اخر الروايات

رواية وريث آل نصران الفصل الثامن 8 بقلم فاطمة عبدالمنعم

رواية وريث آل نصران الفصل الثامن 8 بقلم فاطمة عبدالمنعم 

بسم الله الرحمن الرحيم
الصمت ليس علامة على رضاك، ربما علامة على خوفك، علامة على قلقك واحتياجاك للأمان... يمكن أن يكون علامة للرضا ولكن الأكيد أنه في موقف كموقفه كان علامة للتحدي.

كانت "رزان" في وضح لا تُحسد عليه، "باسم عراقي" ذلك الشخص الذي وجد متعته في مطاردتها، وفي النهاية بحكم عملها رضت بفرصة ذهبية كهذه، فالتقرب لمثله يضمن لها الكثير والكثير.

ابتعدت عن "عيسى" بحرج في حين شملها "باسم" بنظرة مشمئزة أمام نظرات عيسى المنتصرة، وقال:
اطلعي برا.

خرجت من الغرفة مسرعة كغريق لمح طوق نجاة بعد يأسه من نجاته، أما هما فقطع صمتهما المريب صوت "عيسى" وقد أقدم على الحديث:
قولت أجيلك بنفسي أشوفك عايز إيه
تابع "عيسى" ضاحكا:
بس خلي بالك مجيتي مبتحصلش غير للغاليين بس.

نطق "باسم" بعدوانية نجحت عيناه في بثها ببراعة:
جيت هنا علشان أشوفك معاها؟... تبقى عبيط لو مفكر إني يوم ما هرتبط هيكون بواحدة زي دي.

عاد "عيسى" إلى الأريكة وجلس عليها متحدثا بارتياح:
أنا جيت هنا علشان عارف إنك هنا مش علشان أي حاجة تانية... بالنسبة بقى للوضع اللي شوفته من شوية...
انتظر "باسم" تبرير، تبرير يخفف تلك الملحمة المشتعلة في صدره ولكنها لم تُخمد بل زادت اشتعالًا حين سمع "عيسى" يتابع مبتسما بمكر:
معنديش أي تبرير ليه، افهمه زي ما تفهمه.

_عايز إيه يا "عيسى"؟
قالها " باسم" بنبرة حادة وهو يعلم أن غريمه يفهم معناها جيدا ولكن تصنع "عيسى" عدم الفهم وهو يقول:
والله لو حد فينا المفروض يسأل السؤال ده هيبقى أنا... جاي المعرض عندي وعامل مشاكل ليه؟

ضحك "باسم" محركا رأسه يمينا ويسارا باستنكار وتبع ذلك قوله:
بجد مش عارف أنا جاي ليه؟
واجهه بعينيه متابعا:
جاي علشان مش عايز تخليك في شغلك وتبطل شغل تحت الترابيزة ده.

استقام "عيسى" واقفا ومط شفتيه متصنعا الرضا عن الحديث ثم قال:
هو في حاجة أنا حابب أنبهك ليها علشان شكلك مش واخد بالك منها، وهي إن التجارة شطارة شغل تحت ترابيزة بقى، شغل فوقها المهم مين اللي هيكون winner في الآخر...
ابتسم لخصمه متابعا:
وبغض النظر عن ده، أنا مليش في شغل تحت الترابيزة، أنا لما بعمل حاجة بيبقى على عينك يا تاجر.

تلفت أعصاب "باسم" وتحرك ناحيته يصيح بغضب:
أنت اللي أقنعت الزبونة تبيعلك العربية، وأنت عارف إن أنا كنت اتفقت معاها خلاص وهتبيعلي.

رفع "عيسى" حاجبيه سائلا بتصنع الدهشة:
بجد!... أنت عامل كل الحوار التقيل ده علشان كده؟
و هز رأسه متابعا الحديث:
اه يا سيدي أنا اللي كلمتها، أنت عارف إني بعشق العربيات القديمة... واحدة عندها عربية كلاسيك من أيام جدودها الباشوات وعايزة تبيع... مش لازم تبيع حتة الأنتيكة دي لأول واحد يقابلها على فكرة

أراد "باسم" مقاطعته ولكن "عيسى" أجبره على سماعه حين تابع:
هتقولي إنها كانت اتفقت معاك خلاص، هقولك إنها ست والستات كل دقيقة بحال... يا شيخ ده حتى المتجوزة دقيقة بتحب جوزها، والدقيقة اللي بعدها نازلة شتيمة في اليوم اللي عرفته فيه.
صمت ثوان واستطرد:
الهانم مغلطتش اللي معاه حاجة نادرة، مش بيبيع غير بأعلى سعر، أنا عارف إن كان ممكن تعرض عليها أكتر من التمن اللي أنا عرضته... بس أنت عارف بقى "عيسى نصران" مبيعتقش.

صفق "باسم" بيديه في حركة مسرحية وهو يقول:
هايل، حقيقي براڤو... أنت شايف إنها شطارة... بس أنا ردي على الشطارة دي بقى مش هيكون كلام.

رمقه "عيسى" باستغراب مضيقا عينيه فسمعه يقول وقد اقترب من باب الخروج:
ردي هيوصلك، وهستنى شابو منك يا "عيسى".

قالها " باسم" وتبع ذلك صفعه للباب، غادر الغرفة كليا بعد أن رمى اخر كلماته، رمق "عيسى" أثره بانزعاج فتوقيته ليس مناسب بالمرة، والده لن يسمح بوجوده هنا كثيرا، ومخططات "باسم" هذه تحتاج ذهن يقظ، وجسد حاضر .... تكرر على أذنه اخر كلمات مما أشعل قلقه وخاصة وعقله الباطن يكرر عليه القول الذي ختم به "باسم":
ردي هيوصلك.
وياله من قول يعبث بالعقل أشد العبث!

★***★***★***★***★***★***★***★

_يا حاج مينفعش كده أنا بقالي أكتر من الساعة ملطوع في الشارع.
نطقها " طاهر" بإرهاق وهو يحاول إقناع "نصران" كي يسمح لابنه بالدخول ولكن طلبه تم مقابلته بالرفض التام حيث قال "نصران":
قولتلك يا " طاهر" سيب الصايع ده عندك وارجع، علشان دخول أنا مش هدخله... قوله يروح يكمل قعدته مع اللي قاعد معاهم من طلعة النهار.

تأفف "طاهر" بانزعاج، ومسح على وجهه يحاول استدعاء بعض الهدوء و هو يقول:
يا بابا الست "هادية" و "شهد" و "مريم" بناتها معايا، وبقالهم أكتر من الساعة قاعدين في العربية لحد ما شكلهم ناموا، وأنت مش راضي تدخله
تابع برجاء:
دخله بقى الله يباركلك عايز ألحق أنام عندي طيارة الصبح، بالله عليك.

استطاع سماع زفير "نصران" الذي تبعه قائلا بضجر:
هاته وتعالى، هاته أنت يا "طاهر"، متسيبهوش يدخل بعربيته علشان ميلفش هنا ولا هنا تاني.

هز " طاهر" رأسه موافقا وقد لان "نصران" أخيرا:
حاضر هجيبه وجاي حالا.

أنهى المكالمة معه واتجه ناحية "حسن" بعد أن أخبر الواقفين بموافقة "نصران" على دخوله، دفعه أمامه وهو ينطق بضجر:
اتفضل قدامي... وعلى فكرة المرة الجاية ده لو في مرة جاية أنا هسيب أبوك يعمل اللي عايزه معاك.

تحدث "حسن" بانزعاج:
هو أنا عملت إيه يعني، وبعدين استنى هنا عربيتي برا .

قاطعه "طاهر" بقوله الصارم:
سيب عربيتك بابا هيبعت حد ياخدها، أنت هتيجي معايا.

هز "حسن" رأسه موافقا بغيظ وركب في المقعد المجاور لطاهر وقد ظهر انزعاجه جليا مما حدث،
بمجرد أن ركب "طاهر" تحدث معتذرا:
أنا بعتذر جدا يا مدام "هادية" على قعدتكم دي.

نظرت "هادية" لابنتها "شهد" التي غفت على كتفها، وقالت مبتسمة:
لا يا بني عادي محصلش حاجة.

_ماما
همست بها "مريم" لوالدتها فاستدارت لها "هادية" تسألها بعينيها أي شيء تريد فقالت "مريم":
أنا عطشانة.

رمقتها " هادية" بسهام حادة دعمها قولها الغاضب:
هو أنتِ عيلة، ما تصبري لما نروح.

وجدت ذلك الشاب المجاور لطاهر يستدير لها بزجاجة المياه البلاستيكية وعلى وجهه ابتسامة وهو يقول:
اتفضلي.

تناولتها منه ناطقة بلطف:
شكرا.

_اسمك إيه بقى؟
كان هذا سؤال "حسن" والذي لم ترتح هادية لنبرته، فأجابت عن ابنتها بنبرة شابها الحدة:
اسمها "مريم".

لم تخف النبرة الحادة عن " حسن" فتنحنح بحرج وعاد ينظر أمامه، بينما حاول "طاهر" كتم ضحكاته المتشفية فيه، وبمجرد أن نظر له بغيظ همس "طاهر" مبتسما:
تستاهل.
أكملت السيارة طريقها نحو المنزل، وقد حل الصمت ولكنه صمت الأفواه فقط، ولكن ضجيج عقولهم لا يتوقف.

★***★***★***★***★***★***★***★

مجرد محاولة النوم تجعل النوم يفر منك بل ويقسم على أنه سيحرمك منه، حاولت أن تتابع التلفاز عله يشغل وقتها، وقامت لتُعِد الكوب السادس من الشاي، فسخونته تشعرها أنها بأمان.... سمعت دقات على الباب فنطقت بقلق:
في إيه؟

سمعت صوت "بشير" الذي استفسر بأدب:
أنسة "ملك" محتاجة حاجة؟

_لا شكرا.
قالتها بامتنان فسمعته يسألها من جديد:
طب تحبي أنزل أجبلك أكل؟

أسرعت تقول بلهفة برز فيها ذعرها من أن تبقى وحيدة هنا:
لا أرجوك متسبنيش وتخرج.

طمأنها حين قال بود:
متقلقيش مش هخرج، هطلبلك أكل... تمام؟

اتزانها بدأ يختل، تحتاج فعليا للطعام كي تستطيع المواصلة لذا وافقت لينصرف هو، وتعود هي للجلوس على الأريكة... رفعت معصمها أمام عينيها تتأمل السوار الذي نُقِش عليه اسم "فريد" بابتسامة ناعمة غزا حصونها الحزن وفجأة
فلتت منها صرخة عالية حين سمعت صوت تهشم في الخارج.
استطاعت بسهولة سماع صوت تأوه "بشير"، ماذا يحدث إنها في مأزق، وخطر يحلق فوق رأسها.
قامت تسير بحرص ناحية النافذة الزجاجية الكبيرة لترى ما يحدث في الأسفل، وشكرت قدمها ألف مرة على معاونتها وقدرتها على تحمل السير في حالتها هذه، جحظت عيناها وهي ترى عدد من الملثمين، وقد لحق ببشير أذاهم إذ وجدته متكوم على الأرضية يتأوه ورأسه تنزف، كل منهم بيده عصا خشبية ضخمة، يهشم بها ما طالت عينه من سيارات، لم تتحمل قدمها أكثر حين وجدت أحدهم متجها إلى أعلى متجها للغرفة، فسقطت على الأرضية الباردة، ترتعد بخوف وتهز رأسها باستنكار لكل ما يحدث،
وضعت كفيها على أذنيها وشرع جسدها في الاهتزاز بلا توقف أما في الأسفل أوقف أحدهم ذلك الصاعد للأعلى بقوله:
متطلعش فوق كفاية كده.

نظروا للأشياء المحطمة برضا، أشار لهم أحدهم كي يخرجوا، ومال هو على " بشير" هامسا:
بلغ "عيسى" إن باسم بيسلم عليه.

تبع معاونيه في الخروج بينما تأوه "بشير" من وجع رأسه فلقد كانت ضربتهم قوية عليها وشرع يسبهم بغضب.... ظلت هي في الأعلى على نفس حالتها السابقة ولكن زاد على حالتها البكاء الشديد.. في الأسفل دخل "عيسى" ليرى ما أصاب السيارات، وما أصاب "بشير" أيضا، مال عليه مسرعا وهو ينطق بلهفة:
"بشير" في إيه؟

_باسم بعت شوية بلطجية مداريين وشهم، كسروا جزء من العربيات زي ما أنت شايف كده ، وقالولي أبلغك إنه بيسلم عليك.
قال "بشير" كلماته بانفعال غاضبا، في حين أغمض "عيسى" عينيه وقد اقتربت براكين غضبه من الفوهة لتنفجر في الجميع.
مال على "بشير" وساعده على الوقوف كي يجلس على المقعد فنطق "بشير" منبها وهو يضع كفه على رأسه بوجع:
اطلع شوفها.

ضرب "عيسى" على رأسه متذكرا، وبالفعل هرول نحو الأعلى لتصدمه حالتها حين فتح الباب
متكومة على الأرضية، منكمشة على نفسها، تضع كفيها على أذنيها، و دموعها في سباق، وتشنجها في سباق أكبر.
رفعت عينيها نحوه وهنا ازداد نحيبها، هل حقا آتت النجاة لها ثانيا؟
المرة الأولى كانت الضحية "فريد"، هل هناك ضحية اخرى.
اقترب منها مسرعا وجلس جوارها ناطقا:
ملك أنتِ كويسة؟

كانت كلماتها مبعثرة غير مجمعة من وسط انهيارها:
كانوا هنا... ضربوه... وكسروا، هما طالعين هنا.

ربت على كتفها يحاول بثها الطمأنينة:
اهدي مفيش حد خلاص.

هنا صرخت بإصرار وقد تضاعف انهيارها:
بقولك طالعين، أنا شوفتهم طالعين...
ابعدوا عني بقى أنا تعبت ، ....
تشبثت به بكلتا يديها فالتحمت عيناها بعينيه وهي تقول بإصرار باكية:
متنزلش تضربهم هيموتوك تاني.

هل تحدثه هو حقا؟ ... استندت برأسها على صدره وتابعت نحيبها، للمرة الثانية بعد وقوفه أمام جثمان شقيقه يشعر أنه عاجز، لا يجيد التصرف، ولكن هذا ليس حل.
أجبرها على النظر إليه وهو يقول بنبرة حادة يمكنها المساهمة في رد اتزانها:
أنا " عيسى" ، أنتِ كويسة، ومفيش حد هنا خلاص...
محدش هيموت حد، و"بشير" تحت كويس.

نجحت بالفعل نبرته الحادة في جعلها تنظر حولها بضياع تحاول استجماع أين هي وماذا حدث؟
قام من مكانه وأخرج زجاجة مياه قدمها لها ، فشربت، شربت وكأن في صحراء ووجدت الماء الآن.

أجرى مكالمة بأحدهم، وما إن انتهى منها حتى اقترب منها، وساعدها على الوقوف قائلا بهدوء:
يلا علشان أروحك
مازالت الرعشة تتملك جسدها فقبض على كفها وهو يؤكد لها:
متخافيش... اهدي و متخافيش.

هزت رأسها موافقة وخرجا معا من هذه الغرفة، ساعدها في النزول وهو يقول لصديقه:
أنا كلمت "عماد" هيجي يشوف دماغك، ربع ساعه وهيكون هنا... أنا لازم امشي دلوقتي.

رأى "بشير" حالتها فعلم أن ذهاب "عيسى" بها الآن من هنا أمر ضروري... إنها حالة انهيار، قبل خروج "عيسى" تماما من هنا قال "بشير" منبها:
كلمني يا "عيسى".

_حاضر.
قالها " عيسى" وهو يرمق السيارات التي تهشمت بانزعاج شديد، ثم تابع السير بها إلى الخارج... من ناحية انهيارها، ومن ناحية اخرى هذا المعتوه الذي استغل غيابه لفعل هذا.
ولكن ليس وقته، ليس وقته أبدا... توقيته المناسب لم يحن بعد.

★***★***★***★***★***★***★***★

في منزل "نصران"
وضعت "سهام" الدواء في كف نصران الممدد على الفراش، وناولته زجاجة المياه الباردة تقول:
الدوا.

تناوله وتجرع خلفه الماء، اتخذت هي مكانها في الفراش وتمددت بارتياح ظاهري كذبه داخلها، أغمضت عينيها ولكن سريعا ما فتحتهما ثانيا حين سمعته يسأل:
زعلانة ليه يا "سهام"؟

اعتدلت جالسة ورمقته باتهام لم يخف لمعان الدموع في مقلتيها:
زعلانة على ابني اللي لسه دمه مبردش، و زعلانة منك يا " نصران" ... زعلانة منك علشان أول مرة تفهمني غلط، طول عمري بسمعلك في كل حاجة
تابعت باكية تذكره بما تفعل:
وبحاول بكل الطرق إنك علطول تبقى كويس ومش زعلان، "عيسى" بيستتقل وجودي بسيبله البيت في أجازته وأطلع أقعد فوق، كلامك بمشيه عليا قبل ما يمشي على الكل حتى لو مش على هوايا.... لكن متوصلش إنك تقولي إني بطرد حد من بيتك، من حقي أعرف ليه يقعدوا فوق في بيت ابنك اللي ملحقش يقعد فيه... أنا مغلطتش يا "نصران" أنا كنت عايزاك تفهمني وأنت للأسف مفهمتنيش.

نطق يعاتبها ولكن كانت نبرته لينة مما جعل عتابه يصل أسرع:
يا "سهام" أنا في سكينة مغروزة في قلبي، حتة مني راحت ... ربيت وكبرت علشان يتاخد و اتحرق أنا بنار هجره دي... مفيش حاجة نقولها غير الحمد لله، وإننا نجيب حقه.
نظرت لأسفل بعيون دامعة فرفع وجهها له متابعا:
أنا مش ناقص، مش ناقص عتاب الست دي استغاثت بيا، استغاثت بكبير البلد دي اللي لازم ينصرها وينجدها وإلا ميبقاش كبيرها.... عموما أنا خدتلها بيت إيجار وهبلغهم من بكرا علشان ينقلوا فيه، مش عايزك تبقي زعلانة زعل فوق الزعل في الظروف دي، مع إنك غلطانة بس مش هنتحاسب دلوقتي.

هزت رأسها موافقة وهي تمسح دموعها فسألها مبتسما:
يعني خلاص مش زعلانة؟

تمددت مجددا وتدثرت وهي تقول:
لا خلاص طالما دخلت "حسن" و اتكلمنا أنا مش زعلانة.

تنهدت بارتياح وأغمضت عينيها، كعادته يكسر صمتها ولا يجعل الجفاء ثالثهما... اختفت الابتسامة حين لاح أمام وجهها فجأة لقطات من شريط ذكرياتها القديم.
تجلس مع شقيقها في حجرتها، تقدم له قهوته، تخبره بفعلته النكراء التي لن يصمت عنها "نصران" إذا أخبرته زوجته الاخرى ووالدة ابنيه "فريد" و "عيسى".... تستطيع الآن سماع صوت شقيقيها وكأن هذا ليس ماضي بل حاضر ويحدث الآن:
أنتِ هتقلقيني ليه هي مش الولية دي كده كده عيانة، حقنة صغيرة هتخلص الليلة كلها وتبقى قضاء وقدر.

فتحت عينيها وتعالت أنفاسها، استدارت "سهام" للجهة الاخرى من الفراش حتى لا يرى "نصران" علامات الذعر على وجهها، نزلت دموعها متألمة، إن الألم يقتلها ولو كان له تأثير مادي لصارت جثة هامدة الآن من ألم ضميرها.

★***★***★***★***★***★***★***★

أوقف السيارة أمام المنزل، فنزلت "مريم" وقد سأمت حقا من الجلوس الطويل بالسيارة، نزل "طاهر" أيضا وتبعه "حسن" ... اتجهت "مريم" إلى الداخل لتصعد إلى منزلهم في الطابق الثاني، تبعها "حسن" الذي استوقفها قبل أن تتابع صعودها بسؤاله المازح:
ممكن أعرف في سنة كام ولا مامتك هتقفش برضو؟

استدارت له فضحك حين ظن انها ستجيب ولكنها شملته بنظرة من أعلى لأسفل وهي تقول:
هي هتقفش، وأنا هقفش، وأبوك كمان هيعمل نفس الحاجة لو عرف يا محترم.
انتهت من كلماتها واتجهت نحو الأعلى تكتم ضحكاتها في حين في الخارج كانت "هادية" تحاول جاهدة إيقاظ ابنتها ناطقة بتعب:
يا بنتي قومي بقى.

رددت "شهد" بلا وعي:
بكرا...بكرا.

ضحك "طاهر" على حالتها هذه وأجاب على السؤال الذي توقع أن تسأله "هادية" بقوله:
متقلقيش على "ملك" أول ما ترجع أنا هطلعهالك.

هزت رأسها موافقة بامتنان، وشرعت في هز ابنتها تقول بانزعاج من نومها الثقيل:
"شهد" اصحي، فوقي كده.

ابتسم "طاهر" حين وجد "شهد" توجه رأسها للجهة الاخرى فأشار لوالدتها بعينيه على زجاجة المياه، لم يكن بالفعل هناك حل غير ذلك لذا فتحت الزجاجة و صبت الماء في الغطاء، ثم نثرتها على وجهها أمام ناظري "طاهر".

انتفضت " شهد" ناطقة بفزع:
ايه في ايه .

نطقت "هادية" بغيظ:
وصلنا يا حبيبتي، في إننا وصلنا وأنتِ مش عايزة تصحي.

مسحت قطرات الماء من على وجهها بانزعاج متحدثة:
ايه يا ماما ده بس.

نزلت من السيارة بكسل، وتبعتها والدتها التي قالت ممتنة:
شكرا على تعبك النهاردة... أنا محرجة منك والله.

ابتسم "طاهر" مرددا بلطف:
لا ولا يهمك المهم إننا لاقيناها الحمد لله.

_لقيتوها فين أنتوا لقيتوها وأنا نايمة؟
قالتها "شهد" بعينين أوشكا على الانغلاق فنبه
"طاهر" والدتها مازحا:
أنا بقول تطلعوا، بدل ما تنام مننا في الشارع ومش هنعرف نصحيها تاني.

حركت "هادية" ابنتها واتجهت إلى الأعلى مودعة "طاهر":
تصبح على خير يا بني.

غابا عن ناظريه تماما... فجلس بإرهاق على الأريكة الخشبية الواقعة أمام المنزل، وأخرج هاتفه ينظر فيه منتظرا وصول " عيسى" هو الاخر.
رسائل كثيرة و مكالمات أكثر لديه كم هائل غير مجاب عليه منذ وفاة "فريد" ولكن ما لفت انتباهه حقا رسالة من زوجته السابقة، شعر بتسارع دقات قلبه نعم ما زال يحبها، أعطاها الحب ولكنها أرادت ما هو مستحيل فكانت النتيجة هي فراق.
فتح الرسالة يقرأها فوجد محتواها كالآتي:
البقاء لله يا "طاهر" أنا جيت علشان أشوفك بس ملقتكش للأسف... البنت بتسأل عليك وبقالها يومين نايمة معيطة ممكن لما تفضى تكلمني بليز.

ثبتت عيناه على الرسالة، ودلك عنقه بتعب ثم أسند رأسه على كفيه وأغمض عينيه بهدوء متخيلا أن العالم يتلاشى من حوله فقط تبقى راحته... راحته ولا شيء اخر.

★***★***★***★***★***★***★***★

بقى ساعه واحده على الفجر
ولكن هذا لم يجعل مجلسهم ينفض، في ذلك الملهى الليلي جلس "محسن" و "شاكر" أمام طاولة المشروبات لينطق "محسن" ضاحكا:
بس إيه رأيك يا "شاكر" في المكان؟... يستاهل إننا نجيله من اسكندرية مخصوص ولا لا؟

تجرع "شاكر" الكأس المتواجد في يده جرعة واحدة ونطق بكلمات بدا فيها ذهاب وعيه جليا:
يستاهل و نص كمان.

نطق "محسن" بقلق من حالة "شاكر" الذي بدأ في النطق بكلمات غير مجمعة و لا تعطي معنى:
كفاية يا "شاكر" أنت تقلت أوي.

تناول "شاكر" كأس اخر ناطقا بفخر:
أنا أدها و نص كمان.

تقدم "باسم" من الطاولة ليصبح في منتصفهما، ظهر الاقتضاب على تقاسيمه فنطق "شاكر" ضاحكا:
فكها يا عم مالك.

رمق "محسن" ذلك الغريب بقلق والذي قال بحدة لمحسن موبخا إياه على حديث صديقه:
لما هو مش أد الشرب بتسيبه يشرب ليه!

آتت "رزان" من خلف "باسم" ووضعت كفها على كتفه ناطقة بغنج:
يعني هو "عيسى نصران" يزعلك وتقلب عليا أنا.

_لا عاش ولا كان اللي يزعلني، أنا زعلي وحش أوي يا رزان.
قالها "باسم" بنبرة بثت الذعر في قلبها ولكنها حاولت تغيير الحديث بقولها:
طب خلاص متزعلش كده كده هو مبيجيش البار، و مش علطول في القاهرة.... أنا سمعت من ناس هنا تعرفه إن أخوه مات.

ابتسمت بفرح حين وجدت أن تلك المعلومة التي حصلت عليها لاقت اهتمام "باسم" فقال لها:
مات ازاي يعني؟... حادثة؟

كان انتباه "محسن" معهم منذ نطق اسم "عيسى نصران" فسألهما:
أنتوا تقصدوا ابن الحاج نصران اللي من اسكندرية صح؟... ده من عندنا.

هزت رزان رأسها مبتسمة وتناولت كأس وقدمته لمحسن سائلة باستدراج:
متعرفش أخوه مات ازاي؟

أخبرهم "محسن" بالأمر بفخر:
أعرف طبعا، أخوه اتقتل في قرية جنبنا والدنيا مقلوبة على اللي قتله.

استدار "باسم" له يسأله باهتمام حقيقي:
مين اللي قتله؟

رفع "شاكر" كفه، وقد دخل في نوبة ضحك هيستيرية،
لم ينتبه له "باسم" فهو يعلم تأثير هذا النوع من الشراب على مثله، ولكنه انتبه حقا حين سمعه يقول من بين ضحكاته التي خرجت بلا سبب واضح:
أنا.

لم تكن نظرات أبدا، حقا لم تكن، إنها سهام وليست أي سهام بل سهام خارقة.

تأتي لحظة ليست مثل أي لحظة، إنها بمثابة مفتاح للحقائق، بلا إنها الخطأ الذي يحول جبل النقاط الصحيحة إلى هباء منثور...إنها لحظة..
لا ننساها أبدا !
يُتبع


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close