اخر الروايات

رواية غوي بعصيانه قلبي كاملة وحصرية بقلم نهال مصطفي

رواية غوي بعصيانه قلبي كاملة وحصرية بقلم نهال مصطفي


" لا ينبض القلب إلا لعاصٍ "

قبل .. أقصد قبل أي رواية اكتبها كان كل حرف بها موجه لشخص ما ، بالخصوص كان لدي حبيب أرسل له حبي من خلالكم .. واليوم وبعد انقطاع دام لعامٍ عن الكتابة حدادًا على حبي ، اكتب لكم ولم أملك شخص بعينه أخصه بحروفي ، بكلماتي ، بشوقي الذي يفترسني كُل ليلة .. فإذا أصابت حروفي قلبك اعلم إنني كتبت هذا في لحظة حنين ، وإن لم تصب كلماتي وأخفق سهمي في طريقه لقلوبكم ، اعلموا إني أحاول أنساه وفشلت محاولاتي كما فشل سهمي .

" ما قبل البداية "

معذرةً عن ضعفي المبالغ فيه للحد الذي يعجزني عن كتابة كلمة ( النهاية ) واستبدالها بـ (ما قبل البداية ) ، أي بدايتي بدونك ، لأنني لا أعترف بمصطلح النهاية أبدًا ، فلم تُخلق نهاية في هذا العالم إلا بموت الإنسان ، وتلك الأخيرة لا تستحق اللقب أيضًا ، لأن بموت الشخص يعني ذلك بدايته لحياة آخرى وليست نهايته ! والآن تريد مني أن اطلقها علينا وعلي قصتي معك ونحن ما زلنا أحياء ! .
فـي الحقيقة أنا أكذب واتمرد كي أنكر واقع إنني هُزمت ، أن قلبي يرفض حقيقة غيابك الأبدي عنه .

تترنح ذاكرتي لـذلك اليوم الذي لم يفارقها أبدًا ، تقيم فوق عتبته نهارًا متوسلة إلى الكابوس أن يطويه بين ثناياه فـيكون مُجرد حلمًا مُفزعًا سيذوب تحت شمس الأيام الحارقة .. وتقضي ليلها حدادًا على هذا الواقع الذي لفظه الكابوس أيضًا ولم يتقبل مرارته .

كان اسمه آخر مرة يظهر على شاشة هاتفي برسالةٍ ظننتها بدايتنا من جديد يخبرني فيهـا
" أريد رؤيتك على الشاطئ"

ذلك الشاطئ الذى تذوق شهد اللقاء الاول و شغف تلاقينا الثاني وكل منا يبحث ببُصلةِ قلبه عن تلك العيون التي تعثر العقل بضيائها .. واجتماعنا الثالث عندما انعقد الوعد برؤية لاحقة ، والصدفة المباغتة التى جرت كل منا هائمًا على وجهه لنتبادل ضحكة عفوية ثارت غيرة أمواج البحر .
و الآن عما سيشهد يا ترى ! طوى صفحات الماضي والبدء من جديد أم طوى قصتنا ورميها للبحر ربما تسقط في يد عشاق آخرين أشجع مننا في الدفاع عن حبهم !

كانت خطواتي بطيئة جدًا وأنـا أسدد أسهم نظراتي إلى ظهره المتناسق البنية وشعره الذي يداعبه الهواء العاصف كما داعبت رسالته أوتار قلبي ، وقميصه الشفاف الذي يتراقص حول خصره ، لا أعلم كم استغرق الوقت وأنا اتجرعه بقلبي من جديد كأول لقـاء بيننا.. تقدمت خطوة وسبقني قلبي بخطوتين إلى أن أحس بوجودي فـ ألتفت إلىّ كـ شروق الشمس بعد ليلة شتوية قارصة البرودة ، وضعت يدي على قلبي ليكف عن الركض ولكنه بدون جدوى حتى قطع صوت الموج بصوته الرخيم وقال

-كنت أعلم إنكِ ستأتي !
أجبته بعفوية :
-وكنت أعلم أنكَ ستراسلني !
اقترب مني خطوة كان صدحها في صدري وقال
-تسمحِ لي أن أخوض بالأمر دون مماطلة ؟!

بادرته وأنا أتمسك بأصبعيه و تلمع الدموع بعيني متوسلة ، خائفة أن أعود لغرفتي وحيدة لا انتظر حتى سماع صوته الذي يؤنس قلبي ، لفظت جملتي بنبرة إمراة فقدت كل شيء ولم يتبقى لها إلا عيونك ؛ بتُ أخشى الأيام بدونك ، أرجوك لا تقف تلك المرة في صف الحياة وتدعمها ! بربك سأسحق ، فلم تُخلق هزيمة أقوى من دُحرغيابك .. رجوته بكل أملي قائلة

-تسمح لي أنا أكون لك وتكون لي ؟!

ساد صمت طويل قالت فيه الأعين ما لم تقل من قبل .. ولأول مرة أشعر بسقيع كفه كأن المكان أصبح لا ينتمي لي ، بات فراغ أصبعه لا يشتهى أصابعي ، ارتجف قلبي حينها رجفة لم اتجرعها إلا مرة واحدة وهي عند موت أمي .. والثانية عندما تابعت تفاصيلك الرافضة لي برعبٍ .

ابتعدت عيونه عني بسهولة تلك المرة وتهتهت الكلمات في حلقه وهو يناديني :
-رسيل !

اقتربت منه أكثر ورأيت علي ملامحه فراق ساطع .. انبثقت دمعة الحسرة من طرف عيني وأخبرته
-سندع الماضي يرحل بكل أخطائه ، ونسطر بداية قصتنا الجديدة من الآن بشرطٍ ألا يشملها فراق ولا بُعـد .

ثم ترقرقت العبرات من عيوني بسرعة كسرعة نبضات قلبي وأكملت
-أعدني قاسم ، أعدني ألا يعرف البُعد لنا طريق .. تعلم أني سأجن لو رحلت عني .

مسح على شعري كمن يغطى وجه ضحيته بعد ما اغتالها لإنه يخشى رؤية قطرات العتاب بعينها وقال بنبرة باردة كبرودة الطقس
-أنتِ قوية لا يهزمك شيئًا ، أنا أثق بك .

قطم بجملته قلبي كحيوان مفترس لا يرحم ، فلم تجبره عيناي المحمرة على البقاء ، لم يشفق على انتفاضة روحي ، وذعر ملامحي ، لم تهمه يدي المتشبثة به كالغريق الذي يتعلق بطوق النجاة .. بللت حلقي ومسحت وجهي سريعًا وأنا اسأله

-ستسافر !

-أجل ، هذا مستقبلي وأنتِ الذي لم ترغبي في مشاركته .

خرجت نبرة صوتي مبحوحة ، مذبوحة بسكين الفراق :
-سبق و أخبرتك بأني لا استطيع السفر ، لا أرغب أن افارق أبي ، ليس له أحد غيري ، مثلما لم يكن لي غيرك .

استدار بظهره وأفصح بجفاء
-هذه هي الحياة .. لكي تنال شيئًا لابد أن تتنازل عن آخر .
بوخته بنبرة ممزوجة بـ القهروالسخرية
-وها أنا أصبحت كبش الفداء لأحلامك .
-لا تُحملينني عاقبة خيارك !
-لا تضع مبررات لكذبك و الاعيبك !

قال جملته كي يبرئ ضميره من أثم قلبي الذي رافقه لأيامٍ طويلة ، كنت دومًا ما اتجاهل الكتب والروايات التي تتحدث دائمًا عن غدر الرجال ، وضحاياهم المنتشرة بجميع الأركان ، فلم تخلق فتاة لم يخدش قلبها من معشر الرجال ، قيل عنكم أكثركم يخلط السُم بالعسل ولكني معك ظننت إنني خالطت العسل بك فـأحلوت أيامي ، صدقت بك جميع الرجال وكذبت جميع الكتب والكُتاب وها أنا الآن أحصد نتيجة ثقتي وحماقتي معًا !

تحمحم بهدوء غير مكترث لتلك القنبلة التي جاء ليقذفها بصدري ويرحل دون أن يرف له جفن الشفقة .. فقال
-يبدو أننا متفقين ، عمومًا جئت لأودعك !

-أرأيت قاتل يودع ضحيته قبل ارتكاب جريمته !
-بدون فلسفة زائدة ، عندما تختلف الطرق فالفراق واقع لا محال له ، اتمنى أن القاكِ على خير .
علي قدر ضعف المرأة في الحب يكون حِدة سيف كبريائها ، وقفت أمامه كجبل راسخ لم تهزه الريح وصرخت بوجهه معلنة :
-اتمنى ألا ألقاك أبدًا .

وسرعان ما ألتوى ثغري ساخرًا وأكملت
-و أي خيرًا تريد أن تراني عليه ! هزيمتي بالنسبة لك خير ! وحدتي ! عزلتي ! جلدي لذاتي ! هالاتي السوداء المتورمة تحت عينياي من كثرة البكاء تسميها خيرًا ؟!

كم هو مضحك مُبكٍ هذا ! مسحت عبراتي بسرعة و ضحكت بوجع لم أعهده من قبل :
-سأخبرك بالخير الحقيقي الذي تركتني عليه وستراني عليه أيضًا ! أنت جعلتي أفقد الثقة في البشر والعالم ، أصبحت أخشاهم ، وأخشى الحب وأخشى معشر الرجال برمته !
ثم صرخت بحرقة وكأن بركان من الحزن اندلع بصدري :
-بسببك سأظل وحيدة عمري كله ! أهذا هو الخير !

حاول أن يهدئ من روعي وجسدي المرتجف أمامه وقال
-رسيل ! عودي لوعيك !

عجبي ! من دفن الخنجر في قلبي هل سيعود لإسعافه ! دفعته بقوة لا أعلم مصدرها ، ربما كان الخذلان ، أو الضعف أو الحب ! وأخبرته
-لا أريد وداعك ، فلا وداع لقاتل .

أدرت وجهي وخلعت نعليّ و لأكون أكثر دقة خلعت قلبي ليس إمتثالًا لطقوس الوداع المقدسة ولكن لأركض بأقصى سرعة ممكنة ، لأهرب من ذلك الصعلوك البشري الذي يتلذذ بقلوب النساء ، والآن آمنت بأن الحب ما هو إلا قصة قصيرة يبقى أثرها عمرًا كاملًا تحاول أن تتعافى ولم تنجح ، وأن معشر الرجال لا يعيثون في الأرض إلا فسادًا لأرواحنا وأيامنا ، ومن اليوم قُدم قلبي قربانًا في محراب الحب المقدس .

١٤ من شباط ٢٠٢٢
ذكرى احتفال العشاق بيوم الحب ، تحول ليوم حداد وجب فيه العزاء لقلبي وروحي ولأنني امرأة مسرفة أحببتك بقلبي كاملاً دون أن أدّخر منه شيئاً لأيام الحنين والغياب والإحتياج .

•رسيل المصري

•••

( الساعة الثالثة صباحًا )

أغلقت رسيل شاشة الحاسوب وهي تخرج زفيرًا قويًا كأن دخان كتاباتها لدغ قلبها .. بعد ما كتبت مقدمة روايتها الجديدة التي تجهل أحداثها وأبطالها ومصائرهم ، وتجهل الحب الذي لم يلفح قلبها طوال الربع قرن الذي عاشته ، لا ترى الحب إلا بين السطور ، وما تعرفه عنه أنه مجرد حروف وكلمات تتجمع لتبث نبضة جديدة بالحياة في قلبك ، أما الحب الذي تفيض به الأعين ما هو إلا خرافة ابتدعها الرجال لاقتناص فرائسهم .

فارقت رسيل مقعدها الخشبي ولم يفارقه شعرها الطويل الذي يشبه أوتار العود حيث تعثر بمسمارٍ إثر طوله الذي يغطي ظهرها بأكمله ، تألمت قليلًا ثم عادت لتخلصه من أسره متأففة .. وهنا فتح أخيها رشيد الباب بدون استئذان وهو يستعجلها

-رسيل المعلم قنديل أمر إننا هننزل البحر النهاردة .

ما لبثت أن حررت شعرها فعلقت بمشكلة أكبر وقالت برفض قاطعٍ
-مستحيل بابا يطلب كدا .. الموج عالي والبحر ميعرفش عزيز !

لم يجادلها ولكنه اكتفى بإبلاغ الأمر فقط :
-هو أدرى ، طالما قال هننزل يبقي محدش له الحق يعارض .. يلا مفيش وقت .

ارتفعت نبرة صوتها معارضة بشدة :
-دا يبقى اسمه انتــ حار رسمي !

الفصل الأول

" رسائل لن تصل لـ صاحبها "
(1)

يقول جلال الدين الرومي :
أن كل نفس ذائقة الموت ، إلا أن الحياة لا تتذوقها كُل الأنفس .
ويجيبه قلبي معترفًا ومعترضًا :
-بأن نفسي قد ذاقت الحياة والحُب والأمل .. وآيضًا الموت ، كل هذا تذوقته في هواك !

"شبكة الأقدار"

جميعنا تعرضنا للرفض ، أنا رفضني حلمي ، وحضن أمي ، وجامعتي ، وأقرب أصدقائي ، ورفضني الحُب ، وقلبگ ، أُجبرت على ترك أماكن تعثر بها قلبي وصرتُ أزحف بقلب دامي حتى أفر من كل هذا الجحود الذي أنصب كالماء المغلي على جسدٍ ظن أنه بالأمل أمتلك مفاتيح بوابات الحياة ، جميعنا تعرضنا للرفض بطرق مختلفة ، ولكني فقدت كل هذا بمهب ريحٍ عاتية .

" في تمام السادسة صباحًا "

على متن سفينة متوسطة الحجم تنتمي لصاحبها ( المعلم قنديل المصري ) نزعت "رسيل" بدلة الغطس خاصتها وأرتدت فستانًا بألوان مبهجة يغطي ركبتيها ، ثم حررت شعرها الطويل الذي يعكس ظُلمة الليل على ظهرها كظُلمة أيامها ، وتلك المرة الوحيدة التي تتحاشى وضع أي مشبك به ، رُبما أرادت ألا تُقيد شيئًا واحدًا بحياتها .. حتى أقدامها كانت حُرة من أي قيود ، تلتمس صقيع سطح السفينة فـ يعانق صقيع قلبها فـ ينشأ بها شخص متجمد المشاعر مثلها .

فارقت غرفة الملابس وصعدت للأعلى فـ رأت أبيها يجمع أصداف اللؤلؤ بعناية ويشاركه في ذلك " رشيد " ابنه و " فريد " ابن عمها ، تسللت بهدوء لتصعد لأعلى جزء بالسفينة وهي تطالعهم بعيون شاردة لا ترى أمامها إلا مشهد وحيد رُسم برأسها ، وهى تصرخ "لقاسم" بجُملتها الأخيرة :
-بسببك سأظل وحيدة عمري كله !

وضعت كفها على قلبها وهي تعتصر عيونها بشلالٍ من الدموع لو تسرب للبحر لأدى إلى إحداث فضيان ، وسُحبت إلى أيام جمعت شملهم وعالم آخر فرقهم للأبد .. عالم حلمت فيه بأدق التفاصيل ولكنها نهضت على كابوس الغياب ، رجل علمها كيف تتحول النيران لسلامٍ في حضرته ، ومنذ رحيله وهي تخوض حروبًا لا تنتهي .. أخرجت تأوهًا ممزوجًا بصوت البحر وأفصحت بحُرقة :
-يا ليت من نبكيه عمرًا ؛ يعود يومًا !

ووقفت دموعها حائرة على عتبة التساءل ، فمن كان منا المُخطىء يا تُرى ! إمراة منحت فرصة لرجلٍ ، أم رجل أحمق لم يستغلها ؟! من ذا الذي أغواك بالهجر عني ؟!بربك أخبرني ، رُبما أعلم أن المقابل مغري فألتمس لك ألف عُذرٍ!

بعلت صبار واقعها ورددت :
-أخشى أن أقضى نصف عمري أحبك ، والنصف الأخر أحاول فيه أن أنساك !

بمُجرد ما ختمت حيرتها أجابها البحر عندما التج بموجة شديدة الارتفاع تقاذفت تحت أقدامها ، كأنه أراد أن يوقظها من غفلتها أو غار عليها من التفكير بـ رجل غيره ! ما لبثت أن تأوهت معاتبة على قسوة البحر أيضًا ، فأردفت بحماس :
-قاسم !

فاقت من دوامة الحُلم على رصاصة الواقع عندما وجدت " فريد "يجلس بجوارها ويسألها بغيرة واضحة :
-قاسم مين ؟!

عبثت بأناملها في شعرها كعلامة واضحة عـ الارتباك وقالت:
-أبدًا بطل روايتي الجديدة بس !

وقف وأصدر إيماءة تصديق وأخذ يحوم كدبور حولها وسألها
-رسيل .. أنتِ مقتنعة بجو الروايات والكلام الهابط ده ؟!

تذوقت نبرة السخرية والاستخفاف بسؤاله وأردفت بفلسفة لم يدركها صغر عقله المُقيد بمربط الواقع العقيم :
-من يلوم البحر فـ عشق الصدف !

رأت معالم الجهل بوجهه ، فأسرعت موضحة له بنبرة شفقة على سطحيته :
-الكتابة والحروف غرقانين جوانا زي ما الصدف غرقان في البحر كدا ، بتجري في دمي .

ثم وثبت قائمة لتقف أمامه وترفع رأسها قليلًا لتتطلع بعيونه واتبعت بقوة :
-آكيد مش بتكرهه جزء جواك ، ومش بتحبه ، بس الحقيقة انك متقدرش تعيش من غيره .

بعفويتها مارست التمرد والقوة أمامه وختمت حديثها بجُملتها الأخيرة وهي تطالع البحر :
-لأننا ملناش غير بعض !

تعمد أن يقترب منها أكثر وقال بنبرة استبرأ منها الحب :
-وأنا ماليش غيرگ يا رسيل !

تلقت أول صفعة تعمدت تجاهل حقيقتها لفترة طويلة ثم تابعها بصفعة أقوى وهو يخبرها :
-أنا طلبت إيدك من عمي قنديل ، وهو وافق .

ثم قدم لها لؤلؤة نادرة احتفظ بها لأجلها وقال
-دي شبكتك .

أيقظ بداخلها وطنًا تبغضه ، وتبغض طريقها إليه ، وكل الطرق التي تأتي بظل رجل لبوابة حياتها ، لم تنجح ملامح وجهها في إخفاء سخطها ورفضها القاطع لمعشر الرجال بل تفصد الغضب من عيونها وهى تسأله :
-أنت ازاي تفاتح بابا في حاجة زي دي من غير ما تأخد رأيي أنا الأول !

أجابها بعنجهية مفرطة وهو يدافع عن كبريائه كرجل شرقي:
-و أنتِ هتلاقي فين أحسن مني يا رسيل ؟!

ضربت كف على الأخر تعجبًا من حماقته الزائدة وقالت :
-فريد ، أفهمني أحنا مش متشابهين في أي حاجة ، أنا وأنت مننفعش لبعض !

أجابها بعاطفة ملتاعة :
-بس أنا بحبك ، هو حبي ليكي مش كفاية !

تطالعه بعيون ذاهلتين ، متعجبة من أمر رجل خُلق وظن أن حبه لفتاة تنازل وتطوع عملاق منه ، دارت رحى التحدي بينهم وما أنها تفكر كيف تقنع رجل سفيه مثله بالابتعاد عن طريقها ، فصرخت كمن يهوى بجهنم إثر هبوب عواصف البحر وعواصف قلبها في آنٍ واحد ، وأنقلب الأمر كله رأسًا على عقب وأخذت سفينتهم تتمايل في جميع الاتجاهات ، ركض فريد ورشيد إلى مركز التحكم ، وشرع بقية الرجال في محاولة السيطرة على السفينة .

تشبثت رسيل بالسور الحديدي للسفينة تحت صوت صرخة أبيها وهو يجمع عوامات الإنقاذ :
-خلى بالك يا رسيل !

ما استطاع أن ينهى جُملته فـ أختل اتزانه وقذف في البحر فريسة لسكانه ، اندلعت من جوفها صرخة اهتز لها البحر أكثر وأكثر وهي تحاول أن تزحف إلى العوامات لتنقذ أبيها ، استجمعت قواتها كي تقف فـ قذفها الريح لزاوية السفينة وكأن حرب قوية دارت بينها وبين الطقس التي ظنت يومًا ما أنهم تصالحا .

تأوهت صارخة من ألم قدمها ولكن فتاة مثلها لم يعجزها حتى الألم ، اتخذت من حواف السفينة مسندًا لها وهي تبحث بعينيها عن أبيها الذي التقمه البحر ، وكـ أن الابن عاد إلى حضن أبيه ، ترمد الخوف في جمر الفقد مرة آخرى وهي تبحث وتنادي صارخة على أبيها ، وما لبثت أن تصلب طولها لثوانٍ معدودة فسقط فوق رأسها شراع السفينة ففقدت وعيها في الحال ولحقت أبيها كـ سمكة عادت للبحر فأعاد لها البحر الحياة !

••••

تلك أول مـرة يحمل فيها قلبي معطف الخـوف ، ولم يكن أي خوف بل الخـوف من الغدِ ، أخشى أن يأتي بكرة ولم يضب معه حقائب أحلامي التي عشت لأعوام أرسمها ،أرتعب لمجرد الفكرة أنني سـأنام في ليلة بحضن وسادة أمنياتي وأفزع صباحًا على رائحة احتراقها ، أفزع من نومي فأجد نفسي على مرقد آخر غير مرقدي ، لم يتحمل قلبي تصور خسارة جديدة ؛ بل لم يعد لدي مقدرة لكي أخسر أصاغر ما تركته لي الحياة .
بِتُ أقضي أيامي بلهفة للقاء عوضي بعد أعوام وأعوام من الفقد ، اتعلق بأبواب الأقدار راجية أن تأتي بتلوين أمنياتي وحياتي وقلبي .. كل ما مضى كان عبارة عن سلسلة من خسارات متتالية حتى فقدت روحي معها فحسب .. الآن ويقينًا بعدالة رب السماء ستزهر روحي بمقدار ما أطفأته قسوة الحياة فيها .

فتحت " شمس " نافذة غرفتها على مصرعيها بعد ما انتهت من عقد حجابها الذي يبرز صحن وجهها الدائري الساطع كسطوع قمرًا في جوف ظلمة أيامها ، فكان المشهد أمامها مليء بالحيوية والأمل ، استنشقت رائحة الفول والفلافل من يدِ العم صُبحي التي تغمر الحارة من أولها لأخرها .. والعمة أم إبراهيم التي تفترش الخضرة أمامها كعناقيد من الورد وترتل أذكار الصباح التي يطمئن بها قلب " شمس " كُل يوم ، ومن ركن مـا بالحارة يعلو صوت بائع الروبابيكيا مناديًا بأي شيء قديم للبيع .. تبسمت " شمس " بمرارة :

-جعلوا من الأشياء القديمة ثمنًا ، فماذا عن أرواحنا البالية !

عادت مرة أخرى إلى مكتبها ولملمت أدواتها وكُتبها .. وما أن تقدمت خطوة تراجعتها على الفور وهي تضرب على جبهتها :
-أخ ! البالطو .. ركزي يا شمس ركزي .

علقته بكتفها سريعًا بعد ما نظرت في ساعة يدها الجلدية المهترية وقالت لنفسها
-كويس ، لسه قدامي وقت ألحق أفطر فيه مع فوفا .

فتحت باب غرفتها القديم وخرجت متجهة للمطبخ ، فوجدت جدتها تعد طبقًا من الفول وعلى يسارها "نوران" أختها تقطع القليل من الخضراوات وهي تقول بنفاذ صبر مصطنع
-أي اوامر تانية يا ست فوفا !

لم تستطع الحجة " فادية " أن تُجيبها لأن عناق " شمس " من الخلف أنساه مـا كانت ستقوله .. وبخفة طوقت شمس جدتها بحبٍ
-صباح الورد على أحلى فوفـا بـ حياتي .

-يسعد صباحك يا نور عيني ، أنا صاحية من النجمة أهو عشان أحضر لك فطور ومتنزليش على لحم بطنك زي كل يوم .

قبلت شمس يديها بحنانٍ وقالت
-دا أنا هفطر معاكِ، وكمان هنشـرب الشاي سوا .

ارتسمت الضحكة على وجه العجوز التي حُفرت على تجاعيدها حُزن الأيام وقالت :
-فرحتي قلبي ، يلا يا نوران استعجلي عشان أختك .

اقتربت نوران منهم معترضةً
-لو مش واخدين بالكم أنا اللي تالتة ثانوي يا فوفا .. أنتوا المفروض تدلعوني أكتر من كدا !

خلعت شمس فورًا حقيبتها وأعطتها الكُتب التي بيدها وقالت بحماس :
-خدي دول بره وانا هساعد فوفا ، ومش عايزين منك حاجة يا ستي .

تناولت الأدوات من يد أختها وهي تصيح بتمرد :
-أنا لو مجبتش مجموع السنة دي هيبقى ذنبي في رقبتكم ، أنا بقولكم أهو .

صاحت شمس مهددة بنيرة رفض قاطعة :
-طيب أبقي أعمليها كدا ، محدش هيرحمك من تحت إيدي .

انتظرت العجوز خروج نوران ، وسرعان ما جذبت شمس ووشوشت إليها وهي تسحب محبسها الذهبي من أصبعها وتضعه براحة يدها :
-خدي دا بيعيه ، أنا عارفة تعبي أثر على مصاريف البيت وظلم " نورا" في دروسها .

تعلم شمس قيمة هذا الرابط الروحي بحبيب فؤاد جدتها ، لذلك رفضت اقتراحها نهائيًا :
-أنتِ بتقولي أي ! مستحيل طبعًا ، ألبسي خاتمك يا فـوفا ومتشليش هم حاجة أنا هتصرف .

خيم فطر الحزن والعجز على ملامح جدتها وقالت بحسرة :
-أنا عارفة البير وغطاه يا حبيبتي ، إحنا مدفعناش الإيجار لينا ٣ شهور ، وأختك بطلت تروح دروسها ، ومش هيرضوا يدوكي سلفة تاني في الشغل ، والمعاش على ما ينزل لسه أسبوعين .. اسمعي الكلام وريحي قلبي .

صممت شمس على قرارها ، وعاودت الخاتم لمكانه بأصبع فادية وقالت بيقين لا تعلم مصدره لمجرد أن تطمئنها فقط :
-متشليش هم ، أنا هتصرف .

ثم قبلت كفها بحنوٍ ورتبت فوقه برجاءٍ
-مش عايزاكي تقلعي الخاتم دا تاني ، ممكن !

ثم قطع حديثهم صياح نوران بالخارج التي تضور جوعًا :
-أنتوا أكلتوا من غيري ولا أيه ! ياناس جعانة .

بسرعة شرعت " شمس " في رص الأطباق فوق المنضدة العريقة ، التي تتأرجح إثر قِدمها ، وقالت ممازحة
-شُبرا كلها عرفت إننا مجوعينك .

هامت نوران نحو الطعام وهي تحمل الخبز الساخن الذي أحضرته من المخبز وقالت
-الله فول بالزبدة !

فرغت فادية آخر قطعة من الجُبن بالطبق ، وأغمضت بأسفٍ على حالتهم وهي تلقي العُلبة بسلة القمامة ثم قالت مناجية
-أفرجها من عندك يا رب ، وأقف مع الغلبانة اللي بره دي .
حملت كوب المياه وباليدِ الأخرى صحن الجُبن وخطت خطواتها المائلة المتعرجة لتجلس بجوار أحفادها وما لبث الفتيات في تناول إفطارهن ، تفوهت الجِدة بأملٍ
-ياما نفسي أفرح بيكي يا شمس قبل ما أموت .

علقت اللقيمة بحلق شمس إثر كلمة جدتها القاسية ، واندفعت قائلة :
-بعد الشر عنك يا حبيبتي ، وبعدين هو أنا مش فرحتك لما بقيت دكتورة أهو !

غمست فايدة قطعت الخبز بالطبق أمامها وقالت بابتسامة واسعة
-كل اللي فات من حياتك دا كوم ، وإنك أخر الليل تنامي في حضن حبيبك دي كوم تاني خالص .

لمعت عيون " نوران " إثر جملة جدتها التي لم تيأس من زرع الحُب بقلوبهم ، وحديثها الدائم عن حُب عُمرها الذي رحبت الأرض بها بين ذراعيه .
تناولت شمس قطعة من الجُبن وفرشتها بطرف السكــين فوق قطعة الخُبز وقالت بمزح يرفضه قلبها ، فـ بقدر حاجتها للحـب ، من الذي سيغامر بحياته ليعول حمل ثلاثة نساء أسقط خريف الزمن سندهم وأمانهم في الحياة ، وأردفت :
-اطمني يا فوفا أحب أقولك إني قاعدة على قلبك العُمر كله !

سقطت الملعقة من يدِ جدتها وأحدثت صخبًا لا يقل عن صخب روحها وهي تحتج بشدة :
-بعد الشــر عليكِ فال الله ولا فالك ، ليه بتقولي كدا !

ألتوى ثغرها بابتسامة وجع أنطوى بين ثنايا ملامحها وقالت محاولة تلطيف الجو
-الشخص اللي بيتجوز الأيام دي بيكون له دافع للجواز .

تحمحمت نوران بسخرية وهى تسكب المياة من الابريق :
-اسمعي يا فـوفا نصايح بنت بنتك اللي كلنا حاطين أملنا فيها !

نشلت " شمس " الكوب من قبضة أختها معاندة لسخريتها وشرعت أن ترتشف منه الماء لتبتلع غصة همومها ومن ثم كلمات فادية الساخطة وهي تبوخها
-وكمان الجواز بقا له دافع يا بنات اليومين دول ؟!

أكملت شمس حديثها بشيء أشبه بالاستهزاء
-البنت اللي بتاخد قرار الجواز الأيام دي بيكون لسبب من الاتنين ، يا إما قلبها اتكعبـل في واحد و حبته ، أو مشيت ورا عقلها واتكعبلت في واحد معاه فلوس كتير يحقق لها أحلامها وينتشلها من الوسط الـ هي عايشة فيه .

ثم تناولت زغيف من الخبز الساخن وشرعت في إعداد حشوة من الجُبن وواصلت
-وأنا يا ستي لا بقى عندي قلب أمشي وراه ، ولا الفلوس بتغري عقلي عشان أوهب حياتي كلها لـراجل فاكر إنه يقدر يشتري أي حاجة بفلوسه !

قد يحدد الإنسان مصيره ، ويخطط مسار أيامه المُقبلة ولكن من ذا الذي يقنع رياح الأقدار بهذا ! قد يهلك المرء عقله وهو يغرس جذور أهدافه في تُربة الأيام ، وسرعان ما تأتي عواصف القدر لاقتلاعها واقتلاع قلوبنا وأمنياتنا معها .

ألتفت ذيول الحسرة حول حدقة أعين فادية علي خيب أمانيها في أحفادها ، لقد عاشت لأعوام تعلق فرحتها على اكتافهم ، واليوم وبهزيمة مروعة تنهار جدران سعادتها كقطعة قماشة متهرية ، تأزم حال قلبها بوجع معهود بالنسبة له ، وأخذت تثرثر بجُملٍ تختبئ ورائها أحزان مُهلكة :
-لا بقولك أيه ، كلام ربنا مش هنحرفه على مزاجنا ! انا مفهمش في خرافات بنات اليومين دول .. مش هناخد من كلام ربنا اللي عايزينه وبس ولا هنخالف فطرتنا عشان شوية كلام فاضي الغرب دخلوه في دماغكم .. ولا أنتوا عايزيني أموت وأنا شايلة همكم !

تبادلت كل من نوران وشمس نظرات الغرابة على الحالة التى انفجرت بها جدتهم ، وحاولت الأخيرة أن تهدأ من غضبها وهي تحتوي يدها :
-بعيد الشر عنك يا حبيبتي ، اهدي يا فوفا ! هو الواحد ما يعرفش يضحك معاكي بكلمتين !

نوران بحزنٍ ويأس على غير طبيعتها الضاحكة المحبة للحياة :
-ممكن يا فوفا متقوليش كدا ! إحنا ملناش غيرك في الدنيا دي .

مسحت فادية عبراتها المتقطره التي نطقت بإبتئاس سنوات طويلة ، حينها انضم الفتيات إليها ونثرن قبلات الحُب والحزن عليها .. في تلك اللحظة التى تفشى فيها حزنهم الدفين ، تفشت أصوات صخب بالخارج على غير العادة ، ضجيج العامة مع انتشار مزمار تلكسات سيارات كثيرة ، مما أثار نوع أخر من مشاعرهم ، ألا هو الفضول الممزوج بنكهة القلق .

ركضت نوران نحو النافذة بسرعة لترى ما الأمر ، وما هو سر هذا الصخب الذي كادت الأبنية تهتز لقوته .. حملقت بالخارج فوجدت أسطولًا من السيارات الفارهة والرجال العديدة المنتشرة بالمكان كقطع الفحم المنثور إثر لباسهم الأسود الذي أوشك أن ينفجر من قوة عضلاتهم .

شهقت بصوت عالٍ وهي تعاود النظر إلى شمس وفادية وتقول
-أيه الرُعب دا ! و اي العربيات دي كلها!
أثارت ملامحها فضول وقلق شمس معًا ، وسألتها
-في أيه عندك ؟!

مجرد ما أنتهت شمس تساؤلها المُبهم ، حلت براكين الإجابة بكسر باب شقتهم ، فتساقطت ضلفة كما سقطت قلوبهم في أقدامهم ، وأرتخت الأخرى حتى أوشكت على السقوط ، فزعت فادية والفتيات وفي لمح البصر انتشر بعض الرجال في إرجاء منزلهم ، صرخت فادية بسؤالها
-أنتوا مين وعايزين أيه !

لم تفق شمس من انتشار الرجال بساحة شقتهم الضيقة حتى سقطت أعينها على لمعة حذاء أسود فاخر ، أرتفعت عينيها تدريجيًا حتى رست على رمز حزامه الجلدي الذي يتخذ شكل (D) مطرزة بجواهر سوداء لم ينعكس منها إلا بريقها ، بللت حلقها ورفعت عيونها أكثر حتى التقمت أعينها ملامح من القوة والصرامة لم تراها في بشرٍ من قبل .. رجل ذو هيبة ووقار ساطع ، ملامحه تحمل العديد من الصفات التي تجعل كل من يلحظها يغرق في أبحر تساؤلاته .. ذو بشرة خمرية وشعر أسود لامع كلمعان حذاءه وحدقة عيونه ، جدية وجهه نفض شعر ذقنه وشاربه حتى لم يتبق أثرًا لهم بوجهه .. فـ منذ أن سقطت أعينها عليه فلم يملأ داخلها إلا إرتيابًا !

فاقت شمس من رحلة استكشافها للكائن البشري الذي قذفته السماء ببابها على جملته التي قيلت بصوت رخيم :
-هو دا البيت ؟!

تقدم ( يسري ) مساعده وأومأ :
-هو معاليك .

تقدمت إليه شمس بخطوتين وقالت بحدة :
-دا أنت شكلك قاصد بقى ؟! يعني مش جاي بالغلط !

وقفت يد يسري أمامها كحاجز منيع وقال محذرًا :
-الزمي حدودك مع عاصي بيه !

تطلعت على يد "يسري" بذهول وخوف في آنٍ واحد ، ولكن ذلك لم يمنعها من تكرار سؤالها ولكن بصيغة مختلفة ، وبنبرة مفعمة بالسخرية :
-وعاصي بيه بتاعك عايز أيه من تلات ستات قاعدين لوحدهم !

أشار ( عاصي دويدار) بطرف عينه لـ " يسري " كي يبتعد من أمامها ، وأخرج نوع فاخر من التبغ ووضعه في فمه وسرعان ما امتدت يد الحارس الأخر لاشعالها ، ما لبث أن نفث دخان تبغه فأخذ يتجول في أرجاء البيت بـ تهازؤ ، حتى أمسك بكتب شمس واستغرق بعض الوقت في تفحصها وما أن قرأ اسمها على غُلاف الكتاب ، فسألها بفظاظة :
-مش بتدفعي الإيجار ليه يا شمس !

توغلت في التيه إثر صاعقة السؤال ، وتفوهت بتهكم :
-نعم !أي إيجار !

ألقى من يده كتابها فإرتطم بالأرض فـ ثار صوت اصطدامه غضب شمس أكثر وأكثر خاصة بعد ما كرر سؤال بنبرة فيها ابتزاز مبطن :
-مش معقولة طالبه في كلية طب وفي جامعة من أكبر الجامعات الخاصة في القاهرة ، مش معاها تمن الإيجار!

انحنت شمس لتأخذ كتابها من الأرض وبهدوء تام لا تعلم مصدره -ربما كان سببه استخفافه بها أو هدوء ما قبل العاصفة - ثم وضعت على أقرب طاولة وعادت إليه بشموخ وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها :
-حضرتك عايز تفهمني إنك عامل الدربكة دي كلها عشان شوية ملاليم ، لو حسبتها مش هيجيوا تمن بنزين عربية واحدة من أسطول العربيات اللي تحت !

ثم ضربت كف على الأخر بتهكم :
-ولسه اللي يعيش ياما يشوف !

كاد يسري أن يتقدم ليتعامل مع تطاولها علي سيده ، ولكن أوقفته كف " عاصي " ثم تابعته صراخ فادية :
-ما تفهمنا يا بيه ! أنت مين وعايز أيه !

بفظاظة وثبات تام أردف عاصى
-أنا عاصي دويدار ، ووريث " نبيل دويدار " يعني نص عمارات شُبرا بما فيهم العمارة دي ملكي !

ثم تقدم خطوة ثقة وأتبعتها نبرة الاتهام
-ومعايا عقد يثبت أن " شمس شرف الدين " مأجرة مني الدور دا كامل والسطح والمحلات اللي في الدور الأرضي .. وليها سنتين مدفعتش الإيجار !

ضبابه من الذهول خيمت على رؤوسهن ، وزامت أفواههن وأعينهن بدخان الاستنكار ، صاحت نوران ملوحة بيدها :
-أنت شارب حاجة يا جدع أنت على الصبح !

أغمض جفونه ليطفئ لهب الغضب الذي ثارته طفلة صغيرة وسرعان ما بردت نيرانه صفعة يسري القوي التي طاحت بـ وجنة نوران وهو يحذرها :
-صوتك ما يعلاش على عاصي بيه !

جن جنون شمس التي ركضت ناحية أختها واحتضنتها وسرعان ما جذبتها الحجة فادية بهلعٍ إلى حضنها وربتت عليها بكفوف مرتعشة ، ثارت شمس في وجه يسري
-أنت ازاي تمد إيدك على عيلة صغيرة ! أنت فاكرني هخاف ؟! دانا ممكن اوديكم في ستين داهية !

تفصد الغضب من عيونها وهي تدفع يسري بكل قوتها وتقترب من عاصي معلنة الحرب بوجهه
-كل الكلام اللي أنت قلته دا محصلش ، وكله كذب ، ولو ملمتش شوية البلطجية بتوعك من هنا ، أنا هبلغ البوليس .

صرخة قوية اندلعت من جوف فادية ونوران مصحوبة بشد أجزاء سلاح " يسرى " موجهًا فوهته نحو رأس شمس وهو يصيح
-أنا قلت لك يا باشا ، دي أشكال عوج ومش هتيجي بالذوق .

ضرب عاصى الأرض بمشط قدمه مرتين وبهدوء تام أشار ليسري أن يخفض سلاحه ، وما أن طالع ساعته ثم نظر لشمس
-اختصارًا للوقت يا دكتورة شمس ، معاكي تدفعي ، ولا نشوف رأي البوليس اللي كنتي لسه هتبلغيه !

-أنت ما بتفهمش ! بقول لك أنا معرفش حاجة عن كل التهيؤات اللي بتقولها دي ؟

شرع يسري أن يتطاول عليها ولكن أوقفته نظرة عاصي الثاقبة و ردد بغضب كظيم :
-أنا ما بفهمش ؟!

ثم قفل زر ( جاكت ) سترته وقال بنبرة حاسمة :
-واضح أن الدكتورة مش معاها تدفع ، بس عاصي دويدار مش بيسيب حقه !

ثم ولي ظهره وأشار لرجاله وقال كلمته الاخيرة والناهية
-هاتوها !

•••

‏أظن أنَّ الشعور الوحيد الذي يستحق عناء البحث هو الأمان ، أن تفتش عنه بشخص ما تأمن بجوارهِ ، وتعبر عن مشاعرك بدون تردد ، أو خوف من سوء الفهم ، أن تأمن أنَّ عفويتك محبوبة ومقبولة ، لا تحتاج إلى التصنُّع كي تبقى مرغوبًا أن تأمن لأنك أنت .. وأن كل الطُرق التي تسلكهـا مسارًا أمانًا لتحقيق أهدافك ، أن أمن الشخص منا ملكت أنامله زمام الأمور وحانت لحظة انطلاقه .. ومن عشش الخوف فوق قلبه عاش أسيرًا لحياته كما سيأسر القبر جسده !

فاق مراد على صوت صخب جرس الباب ، فـركل الغطاء بقدمه متأففًا وهو يمد يده لتتناول هاتفه ويرى التوقيت ، فتبدلت ملامحه من الغضب للتساءل عن هوية الطارق الذي يطرق بابه في الساعة التاسعة صباحًا !

لم يهتم بستر صدره فقط أخذ منشفة صغيرة وألقاها على كتفه بعدم اكتراث وبدأ يجر في أقدامه جرًا حتى فتح الباب مزمجرًا ، وما كاد أن ينفجر بوجه ضيفه فـسرعان ما ابتلع ضجره عندما رأى أمه تدفعه بقوة لا تقل عن قوة صوتها وأردفت :
-ساعة عشان تفتح يا مراد !

قفل الباب بعد دخول والدته وأغمض عيونه بكللٍ وهو يخطو ناحية بار مطبخه وأجابها ناكرًا
-وهو مفيش حد بيزور حد الساعة ٨ الصبح يا جيهان هانم !

ألقت حقيبتها على أقرب مقعد ثم تابعت طريقها إليه
-نسيت مفاتيحي أخر مرة كنت فيها هنا .

ثم لكت بقيت الكلمات في فمها بعد ما اكتسحت عيونها أرجاء منزله المقلوب رأسًا على عقبٍ ولم يوجد شيء بمكانه ، فهتفت بصوتها الرخيم :
-وأيه العِشة اللي انت قاعد فيها دي ! هي البنت اللي بتنضف بطلت تيجي ؟!

شرع مراد في إعداد قهوته المُرة لتهون عليه مرارة صرير أمه وقال بهدوء مفتعل :
-طردتها !

جلست على مقعد البار متأففة :
-ليه بقا ؟!

سكب قهوته بالفنجان ثم وجه أنظاره إليها
-ليه دي المفروض أنا اللي أعرفها ، سبب تشريف جيهان هانم عندي الساعة دي !

حدجته معترضة :
-وأنا محتاجة أخد معاد عشان أزور ابني ؟!

شرع في ارتشاف قهوته وبإبتسامة ساخرة قال
-حنان الأم فاض جواكي الساعة ٨ الصبح ؟!

-وهو أنا عارفة اتجمع عليك صبح ولا ليل ؟! قلت ألحقك قبل ما تنزل شغلك يا أفندي !

التوى طرف ثغره بابتسامة خذلان دفين ، وما أن استند بكوعيه على سطح البار فبرزت عضلاته القوية ، وقال مسبلًا الأعين :
-يبقى ندخل في الموضوع على طول عشان أنا مش قدامي غير ساعة واحدة وأكون فـ الشغل !

-خالتك عاملة حفل أسطوري آخر الأسبوع ، ولازم تكون موجود !

رفع حاجبه معلنًا إعتراضه :
-وأنا من أمتى بشارك في مناسبات آل دويدار !

صرخت جيهان بوجهه محتجة :
-لازم تشارك ! شوف ليك كام سنة سايبني أنا وأخوك وأختك وعايش هنا لوحدك ، قولي استفدت إيه !

-منا مش هقعد على سفرة واحدة مع اللي سرقوا فلوس أبويا ، وبيتمرمغوا في خيرنا ، طالما أنتي وكريم راضيين بذل "عاصي دويدار" والملاليم اللي بيرميهالك كل أول شهر أنا مش هقبل !

أغمضت عيونها بنفاذ صبر وهي تردد في سرها ( غبـي ) ثم أطلقت زفير كلماته وسألته :
-يعني أيه !

ارتشف آخر رشفة من فنجانه وقال بتوعـد :
-يعني اللي مش بيجي معايا سِكة ، بدوسـه في سكتي !

بنظرات مرتعدة رمقته جيهان لتتفحص نوايا ابنها وسألته
-مراد ، أنت ناوي على إيه !

-ناوي أكون الشوكة اللي هتقف في زور عاصي دويدار طول ما هو عايش !

أردفت محذرة :
-اللي يقف قصاد القطر بيدوسه يا مراد !
بثقة عارمة أجابها :
-ماهو أنا القطر دا .

ترك أمه وعاد إلى غرفته وشرع في إخراج ملابسه من الخزانة وألقاها على مرقده وما أن سقطت أعينه على المرآه رأي انعكاس صورة أمه وهي تسن سكاكيـن الشـر وتقول :
-وأنا جاية عشان أديك أول مسمار هدقه في نعش عاصي دويدار !

••••

مضى وقت طويل، وأنا أمضي .. هكذا بهذه العشوائية .. اتخبط هنا وهناك ، تتساقط مني أحلامي وأمنياتي وقوتي التي أهش بها على أوجاعي كأوراق الشجر في خريفها ولم أقف لألتقط أي شيء سقط، أمضي هكذا وفي صدري مخاوف ، أخاف أن أقف فأسقط، أخاف أن أسقط فلا يلتقطني أحد، أخاف أن أمضي فيمضي الزمان معي.. ولا أصل .

تقف ( عالية دويدار ) أمام المرآة تطالع ملامحها بتيهٍ وخوف ، وبأيدي مرتعشة تضع حجابًا فوق رأسها كإكليل من ورد ، فيخفق قلبها بدقةِ عجيبة لازمتها منذ أعوام كل ما تتفقد وجهها في حضر الحجاب .. ترقرقت عبراتها بمشاعر مبهمة لا تعلم ما مصدرها ، أ هل لمست أقدامها عتبة الصواب أم ما زالت تضل الطريق ؟!

ثم أغمضت عيونها وأخذت تردد في ذهنها بالآية الكريمة التي طوقت قلبها في درس الأمس وهمست لنفسها
"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ"

نور ساطع ومض في قلبها فـانعكس بريقه بأعينها وهي تتبسم وتفيض بعيراتها في وقت واحد ، وضعت يدها على قلبها ليهدأ ، ليسكن من تخبطه وناجت ربها :
-دلني يالله .

ثم تناولت هاتفها وإلتقطت بعض الصور لها بفرحة عارمة وهي تأخذ لقطة أخيرة بزيها الإسلامي كاملًا وتتفقده بحب جامح ومشاعر مضطربة .. وسرعان ما تحولت مشاعرها المختلطة لفزعٍ إثر صوت دق الباب .. فكت حجابها سريعًا ثم حررت شعرها الطويل بعشوائية وهي تعلو بصوتها
-لحظه يلي على الباب !

ثم نزعت فستانها المحتشم لتظهر بـ منامتها القطنية وتلملم كل هذا وتدفنه بالخزانة وتلقى نظرة أخيرة على صورتها بالمرآة لتتأكد من حقيقة طلتها المعتادة ، وركضت بسرعة لتفتح الباب الذي أحكمت غلقه ، وبأنفاس متصاعدة :
-صباح الخير يا مامي !

إمراة في منتصف عقدها السادس بملابس عصرية وحذاء ذو كعب مرتفع تتقدم داخل الغرفة وتقول معترضة
-كل دا عشان تفتحي ؟! وبعدين أنتي قافله الباب ليه !

تصلبت تعابير وجهها وتفوهت بأرتباك
-ها !!

عارضتها ولدتها وهي تنهرها :
-انت مالك متغيرة الفترة دي ! على طول قاعدة في أوضتك ولوحدك ، واللي يكلمك دايما سرحانة ! مالك !

فركت( عالية ) كفوفها بتوتر من يخفى الشيء
-هيكون مالي يا مامي ! امتحانات وحضرتك عارفة كليتي مش سهلة ولازم اركز .

شرعت ( عبلة ) في تفحص أنواع مستحضرات التجميل باهظة الثمن التى أحضرتها معها من باريس ، فوجدتها مغلفة كما هي ، لم تلمسها أنامل فتاة مولعة بحُب الجمال والتزين ، فرمقتها بتعجب :
-مش بتستخدمي ليه الحاجات اللي أنا جبتهالك مخصوص من بره !

شردت ( عالية ) قليلًا متناسية أمر الصندوق الفاخر الذي أحضر خصيصًا لأجلها من أكبر الماركات العالمية في التجميلية وقالت ببلاهة :
-حاجات ايه !

-مش بقول لك مش عايشة معانا !

ثم ضربت كف على الأخر وهي توبخها :
-ياما حذرتك وقولت لك سيبك من جو الهندسة دا بتاع الشباب ، وادخلي حاجة خفيفة تعيشك سنك !

تلعثمت عالية بهدوء محاولة استجماع نفسها ، وتلطيف الجو مع والدتها وقالت :
-مين فهمك بس أن الهندسة للشباب وبس ؟ وبعدين أنا ليا تلات سنين الأولى على دفعتي ! دي حاجة تضايقك يعني !

تأففت علبة بكللٍ
-دماغك ناشفة زي أبوكي مش هاخد معاكي لا حق ولا باطل !

اقتربت عبلة من خزانة ابنتها بخطواتٍ متمهلة لتفحص ما بها وما ينقصها لتحضره على الفور ، لانها دومًا ما تتهم ابنتها بالإهمال وعدم الاكتراث لمظهرها الخارجي كما يليق بها أن تكون .. في نفس اللحظة اندفعت عالية تتمنع والدتها عن فتح خزانتها كقطة خائفة وتقف امام خزانتها
-مفيش حاجة هنا !

استغربت عبلة لعبثية تصرفات ابنتها ، فطالعتها بشكٍ مريب وهى تخبرها :
-وريني أيه ناقصك عشان الحفلة !

جحظت أعين عالية بتوتر بيّن وهي تسألها
-حفلة أيه !

اجابتها بحماسٍ:
-الحفلة اللي هيختار منها عاصي دويدار عروسته .
-مش قديم شوية الجو دا يا مامي !

حاولت عالية أن ترخي ملامحها المشدودة وتبدو بمظهر طبيعي قدر المستطاع أمام أمها ولكن براءتها كانت تتغلب على محاولاتها الفاشلة ، انقذتها صوت الخادمة وهي تحمل بيدها فستان ملفوف داخل حقيبته :
-عبلة هانم فستان ست عالية وصل !

نسيت عبلة أمر الخزانة وهامت متحمسة لتفحص الفستان الذي احضرته على ذوقها لابنتها وما أن أخرجته أمام أعينها ، فـ شهقت مبهورة :
-يجنن يا لولا ، وعليكِ هيبقى تحفة .
انكمشت ملامح عالية بتلجلجٍ :
-مش مفتوح أوي يا مامي !

أردفت عبلة بحدة:
-أيه !

لحقت عالية نفسها على الفور وقالت :
-لا جميل .. جميل ، بس تعبتي نفسك .. مكنش له لزوم عندي كتير .

اقتحمت فتاة طويلة وذات جسد ممشوق مجلسهم وهي تتمايل في خُطاها بثقة عارمة وتقول بلهفة :
-واو ! فستانك يجنن يا لولي .. دا آكيد ذوق خالتو !

أجابتها عبلة مؤيدة :
-وهي بنت خالتك تفهم في حاجة غير الميكانيكة والعفريتة بتاعتها!

شكرتها عالية على سخريتها :
-مرسي يا مامي على مدحك ليا أنا والعفريتة !

عبلة باهتمام :
-فستانك وصل يا حبيبتي !

هدير بعرفان :
-وصل يا خالتو ، وأنا أصلا جاية عشان أشكرك .

ربتت عبلة علي كتفها بحبٍ:
-أنتِ غلاوتك عندي زي عالية وأكتر .. هي جيهان فين !

هزت هدير كتفيها بجهلٍ :
-مامي مش موجودة في أوضتها .. مش عارفة راحت فين الصبح كدا !

تدخلت عالية في حوارهم لتخلق أي محتوى وقالت باستنكار :
-بس غريبة ! صاحية بدري يعني يا ديرو ، مش عادتك !

ترنحت في نبرة صوتها بدلالٍ مفتعل :
-كان نفسي ألحق عاصي ، كنت عايزاه في بزنيس بينا ، بس للأسف ملحقتوش .

أصدرت عالية إيماءة خبيثة وهي جفونها وتفتعل البراءة الزائفة :
-آه معلش ، استنيه لما يرجع بقا ، دا لو رجع !

في لحظة ما تبدلت نظرات المكر بين هدير وعالية إلى صوت صخب أحتل أرجاء المكان ، ركضت عالية نحو النافذة فوجدت رجال عاصي انتشروا بالمكان وتابعها صوته الاشبه بالرعد وهو ينادي بحنجرته الرخيمة على الخادمة :
-سيدة !

تقف " شمس " ورائه مطأطأة الرأس تحاول كبح عبراتها المتقطرة من ظلمة الأيام بعيونها وهى تتذكر حديثهم معًا والاتفاق الذى دار بينهم في السيارة لسداد دينها ، وبعد ثرثرة وعناد مبالغ فيه لايضاح الفخ الذي أوقعها فيه السمسار ، وأنها تخلو ذمتها من ديونها المتكتلة والتي لا تعلم عنها شيئًا ، أنهى عاصى تمردها بنبرة صارمة :
-كل دا مش شغلي ومتحاوليش تثبتي حاجة أنا مش عايز أسمعها ، عاصي دويدار مش بيسيب حقه !

فاقت على صوت " سيدة " وهي تركض نحوه :
-أوامرك يا عاصي بيه !

أشار إليها بطرف عينه :
-تأخدي الدكتورة " شمس" لأوضة " تميـم " بيه ، من هنا ورايح هي المسئولة عن علاجه ورعايته .

رمقتها سيدة بنظرة شفقة وسرعان ما قطعها صوت عبلة وهي تجهر بتمرد :
-عاصي بيه غير جدوله وبقى يجيب ستات في الصبح كمان ! أيه الليل قصر معاك !

تجاهل عاصي اتهام عبلة ووقاحتها في الحديث وقال :
-سيـدة نفذي اللي طلبته يلا .

أعلنت عليه عبلة التحدي وهتفت
-استنى يا سيدة لما نفهم .

ثم دلفت أخر درجتين من السُلم وقالت
-أيه الموضوع يا عاصي بيه !

تجاهل سؤالها تمـامًا متحاشيًا النظر إليها وجهر مناديًا :
-يُسـري ! جهز عربية السفر .

وقفت أمامه عبلة لتتفهم الأمر وسألته
-أنت مسافـر فين ! وحفلة يوم الخميس ؟!

ثم أخفضت من صوتها كي تجري المراكب الراسية بينهم :
-عاصي أنت آكيد مش هتصغرني قدام الناس !
تأفف عاصي باختناق :
-أنا عايز أعرف سبب إصرارك الرهيب على حضوري حفل تبع الجمعية بتاعتك !
اهتزت أمامه قليلاً ثم غيرت مسار الحوار وسألته مشيرة بأعنيها ناحية " شمس "
-أيه حكاية البنت دي ؟!

-هريحك ، دي الدكتورة شمس ، هتقوم برعاية تميم الفترة الجاية لإني مش هكون فاضي له .

تلونت ملامحها بألوان الكره وسبت في نفسها سرًا ثم أفصحت جملتها علنًا وهي تفرز شمس من رأسها للكاحل :
-آه ، مش بطالة ؟! مع إن قلبي مش مطمن ، لكن خلينا نشوف .

تجاهل عاصي رصاص شكوكها الفتاك وما كاد أن يخطو خطوة فوقفت عبلة أمامه بشموخ ، وهمست بينهم بنبرة قوة :
-عاصي لو مجتش الحفلة النتيجة مش هتكون في صالحك !

همس بفظاظته وهو يكتسح أرجاء المكان بأعينه الثاقبة :
-اعتبره تهديد !

عقدت عبلة ذراعيها بتحدٍ وثقة :
-لا Deal.. وبزنيس إز بيزنيس عاصي بيه .

ألقت هدير نظرة خبيثة على شمس التي تتبع خُطى سيدة ، ثم اندفعت إلى عاصي بشغف :
-تسمحي لي يا طنط أخد من وقت عاصي ١٠ دقايق بس !

زفر عاصي بضيق واضح :
-ضروري يعني يا هدير !

توسلت إليه بأهدابها الطويلة وقالت
-متقلقش مش هعطلك .

أومأ بالموافقة ثم اتجه نحو غرفة مكتبه فأتبعت خُطاه بحماس شديد .. ومن هنا ركضت طفلة في الخامسة من عمرها إلى عبلة وسألتها بجزلٍ طفولي
-ناناه هو بابي في مكتبه .

أجابتها متأففة :
-أيوه يا تاليا .. ليه ؟
بحماس طفولي تفوهت :
-أوكيه ، عشان كان واعدني أنا وداليا نخرج النهاردة .

أمـا في الطابق الأعلى وصلت شمس صاحبة الأقدام المُرتعشة ، والارتباك الذي كسا جسدها خوفًا من المجهول الذي في انتظارها ، وما أن فُتح الباب وسقطت أعينها على شاب في مقتبل الثلاثين من عمره ، يمتلك جمال ساحر عكس ملامح أخيه المُخيفة يجلس على كرسي متحرك ويقرأ الكتاب الذي بيده ومختليًا بقلبه وعقله بعيدًا عن صخب العالم .. وكانت الصدمة كصاعق كهربي أصاب شمس وهى تهرتل :
-مين دا ؟!

سيدة بابتسامة هادئة :
-دا تميم بيه ، أخو سي عاصي .

ثم أقتربت من تميم وأشارت إليها وقالت
-دي بقي الدكتورة شمس ، جاية تتابع علاجك .

ثم خطت خطوتين ورفعت ستائر الغرفة ونادت عليها بحسن نية :
-تعالي يا دكتورة اتفضلي واقفة عندك ليه!

تقدمت شمس بخطوات مرتعشة داخل الغرفة وهي تتفحصها بعناية وذهول ، فـ كان حجم الغرفة بمساحة شقتهم بل بمساحة الطابق بأكمله .. شردت طويلًا حتى سافرت لعوالم أخرى بعقلها إلى أن أصابها سهمًا في مقتل إثر جملة سيدة الأخيرة وهي تُشير لركن ما بزاوية الغرفة وتشد الأريكة فتتحول لفراش واسع وقالت :
-وأنت هتنامي هنا .

تصلبت تعابير وجهها بغرابة شديدة و رددت ما سمعت :
-هنام هنا فين ؟! ازاي مع دا ؟! وبعدين استنى هو تميم دا مش المفروض طفل صغير ؟! أيه السخافة دي ؟!

ركضت سيدة نحوها متوسلة إليها
-وطي صوتك بس فهميني مالك ؟!

مسحت على وجهها بتوتر وهي تردف
-لو عدينا أن الافندي اللي قاعد دا هو مسئوليتي ! عايزه تقنعيني


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close