رواية رحلة الآثام كاملة وحصرية بقلم منال سالم
الفصل الأول
(نقطة البداية)
زفرت بتأففٍ وأصوات الهمهمات المتداخلة تحاصرها من كل جانب، فحال ذلك دون حصولها على القدر الكافي من التركيز لإتمام عملها العالق. شملت من حولها بنظرة منزعجة، قبل أن تزفر من جديد واليأس مستبد بها. لم يكن هناك أدنى بد من محاولة الاندماج مع ما يحيط بها، لذا سدت "نهاد" أذنها اليسرى بيدها، وواصلت تبديل الشرائح الصغيرة بعد تدوين ملحوظاتٍ صغيرة مقتضبة.
مضت عليها بضعة دقائق وهي على نفس الحال، قبل أن ترفع نظراتها المدققة عن الميكروسكوب الموضوع على المنضدة المعدنية أمامها، بمجرد أن سمعت وقع أقدامٍ تقترب منها، عندئذ نهضت واقفة من على كرسيها الخشبي، وتحركت من موضعها تجاه رفيقتها التي قد عادت لتوها من الخارج. رمقتها بنظرة ضيقة تعكس انزعاجها قبل أن تستطرد معاتبة:
-كل ده يا "تهاني"؟ إنتي اتأخرتي جدًا.
تأملت البلاط الأبيض الباهت المغلف لجدران المعمل، وما يعلوه من سقفٍ تشقق معظم طلائه باشمئزازٍ، ثم أخبرتها:
-ما الدنيا زحمة، والإجراءات صعبة، يدوب عقبال ما خلصت.
جذبتها من ذراعها نحو منضدة عملها، وسألتها بصوتٍ خافت نسبيًا:
-برضوه مصممة على اللي في دماغك؟
لم تبدُ "تهاني" مكترثة بمن حولها وهي تؤكد عليها:
-أه طبعًا، المستقبل عمره ما هيكون هنا، بين الأربع حيطان دول.
ظلت "نهاد" على حيطتها وهي تسألها باستنكارٍ محسوسٍ في نبرتها:
-ليه بتقولي كده؟ بالعكس مع الوقت هيتحسن الوضع، وفرصتك آ...
قاطعتها قبل أن تتم جملتها هاتفة في تحفزٍ:
-فرصتي هتضيع مني لو معملتش كده.
تقلصت المسافة ما بين حاجبي رفيقتها وهي تسألها مستفهمة:
-وإنتي تضمني منين إنك تنجحي برا؟
غامت ملامح وجه "تهاني" بشكلٍ ملحوظ، وانعكس الضيق على نظراتها إليها، حاولت صديقتها تلطيف ما نطق به لسانها بترديدها:
-أنا مش قصدي أزعلك، بس احنا فاهمين كويس اللي هيحصل، إنتي بطلوع الروح اسمك اتحط وسط اللي رايحين البعثة.
رفعت "تهاني" يدها لتسوي ما نفر من مقدمة شعرها المعقود كذيل حصانٍ، وعلقت في استياءٍ ظاهر على صوتها:
-أيوه، بس في الآخر عرفت أجيب حقي.
استغلت "نهاد" تلك النقطة لتوضح لها بمنطقيةٍ:
-تفتكري هما هيسبوكي لما تنفذي اللي في دماغك؟
قبل أن تفكر في الرد أجابت عنها:
-ماظنش يا "تهاني".
احتفظت الأخيرة بصمتها، بينما رفيقتها ما تزال تخبرها بجديةٍ:
-أنا من رأيي تعيدي التفكير تاني، إنتي مش ناقصة مشاكل ولا وجع قلب.
ردت عليها بعنادٍ:
-مش هايقدروا يعملولي حاجة.
خفضت "نهاد" من نبرتها عندما تحدثت:
-أنا وإنتي فاهمين كويس إنك واخدة البعثة حجة عشان تهربي برا البلد، وتشوفي مستقبلك، بس صعب تعملي ده لوحدك في بلد غريبة مالكيش فيها لا ضهر ولا سند، هتتعاملي هناك إزاي؟
أخبرتها عن ثقة عجيبة:
-ماتستقليش بيا، أنا قادرة أصرف أموري.
لم تستطع إثنائها عن رأيها، فلجأت لوسيلة أخرى، ربما تجدي نفعًا معها، حانت منها التفافة سريعة للخلف برأسها، سلطت فيها ناظريها على أحدهم، ثم عاودت التحديق في وجه رفيقتها، وأخبرتها بنبرة ذات مغزى:
-طب ودكتور "أمين"؟
تلقائيًا تحولت أنظار "تهاني" نحو ذلك الشاب الجالس بالخلف، والمشغول بإجراء بعض التجارب، ابتسم في عفوية بمجرد أن رأى نظراتها متجهة إليه؛ لكنها لم تبادله سوى الوجوم والتجهم، بتكاسلٍ وتأفف تساءلت وهي تشيح بوجهها بعيدًا:
-ماله؟
برزت ابتسامتها الماكرة على شفتيها وهي توضح لها بغموضٍ قليل:
-إنتي فاهمة كويس، هو عينه عليكي من زمان، ونفسه تديله فرصة.
نقرت بأصابعها على سطح المنضدة، قبل أن تسألها بملامح اكتسبت جدية صريحة:
-وبعدين؟
جاء ردها مباشرًا:
-أكيد هيطلب إيدك، وتتجوزوا.
سحبت "تهاني" نفسًا عميقًا، ثم لفظته على مهلٍ، وتكلمت في صوتٍ جاد رغم هدوئه:
-بصي يا "نهاد" خلينا نتكلم بالعقل، مرتبي على مرتبه عمرهم ما هيخلونا نعيش عيشة مرتاحة.
اندهشت من عقلانيتها الزائدة عن الحد، وعقبت:
-بس هو بيحبك، وبيقدرك.
أتى تعليقها صادمًا لها:
-ويعمل إيه الحب وسط الفقر؟!!
افترت شفتاها عن دهشة مستهجنة، فما كان من "تهاني" إلا أن أوضحت لها بمرارة استشعرتها في صوتها شبه المختنق:
-إنتي ماتعرفيش أنا عايشة إزاي، وحاربت أد إيه عشان أوصل للمكانة دي، وسط ناس جهلة، مش همهم إلا إن الواحدة يداس عليها، وتبقى مالهاش قيمة...
بالكاد حاولت الحفاظ على ثبات صوتها وهي تكمل:
-ومش مستعدية أقضي اللي جاي من عمري وأنا بعافر.
نكست رأسها في أسفٍ، وردت:
-مش عارفة أقولك إيه؟
بقليلٍ من الكبرياء الجريح خاطبتها وهي ترمش بعينيها بسرعةٍ لتطرد ما علق من دموع في أهدابها:
-أدعيلي أخلص أوام وأسافر.
................................................
كومة أخرى من الثياب الجافة انضمت لسابقتها على الطاولة المستديرة، قبل أن تنحني لتفرد السجادة المثنية بعد انتهائها من تجفيف الأرضية بالمبتلة بخرقةٍ قديمة. استقامت "فردوس" واقفة وهي تمسح بظهر كفها العرق المُتَصبب على جبينها، أحست بالإنهاك يتفشى في أطرافها، فمنذ أن طلع النهار وهي تعمل بكد واجتهاد لتنظيف المنزل وإعداده لاستقبال الضيوف القادمين مع غروب الشمس. كم رجت لو تكبدت هذا العناء لأجل نفسها! حينها فقط لم تكن لتشعر سوى بالسعادة والفرحة العارمة؛ لكن يبدو أن الحظ قد خاصمها ليتركها تعاني من تعليم محدود، وجمال منقوص. استفاقت من شرودها اللحظي لتستدير ناظرة إلى والدتها عندما سألتها وهي تعقد طرفي منديل رأسها:
-أختك جت يا "دوسة"؟
لفظت دفعة من الهواء من رئتيها قبل أن تجاوبها:
-لسه يامه.
سألتها مرة ثانية وهي تدنو منها:
-طيب وضبتي الصالة، وغيرتي كِسوة الكنب؟
هزت رأسها عندما أجابتها موضحة ما أنجزته:
-أه يامه، ومسحت البَسطة، وخليتها زي الفل.
استحسنت "عقيلة" ما بذلته ابنتها من جهدٍ فأثنت عليها بابتسامةٍ راضية:
-تسلمي يا ضنايا...
ثم ربتت على كتفها قائلة:
-نتعبلك نهار فرحتنا بيكي.
هتفت من فورها في رجاءٍ كبير:
-يا رب أمين...
ما لبث أن غلف صوتها لمحة من التشاؤم وهي تختتم جملتها:
-ولو إنه مش باين.
أكدت عليها أمها مبتسمة:
-يا بت ماتستعجليش، بكرة نصيبك يدق الباب عليكي.
ردت بلا اقتناعٍ:
-إن شاء الله.
تأملت "عقيلة" بعينيها الزرقاوين نظرات الحزن التي ملأت حدقتيها، فابنتها كانت قليلة الحظ فيما يخص شئون الخطبة والزواج، على عكس شقيقتها التي لا يكف الجميع عن طلب التقدم إليها. فالأولى كانت تملك من مفاتيح الجمال مقدرًا محدودًا، وكأن الشقاء قد ترك بصمته على وجهها، والثانية دلالها وتدللها أعطاها الأفضلية عنها في كل شيء. تجاوزتها لتقوم بطي الثياب المتكومة وهي تأمرها:
-ماتنسيش تطلعي طقم الشربات الجديد وتغسليه كويس.
ردت عليها "فردوس" وهي تحمل دلو الماء والخرقة:
-مش ناسية.
امتلأت نفسها بقدرٍ من الكمدِ وهي تسير عائدة للداخل، آملة أن يأتي اليوم الذي تشهد فيه ابتهاجها بقدوم أحدهم خصيصًا لأجلها.
...............................................
احتشد الحضور في هذه القاعة الفسيحة، كل مجموعة مُلتفة حول مائدة بعينها، وغالبية نظراتهم المهتمة ترتكز على الضيف الذي يطرح أهم نقاط محاضرته الطبية. في مؤخرة القاعة، وبعيدًا عن الصخب والضوضاء، جلس منفردًا يفرغ الماء البارد في كأسه، ابتسم في إعجابٍ وقد التقطت نظراته رفيقه وهو يسير متفاخرًا متباهيًا، يصافح البعض، ويلوح بيده للبعض الآخر، متجاهلًا المحاضر الذي يكد للفت الأنظار والحوز على كامل الانتباه، بدا وكأنه امتلك زمام السلطة هنا، ولما لا؟ فهو من أكثر الحاضرين نفوذًا وقوة.
توقف "ممدوح" عن مطالعته حينما انضم إليه جالسًا بجواره، اعتلى زاوية فمه ابتسامة صغيرة وهو يستطرد:
-أنا متخيلتش إنك هتحضر المؤتمر النهاردة بعد سهراية إمبارح.
ضحك "مهاب" عاليًا قبل أن يتكلم من بين ضحكاته الرنانة:
-وأفوت التكريم؟ تعرف عني كده؟
انتظر حينًا إلى أن خَبت ضحكته، وأخبره بشيءٍ من الحقد:
-لأ طبعًا، "مهاب الجندي" دايمًا موجود تحت الأضواء.
بزهوٍ يليق به قال:
-بالظبط.
شكَّل "ممدوح" بإصبعه دوائرًا متتالية على سطح الطاولة وهو يضيف:
-طول عمرك محظوظ، سواء في العلم أو في الحب.
رمقه "مهاب" بهذه النظرة المتفاخرة قبل أن يعلق بثقة:
-الطب مافيهوش حظ، في إنك نابغة، وفاهم بتعمل إيه أو لأ.
هز رأسه متفهمًا، ليرد بعدها مبتسمًا ابتسامة باردة:
-مظبوط، ونابغة مع عيلة ليها وزنها يعملوا أسطورة.
مط فمه في إعجاب، وأخبره بانتشاءٍ:
-برافو .. وصف يليق بيا.
تجاوز عن لمحة الغرور الظاهرة في صوته، وأراح ظهره للخلف سائلًا:
-قولي مسافر إمتى؟
أجاب رفيقه بعد أن فرقع بإصبعيه ليستدعي أحد الندلاء:
-طيارتي بالليل.
أومأ "ممدوح" برأسه مرددًا:
-كويس.
أعطى "مهاب" للنادل أوامره، ثم وجه سؤاله للجالس بجواره:
-هتحصلني؟
مط فمه دون أن ينطق بشيء، فتساءل:
سأله بإلحاحٍ طفيف:
-لسه بتفكر ولا إيه؟ احنا خلاص اتكلمنا في الموضوع ده.
علق مُبديًا أسبابه:
-إنت عارف الظروف عندي ماتسمحش بتكاليف وأعباء جديد، يدوب أرجع القاهرة وأركز هناك.
مد "مهاب" يده ليربت على جانب ذراعه، وأكد له بلمحةٍ من الغرور:
-ماتقلقش طول ما أنا موجود.
ما كان من رفيقه إلا أن ابتسم بفتورٍ، فشدد مرة ثانية عليه:
-بتكلم بجد يا "ممدوح"، أنا عاوزك معايا...
تطلع إليه بحاجبين معقودين، فتابع "مهاب" كلامه إليه واضعًا هذه البسمة الواثقة على محياه:
-وهظبطك في منصب محترم ينقلك في حتة تانية خالص.
فكر "ممدوح" مليًا فيما قاله، وعلق ساخرًا:
-طبعًا واسطة عيلة الجندي تفتح أي باب مقفول سواء برا أو جوا.
ضحك "مهاب" على ما اعتبرها طرفة، وقال:
-ما هي دي المصالح العُليا.
..............................................
بالنسبة لها مر الوقت بطيئًا محملًا بالمشاق والتعب، فما إن تنتهي من إنجاز شيء حتى تنتقل لآخر، وهي بالكاد تحاول البحث عن قليل من الراحة وسط كم المهام التي ألقيت فوق كتفيها. ارتمت "فردوس" على الأريكة الملاصقة لفراشها وهي تدعك بكفيها ركبتيها المتألمتين، تأملت الشقوق التي انتشرت بباطن كفيها وهي تفكر في وضع قدرًا من مادة (الفازلين) الطبية لتحصل على ملمس ناعم يغطي على خشونة جلدها، حولت نظرها نحو والدتها التي تساءلت في صوتٍ شبه قلق، وعيناها تنظران بإمعان للطريق من نافذة الشباك المواربة:
-هي الساعة يجيلها كام دلوقتي؟
اتجهت "فردوس" ببصرها نحو ساعة الحائط، وقالت بعد لحظةٍ من الصمت:
-داخلة على تلاتة.
ابتعدت "عقيلة" عن النافذة، وضربت كفها بالآخر قبل أن تضعهما أعلى صدرها لتردد في انزعاجٍ:
-كده أختك اتأخرت، أنا قولتلها ماتروحش الشغل النهاردة، بردك هي ركبت دماغها ونزلت، والجماعة قالوا هايجوا بعد المغرب.
راحت "فردوس" تدلك كفها بيدها وهي تخبرها:
-ما إنتي عارفها يامه، اللي بتصمم عليه بتعمله.
زمت شفتيها مغمغمة في يأسٍ:
-طول عمرها عنادية.
سمعت كلتاهما صوت المفتاح وهو يدور في قفل الباب، أعقبه بلحظاتٍ غلقه، لتردد بعدها "فردوس" في حماسٍ وهي تنهض من موضع جلوسها:
-الحمدلله أهي جت.
سرعان ما انتقلت نحو الخارج لتخاطب شقيقتها في تلهفٍ:
-يالا يا "تهاني"، روحي غيري هدومك أوام كده واتوضبي.
بعد زفيرٍ مهموم عقبت في نوعٍ من العتاب:
-مافيش سلام عليكم الأول.
ردت عليها بنفس اللهجة المتوهجة حماسًا:
-وعليكم السلام، مافيش وقت، عاوزين نلحق.
رمقتها بنظرة حادة قبل أن تقول ببرودٍ غريب:
-الدنيا مش هتطير.
اندهشت "فردوس" من حالة الجفاء المسيطرة عليها، وهتفت تخبرها:
-إنتي مش واخدة بالك إنك جاية متأخر، ويدوب عقبال ما تجهزي وآ...
قاطعها قائلة بما صدمها:
-وأنا مش عاوزة أقابل حد.
شهقت مرددة بعينين ذاهلتين:
-إيه الكلام ده؟
أجابتها مؤكدة بثباتٍ عجيب:
-زي ما سمعتي، أنا أصلًا مش موافقة على الخطوبة دي.
خرجت والدتها لتلقاها عند عتبة الغرفة، وهتفت في استهجانٍ أشد، ويدها تلطم على صدرها:
-يادي الكسوف! بعد ما إدينا للناس كلمة؟!!
بأسلوبٍ يشوبه العنجهية تكلمت:
-إنتي اللي اتفقتي معاهم مش أنا يامه...
ثم التوى ثغرها بنوعٍ من التهكم وهي تتابع:
-وبعدين ده "شفيق" النقاش، مش حد من الأكابر يعني.
صاحت بها "عقيلة" بصوتٍ حانق، ووجهها قد اشتعل غضبًا:
-نقاش، ميكانيكي، إنتي عاوزة تصغري أمك قصادهم؟
بنفس الطريقة المتعجرفة ردت:
-أنا من الأول قولت مش موافقة، ومحدش راضي يسمعني.
اغتاظت والدتها من برودها المستفز، فتقدمت ناحيتها لتلكزها في كتفها وهي تنهرها:
-ما تعيشي عيشة أهلك، وكفاية أنعرة كدابة!
تأوهت "تهاني" من الألم، ونظرت إلى أمها بضيقٍ قبل أن تهدر منفعلة:
-هو إيه الحلو في إني أتجوز "شفيق" النقاش؟
ظلت ملامح والدتها تسود، وهي تزيد من هجومها المشبع بعبارات الإهانة:
-إنتي مش شايفة بنتك دكتورة تحاليل أد الدنيا، يعني أقل حد أخده لازم يكون نفس مستوايا التعليمي، مش واحد جاهل، ريحته جاز وتِنر.
أتى رد "فردوس" ساذجًا إلى حدٍ ما:
-ما هو بيستحمى.
اشتاطت شقيقتها من سطحية تفكيرها، وردت بصلابةٍ:
-الله يكرمك بلاش إنتي تتكلمي.
خاطبتها في دهشةٍ:
-هو أنا قولت حاجة غلط؟ ما هو راجل ملو هدومه، وكل بنات الحتة تتمناه.
لم تعلق "عقيلة" بشيء على حوارهما، فواصلت "تهاني" الصياح الحاد ملوحة بذراعها في الهواء:
-إنتو عاوزيني أقضي اللي جاي من حياتي أكح تراب؟!!!
أمسكت بها والدتها من ذراعها تضغط عليه بقبضتها وهي تسألها في نبرة لائمة:
-أختك معاها حق، ماله "شفيق" النقاش؟ مش بيشتغل وبيكسب بالحلال؟
نفضت يدها عنها وهي تجيبها:
-أيوه، بس مش من مقامي ولا ينفعني من الأساس، أنا مش زي "فردوس".
قالت جملتها الأخيرة ونظراتها مسلطة على شقيقتها التي غرق وجهها في الحزن، ابتلعت غصة مريرة في حلقها، وسألتها بعتابٍ:
-قصدك إني قليلة يا "تهاني"؟ إكمني مكملتش تعليم وماليش في العلام زيك، ومخي على أده.
وكأنها لم توجه إليها إهانة متعمدة، تجاوزت عنها "تهاني" وتكلمت بنبرة معاندة للغاية:
-كل واحد عارف مصلحته إزاي، وأنا مش هضيع مستقبلي عشان نقاش متخلف!!
إساءة تلو أخرى جعلت صدور الجميع تحتقن وتفيض ضيقًا، مرة أخرى أمسكت "عقيلة" برسغ ابنتها جذبتها منه بقسوةٍ، وأخبرتها بلهجة حازمة:
-بصي يا بت بطني، إنتي مش هاتيجي على آخر الزمن وتطلعيني قليلة قصاد الناس، إنتي هتقابليهم والجزمة فوق رقبتك، سامعة؟
شعرت بيدها تعتصرها بقوةٍ، فضمت شفتيها مانعة نفسها من الصراخ آلمًا، ووالدتها لا تزال تشدد عليها بتهديدٍ صريح:
-وإن كنتي فاكرة إنك كبرتي على التربية تبقي غلطانة! أنا لسه بصحتي وأقدر أعدل المعوج فيكي يا "تهاني".
ثم دفعتها للأمام هاتفة في حدةٍ:
-ويالا انجزي في يومك ده.
تجمدت "تهاني" في مكانها، تناظر أمها بعينين مشتعلتين، وبشرتها كذلك تشع وهجًا غاضبًا، أسرعت إليها "فردوس" لتضمها من كتفيها، وسحبتها نحو الداخل وهي تحاول تهوين ما لاقته من تعنيفٍ مختلط بالإهانة:
-تعالي ياختي متزعليش.
...........................................
كالقطار الجامح الخارج عن قضبانه، اندفعت "تهاني" نحو غرفتها، ثم نزعت بلوزتها عنها، وكورتها في عصبية، لتقوم بإلقائها أرضًا وهي تبرطم بعبارات ساخطة ناقمة تعبر عن حنقها. تبعتها "فردوس" وانحنت تلم ما بعثرته من ثياب، ثم وضعتهم على الأريكة لتعاود التحديق في وجه شقيقتها وهي تستطرد سائلة إياها بانفعالٍ:
-شايفة اللي أمك بتعمله معايا؟
زمت "فردوس" شفتيها، وغمغمت في يأسٍ:
-يا ريت كان عندي نص حظك، ولا حتى يتقدملي أي حد، كنت هوافق على طول.
انتشلت "تهاني" قميصها المنزلي من على المشجب لترتديه، وردت عليها بغطرسةٍ:
-ده الفرق اللي بيني وبينك، إنتي باصة دايمًا تحت رجلك، وملهوفة على أي حد والسلام، إن شاء الله يكون جربوع!!
بالكاد ابتلعت غصة مريرة اجتاحت حلقها، وردت بكبرياءٍ جريح:
-مش أحسن ما أبص لفوق ويطلع في الآخر نقبي على شونة.
التوى ثغرها ببسمة تهكمية، وأضافت وهي تمشط شعرها في عجالةٍ:
-هيفضل تفكيرك على أده يا "فردوس"، عمرك ما هتفهميني.
اتجهت شقيقتها نحو الدولاب، فتحت ضلفته، وتأملت المحدود من الأثواب المعلقة فيه، انتقت اثنين كانا إلى حدٍ ما مقبولان الشكل، ثم سألتها في اهتمامٍ مناقض لما افترض أن تشعر به من ضيق:
-ها مقولتيش، هتلبسي أنهو فستان؟
نظرت لها "تهاني" في ذهول مستنكر، فارغة لفاهها قليلًا قبل أن تجيبها بغير مبالاة:
-مش فارقة، طالما هو مرفوض من الأساس!
..................................................
في الموعد المتفق عليه، بعد آذان المغرب بوقتٍ قصير، كان الضيوف يحتلون الأرائك في الصالة المتواضعة بالمنزل، وأمامهم أكواب الشربات، وأطباق الحلوى منزلية الصنع. بدت "عقيلة" في أوج ابتهاجها وهي تطرح طرف حجابها الأبيض الجديد على كتفها، التفتت ناظرة إلى والدة العريس بنظرات مشرقة متفائلة، رسمت هذه الابتسامة المسرورة على محياها، واستطردت متكلمة:
-والله البيت نور بوجودكم فيه النهاردة.
بادر "شفيق" بالرد مبتسمًا ابتسامة عريضة:
-تسلمي يا ست الناس، ده احنا اللي زدنا شرفنا بقعدتنا معاكو.
دعت له في لطافةٍ:
-كلك ذوقك يا ابني.
تساءلت والدته في نوعٍ من الحيرة:
-أومال فين أبلة الدكتورة؟
أطلقت "عقيلة" ضحكة صغيرة، قبل أن تتبعها موضحة:
-بتحط أحمر وأخضر، ما إنتو عارفين، البنات تحب تبقى على سِنجة عشرة.
شاركها الضحك، وعلق في انتشاءٍ مختلط بالحماس:
-هي تستاهل تتدلع.
ردت عليه "عقيلة" برضا معكوس على ملامحها:
-يخليك يا ابني، ابن أصول طول عمرك، ولسانك زي الشهد.
تأهب في جلسته، وأكمل بنفس النهج المتحمس:
-وأنا مش هحوش عنها حاجة، كافة طلباتها مُجابة إن شاء الله.
استحسنت ما يبديه من جدية لإثبات حُسن نواياه، فعقبت:
-أد القول يا "شفيق"، عن إذنكم بس لحظة، إنتو مش غرب...
ثم استدارت محدقة في ابنتها قائلة بابتسامة شبه متكلفة:
-تعالي يا "دوسة" معايا.
نهضت في التو من موضع جلوسها، وتبعت والدتها مرددة في انصياعٍ واضح:
-حاضر يامه.
تحركت "فردوس" خلفها إلى وقفت بجوار والدتها بعيدًا عن الضيوف قليلًا، فأخبرتها الأخيرة بتعابيرٍ مزعوجة، وقد حل الضيق كذلك على نظراتها:
-استعجلي أختك، مايصحش اللي هي عملاه ده.
هزت رأسها متمتمة وهي تسرع الخطى:
-طيب.
ظلت "عقيلة" باقية في مكانها للحظة، إلى أن اختفت عن أنظارها، فعاودت أدراجها للصالة، وواصلت الحديث الودود مع ضيوفها، ريثما تنضم إليهم ابنتها المتدللة.
......................................
هرولت "فردوس" لداخل الحجرة، لتجد شقيقتها تجلس باسترخاء على السرير، وكأن شأن من بالخارج لا يعنيها كليًا، تأملتها مدهوشة لهنيهةٍ، لتقوم بعدها بالاقتراب منها، وتهتف في إنكار عجيب:
-الناس أعدين برا مستنينك، وإنتي مريحة كده؟!!
رمقتها بنظرة فاترة، باردة، لا تلقي بالًا لصوتها القلق، بقيت على استرخائها الهادئ و"فردوس" لا تزال تصيح بها في توترٍ متصاعد:
-يا "تهاني" أنا بكلمك، بقولك العريس برا هو وأهله...
سألتها بإيماءة من رأسها:
-وإيه يعني؟
أجابت على سؤالها بآخر مغلف بالدهشة:
-مش هتطلعي تقابليهم؟
وسدت ذراعها خلف رأسها المستريحة على الوسادة، وجاوبتها بعد تنهيدة متململة:
-أنا قولتلكم رأيي من بدري، أنا مش موافقة على العك ده.
لطمت "فردوس" على صدرها، وشهقت صائحة:
-أمك هتروح فيها لو ماطلعتيش دلوقتي.
استلقت "تهاني" على جانبها، وقالت بعدم اكتراثٍ مستفز:
-وأنا مش هعمل حاجة غصب عني.
خاطبتها بلين الكلام علها تقتنع وتتخلى عن عنادها الأحمق:
-محدش بيغصبك على حاجة، بس الناس في بيتنا، ودي وحشة في حقنا، هنتفضح.
جاء ردها على نفس القدر من عدم المبالاة:
-مش فارق معايا.
كشحوب الموتى بدا وجه "فردوس" هكذا بعدما أدلت بدلوها في هذه المسألة الحرجة، لذا دون تفكيرٍ انحنت عليها ترجوها بنبرة متوسلة للغاية:
-يا "تهاني" الله يرضى عليكي، اطلعي اقعدي شوية لحد ما يمشوا، وبعد كده يحلها ألف حلال.
ضجرت "تهاني" من إلحاحها السقيم، وصاحت بصبرٍ نافذ وهي ترفع رأسها عن الوسادة:
-أوف، ماشي، بس ماتزعلوش من اللي هيحصل بعد كده!
...........................................
بعد عشر دقائق من التلكؤ والمماطلة، خرجت "تهاني" أخيرًا من الغرفة وهي بالكاد تبتسم، لم تضع في وجهها إلا قدرًا معقولًا من مساحيق التجميل، ولم تترك شعرها منسابًا، بل جمعته كعكة، واكتفت بارتداء أحد أثواب عملها الرسمية. ترفعت في الرد على ضيوف والدتها، ومنحتهم المقتضب من الكلام بعدما جلست مجاورة لعريسها المرتقب، تطالعه بنظراتٍ دونية، غير راضية. ظنت "عقيلة" أن الزيارة ستمضي على ما يرام إلى أن وجهت ابنتها سؤالها لـ "شفيق" بتحفزٍ غامض:
-وإنت جايب الشقة بتاعتك فين بقى؟
تلجلج وهو يخبرها بشكلٍ ملحوظ:
-احنا في الأول هنسكن في أوضة هنا آ...
صدمها بردها الهادم لكل أحلامها المبنية على عيشة الرغد والرفاهية، لهذا قاطعته فجأة بنبرة حادة جعلت الجميع يتوقعون الأسوأ:
-أوضة!!
انتابه المزيد من التوتر، فابتلع ريقه، ولعق شفتيه سريعًا قبل أن يخبرها بصوتٍ ما زال مذبدبًا من رهبته:
-ما أنا ماسك مقاولة في عمارة جديدة، وصاحب العمارة واعدني هاخد شقة لما العمارة تتشطب.
كتفت ساعديها أمام صدرها، ووضعت ساقًا فوق الأخرى وهي تسأله بصيغة تهكمية:
-والمفروض أنا أسكن فين لحد ما تخلصها؟
أخرج "شفيق" منديلًا قماشيًا من جيب بنطاله، جفف به عرقه المتجمع عند جبينه، وأجاب وهو يرفرف بجفنيه:
-ما أنا بقول هناخد حاجة محندقة كده لحد ما ربنا يعدلها.
سددت له "تهاني" هذه النظرة المخيفة، فما كان منه إلا أن اقترح بنزقٍ:
-ولو عاوزة نسكن مع أمي فهي معندهاش مانع...
ثم التفت تجاه والدته يستأذنها:
-مش كده يامه؟
أومأت برأسها وهي تؤكد له:
-وماله، البيت واسع، ويساع من الحبايب ألف.
أتى تعقيب "تهاني" جافيًا قاسيًا، وهي تحدج كليهما بنظرات نارية متعالية:
-أنا ما بسكنش مع حد!!!
سرعان ما تراجع "شفيق" عن اقتراحه، وقال متمسكًا بأمله المعقود عليها في الظفر بها كزوجة مناسبة:
-يبقى نشوف حاجة على أدنا، وده وضع مؤقت زي ما قولت.
انتقلت "تهاني" لسؤالها التالي بوجهٍ مشدود:
-وافرض الوضع ماتعدلش معاك؟ هتتصرف إزاي؟
ألقى نظرة سريعة تجاه والدته، وعاود التطلع إليها وهو يجاوبها:
-الحمدلله أنا راجل كسيب والقرش بيجري في إيدي.
هنا جاء تعليقها متعاليًا، وبه شيء من الإهانة إليه:
-بس إنت شايف إنك مناسب ليا؟
أحس بانتقاص قدره من كلامها الموحي، وسألها مباشرة ليتأكد من ظنونه:
-مش فاهم عدم اللامؤاخذة!
أوضحت له ببساطة:
-يعني أنا دكتورة وشغالة في الجامعة، وإنت...
ثم أعطته هذه النظرة الاحتقارية قبل أن تختتم جملتها:
-نقاش!
عندئذ تكفلت والدته بالرد عليها بعصبية ظاهرة في صوتها:
-الراجل مايعبوش إلا جيبه.
التفتت تنظر إليها بغرورٍ وهي تكلمها:
-ده بمفهوم زمان، لكن دلوقتي الوضع اتغير، في معايير تانية لاختيار الزوج...
ثم حولت ناظريها نحو "شفيق" متابعة:
-وأظنك ماتقدرش توصلها.
هبت والدته واقفة وهي توجه عتابها لصاحبة البيت:
-هو احنا جايين نتهزق هنا؟ ما تقولي حاجة يا ست "عقيلة".
نهضت هي الأخرى بدورها، وصاحت في ابنتها:
-جرى إيه يا "تهاني"؟ بالراحة شوية! مش كده.
ببطءٍ مغيظ قامت "تهاني" من مقعدها لترد ببرود جعل الجميع يستشيط غضبًا:
-أنا بحط النقط على الحروف، وأظن ده من حقي، زي ما هو اتفرج ونقى واختار العروسة المناسبة ليه، أنا كمان من حقي أشوف العريس اللي يليق بيا.
خرجت والدة العريس عن طور هدوئها لتهدر في ابنها بحنقٍ مبرر:
-قولتلك من الأول دي شايفة نفسها وماتنفعكش.
وجه نظرة نارية نحو "تهاني" قبل أن يومئ برأسه هاتفًا وهو يهم بالرحيل:
-الظاهر كان معاكي حق، بينا يامه.
ضربت "عقيلة" كفها بالآخر وهي تردد بتحسرٍ بائن على كامل ملامحها:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، هاقول إيه بس.
ما إن خرج "شفيق" من المنزل حتى صفق الباب خلفه بقوةٍ لترتج أركان المنزل، لامتها "فردوس" في التو بعبوسٍ متجهم:
-عاجبك كده؟
جلست بأريحية في مكانها، وعلقت باسمة بزهوٍ:
-الباب اللي يودي.
كادت مقلتاها تبرزان وهي تزيد من عتابها لتشعرها بفداحة خطئها:
-ده عريس لقطة، صعب يتعوض!!
قوست شفتيها مغمغمة في هدوءٍ بارد:
-اتجوزيه إنتي.
بحزنٍ بدأ يحتل تعابيرها جلست "فردوس" على الأريكة، وقالت بألمٍ:
-يا ريته كان جاي عشاني، بس كل اللي بيجي هنا البيت عايزك.
تطلعت شقيقتها ناحيتها في استعلاءٍ قبل أن تخبرها:
-وأنا مش هرضى بأقل من اللي أستحقه!
رمقتها "فردوس" بنظرة يائسة ما لبث أن تحولت للقهر حين أتمت جملتها:
-الرخيص ما يرضاش إلا بالرخيص.
حاولت لملمة ما تبعثر من كرامتها، فنهضت من مجلسها وردت بنبرة جريحة:
-خليكي إنتي بصة كده للعلالي لحد ما تقعي على جدور رقبتك تتكسر، وساعتها مش هتلاقي غير الرخيص يداويكي.
تركتها بمفردها وابتعدت وهي تذرف الدموع الحارقة من عينيها، تأملتها والدتها بنظرة متعاطفة قبل أن تتجه إلى ابنتها الناقمة، وقفت قبالتها، وشملتها بنظرة غاضبة لتستطرد بعدها:
-أنا مش عارفة أقولك إيه على الفضايح دي؟!!
حافظت "تهاني" على ثبات بسمتها الصغيرة حين ردت وهي تقوم واقفة:
-ولا فضايح ولا حاجة، ده عرض وطلب، وطلبه مرفوض!
لوحت "عقيلة" بيدها في الهواء مكملة بنفس الصوت الغاضب:
-أنا غلبت معاكي، ومعنتش هتحشرلك في حاجة.
ردت عليها بهدوءٍ:
-يا ريت، وعمومًا هي كلها فترة صغيرة وأسيب لكم الدنيا وأمشي.
تفاجأت بعزمها على السفر بعيدًا، فاحتدت نظراتها إليها وهي تسألها:
-كمان؟ إنتي برضوه مصممة على كده؟
أجابت مؤكدة بتصميمٍ أظهر عدم تراجعها مطلقًا:
-ده مستقبلي ومش هضيعه!
بدأت أنفاس "عقيلة" تضطرب، وسألتها في انفعالٍ مستنكر:
-تقومي تتغربي لوحدك في بلد الله أعلم هيحصلك فيها إيه وإنتي مش معاكي حد؟!!
بعجرفةٍ ما زالت تسود فيها ردت:
-أنا مش صغيرة، وعارفة كويس مصلحتي فين ومع مين...
ثم ركزت بصرها عليها لتتابع دون أن يرف لها طرف:
-ومش هسمح لحد يمنعني أو يقف في طريق أحلامي.
بدا ما تفصح عنه كالنكبات التي تُحدث المزيد من التصدعات في علاقتها الأمومية بها، وكأن الفجوة بينهما تزداد اتساعًا. تنهدت بعمقٍ، وسألتها في صوتٍ شبه لائم:
-هتبعدي عن أمك؟
لم تعلق بشيء مما أوغر صدرها وجعله يمتلأ بالكمد والألم، نظرت لها شزرًا ورددت وهي تغادر من أمامها:
-يا ألف خسارة عليكي، روحي الله يهديكي لحالك.
رغم شعور الضيق الذي اجتاحها لحظتها، إلا أنها تغلبت على مشاعر الضعف هذه، وهتفت مع نفسها بإصرارٍ معاند:
-بكرة يعرفوا قيمتك.
..........................................................
وهل في الهروب كل الحلول؟ أم أنها البداية للابتعاد وإن عنى ذلك السقوط في جحيم المجهول؟ لم تظن أن الوقت سيمضي بها سريعًا، لتصل إلى لحظتها المنشودة، حيث أصبحت تتواجد في صالة المغادرة بالمطار، استعدادًا لإكمال باقي الإجراءات الخاصة بسفرها للخارج. وقفت "تهاني" إلى جوارها رفيقتها تتفقد الأوراق التي بحوزتها لتتأكد من عدم نسيانها لشيء، ألقت بعدئذ نظرة سريعة على الحقيبة الجديدة –والتي قد ابتاعتها لتضع فيها ثيابها الجيدة لتمنحها مظهرًا مهندمًا بعدما تخلصت من القديم وغير الملائم- وتممت على غلق السحاب بها.
استقامت وافقة، وزفرت دفعة من الهواء وهي تبتسم بنشوة عارمة، عادت لتنظر ملء عينيها لرفيقتها، وخاطبتها في سعادة أكبر:
-ياه، أنا مش مصدقة إن اللحظة دي جت.
منحتها "نهاد" نظرة داعمة، فأكمل حديثها المتحمس إليها وداخلها يقفز طربًا:
-كنت قربت أفقد الأمل، معقول الحلم بقى حقيقة؟
أشارت بيدها مؤكدة:
-بصي حواليكي، إنتي النهاردة هنا في المطار، وكلها شوية وتبقي برا البلد خالص.
استنشقت الهواء بعمقٍ، وردت:
-مظبوط.
تلفتت "نهاد" حولها بنظراتٍ حائرة، قبل أن تثبت عينيها عليها لتسألها:
-بس هو محدش جه معاكي يودعك؟
وقتئذ ارتبكت "تهاني" قليلًا، وحمحمت مرددة بإيجازٍ غامض:
-لأ...
نظرت إليها بتعجبٍ أكبر يشوبه الاستفهام، لذا حفظًا لماء الوجه رسمت بسمة زائفة على محياها، وتكلمت:
-أنا أصلًا مابحبش لحظات الوداع دي، وصممت أجي لوحدي.
هزت رأسها بتفهمٍ بالرغم من عدم اقتناعها بتبريرها الواهي، مالت ناحيتها تحتضنها وهي توصيها:
-خدي بالك من نفسك يا "تهاني"، وابعتيلي أول بأول عشان أطمن عليكي.
تراجعت عنها قائلة:
-حاضر.
ثم مدت يدها لتمسك بحامل الحقيبة، وأضافت:
-الوقت أزف، يدوب ألحق أخلص الإجراءات قبل ما أطلع الطيارة.
ربتت على ذراعها هاتفة وهي تهز رأسها خفيفًا:
-ماشي يا حبيبتي، أشوف وشك بخير.
لوحت لها "تهاني" بيدها، لتتابع المسير نحو البوابة الزجاجية، وعيناها تتحرقان شوقًا لما اعتبرته مستقبلها المشرق، أخذت تردد في طيات نفسها وهي تنخرط بين جموع المسافرين المتجمعين عند أماكن مراجعة الأوراق:
-الحياة أكيد هتضحكلك، إنتي تستحقي ده، كفاية فقر بقى وضنك ............................................ !!
(نقطة البداية)
زفرت بتأففٍ وأصوات الهمهمات المتداخلة تحاصرها من كل جانب، فحال ذلك دون حصولها على القدر الكافي من التركيز لإتمام عملها العالق. شملت من حولها بنظرة منزعجة، قبل أن تزفر من جديد واليأس مستبد بها. لم يكن هناك أدنى بد من محاولة الاندماج مع ما يحيط بها، لذا سدت "نهاد" أذنها اليسرى بيدها، وواصلت تبديل الشرائح الصغيرة بعد تدوين ملحوظاتٍ صغيرة مقتضبة.
مضت عليها بضعة دقائق وهي على نفس الحال، قبل أن ترفع نظراتها المدققة عن الميكروسكوب الموضوع على المنضدة المعدنية أمامها، بمجرد أن سمعت وقع أقدامٍ تقترب منها، عندئذ نهضت واقفة من على كرسيها الخشبي، وتحركت من موضعها تجاه رفيقتها التي قد عادت لتوها من الخارج. رمقتها بنظرة ضيقة تعكس انزعاجها قبل أن تستطرد معاتبة:
-كل ده يا "تهاني"؟ إنتي اتأخرتي جدًا.
تأملت البلاط الأبيض الباهت المغلف لجدران المعمل، وما يعلوه من سقفٍ تشقق معظم طلائه باشمئزازٍ، ثم أخبرتها:
-ما الدنيا زحمة، والإجراءات صعبة، يدوب عقبال ما خلصت.
جذبتها من ذراعها نحو منضدة عملها، وسألتها بصوتٍ خافت نسبيًا:
-برضوه مصممة على اللي في دماغك؟
لم تبدُ "تهاني" مكترثة بمن حولها وهي تؤكد عليها:
-أه طبعًا، المستقبل عمره ما هيكون هنا، بين الأربع حيطان دول.
ظلت "نهاد" على حيطتها وهي تسألها باستنكارٍ محسوسٍ في نبرتها:
-ليه بتقولي كده؟ بالعكس مع الوقت هيتحسن الوضع، وفرصتك آ...
قاطعتها قبل أن تتم جملتها هاتفة في تحفزٍ:
-فرصتي هتضيع مني لو معملتش كده.
تقلصت المسافة ما بين حاجبي رفيقتها وهي تسألها مستفهمة:
-وإنتي تضمني منين إنك تنجحي برا؟
غامت ملامح وجه "تهاني" بشكلٍ ملحوظ، وانعكس الضيق على نظراتها إليها، حاولت صديقتها تلطيف ما نطق به لسانها بترديدها:
-أنا مش قصدي أزعلك، بس احنا فاهمين كويس اللي هيحصل، إنتي بطلوع الروح اسمك اتحط وسط اللي رايحين البعثة.
رفعت "تهاني" يدها لتسوي ما نفر من مقدمة شعرها المعقود كذيل حصانٍ، وعلقت في استياءٍ ظاهر على صوتها:
-أيوه، بس في الآخر عرفت أجيب حقي.
استغلت "نهاد" تلك النقطة لتوضح لها بمنطقيةٍ:
-تفتكري هما هيسبوكي لما تنفذي اللي في دماغك؟
قبل أن تفكر في الرد أجابت عنها:
-ماظنش يا "تهاني".
احتفظت الأخيرة بصمتها، بينما رفيقتها ما تزال تخبرها بجديةٍ:
-أنا من رأيي تعيدي التفكير تاني، إنتي مش ناقصة مشاكل ولا وجع قلب.
ردت عليها بعنادٍ:
-مش هايقدروا يعملولي حاجة.
خفضت "نهاد" من نبرتها عندما تحدثت:
-أنا وإنتي فاهمين كويس إنك واخدة البعثة حجة عشان تهربي برا البلد، وتشوفي مستقبلك، بس صعب تعملي ده لوحدك في بلد غريبة مالكيش فيها لا ضهر ولا سند، هتتعاملي هناك إزاي؟
أخبرتها عن ثقة عجيبة:
-ماتستقليش بيا، أنا قادرة أصرف أموري.
لم تستطع إثنائها عن رأيها، فلجأت لوسيلة أخرى، ربما تجدي نفعًا معها، حانت منها التفافة سريعة للخلف برأسها، سلطت فيها ناظريها على أحدهم، ثم عاودت التحديق في وجه رفيقتها، وأخبرتها بنبرة ذات مغزى:
-طب ودكتور "أمين"؟
تلقائيًا تحولت أنظار "تهاني" نحو ذلك الشاب الجالس بالخلف، والمشغول بإجراء بعض التجارب، ابتسم في عفوية بمجرد أن رأى نظراتها متجهة إليه؛ لكنها لم تبادله سوى الوجوم والتجهم، بتكاسلٍ وتأفف تساءلت وهي تشيح بوجهها بعيدًا:
-ماله؟
برزت ابتسامتها الماكرة على شفتيها وهي توضح لها بغموضٍ قليل:
-إنتي فاهمة كويس، هو عينه عليكي من زمان، ونفسه تديله فرصة.
نقرت بأصابعها على سطح المنضدة، قبل أن تسألها بملامح اكتسبت جدية صريحة:
-وبعدين؟
جاء ردها مباشرًا:
-أكيد هيطلب إيدك، وتتجوزوا.
سحبت "تهاني" نفسًا عميقًا، ثم لفظته على مهلٍ، وتكلمت في صوتٍ جاد رغم هدوئه:
-بصي يا "نهاد" خلينا نتكلم بالعقل، مرتبي على مرتبه عمرهم ما هيخلونا نعيش عيشة مرتاحة.
اندهشت من عقلانيتها الزائدة عن الحد، وعقبت:
-بس هو بيحبك، وبيقدرك.
أتى تعليقها صادمًا لها:
-ويعمل إيه الحب وسط الفقر؟!!
افترت شفتاها عن دهشة مستهجنة، فما كان من "تهاني" إلا أن أوضحت لها بمرارة استشعرتها في صوتها شبه المختنق:
-إنتي ماتعرفيش أنا عايشة إزاي، وحاربت أد إيه عشان أوصل للمكانة دي، وسط ناس جهلة، مش همهم إلا إن الواحدة يداس عليها، وتبقى مالهاش قيمة...
بالكاد حاولت الحفاظ على ثبات صوتها وهي تكمل:
-ومش مستعدية أقضي اللي جاي من عمري وأنا بعافر.
نكست رأسها في أسفٍ، وردت:
-مش عارفة أقولك إيه؟
بقليلٍ من الكبرياء الجريح خاطبتها وهي ترمش بعينيها بسرعةٍ لتطرد ما علق من دموع في أهدابها:
-أدعيلي أخلص أوام وأسافر.
................................................
كومة أخرى من الثياب الجافة انضمت لسابقتها على الطاولة المستديرة، قبل أن تنحني لتفرد السجادة المثنية بعد انتهائها من تجفيف الأرضية بالمبتلة بخرقةٍ قديمة. استقامت "فردوس" واقفة وهي تمسح بظهر كفها العرق المُتَصبب على جبينها، أحست بالإنهاك يتفشى في أطرافها، فمنذ أن طلع النهار وهي تعمل بكد واجتهاد لتنظيف المنزل وإعداده لاستقبال الضيوف القادمين مع غروب الشمس. كم رجت لو تكبدت هذا العناء لأجل نفسها! حينها فقط لم تكن لتشعر سوى بالسعادة والفرحة العارمة؛ لكن يبدو أن الحظ قد خاصمها ليتركها تعاني من تعليم محدود، وجمال منقوص. استفاقت من شرودها اللحظي لتستدير ناظرة إلى والدتها عندما سألتها وهي تعقد طرفي منديل رأسها:
-أختك جت يا "دوسة"؟
لفظت دفعة من الهواء من رئتيها قبل أن تجاوبها:
-لسه يامه.
سألتها مرة ثانية وهي تدنو منها:
-طيب وضبتي الصالة، وغيرتي كِسوة الكنب؟
هزت رأسها عندما أجابتها موضحة ما أنجزته:
-أه يامه، ومسحت البَسطة، وخليتها زي الفل.
استحسنت "عقيلة" ما بذلته ابنتها من جهدٍ فأثنت عليها بابتسامةٍ راضية:
-تسلمي يا ضنايا...
ثم ربتت على كتفها قائلة:
-نتعبلك نهار فرحتنا بيكي.
هتفت من فورها في رجاءٍ كبير:
-يا رب أمين...
ما لبث أن غلف صوتها لمحة من التشاؤم وهي تختتم جملتها:
-ولو إنه مش باين.
أكدت عليها أمها مبتسمة:
-يا بت ماتستعجليش، بكرة نصيبك يدق الباب عليكي.
ردت بلا اقتناعٍ:
-إن شاء الله.
تأملت "عقيلة" بعينيها الزرقاوين نظرات الحزن التي ملأت حدقتيها، فابنتها كانت قليلة الحظ فيما يخص شئون الخطبة والزواج، على عكس شقيقتها التي لا يكف الجميع عن طلب التقدم إليها. فالأولى كانت تملك من مفاتيح الجمال مقدرًا محدودًا، وكأن الشقاء قد ترك بصمته على وجهها، والثانية دلالها وتدللها أعطاها الأفضلية عنها في كل شيء. تجاوزتها لتقوم بطي الثياب المتكومة وهي تأمرها:
-ماتنسيش تطلعي طقم الشربات الجديد وتغسليه كويس.
ردت عليها "فردوس" وهي تحمل دلو الماء والخرقة:
-مش ناسية.
امتلأت نفسها بقدرٍ من الكمدِ وهي تسير عائدة للداخل، آملة أن يأتي اليوم الذي تشهد فيه ابتهاجها بقدوم أحدهم خصيصًا لأجلها.
...............................................
احتشد الحضور في هذه القاعة الفسيحة، كل مجموعة مُلتفة حول مائدة بعينها، وغالبية نظراتهم المهتمة ترتكز على الضيف الذي يطرح أهم نقاط محاضرته الطبية. في مؤخرة القاعة، وبعيدًا عن الصخب والضوضاء، جلس منفردًا يفرغ الماء البارد في كأسه، ابتسم في إعجابٍ وقد التقطت نظراته رفيقه وهو يسير متفاخرًا متباهيًا، يصافح البعض، ويلوح بيده للبعض الآخر، متجاهلًا المحاضر الذي يكد للفت الأنظار والحوز على كامل الانتباه، بدا وكأنه امتلك زمام السلطة هنا، ولما لا؟ فهو من أكثر الحاضرين نفوذًا وقوة.
توقف "ممدوح" عن مطالعته حينما انضم إليه جالسًا بجواره، اعتلى زاوية فمه ابتسامة صغيرة وهو يستطرد:
-أنا متخيلتش إنك هتحضر المؤتمر النهاردة بعد سهراية إمبارح.
ضحك "مهاب" عاليًا قبل أن يتكلم من بين ضحكاته الرنانة:
-وأفوت التكريم؟ تعرف عني كده؟
انتظر حينًا إلى أن خَبت ضحكته، وأخبره بشيءٍ من الحقد:
-لأ طبعًا، "مهاب الجندي" دايمًا موجود تحت الأضواء.
بزهوٍ يليق به قال:
-بالظبط.
شكَّل "ممدوح" بإصبعه دوائرًا متتالية على سطح الطاولة وهو يضيف:
-طول عمرك محظوظ، سواء في العلم أو في الحب.
رمقه "مهاب" بهذه النظرة المتفاخرة قبل أن يعلق بثقة:
-الطب مافيهوش حظ، في إنك نابغة، وفاهم بتعمل إيه أو لأ.
هز رأسه متفهمًا، ليرد بعدها مبتسمًا ابتسامة باردة:
-مظبوط، ونابغة مع عيلة ليها وزنها يعملوا أسطورة.
مط فمه في إعجاب، وأخبره بانتشاءٍ:
-برافو .. وصف يليق بيا.
تجاوز عن لمحة الغرور الظاهرة في صوته، وأراح ظهره للخلف سائلًا:
-قولي مسافر إمتى؟
أجاب رفيقه بعد أن فرقع بإصبعيه ليستدعي أحد الندلاء:
-طيارتي بالليل.
أومأ "ممدوح" برأسه مرددًا:
-كويس.
أعطى "مهاب" للنادل أوامره، ثم وجه سؤاله للجالس بجواره:
-هتحصلني؟
مط فمه دون أن ينطق بشيء، فتساءل:
سأله بإلحاحٍ طفيف:
-لسه بتفكر ولا إيه؟ احنا خلاص اتكلمنا في الموضوع ده.
علق مُبديًا أسبابه:
-إنت عارف الظروف عندي ماتسمحش بتكاليف وأعباء جديد، يدوب أرجع القاهرة وأركز هناك.
مد "مهاب" يده ليربت على جانب ذراعه، وأكد له بلمحةٍ من الغرور:
-ماتقلقش طول ما أنا موجود.
ما كان من رفيقه إلا أن ابتسم بفتورٍ، فشدد مرة ثانية عليه:
-بتكلم بجد يا "ممدوح"، أنا عاوزك معايا...
تطلع إليه بحاجبين معقودين، فتابع "مهاب" كلامه إليه واضعًا هذه البسمة الواثقة على محياه:
-وهظبطك في منصب محترم ينقلك في حتة تانية خالص.
فكر "ممدوح" مليًا فيما قاله، وعلق ساخرًا:
-طبعًا واسطة عيلة الجندي تفتح أي باب مقفول سواء برا أو جوا.
ضحك "مهاب" على ما اعتبرها طرفة، وقال:
-ما هي دي المصالح العُليا.
..............................................
بالنسبة لها مر الوقت بطيئًا محملًا بالمشاق والتعب، فما إن تنتهي من إنجاز شيء حتى تنتقل لآخر، وهي بالكاد تحاول البحث عن قليل من الراحة وسط كم المهام التي ألقيت فوق كتفيها. ارتمت "فردوس" على الأريكة الملاصقة لفراشها وهي تدعك بكفيها ركبتيها المتألمتين، تأملت الشقوق التي انتشرت بباطن كفيها وهي تفكر في وضع قدرًا من مادة (الفازلين) الطبية لتحصل على ملمس ناعم يغطي على خشونة جلدها، حولت نظرها نحو والدتها التي تساءلت في صوتٍ شبه قلق، وعيناها تنظران بإمعان للطريق من نافذة الشباك المواربة:
-هي الساعة يجيلها كام دلوقتي؟
اتجهت "فردوس" ببصرها نحو ساعة الحائط، وقالت بعد لحظةٍ من الصمت:
-داخلة على تلاتة.
ابتعدت "عقيلة" عن النافذة، وضربت كفها بالآخر قبل أن تضعهما أعلى صدرها لتردد في انزعاجٍ:
-كده أختك اتأخرت، أنا قولتلها ماتروحش الشغل النهاردة، بردك هي ركبت دماغها ونزلت، والجماعة قالوا هايجوا بعد المغرب.
راحت "فردوس" تدلك كفها بيدها وهي تخبرها:
-ما إنتي عارفها يامه، اللي بتصمم عليه بتعمله.
زمت شفتيها مغمغمة في يأسٍ:
-طول عمرها عنادية.
سمعت كلتاهما صوت المفتاح وهو يدور في قفل الباب، أعقبه بلحظاتٍ غلقه، لتردد بعدها "فردوس" في حماسٍ وهي تنهض من موضع جلوسها:
-الحمدلله أهي جت.
سرعان ما انتقلت نحو الخارج لتخاطب شقيقتها في تلهفٍ:
-يالا يا "تهاني"، روحي غيري هدومك أوام كده واتوضبي.
بعد زفيرٍ مهموم عقبت في نوعٍ من العتاب:
-مافيش سلام عليكم الأول.
ردت عليها بنفس اللهجة المتوهجة حماسًا:
-وعليكم السلام، مافيش وقت، عاوزين نلحق.
رمقتها بنظرة حادة قبل أن تقول ببرودٍ غريب:
-الدنيا مش هتطير.
اندهشت "فردوس" من حالة الجفاء المسيطرة عليها، وهتفت تخبرها:
-إنتي مش واخدة بالك إنك جاية متأخر، ويدوب عقبال ما تجهزي وآ...
قاطعها قائلة بما صدمها:
-وأنا مش عاوزة أقابل حد.
شهقت مرددة بعينين ذاهلتين:
-إيه الكلام ده؟
أجابتها مؤكدة بثباتٍ عجيب:
-زي ما سمعتي، أنا أصلًا مش موافقة على الخطوبة دي.
خرجت والدتها لتلقاها عند عتبة الغرفة، وهتفت في استهجانٍ أشد، ويدها تلطم على صدرها:
-يادي الكسوف! بعد ما إدينا للناس كلمة؟!!
بأسلوبٍ يشوبه العنجهية تكلمت:
-إنتي اللي اتفقتي معاهم مش أنا يامه...
ثم التوى ثغرها بنوعٍ من التهكم وهي تتابع:
-وبعدين ده "شفيق" النقاش، مش حد من الأكابر يعني.
صاحت بها "عقيلة" بصوتٍ حانق، ووجهها قد اشتعل غضبًا:
-نقاش، ميكانيكي، إنتي عاوزة تصغري أمك قصادهم؟
بنفس الطريقة المتعجرفة ردت:
-أنا من الأول قولت مش موافقة، ومحدش راضي يسمعني.
اغتاظت والدتها من برودها المستفز، فتقدمت ناحيتها لتلكزها في كتفها وهي تنهرها:
-ما تعيشي عيشة أهلك، وكفاية أنعرة كدابة!
تأوهت "تهاني" من الألم، ونظرت إلى أمها بضيقٍ قبل أن تهدر منفعلة:
-هو إيه الحلو في إني أتجوز "شفيق" النقاش؟
ظلت ملامح والدتها تسود، وهي تزيد من هجومها المشبع بعبارات الإهانة:
-إنتي مش شايفة بنتك دكتورة تحاليل أد الدنيا، يعني أقل حد أخده لازم يكون نفس مستوايا التعليمي، مش واحد جاهل، ريحته جاز وتِنر.
أتى رد "فردوس" ساذجًا إلى حدٍ ما:
-ما هو بيستحمى.
اشتاطت شقيقتها من سطحية تفكيرها، وردت بصلابةٍ:
-الله يكرمك بلاش إنتي تتكلمي.
خاطبتها في دهشةٍ:
-هو أنا قولت حاجة غلط؟ ما هو راجل ملو هدومه، وكل بنات الحتة تتمناه.
لم تعلق "عقيلة" بشيء على حوارهما، فواصلت "تهاني" الصياح الحاد ملوحة بذراعها في الهواء:
-إنتو عاوزيني أقضي اللي جاي من حياتي أكح تراب؟!!!
أمسكت بها والدتها من ذراعها تضغط عليه بقبضتها وهي تسألها في نبرة لائمة:
-أختك معاها حق، ماله "شفيق" النقاش؟ مش بيشتغل وبيكسب بالحلال؟
نفضت يدها عنها وهي تجيبها:
-أيوه، بس مش من مقامي ولا ينفعني من الأساس، أنا مش زي "فردوس".
قالت جملتها الأخيرة ونظراتها مسلطة على شقيقتها التي غرق وجهها في الحزن، ابتلعت غصة مريرة في حلقها، وسألتها بعتابٍ:
-قصدك إني قليلة يا "تهاني"؟ إكمني مكملتش تعليم وماليش في العلام زيك، ومخي على أده.
وكأنها لم توجه إليها إهانة متعمدة، تجاوزت عنها "تهاني" وتكلمت بنبرة معاندة للغاية:
-كل واحد عارف مصلحته إزاي، وأنا مش هضيع مستقبلي عشان نقاش متخلف!!
إساءة تلو أخرى جعلت صدور الجميع تحتقن وتفيض ضيقًا، مرة أخرى أمسكت "عقيلة" برسغ ابنتها جذبتها منه بقسوةٍ، وأخبرتها بلهجة حازمة:
-بصي يا بت بطني، إنتي مش هاتيجي على آخر الزمن وتطلعيني قليلة قصاد الناس، إنتي هتقابليهم والجزمة فوق رقبتك، سامعة؟
شعرت بيدها تعتصرها بقوةٍ، فضمت شفتيها مانعة نفسها من الصراخ آلمًا، ووالدتها لا تزال تشدد عليها بتهديدٍ صريح:
-وإن كنتي فاكرة إنك كبرتي على التربية تبقي غلطانة! أنا لسه بصحتي وأقدر أعدل المعوج فيكي يا "تهاني".
ثم دفعتها للأمام هاتفة في حدةٍ:
-ويالا انجزي في يومك ده.
تجمدت "تهاني" في مكانها، تناظر أمها بعينين مشتعلتين، وبشرتها كذلك تشع وهجًا غاضبًا، أسرعت إليها "فردوس" لتضمها من كتفيها، وسحبتها نحو الداخل وهي تحاول تهوين ما لاقته من تعنيفٍ مختلط بالإهانة:
-تعالي ياختي متزعليش.
...........................................
كالقطار الجامح الخارج عن قضبانه، اندفعت "تهاني" نحو غرفتها، ثم نزعت بلوزتها عنها، وكورتها في عصبية، لتقوم بإلقائها أرضًا وهي تبرطم بعبارات ساخطة ناقمة تعبر عن حنقها. تبعتها "فردوس" وانحنت تلم ما بعثرته من ثياب، ثم وضعتهم على الأريكة لتعاود التحديق في وجه شقيقتها وهي تستطرد سائلة إياها بانفعالٍ:
-شايفة اللي أمك بتعمله معايا؟
زمت "فردوس" شفتيها، وغمغمت في يأسٍ:
-يا ريت كان عندي نص حظك، ولا حتى يتقدملي أي حد، كنت هوافق على طول.
انتشلت "تهاني" قميصها المنزلي من على المشجب لترتديه، وردت عليها بغطرسةٍ:
-ده الفرق اللي بيني وبينك، إنتي باصة دايمًا تحت رجلك، وملهوفة على أي حد والسلام، إن شاء الله يكون جربوع!!
بالكاد ابتلعت غصة مريرة اجتاحت حلقها، وردت بكبرياءٍ جريح:
-مش أحسن ما أبص لفوق ويطلع في الآخر نقبي على شونة.
التوى ثغرها ببسمة تهكمية، وأضافت وهي تمشط شعرها في عجالةٍ:
-هيفضل تفكيرك على أده يا "فردوس"، عمرك ما هتفهميني.
اتجهت شقيقتها نحو الدولاب، فتحت ضلفته، وتأملت المحدود من الأثواب المعلقة فيه، انتقت اثنين كانا إلى حدٍ ما مقبولان الشكل، ثم سألتها في اهتمامٍ مناقض لما افترض أن تشعر به من ضيق:
-ها مقولتيش، هتلبسي أنهو فستان؟
نظرت لها "تهاني" في ذهول مستنكر، فارغة لفاهها قليلًا قبل أن تجيبها بغير مبالاة:
-مش فارقة، طالما هو مرفوض من الأساس!
..................................................
في الموعد المتفق عليه، بعد آذان المغرب بوقتٍ قصير، كان الضيوف يحتلون الأرائك في الصالة المتواضعة بالمنزل، وأمامهم أكواب الشربات، وأطباق الحلوى منزلية الصنع. بدت "عقيلة" في أوج ابتهاجها وهي تطرح طرف حجابها الأبيض الجديد على كتفها، التفتت ناظرة إلى والدة العريس بنظرات مشرقة متفائلة، رسمت هذه الابتسامة المسرورة على محياها، واستطردت متكلمة:
-والله البيت نور بوجودكم فيه النهاردة.
بادر "شفيق" بالرد مبتسمًا ابتسامة عريضة:
-تسلمي يا ست الناس، ده احنا اللي زدنا شرفنا بقعدتنا معاكو.
دعت له في لطافةٍ:
-كلك ذوقك يا ابني.
تساءلت والدته في نوعٍ من الحيرة:
-أومال فين أبلة الدكتورة؟
أطلقت "عقيلة" ضحكة صغيرة، قبل أن تتبعها موضحة:
-بتحط أحمر وأخضر، ما إنتو عارفين، البنات تحب تبقى على سِنجة عشرة.
شاركها الضحك، وعلق في انتشاءٍ مختلط بالحماس:
-هي تستاهل تتدلع.
ردت عليه "عقيلة" برضا معكوس على ملامحها:
-يخليك يا ابني، ابن أصول طول عمرك، ولسانك زي الشهد.
تأهب في جلسته، وأكمل بنفس النهج المتحمس:
-وأنا مش هحوش عنها حاجة، كافة طلباتها مُجابة إن شاء الله.
استحسنت ما يبديه من جدية لإثبات حُسن نواياه، فعقبت:
-أد القول يا "شفيق"، عن إذنكم بس لحظة، إنتو مش غرب...
ثم استدارت محدقة في ابنتها قائلة بابتسامة شبه متكلفة:
-تعالي يا "دوسة" معايا.
نهضت في التو من موضع جلوسها، وتبعت والدتها مرددة في انصياعٍ واضح:
-حاضر يامه.
تحركت "فردوس" خلفها إلى وقفت بجوار والدتها بعيدًا عن الضيوف قليلًا، فأخبرتها الأخيرة بتعابيرٍ مزعوجة، وقد حل الضيق كذلك على نظراتها:
-استعجلي أختك، مايصحش اللي هي عملاه ده.
هزت رأسها متمتمة وهي تسرع الخطى:
-طيب.
ظلت "عقيلة" باقية في مكانها للحظة، إلى أن اختفت عن أنظارها، فعاودت أدراجها للصالة، وواصلت الحديث الودود مع ضيوفها، ريثما تنضم إليهم ابنتها المتدللة.
......................................
هرولت "فردوس" لداخل الحجرة، لتجد شقيقتها تجلس باسترخاء على السرير، وكأن شأن من بالخارج لا يعنيها كليًا، تأملتها مدهوشة لهنيهةٍ، لتقوم بعدها بالاقتراب منها، وتهتف في إنكار عجيب:
-الناس أعدين برا مستنينك، وإنتي مريحة كده؟!!
رمقتها بنظرة فاترة، باردة، لا تلقي بالًا لصوتها القلق، بقيت على استرخائها الهادئ و"فردوس" لا تزال تصيح بها في توترٍ متصاعد:
-يا "تهاني" أنا بكلمك، بقولك العريس برا هو وأهله...
سألتها بإيماءة من رأسها:
-وإيه يعني؟
أجابت على سؤالها بآخر مغلف بالدهشة:
-مش هتطلعي تقابليهم؟
وسدت ذراعها خلف رأسها المستريحة على الوسادة، وجاوبتها بعد تنهيدة متململة:
-أنا قولتلكم رأيي من بدري، أنا مش موافقة على العك ده.
لطمت "فردوس" على صدرها، وشهقت صائحة:
-أمك هتروح فيها لو ماطلعتيش دلوقتي.
استلقت "تهاني" على جانبها، وقالت بعدم اكتراثٍ مستفز:
-وأنا مش هعمل حاجة غصب عني.
خاطبتها بلين الكلام علها تقتنع وتتخلى عن عنادها الأحمق:
-محدش بيغصبك على حاجة، بس الناس في بيتنا، ودي وحشة في حقنا، هنتفضح.
جاء ردها على نفس القدر من عدم المبالاة:
-مش فارق معايا.
كشحوب الموتى بدا وجه "فردوس" هكذا بعدما أدلت بدلوها في هذه المسألة الحرجة، لذا دون تفكيرٍ انحنت عليها ترجوها بنبرة متوسلة للغاية:
-يا "تهاني" الله يرضى عليكي، اطلعي اقعدي شوية لحد ما يمشوا، وبعد كده يحلها ألف حلال.
ضجرت "تهاني" من إلحاحها السقيم، وصاحت بصبرٍ نافذ وهي ترفع رأسها عن الوسادة:
-أوف، ماشي، بس ماتزعلوش من اللي هيحصل بعد كده!
...........................................
بعد عشر دقائق من التلكؤ والمماطلة، خرجت "تهاني" أخيرًا من الغرفة وهي بالكاد تبتسم، لم تضع في وجهها إلا قدرًا معقولًا من مساحيق التجميل، ولم تترك شعرها منسابًا، بل جمعته كعكة، واكتفت بارتداء أحد أثواب عملها الرسمية. ترفعت في الرد على ضيوف والدتها، ومنحتهم المقتضب من الكلام بعدما جلست مجاورة لعريسها المرتقب، تطالعه بنظراتٍ دونية، غير راضية. ظنت "عقيلة" أن الزيارة ستمضي على ما يرام إلى أن وجهت ابنتها سؤالها لـ "شفيق" بتحفزٍ غامض:
-وإنت جايب الشقة بتاعتك فين بقى؟
تلجلج وهو يخبرها بشكلٍ ملحوظ:
-احنا في الأول هنسكن في أوضة هنا آ...
صدمها بردها الهادم لكل أحلامها المبنية على عيشة الرغد والرفاهية، لهذا قاطعته فجأة بنبرة حادة جعلت الجميع يتوقعون الأسوأ:
-أوضة!!
انتابه المزيد من التوتر، فابتلع ريقه، ولعق شفتيه سريعًا قبل أن يخبرها بصوتٍ ما زال مذبدبًا من رهبته:
-ما أنا ماسك مقاولة في عمارة جديدة، وصاحب العمارة واعدني هاخد شقة لما العمارة تتشطب.
كتفت ساعديها أمام صدرها، ووضعت ساقًا فوق الأخرى وهي تسأله بصيغة تهكمية:
-والمفروض أنا أسكن فين لحد ما تخلصها؟
أخرج "شفيق" منديلًا قماشيًا من جيب بنطاله، جفف به عرقه المتجمع عند جبينه، وأجاب وهو يرفرف بجفنيه:
-ما أنا بقول هناخد حاجة محندقة كده لحد ما ربنا يعدلها.
سددت له "تهاني" هذه النظرة المخيفة، فما كان منه إلا أن اقترح بنزقٍ:
-ولو عاوزة نسكن مع أمي فهي معندهاش مانع...
ثم التفت تجاه والدته يستأذنها:
-مش كده يامه؟
أومأت برأسها وهي تؤكد له:
-وماله، البيت واسع، ويساع من الحبايب ألف.
أتى تعقيب "تهاني" جافيًا قاسيًا، وهي تحدج كليهما بنظرات نارية متعالية:
-أنا ما بسكنش مع حد!!!
سرعان ما تراجع "شفيق" عن اقتراحه، وقال متمسكًا بأمله المعقود عليها في الظفر بها كزوجة مناسبة:
-يبقى نشوف حاجة على أدنا، وده وضع مؤقت زي ما قولت.
انتقلت "تهاني" لسؤالها التالي بوجهٍ مشدود:
-وافرض الوضع ماتعدلش معاك؟ هتتصرف إزاي؟
ألقى نظرة سريعة تجاه والدته، وعاود التطلع إليها وهو يجاوبها:
-الحمدلله أنا راجل كسيب والقرش بيجري في إيدي.
هنا جاء تعليقها متعاليًا، وبه شيء من الإهانة إليه:
-بس إنت شايف إنك مناسب ليا؟
أحس بانتقاص قدره من كلامها الموحي، وسألها مباشرة ليتأكد من ظنونه:
-مش فاهم عدم اللامؤاخذة!
أوضحت له ببساطة:
-يعني أنا دكتورة وشغالة في الجامعة، وإنت...
ثم أعطته هذه النظرة الاحتقارية قبل أن تختتم جملتها:
-نقاش!
عندئذ تكفلت والدته بالرد عليها بعصبية ظاهرة في صوتها:
-الراجل مايعبوش إلا جيبه.
التفتت تنظر إليها بغرورٍ وهي تكلمها:
-ده بمفهوم زمان، لكن دلوقتي الوضع اتغير، في معايير تانية لاختيار الزوج...
ثم حولت ناظريها نحو "شفيق" متابعة:
-وأظنك ماتقدرش توصلها.
هبت والدته واقفة وهي توجه عتابها لصاحبة البيت:
-هو احنا جايين نتهزق هنا؟ ما تقولي حاجة يا ست "عقيلة".
نهضت هي الأخرى بدورها، وصاحت في ابنتها:
-جرى إيه يا "تهاني"؟ بالراحة شوية! مش كده.
ببطءٍ مغيظ قامت "تهاني" من مقعدها لترد ببرود جعل الجميع يستشيط غضبًا:
-أنا بحط النقط على الحروف، وأظن ده من حقي، زي ما هو اتفرج ونقى واختار العروسة المناسبة ليه، أنا كمان من حقي أشوف العريس اللي يليق بيا.
خرجت والدة العريس عن طور هدوئها لتهدر في ابنها بحنقٍ مبرر:
-قولتلك من الأول دي شايفة نفسها وماتنفعكش.
وجه نظرة نارية نحو "تهاني" قبل أن يومئ برأسه هاتفًا وهو يهم بالرحيل:
-الظاهر كان معاكي حق، بينا يامه.
ضربت "عقيلة" كفها بالآخر وهي تردد بتحسرٍ بائن على كامل ملامحها:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، هاقول إيه بس.
ما إن خرج "شفيق" من المنزل حتى صفق الباب خلفه بقوةٍ لترتج أركان المنزل، لامتها "فردوس" في التو بعبوسٍ متجهم:
-عاجبك كده؟
جلست بأريحية في مكانها، وعلقت باسمة بزهوٍ:
-الباب اللي يودي.
كادت مقلتاها تبرزان وهي تزيد من عتابها لتشعرها بفداحة خطئها:
-ده عريس لقطة، صعب يتعوض!!
قوست شفتيها مغمغمة في هدوءٍ بارد:
-اتجوزيه إنتي.
بحزنٍ بدأ يحتل تعابيرها جلست "فردوس" على الأريكة، وقالت بألمٍ:
-يا ريته كان جاي عشاني، بس كل اللي بيجي هنا البيت عايزك.
تطلعت شقيقتها ناحيتها في استعلاءٍ قبل أن تخبرها:
-وأنا مش هرضى بأقل من اللي أستحقه!
رمقتها "فردوس" بنظرة يائسة ما لبث أن تحولت للقهر حين أتمت جملتها:
-الرخيص ما يرضاش إلا بالرخيص.
حاولت لملمة ما تبعثر من كرامتها، فنهضت من مجلسها وردت بنبرة جريحة:
-خليكي إنتي بصة كده للعلالي لحد ما تقعي على جدور رقبتك تتكسر، وساعتها مش هتلاقي غير الرخيص يداويكي.
تركتها بمفردها وابتعدت وهي تذرف الدموع الحارقة من عينيها، تأملتها والدتها بنظرة متعاطفة قبل أن تتجه إلى ابنتها الناقمة، وقفت قبالتها، وشملتها بنظرة غاضبة لتستطرد بعدها:
-أنا مش عارفة أقولك إيه على الفضايح دي؟!!
حافظت "تهاني" على ثبات بسمتها الصغيرة حين ردت وهي تقوم واقفة:
-ولا فضايح ولا حاجة، ده عرض وطلب، وطلبه مرفوض!
لوحت "عقيلة" بيدها في الهواء مكملة بنفس الصوت الغاضب:
-أنا غلبت معاكي، ومعنتش هتحشرلك في حاجة.
ردت عليها بهدوءٍ:
-يا ريت، وعمومًا هي كلها فترة صغيرة وأسيب لكم الدنيا وأمشي.
تفاجأت بعزمها على السفر بعيدًا، فاحتدت نظراتها إليها وهي تسألها:
-كمان؟ إنتي برضوه مصممة على كده؟
أجابت مؤكدة بتصميمٍ أظهر عدم تراجعها مطلقًا:
-ده مستقبلي ومش هضيعه!
بدأت أنفاس "عقيلة" تضطرب، وسألتها في انفعالٍ مستنكر:
-تقومي تتغربي لوحدك في بلد الله أعلم هيحصلك فيها إيه وإنتي مش معاكي حد؟!!
بعجرفةٍ ما زالت تسود فيها ردت:
-أنا مش صغيرة، وعارفة كويس مصلحتي فين ومع مين...
ثم ركزت بصرها عليها لتتابع دون أن يرف لها طرف:
-ومش هسمح لحد يمنعني أو يقف في طريق أحلامي.
بدا ما تفصح عنه كالنكبات التي تُحدث المزيد من التصدعات في علاقتها الأمومية بها، وكأن الفجوة بينهما تزداد اتساعًا. تنهدت بعمقٍ، وسألتها في صوتٍ شبه لائم:
-هتبعدي عن أمك؟
لم تعلق بشيء مما أوغر صدرها وجعله يمتلأ بالكمد والألم، نظرت لها شزرًا ورددت وهي تغادر من أمامها:
-يا ألف خسارة عليكي، روحي الله يهديكي لحالك.
رغم شعور الضيق الذي اجتاحها لحظتها، إلا أنها تغلبت على مشاعر الضعف هذه، وهتفت مع نفسها بإصرارٍ معاند:
-بكرة يعرفوا قيمتك.
..........................................................
وهل في الهروب كل الحلول؟ أم أنها البداية للابتعاد وإن عنى ذلك السقوط في جحيم المجهول؟ لم تظن أن الوقت سيمضي بها سريعًا، لتصل إلى لحظتها المنشودة، حيث أصبحت تتواجد في صالة المغادرة بالمطار، استعدادًا لإكمال باقي الإجراءات الخاصة بسفرها للخارج. وقفت "تهاني" إلى جوارها رفيقتها تتفقد الأوراق التي بحوزتها لتتأكد من عدم نسيانها لشيء، ألقت بعدئذ نظرة سريعة على الحقيبة الجديدة –والتي قد ابتاعتها لتضع فيها ثيابها الجيدة لتمنحها مظهرًا مهندمًا بعدما تخلصت من القديم وغير الملائم- وتممت على غلق السحاب بها.
استقامت وافقة، وزفرت دفعة من الهواء وهي تبتسم بنشوة عارمة، عادت لتنظر ملء عينيها لرفيقتها، وخاطبتها في سعادة أكبر:
-ياه، أنا مش مصدقة إن اللحظة دي جت.
منحتها "نهاد" نظرة داعمة، فأكمل حديثها المتحمس إليها وداخلها يقفز طربًا:
-كنت قربت أفقد الأمل، معقول الحلم بقى حقيقة؟
أشارت بيدها مؤكدة:
-بصي حواليكي، إنتي النهاردة هنا في المطار، وكلها شوية وتبقي برا البلد خالص.
استنشقت الهواء بعمقٍ، وردت:
-مظبوط.
تلفتت "نهاد" حولها بنظراتٍ حائرة، قبل أن تثبت عينيها عليها لتسألها:
-بس هو محدش جه معاكي يودعك؟
وقتئذ ارتبكت "تهاني" قليلًا، وحمحمت مرددة بإيجازٍ غامض:
-لأ...
نظرت إليها بتعجبٍ أكبر يشوبه الاستفهام، لذا حفظًا لماء الوجه رسمت بسمة زائفة على محياها، وتكلمت:
-أنا أصلًا مابحبش لحظات الوداع دي، وصممت أجي لوحدي.
هزت رأسها بتفهمٍ بالرغم من عدم اقتناعها بتبريرها الواهي، مالت ناحيتها تحتضنها وهي توصيها:
-خدي بالك من نفسك يا "تهاني"، وابعتيلي أول بأول عشان أطمن عليكي.
تراجعت عنها قائلة:
-حاضر.
ثم مدت يدها لتمسك بحامل الحقيبة، وأضافت:
-الوقت أزف، يدوب ألحق أخلص الإجراءات قبل ما أطلع الطيارة.
ربتت على ذراعها هاتفة وهي تهز رأسها خفيفًا:
-ماشي يا حبيبتي، أشوف وشك بخير.
لوحت لها "تهاني" بيدها، لتتابع المسير نحو البوابة الزجاجية، وعيناها تتحرقان شوقًا لما اعتبرته مستقبلها المشرق، أخذت تردد في طيات نفسها وهي تنخرط بين جموع المسافرين المتجمعين عند أماكن مراجعة الأوراق:
-الحياة أكيد هتضحكلك، إنتي تستحقي ده، كفاية فقر بقى وضنك ............................................ !!