رواية انا والطبيب قيس وقدر الفصل الثالث عشر13 والاخير بقلم سارة نيل
[أنا والطبيب] ~[الـــخـــــاتــمة]
– لازم أروح مشوار الأول قبل ما أجي معاك يا قيس.
التفت له قيس الواجم الملامح واستفهم بتعجب:-
– فين!
ركب سيارته وأشار لقيس بالركوب وقال بوجه تعيس:-
– مشوار بسيط بس هيفرق معايا، هتعرف لما نوصل..
ركب قيس بهدوء بجانبه بينما عقله بوادٍ أخر، ولم يكن طاهر يختلف عن فقد عاد للسكون والصمت وتنبثق من أعينه نظرة خامدة لا توحي بحياة..
بعد مرور القليل وصل طاهر وبصحبته قيس لبلده متوسطة الحال وقام بإجراء بعض المهاتفات ليتوقف أمام مجموعة كبيرة من المخازن…
التزم قيس الصمت وبقى يشاهد فقط ليتفاجئ باقتراب مجموعة كبيرة من آلات الهدم..
وقف قيس بالقرب من طاهر والآن أصبح يفهم ما يحدث، أردف طاهر وأعينه تتأمل المكان والذكريات تطوف بعقله وكأنه حدث بالأمس:-
– دي حقوق لازم ترجع الأول لأصحابها يا قيس، قبل سنة كان هنا بيت قدر وعيلتها وبيوت ناس كتير أنا جيت وخرجتهم منها بالإجبار وقضيت على كل أحلامهم وحياتهم…
المخازن دي هتتهد والأرض ترجع لأصحابها من تاني والفلوس إللي في حسابي هتغطي مصاريف بناء بيوت الناس دي تاني..
عارف إن كدا مش تكفير عن غلطي وكل آثامي بس ده على الأقل هيريح ضميري شوية..
وبالفعل اتجهت آلات الهدم وأخذت المخازن التي بُنيت غصبًا وإكراهًا وشُيدت على دمار حياة آخرين تنهار وتسقط..
تنهد قيس … نعم يعلم أن طاهر مجرم ومغمور بالأثام … لكن يبقى أفضل من والده وأنقى منه، لم يُطمس على قلبه ولم تُغشى أعينه على الأخير..
إن عاد إلى الله سيستقبله بحفاوة ويستطيع أن يكتب بداية جديدة لحياة أطهر ونهاية لتلك الحكاية السيئة..
خرج صوت قيس الممزق:-
– أنت ربنا بيحبك وقدرلك الرجوع تاني يا طاهر، كل حاجة انكشفت قبل ما كان ماجد البنا يورطك في مصايب أكبر مكونتش هتقدر تخرج منها أبدًا..
واضح إن كان مرتبلك توريطات كبيرة.
تقدر تكتب حكاية جديدة يا طاهر، ترجع حقوق العباد إللي ظلمتهم وتطلب منهم الغفران وتقف على باب ربنا وتتوب وترجعله..
تقدر تكون إنسان كويس وناجح وفاعل للخير يا طاهر وافتكر دايمًا الحسنة هتمسح السيئة، كتر من أفعال الخير وعوض عن أغلاطك وذنبك وافتكر دايمًا إن ربنا غفور رحيم رغم إن إللي أنت عملته ميعرفش للرحمة طريق..
اتعلمت منك درس مستحيل أنساه يا طاهر، وبسببك عرفت قيمة نِعم في حياتي مكونتش واخد بالي منها..
القلب اللين نعمة … خليتنا اتمسك من هنا ورايح في حياتي إن أشكر ربنا على نعمة لين القلب، وإن أدعي دايمًا إن ربنا لا يطمس على قلبي، وإن ربنا لا يجعلني من القاسية قلوبهم ولا أكون غليظ القلب..
وإن ربنا لا يغشي على قلبي ولا يطمس بصيرتي، ويخلي دايمًا عندي رعب من المعصية وإن مستهينش بالمعصية والذنب…
أقسى عقاب يا طاهر إن ربنا يسيبك لنفسك ويسلطها عليك … حقيقي رعب..
قدرت النعم إللي كنت فيها وأنا مش حاسس بيها..
تبان عند البعض حاجة بسيطة بس عدم وجودها دمار وضياع…
أنا مش عارف أقولك أيه يا طاهر ولا أحكم عليك؛ لأن أنا مين علشان أحكم على عبد من عباد الله..
أنا كمان عندي ذنوب ومفيش عبد خالي من الذنب وبدعي ربنا بالغفران..
ربنا أرحم بيك من أي حد ومش بيرد عبد ليه ندمان وتايب من على بابه، إللي بينك وبين ربنا مينفعش حد يتدخل فيه أبدًا…
لم يكن من طاهر إلا أن سجل هذا الحديث بذهنه جيدًا والتزم الصمت..
وبعد بعض الوقت كان طاهر يتجه إلى أخر مكان ظن أنه سيعود له يومًا ما..
مكان كان يسعى ويفعل ما فعله لأجل أن يُصبح ذا شأن ويثبت لهم عكس ما ظنوا..
مكان غدر هو به ولم يعلم أن لا أحد في هذا العالم يُحبه أكثر ممنْ في هذا المكان…
زين له الشيطان وزينت له نفسه الأمارة بالسوء الغواية وظن أنه لن يكون بحاجة إليهم يومًا ما تناسى البر والإحسان .. وتلك المبادئ والقيم التي جاهد رضوان جهادًا شديدًا لوضعها بداخله لكن بالمقابل كان هو يلفظها من داخله بإيباء شديد..
رحل عنهم خالي الوفاض وهو لا شيء وحلُم بتلك اللحظة التي يعود بها أمامهم شامخ الرأس لكن الآن سيقف أمامهم بنسخة أسوء من ذي قبل..
فهل يا تُرى سيقبله الشيخ رضوان في منزله، هل سيستقبل هذا الآثِم في منزله الطاهر ويلوثه كما كان يخبره قديمًا.
وأخيرًا أتت اللحظة المرتقبة، عاد طاهر ووقف أمام المنزل .. عاد للوطن مرةً أخرى..
وقف ينظر للمنزل الذي لم تُغيره الأزمان، باقٍ على حالته من السكون والطمأنينه التي تُصيب قلبه حين الوقوف أمامه..
هل هذا ذات المنزل الذي كلما رأيته قديمًا اغتم قلبي لتلك القيود التي كان يستنها رضوان كما كان ينعتها هو..!
نعم الصلاة الذي كان يأمره والده بها ويحثه عليها كان يسميها قيود..
حفظ القرآن الذي كان يدفعه والده عليه كان له قيد..
حتى تلك الصدقات الذي كان يشجعه والده ويعطيها له ليوصلها إلى المساكين كان يعتبرها إهدارًا للأموال ولم يكن ليوصلها للفقراء ويذهب بها وينفقها في اللهو والدخان..
لم يُعنفه رضوان قط بل كان دائم معاملته ونصحه بالحسنى وإخباره عن الجنة وفضل الصدقات..
الآن يا إلهي!! لماذا هذا الأمان الذي عبئ قلبي ودواخلي فور أن وقفت أمام باب دارك يا أبي، هذا الشوق والحنين يا أمي لم أكن أُدرك أنه موجود، أو أني كنت أقتله وأوأده حين أشعر به ينبت بداخلي..
في ذات الحين بالمنزل المجاور من الجهة الأخرى لمنزل الشيخ رضوان تقف بالشرفة تروي الزرع والورد بإبتسامة مشرقة لم تخفي لمحات الحزن من فوق وجهها..
التفتت تروي الزروع التي بالجهة الأخرى لكنها تخشبت فور أن وقعت أعينها على هذا الغائب عن عينها وحياتها الحاضر دائمًا بقلبها..
عاد .. لقد عاد القاسي..
نعم تتعرف عليه، فهي ذاتها الملامح التي ازدادت وسامة .. لم يتغير شيء سوى هذا الشيب الذي أخذ يُزاحم خصلاته الفحمية..
لكن… لماذا؟!!
لماذا مبكرًا قد اقتحم رأسك الشيب عزيزي طاهر..
تسارع نبض قلب ضحى التي بقت تنتظر أعوام على أمل عودة طاهر..
بإخلاص لحب مراهقة بل تعلق طفلة رفضت الزواج وعكفت على الترقب والانتظار على أمل اللقاء..
لكن عزيزتي ضحى أخشى أن يكون طاهر مِمَن لا يستحقون الإنتظار..!
همست بشوق وأعينها المتلهفة تأكل ملامحه:-
– طاهر..
كان طاهر مازال يتأمل المنزل من أعلى لأسفل لتقع أعينه على التي تقف خلف زرعها، نعم هي أيضًا ممن تركهم خلف ظهره دون أن يلتفت..
عشق المراهقة خاصته .. ضحى الذي بذل لأجل محوها الكثير والكثير، لكن يبدو أنها موشومة بروحه..
نعم هو اكتسب قسوة القلب لأجل أن ينسى الماضي وأشخاص الماضي، لأجل ألا يؤثر به شيء..
لكن الآن لا يجوز .. الحنين مُحرم عليه الآن..
أبعد أنظاره مُجبرًا فآلان عهد التكفير عن ذنوبه وليس الحنين.
لم يكن طاهر وحده من تدور بداخله حروب طاحنة، بل قيس الذي يُفكر في ردود أفعال الشيخ رضوان وزوجته عند علمهم بالحكاية..
لابد من تلك المواجهة وإن كانت نهايتها خسارته لأبويه للمرة الثانية..
سار برفقة طاهر للداخل ووقف هو أمامه ثم طرق الباب بهدوء وبداخله عواصف تموج..
فتحت رحيمة الباب لتُهديه إبتسامة حانية:-
– قيس .. اتفضل يا حبيب أمك، عاش من شافك يا واد ولا علشان اتجوزت بقاا مش كفاية أنا عديتها..
استدارت للداخل وهي تُحدثه بينما كان الشيخ رضوان جالسًا يتلو في كتاب الله وفور أن رأى قيس الذي يقف على عتبة باب المنزل حتى أغلق المصحف مبتسمًا وهو يقول:-
– ادخل يا قيس واقف ليه كدا..
تنحى قيس حتى تجلى لهم طاهر….
سنوات ضائعة … ملامح متغيرة … ونظرات مختلفة..
لكن هو طاهر .. يحمل ملامح طاهر ذاتها .. وهذا أب وهذه أم يكتويان بنار الشوق والحنين والحنان والتلهف لولدهم حتى وإن كانت الأثام تغرقه.
سقط ما بيد رحيمة واستقام الشيخ رضوان ينظر بأعين متسعة تدور بجنون حول هذه الملامح، شاعرًا بأن أقدامه عاجزة عن حمله..
أمّا طاهر فكان يقف أمامهم مطأطأ الرأس فقد عتى هو عُتوًا كبيرا وذهب عمره هبائًا منثورا..
لا يقوى على رفع رأسه بهم، لا يستيطع أن تنغمس أعينه داخل أعينهم..
هل يا تُرى يحق له طلب الغفران منهم؟!
إلى الآن لا يدرك طاهر أنهم أب وأم، مهما أخطأ أبناءهم لا ينزعجون لا يبغضون، تبقى أحضانها فاغرة دائمًا..
انفجرت رحيمة ببكاء عنيف وصرخت بتلهف وهي تهرع نحوه تجذبه لأحضانها بحنان:-
– طاهر … طاهر ابني .. طاهر يا حبيب أمك..
كنت عارفة والله يا ابني .. كنت عارفة إنك هترجع .. ألف حمد وشكر ليك يارب .. طاهر خلاص رجع .. ابني رجعلي يا ناس..
وهنا أطلق طاهر العنان لكل شيء بداخله وكل شيء مكبوت..
رفع ذراعيه يحاوط والدته وهو يغمض أعينه لهذه المشاعر والأمان التي غزته، أشياء لم يعلم قيمتها إلا حين فقدها..
يزرع نفسه داخل أحضانها بشدة ينعم بالسكون أخيرًا … فالدار أمان الآن..
لم تكتفي رحيمة ولكنها ابتعدت عنه مرغمة تنظر لملامح وجهه وتتحسسه بحنان فقال طاهر بأعين مليئة بالدموع:-
– وحشتيني يا أمي .. وحشتيني.
لم تصدق أذنيها فيما سمعت .. هل يقول أمي..
كان قلبها متسلحًا باليقين أن تلك الكلمة ستدلف أذنيها يومًا ما…
نظر طاهر نحو والده المتخشب بأرضه لم يُحرك ساكنًا فعلم أنه لن يكون له نصيب من الغفران بقلب الشيخ رضوان..
إلا أنه لم يرضخ بل هرع نحو والده وانحنى يجثو أرضًا عند أقدامه يقبل قدميه وسقطت الدموع فوق أقدامه وهو يقول باكيًا:-
– سامحني يا شيخ رضوان … سامح طاهر يا أبويا.. سامحني .. لفيت لفتي ورجعت ليك زي ما قولتلي .. مصيري ومرجعي لهنا يا شيخ رضوان..
كان عندك حق في كل كلمة يا أبويا كان عندك حق ومن يوم ما خرجت من هنا مدوقتش طعم الأمان إللي معرفتش قيمته ألا ما بعدت عنه..
وارتفع يُقبل يديّ والده الذي جذبه لأحضانه بسعادة وقال:-
– الحمد لله على سلامتك يا طاهر .. الحمد لله .. الحمد لله على كل شيء يا ابني..
الحمد لله إن رب العالمين نور بصيرتك يا طاهر..
أنا أبوك والأب بيسامح يا ابني ومش بيزعل من ابنه..
ورب العاملين بيسامح .. أنت غلطت في حق رب العباد ولازم تطلب السماح والمغفرة منه…
وانشغل الشيخ رضوان ورحيمة بطاهر وبقى قيس يقف بأحد الزوايا ينتظر بترقب اللحظة الحاسمة، لا يعلم كيف سيرفع رأسه أمامهم..
وجاء السؤال المرتقب، تسائل رضوان بتعجب وهو ينظر لقيس:-
– وأنت عرفت طاهر منين يا قيس ورجعته إزاي .. يعني اتقابلت فيه إزاي يا ابني..
أوشك طاهر على إختلاق كذبه لكن سبقه قيس قائلًا:-
– لا يا طاهر .. الكذب من هيفيد في حاجة، الحقيقة مسيرها في يوم تتعرف، فابدأ وقول الحكاية من أولها علشان أرتاح..
رمقه طاهر برفض واعتراض تحت تعجب الشيخ رضوان وزوجته لكن أصرّ قيس:-
– لا يا طاهر .. قول الحقيقة.. والأحسن تحكي أنت أفضل..
ابتلع طاهر ريقه لما هو قادم عليه وشرع يسرد الحكاية منذ البداية تحت غليان قلب رحيمة فهي بالأخير أم تآكل قلبها لتلاعب هذا الحقير بمشاعر ولدها واستغلاله بأبشع الطرق، سرد لها أفعاله وجرائمه وما فعله بقدر وعائلتها..
وكشف الحقيقة وحكايته مع قيس…
حتى وصل لخط النهاية..
كان قيس يشعر بأبشع مشاعر مر بها طيلة حياته، الخجل .. الخذلان .. العجز.
يدرك الآن ما يدور بداخلهم جيدًا وما الخواطر التي تُلقى بعقولهم..
وإلى هذا الحد لم يستطع قيس التحمل وخرج مسرعًا بقلب يقطر ألمًا..
الآن خسر كل شيء .. الجميع .. الجميع تركه ونبذه وبقى مذموم.
قال طاهر بصدق:-
– قيس ملهوش أي ذنب .. بالعكس هو دافع عني وأخد بإيدي لهنا .. هو كمان ضحية عاش من غير أب وأم واتصدم صدمة عمره في أبوه..
الصدمة إللي أخدها مش سهلة أبدًا يا شيخ رضوان، قيس شخص حساس ومش بيقبل الأذية لحد وشايل إللي عملتوه معاه فوق راسه وفي عينه..
وصمت طاهر ثم أكمل مبتلعًا ريقه بتوتر:-
– أنا رجعت لكم بس لازم ادفع تمن إللي عملته وحقوق العباد يا شيخ رضوان، هرجع تاني بس هرجع طاهر إللي يليق بيكم .. لازم أدفن عزيز علشان طاهر يرجع..
محتاج دعواتكم يا أمي أنتِ وأبويا ورضاكم علشان أكفر عن أغلاطي…
أنا لازم أبدأ من الصفر وادفن الماضي تمامًا..
بكت رحيمة بشدة بينما نظر له والده بسعادة بالغة وقال بهدوء:-
– هننتظرك يا طاهر ودعواتنا معاك .. راضين عنك يا طاهر وأنا واثق إنك هتلاقي الطريق .. واثق فيك يا طاهر..
وقضى طاهر الوقت برفقة والديه وشقيقاته حتى أتى وقت الرحيل فخرج بعد الكثير من الأحضان..
وقف أمام المنزل وهو يرى تلك التي تقف في الشرفة بأعين حزينة وقد قصت له والدته موقفها بعد رحيله والتي فهمتها والدته دون أن تخبرها ضحى…
سار حتى وقف أسفل الشرفة وأردف دون أن ينظر لها:-
– انتظريني يا ضحى .. هرجعلك .. بس هرجع طاهر إللي يستحقك يا ضحى.. استنيتي يا بسكوته..
ورحل متجهًا نحو مركز الشرطة بشموخ ورأس مرفوع لتنمو إبتسامة تلك التي أشرق وجهها وهمست بسعادة:-
– دعيت كتير أووي يا طاهر .. هستناك زي ما استنيتك السنين دي كلها ومتنساش إن باب التوبة والمغفرة دايمًا مفتوح وإن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار..
هدعيلك دايمًا يا طاهر..
********
وصل طاهر لمركز الشرطة ليقابله ياسين وبصحبته فهد..
وقف طاهر برأس مرفوع أمام فهد وهتف:-
– إللي حصل لأبوك جعفر البحيري الحقيقي على إيد ماجد البنا إللي لعب دور أبوك جعفر بعد موته .. أنا مليش ذنب فيه يا فهد..
ومدّ له يده بمفتاح سيارته وقال:-
– دا مفتاح عربيتي وكدا مفيش أي حاجة بقت ملكي من أملاكك أنت وفارس…
مع إن الشركات والشغل أنا إللي قومته كنت بشتغل دون رحمة ليلي ونهاري وأنت شاهد ومش هتنكر، إللي وصلتله شركات البحيري بفضلي بس أنا مش عايز أي حاجة من الماضي أنا قفلت على الصفحة دي للأبد..
بس إللي طالبه منك بحسابي إللي في البنك ترجع تبني بيوت الناس مكان المخازن إللي اتهدت وترجعهم لأصحابهم وأولهم بيت قدر وعيلتها…
المخازن اتهدت والعمال شغالين عليك أنت تباشر الشغل بس..
ووجه أنظاره لياسين قائلًا:-
– قيس محتاجكم يا ياسين مش تسيبوه، بيته جمب بيتي روحله وخليك جمبه..
بالنسبة للي عملته في عيلتك وفي قدر يا ياسين أنا بسلم نفسي أهو وهاخد عقابي..
وأتمنى في يوم تقدروا تسامحوني علشان ربنا يسامحني، مع إني مقدر وعارف إن صعب..
وبشكركم لأن ربنا جعلكم سبب في إن الغشاوة إللي عيني وقلبي تتزال..
***********
وصل ياسين لمنزل قيس وظلّ يطرق الباب بإلحاح لكن لا فائدة … لا إجابة..
خرج الشيخ رضوان من منزله على صوت الطرقات وقال لياسين:-
– أهلًا يا ابني .. أنت عايز قيس..
حرك ياسين رأسه بإيجاب وقال:-
– أيوا … إزيك يا عمي..
دقق الشيخ رضوان بوجه ياسين فقال متذكرًا:-
– أنت ياسين .. أخو قدر إللي اتجوزها قيس
فهم ياسين من يكون، وأنه والد طاهر والرجل الذي قام بالإهتمام بقيس، فقال ياسين بإحترام:-
– أهلًا بيك يا عمي .. أيوا أنا ياسين..
أردف الشيخ رضوان بإلحاح:-
– طب تعال اتفضل يا ابني ميصحش تفضل واقف كدا..
– الله يبارك فيك يا عمي … أنا كنت عايز قيس بس مش موجود تقريبًا..
ردد رضوان بحزن:-
– هو مش موجود يا ياسين .. لما خبطت كتير ومردش دخلت ملقيتش حد جوا، ومش عارف هو فين ومش عارفين نوصله..
أنا عارف وحاسس بإللي هو فيه، وعايز أكون جنبه واقوله أبوك مستحيل يتخلى عنك يا قيس وياخدك بذنب أنت ملكش يد فيه..
أفهمه إن أنا معاه وفي ضهره ومش هسيبه أبدًا وغلاوته في قلبي نفس غلاوة طاهر، دا ابني إللي ربيته..
شعر ياسين بالكثير من الإمتنان لهذا الرجل الصالح حقًا وقال:-
– حقيقي ربنا يجازيك خير يا شيخ رضوان على موقفك ده ومحبتك لقيس…
حقيقي الأشخاص إللي زيك بقوا قليلين جدًا..
ربنا يكثر من أمثالك يارب..
– دا ابني يا ياسين وإللي يوجعه يوجعني، المهم يرجع وأوصله..
تسائل ياسين فقد مرت ساعات طويلة على إختفاء قيس وقد استبد القلق به:-
– طب مش عندك فكرة يكون قيس فين..
فكر رضوان قليلًا ثم قال بحيرة:-
– والله يا ابني مش عارف .. بس هو مش ليه ألا هنا .. والعشة إللي على البحر بس أنتوا متواجدين فيها .. تقريبًا مش ليه أي أماكن تانية..
وبقى يُفكر لكنه قال بحيرة:-
– ملهوش أي مكان تاني يا ابني .. أنا محتار ومش عارف راح فين وقلقان عليه جامد أوي..
التهب قلب ياسين بالقلق لكنه قال بثبات يطمئن الشيخ رضوان:-
– إن شاء الله خير يا عمي رضوان، قيس عاقل وشخص متزن وعلاقته بربنا قوية مش هيحصله حاجة، هيبقى بخير إن شاء الله هو بس أكيد حب يقعد مع نفسه شوية..
أنا هدور عليه وبإذن الله لما أوصله هخليه يكلمك يطمنك..
قال رضوان بقلب مكلوم:-
– ماشي يا ابني وأنا هنتظركم، ربنا يهون عليه ويبعد عنه الهم والحزن ويعوضه خير يارب..
انصرف ياسين وقاد سيارته حتى وصل لهذا المنزل المتواجد على الشاطئ والذي يوجد به قدر شقيقته واسرتهم…
دلف ياسين مسرعًا يلهث ووجهه مكفهر فاعتدل الجميع يتسائلون بعجب وأولهم قدر التي وقفت أمام شقيقها تتسائل بقلق:-
– في أيه يا ياسين .. أيه حالتك دي، في حاجة حصلت..!!
مسح على شعره بعنف وقال بنبرة شديدة:-
– قيس … قيس مختفي ومحدش يعرف عنه حاجة!!
تخشب جسد قدر وأخذ قلبها ينبض بجنون لتتسائل بتيهة وعدم فهم:-
– يعني أيه اختفى .. قصدك أخد عزيز وهربه ولا أيه .. يعني هو مرجعوش..
نفى ياسين وأخذ يسرد لها ما حدث، وما فعله طاهر لأجل منزلهم ومواجهته مع والديه وانسحاب قيس..
أخذ قلب قدر يتخبط في شُعب القلق وشرد عقلها وهي تشعر بما يشعر به قيس الآن والألم الذي يمكث بقلبه..
ما ذنبه وما خطأه!!
هو لم يأثم..
هتف والد قدر بحزن:-
– لا حول ولا قوة إلا بالله .. وأيه ذنبه علشان يعيش المواقف دي .. ربنا يفرج كربه يارب، شاب صالح ومكافح ويعرف ربنا بجد وعنده ضمير ربنا يبارك فيه يارب .. مش هنسى إللي عمله أبدًا ووقفته جمب قدر..
وأخذت حليمة تلهث بالدعاء له بينما كان كلًا من رائف ورائد يتبادلان النظرات الخبيثة ورغم ما مروا به لكن شغبهم لم يهدأ..
اقتربوا من قدر الشاردة وهتف رائد بمكر:-
– ألا بقولك يا رائف … شكل الصنارة غمزت وقدر أخونا الحمش واقع في الغرام .. بس دي أخر حاجة كنت أتوقعها في الحياة .. مش راكبة على بعضها خالص ياض يا رائف..
أيده رائف بمكره قائلًا:-
– عندك حق يا رائد .. الله يرحم لما كان صوتها بيجيب أخر البلد علشان كيس الشيبسي إللي بالطماطم والمولتو..
والله وشوفنا قدر متجوزه وعندها جوز خايفه عليه..
رمقتهم قدر بغضب من سخريتهم فليس هذا الوقت المناسب لمزاحهم..
كان عقلها شارد في الحديث الذي دار بينها وبين حامي الحمى خاصتها وهم على الشاطىء وفجأة أضاء عقلها بشيء ما..
صرخت تقول لياسين:-
– ياسين تعال معايا بسرعة .. وصلني للمكان ده..
وخرجت مسرعة ليهرع ياسين خلفها وتسائل بعجب:-
– أيه هو أنتِ تعرفي مكان قيس يا قدر..
قالت قدر بلهفة:-
– إن شاء الله هيكون موجود في المكان ده، هو قالي إن بيحب الأماكن القريبة من السما بتهدى أعصابه وبتخليه يروق .. وقالي على مكان بيروحه وبيحب يكون فيه لواحده..
وبيسافر علشان يروح يقضي فيه وقت، المقطم يا ياسين … لازم نسافر دلوقتي..
أنا عارفة هو حب يبعد عن الكل..
بعد رحيلهم نظر كلًا من والد قدر ووالدتها لبعضهم البعض مبتسمين، لتقول والدتها:-
– يا أبو ياسين تبان إن الحكاية من الأول شر، بس هي مليانه خير كتير أووي..
ردد مؤكدًا:-
– ربُ الخير لا يأتي إلا بالخير .. إحنا راضين يا أم ياسين وبنشهده على كدا…
هنرجع بيتنا ونبدأ من جديد وولادنا حولينا وكمان كسبنا ابن تاني وجوده نادر اليومين دول الدكتور قيس..
^^^^^^^^^^^^^^^
بعد ما يقارب الثلاث ساعات كانت سيارت ياسين وصلت للمكان المنشود..
بحثوا كثيرًا في الأرجاء لكن لا أثر لقيس…
المنطقة واسعة لكن لم تيأس قدر في البحث عنه بلهفة حتى وصلت لمكان معزول به أضواء خافته وسط سواد الليل .. دارت أعينها في أرجاء المكان بلهفة وقلبها يبتهل برجاء..
وقعت أعينها عليه منزوِ يجلس أرضًا مستند على شجرة ويحني رأسه لأسفل..
تمزق قلبها وشعرت أن ثمة خنجر بارد غُرز به، توسعت أعينها وغشاها الدمع بينما قلبها يجأر خلف ضلوعها بألم على تلك الحالة التي رأته عليها..
قال ياسين بتفهم:-
– أنا هنتظرك في العربية يا قدر..
أطلقت العنان لأقدامها وهرعت نحوه بلهفة وبمجرد أن أصبحت بجانبه حتى جثت أرضًا واستكانت إلى جواره ساحبه رأسه لصدرها بحنان تربت على رأسه وظهره ودموعها تغرق وجهها، وهمست له بحنان وعشق:-
– أنا هنا يا حامي الحِمي … قيسي حبيبي قدر معاك، بقى كدا يا قيس بحسب أنا أول حد هتلجأ لها .. تبعد عني بالطريقة دي..
أنا حاسه بيك يا حامي الحمى حاسه بقلبك، بس احمد ربنا … لُطف الله عز وجل الخفي محاوطنا، والله كله قدر خير..
كل واحد أخد الجزاء إللي يستحقه، فهد رجع ليه هو وأخوه حقوقهم هما اتظلموا يا قيس وسمعة أبوهم إللي اتشوهت صعبة .. كان لازم الحقيقة تظهر وحق امهم يرجع لهم..
الشيخ رضوان والست رحيمة منتظرينك وقلقانين عليك … الشيخ رضوان راجل حكيم ومتصل بالله وأنت ملكش أي ذنب علشان يزعل منك وابنه بدأ بداية جديدة وبداية صح..
وإحنا راضين يا قيس وكل حاجة انتهت والأهم إن أهلي رجعوا..
تعرف رغم الوجع والعذاب إللي شوفته مع عزيز بس أنا كنت فاهمه إللي هو فيه، كان في شيطان بيوسوسله ومش مديه فرصة حتى يفكر ومن غير زعل كان جعفر كان مسيطر عليه سيطرة تامة ومستعبده..
كنت عارفة إن في حاجات كتير بيعملها مش محض إرادته زي ما يكون شيطان مسيطر عليه ومخليه مريض … زي ما يكون عايز يثبت حاجة لحد..
رغم أنه كان شيطان معايا وبيتعمد يعمل الحاجات إللي بتوجعني بس في حاجات تانية بتُحسب ليه..
إنسانيته متعدمتش على الأخر ومقتلش أهلي رغم إنه كان موصل لجعفر البحيري إن قتلهم، دي عندي بالدنيا كلها…
رغم إن كنت متاحة ليه ويقدر يعمل فيا أي حاجة وفي طرق كتيرة أوي يقدر يذلني بيها ويكسرني لكنه معملهاش … يعني مقربش مني أبدًا رغم إنه كان موصل لجعفر إن هو اعتدى عليا وكسرني..
كان في حاجات منه بتخليني أتعجب منه…
هو غلط واتجبر وأجرم في حقي وحق أهلي وأنا مقدرش أبدًا أنسى أو أسامح بسهولة إللي حصل..
بس يكفي إنه رجع لطريق رب العالمين، أيوا فرحانة إن واحد من إللي ضلوا طريقهم رجع ندمان يطرق باب الرحمن ويمكن في يوم أقدر أسامحه..
يا قيس أنا اتعلمت وآمنت إن الخير مش موجود ألا في الشر .. وإن الشر مش وحش ولا حاجة زي ما إحنا مفكرين لأنه هو إللي بيوصلنا للخير..
إللي حصلي علمني كتير أوي يا قيس والسنة دي غيرت في فكري كتير وحسستني بقدر نِعم كانت مغرقاني وأنا مش حاسه بقيمتها، زرعت جوايا الأمل واليقين بالله والثقة إللي مهما أشوف بيحصل حوليا مستحيل أتهز لأن عارفه إن لازم ورا الضلمة النور وبعد العسر يسر..
دي معادلة مفروغ منها يا قيس..
صدقني دا كله خير، وإللي إحنا فيه وهيمر يا قيس، لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع يا قيس وأنا اتعلمت منك اليقين والثقة بالله، لما كنت بتقعد قدامي وتقولي .. أنك معاك قوة كبيرة ومستحيل تنهزم وإن مفيش حد يقدر يإذيك وربنا معاك..
وفعلًا أنت مش اتأذيت يا قيس .. لأن دا إللي ربنا كتبه..
دا اختبار من ربنا ليك واوعى تخفق فيه..
وافتكر إن أنا معاك ومش هسيبك أبدًا، وإن كل إللي حصل قدر خير..
نعم … قدر خير .. قدر أوصله لقدره…
اختبارات وقدر أوصله لقدر قيس … لم يكن كل هذا سوى …….. <<قدر قيس>>
رفع ذراعيه يغرزها بأحضانه وقد هون حديثها على قلبه وخفف عنه فيكفيه تواجدها وظهورها بحياته فلولا ما حدث ما كان ليلتقي قيس بقدره..
إنها قصة قدر كله رحمة ولُطف..
وبالأخير كانت النهاية عادلة ونال الكل جزاءه على ما قدمت يداه..
هبطت دموع قيس على صدرها لتحتويه بحنان ومودة وهي تقبل أعلى رأسه ليُدرك هنا أنه بصدد بدء حياة جديدة مغمورة بالعوض….
حتمًا يأتي العوض حتى وإن تأخر، فلعلّ الله أرادها أن تأتي متأخرة لتكون أعظم وأكرم وأجمل..
همس قيس بعشق:-
– بحبك يا تركواز … عاشقك يا قدر قيس..
ابتسمت بسعادة وقلبها ينبض بجنون وبادلته همسه قائلة:-
– وأنا عشقاك يا طبيب … يا حامي الحمى..
وتحت السما المليانه بالنجوم .. أنا والطبيب بس..
تبدأ حكايتي ومشواري أنا والطبيب … أيوا تبدأ لأن النهاية ما هي إلا بداية جديدة..
همس قيس وهو يقبل رأسها:-
– مرحى بهذا القدر فلم يكن سوى قدرُ قيس المُثقل بالخيرات..
٠<تمت بحمد الله>٠