير.
أطلقت حياة زفيرًا قويًا قبل أن ترد بضيق بعد أن تذكرت ما حدث منذ قليل : ولا انا مطمنة خصوصا من وجود معاذ هنا .. يعني جه في بالي اشوفه بس مش اول ما احط رجلي في اسكندرية بنص ساعة
دمدم بدر بنبرة خافتة وثقيلة ، وهو يضيق عينيه في حالة من الاستياء : تصدقي بالله دي اكتر حاجة غيظاني من كل اللي بيجري .. انتي ليه ماقولتليش انه ظابط؟
اندهشت حياة من رد فعله المحتدم ، و ردت دفاعا عن النفس : كانت هتفرق لو قولتلك!! وبعدين انا مش حابة اتكلم عنه اصلا
حاولت تغيير مسار الحديث واستأنفت كلامها بعد أن أنزلت جفنيها على وجه بدر الراقد بسكون ، واقترحت بتفكير : سيبك من كل دا .. انت مش حاسس بأي تغيير وانت قريب من جسمك .. يعني حاول تدخل في جسمك يمكن يحصل اي تحسن وتقوم
هز بدر رأسه وفرك رقبته قائلا بيأس : جربت اعمل كدا وانتي واقفة معهم برا .. بس مافيش أي حاجة اتغيرت مش قادر أصحي ولا حصل اي استجابة
خطرت كلمات معاذ في ذهنها ، وتمتمت بقلق : الحادثة كانت جامدة عليك و كمان مقصودة
: بتكلمي مع مين!!