رواية جوازة ابريل الجزء الثاني الفصل السادس 6 بقلم نورهان محسن
فصل السادس (طعنة أحيت قلبه) رواية جوازة ابريل" ج2
بين الأحلام واليقظة ، قصص عشق كثيرة ، غرام موشوم على جدران الأعماق ، خالد في العقل كخلود الأديان ، منها حكاية كان فيها وجع عميق لم يُنسى ولم يلتئم الجرح علي الرغم من مرور السنوات ، ومنها حكاية قلوب كالأكؤوس إن أرادوا ملأوها حباً ، لكنهم اختاروا أن يملأوها حقداً وطمعاً ، وسيشرب كل منهم مما وضع ، ومنهم حكاية كتبت بحروف عشق ذهبي ، فحافظت بالوفاء والصدق على سطورها الجميلة بالقلب علي مدار الزمان ، أما بعد
الحكاية الرئيسية لها قلوب تكتبها الآن بصمت ، دعونا لا نفكر في النهاية ، ونستمتع بتفاصيل حكايتهم التي بدأت للتو.
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈-❈
عند خالد
تراجعت لميس خطوة إلى الوراء ، بعد أن تفاجئت بخالد خلفها ، مما جعل الذعر يظهر على ملامحها ، لذا تكلم على الفور : اسف ماقصدتش اخوفك
ضيق خالد مقلتا عينيه ، ملاحظاً خدودها تلمع نتيجة بللها من الدموع التي سقطت من عينيها لا إراديا ، وهي غارقة في التفكير ، فسألها بصوت رجولي يدل على الاهتمام والتعجب في نفس الوقت : هو انتي كنتي بتعيطي في حاجة ولا ايه؟
رفعت لميس عينيها ، لتنظر إليه في ذهول من علمه رغم أن المكان كان شبه مظلم حولهما ، ثم هزت رأسها بالنفي ، وردت تكذب بلجلجة : لا دا انا حسيت بشوية دوخة وقولت اخرج اشم هوا .. علي الاغلب نزل ضغطي من الارهاق
وخزة عنيفة استهدفت قلبه ، وغريزة خوفه عليها طغت على حواسه ، فقال بصوت مليء بالحزم الممزوج بالحنان وهو يقترب منها خطوة : طيب خلينا نروح نقيس ضغطك ونطمن احسن
عارضت لميس كلامه برعشة فى جسدها حاولت السيطرة عليها ، وهي تعض شفتها السفلى : مش مستهلة انا كويسة دلوقتي
عقص خالد أصابعه على بعض ، وكبت رغبة دفعته إلى الإمساك بمعصمها ، وسحبها إلى الداخل رغمًا عنها ، فارتفع صوته بشكل لا يمكنه السيطرة عليه ، وهو يقول بانفعال وقلق : بلاش اهمال في الصحة .. انتي مش شايفة وشك مصفر ازاي ولا عايزة تقعي من طولك فجأة زي المسكينة اللي فوق
تذكيره لها بهذه الدخيلة على حياتهم ، جعل قلبها يحترق بنار غريبة ، أعمت عينيها عن رؤية القلق الحقيقي فى حدقتى هذا الرجل العاشق لها ، ووجدت نفسها تسأله بنبرة حادة : انت ليه مكبر القصة؟ ومتعصب عليا ليه كدا؟
قست تعابير وجهه ، ودون أن يفكر مرتين أجابها بصوت عميق نابع من أعماق روحه ، جعل قلبها المسكين يخفق بجنون : حقي اتعصب من خوفي علي الناس اللي بحبهم..
_لميس
تسللت الخيبة إلى قلبه المشتاق بعد أن قطع صوت وسام تكملة كلامه ، بعد أن نادت على لميس من داخل السيارة ، تحثها على الحضور ، مما جعلها تلبى النداء بعد أن ظلت تحدق به مطولاً إلى خضراوتيه المذهلتين بنظراتهم العميقة ، بأعين ضاقت من شدة ضوء مصابيح السيارة ، وخفقاتها فى تفاقم قبل أن تعى علي نفسها ، لتتحرك بسرعة ، وهو يتبعها بعينيه اللامعتين حتى رحلت تماما ، وبقى شاردًا في أثرها.
❈-❈-❈
فى ذات الوقت
داخل المستشفي
عند هالة
تفاجأوا جميعًا ، حالما دخل عدد من الممرضات والممرضين من باب طوارئ المستشفى ، يركضون مع السرير المتحرك الذي يرقد عليه جسد رجل طويل وضخم البنية ، غارقًا في دمائه.
هرولت هالة خلفهم ، لتسأل بسرعة : ايه اللي حصله؟
أجابتها الممرضة علي الفور بصوت لاهث : واخد رصاصة يا دكتورة .. نزف كتير والنبض ضعيف
هتف فريد بصوت قوي ، فيما يركض إليهم : علي العمليات حالا
إسترسل فريد مسرعًا ، وهو يحث إحدى الممرضين علي ركض أسرع بصوت آمر ، مما جعل هالة تلتفت إليه بنظرات مليئة بالتعجب : بسرعة شوية .. استعجل يلا .. استعجلوا
ازدادت دهشة هالة حالما كاد يدخل من باب العمليات ، لكن إحدى الممرضات أوقفته وهي توشك علي إغلاق الباب ، وقالت بنبرة عملية : عفوا يا استاذ .. ممنوع دخول غرفة العمليات
وضع فريد يده بسرعة على الباب قبل أن تغلقه ، وسأل بجدية : هما في المستشفي دي بيمنعوا الدكاترة من دخول العمليات ولا ايه؟
سرعان ما هتفت هالة بنفس الجدية بعد أن كانت تتابع هذا الحديث من الداخل بإستغراب : بس انت مش دكتور هنا
دفع فريد الباب بقوة ، ليدخل رغماً عن الممرضة ، هو يرد عليها بصوته الواثق : الدكتور دكتور في اي مكان
نظرت إليه هالة في ذهول ، وهو يقترب منها بخطوات واسعة ، ليستأنف كلامه بثبات : لو عايزة تنقذي حياة الراجل اللي جوا من الموت
وقف فريد بجانبها ، فأدارت رأسها إليه بترقب ، ليشمل هيئتها الجميلة بعسليته الكهرمانية ، وأضاف بإستهزاء : اتعقمي وحصليني
أدارت هالة جسدها ، وتتبعته بسرعة دون أن تنطق بأي شيء ، دون أم تعطي لنفسها فرصة للتفكير ، فهذه حالة طارئة يجب أن تتعامل معها بحكمة وبأعصاب هادئة ، حتى تسيطر على الوضع مهما كان كما تعلمت.
❈-❈-❈
عند باسم
فى كافيتريا المستشفي
يجلس باسم مرتاحًا قبالتها ، وهي صامتة ، تحدق به تارة ، وتارة أخري تحدق في فنجان قهوتها الذي لا يزال بخاره المنعش يتصاعد حولها ، لكن في داخلها لا تشتهيه بسبب اضطرابها.
_هنفضل نبص لبعض كتير!!
قال باسم بتعجب بارد ، مع رفع فنجان قهوته إلى شفته ، وهو يرتشف منها فإستطيب مذاقه ، وفي نفس الوقت كان منتبه لحالتها المتوترة بسبب نقرها المستمر على سطح الطاولة ، فأضاف سؤالا ، لكى يفتح المجال لها : كنتي عايزة تقولي ايه يا ريهام؟
وضعت ريهام يدها فى حجرها ، وتململت بتوتر في مقعدها ، ثم سألته بهدوء بذلت قصارى جهدها ، لتظهر عليه : عايزة افهم ايه خلاك تعمل اللي عملته؟
_وانا عملت ايه؟
سألها باسم سؤالا مماثلا ، وهو يقطب بين حاجبيه بتركيز ، بعد أن وضع كوبه على الطاولة : اكلمي دغري بلاش اسلوب المراوغة بتاعك دا
اتسعت عيناها بصدمة ، وهي تشير نحو قلبها الهادر بقوة ، وسألت بصوت متعجب : انا اللي براوغ؟
تابعت ريهام تتساءل ، وهي تبتسم بعصبية يشوبها السخرية : ماتستهونش بعقلي يا باسم .. منين كنت هتخطب البت الموديل للي كنت ماشي معاها .. ودلوقتي فجأة بتتقدم لأختي .. امتي عرفتوا بعض اصلا؟
_دا السؤال اللي قولتي المقدمة دي كلها عشان توصليلو؟
رد باسم ساخراً ، بابتسامة ظهرت على جانب فمه بخبث منتصر بعد أن جعلها تعترف بما أرادت قوله منذ لحظة جلوسهما ، رفع باسم حاجبيه للأعلى ، واستطرد قولاً بنفس السخرية : كنت متأكد ان محروق دمك عشان في تفصيلة عني عدت من تحت ايديكي
لمع الغيظ في عينيها بشدة ، إذ فهمت محاولاته الخبيثة للنيل من ثقتها في التحدث ، فأومأت برأسها وأكدت كلامها السابق بصوتها الأنثوي الناعم : وانا متأكدة من اللي بقوله .. لا هي عمرها جابت سيرتك ولا انت عمرك ما اتكلمت عنها .. ماتجيش تعمل المسلسل الهندي دا .. ومنتظر اني اصدقك بالبساطة دي يا باسم الكل لو دخل عليه الحوار دا انا لا
قوس باسم فمه ، وهو يستمع إلى حديثها ، ثم قال لها بجدية رغم هدوء لهجته : اللي استهون بالتاني كان انتي .. افتكرتي بغباء انك تقدري تقتحمي حياتي بالساهل كدا وفي اي وقت
أضاف باسم بتهكم فظ غلف نبرته مع تعابير وجهه : مش معني اني كنت بتسلي شوية .. وسيبتك عايشة في جو العميلة السرية الخايب بتاعك دا اللي بتخطط وتراقب وتتجسس علي مكالماتي وعلاقاتي .. انك تتخيلي بالسذاجة دي ان خلاص بقيتي عارفة عني اللي محدش يعرفو
ازدادت عصبية ريهام ، واشتعلت عيناها الزرقاوان بلهب حاد من ثقته المفرطة في نفسه ، فضلاً عن أسلوبه الاستفزازي القادر على إصابة أعتى الرجال بالجنون ، من هى لتصدم أمامه؟
خرجت الكلمات من فمها بشكل اندفاعي غير محسوب عندما سألته : تقصد ايه يعني؟ كنتو تعرفوا بعض من زمان وبتخدعونا كلنا بما فينا خطيبها .. عشان كدا كنت رافض رجوعنا
❈-❈-❈
عند عز
حبس أنفاسه بصدمة فور أن لاحظها شاحبة الملامح وحبيبات العرق الباردة على جبهتها ، فإحتوى جسدها الساكن علي صدره ، وهو يضرب علي وجهها بأصابعه ، مع مسحه على جبهتها بيده الأخرى عدة مرات ، وارتعش بدنه من القلق ، وهو يحاول إيقاظها دون أن إستجابة منها ، ليهتف بصوت مترجي ، وهو على وشك الانهيار : مني جرالك ايه بس يا حبيبتي .. ماتوقعيش قلبي بقي عشان خاطري تردي عليا !!
أخفض عز بصره ، وهو يضيقهما في عدم إستيعاب علي قنينة عقار ، لأحد الأدوية ملقاة تحت جسدها ، وكانت هناك عدة حبوب بسيطة متناثرة حولها ، لتحظ عينيه من الهلع ، ودقات قلبه تجاوزت المعدل الطبيعي من شدة خوفه.
نظر عز إلى وجهها بفم مفتوحًا ، وهو يكذب هذا الهاجس الذى طرق في عقله ، أنها لن تفعل هذا الشيء بنفسها ، ولا شعورياً صرخ باسمها بصوت مذعور بينما يهزها بقوة : مـنـي!!!
انحنى عز فوقها بعد أن مددها على الأرضية ، ليفحص نبضها ، فوجد أنه ضعيف جدًا ، بالكاد يسمع ، وبسحابة كثيفة من الكلمات تغشي عينيه أخرج هاتفه من جيب بنطاله ، ثم نقر على عدة أرقام بأصابع مرتعشة ، وهو يحدق فيها بينما قلبه يرتجف من الرعب داخل قفصه الصدري ، ليردد بخوف : عملتي ايه في روحك يا مجنونة
هتف بصوت مهتز مليئ بالرعب ، بمجرد أن أجابه الطرف الآخر على الهاتف : ايوه لو سمحت عايز عربية اسعاف بسرعة .. العنوان .. العنوان
تابع عز يخبره بالعنوان ، قائلا بعجالة : بسرعة بسرعة الله يخليك
رمى الهاتف من يده وهو يجذب شعره بتوتر شديد ، ثم أحاطها بذراعه ليقربها منه ، ابتلع غصة مريرة في حلقه ، والدموع تنهمر على خديه ، وهو يشعر بالعجز التام ، ليتساءل بصوت خافت بجنون كأنه بداخل كابوس : ليه؟ ليه تعملي كدا في نفسك .. لــيــــه؟
صرخ بكل صوته في الكلمة الأخيرة بانهيار قبل أن تتدحرج نظراته على فستانها الذي كانت ترتديه في الحفلة ، مستلقيا بجانبها ، ممزقا تماما بالمقص.
تشكلت الإجابة على سؤاله على الفور في ذهنه ، وجسده كله إرتجف بعنف ، كما لو أنه تعرض لصدمة كهربائية ، وتردد في ذهنه بمرارة وندم ساحق ، أنه هو الذي أوصلها إلى تلك الحالة ، أو بالأحرى ، الغيرة في الحب مثل الماء للورد ، القليل ينعشه ، لكن الكثير يقتله.
❈-❈-❈
عند باسم
تملكت منه حالة من الغضب ، وهو يستمع إلى كلامها الأحمق الذي يسيء إلى أختها ، إلا أنه رد عليها بصوت هادئ لا يخلو من حدة ، مع الحفاظ على رباطة جأشه : الزمي حدودك يا ريهام .. بس هقولك ايه يعني! حتي مش مستغرب انك بتقولي كدا علي اختك
عبست ملامحها ، وساد الصمت من الجانبين للحظات قبل أن يبادر باسم ليقطعه ، مضيفا بجدية وهو ينظر في عينيها : خلينا نكلم علي المكشوف يا ريهام .. اللي كانت بتخدع اللي حواليها هو انتي واهلك .. هو مش برده كنتو عايزين تجوزوها لواحد متجوز بدون ماتعرفوها عشان شوية المصالح اللي مابينكو وبينه
جالت الصدمة علي ملامحها بوضوح أمام عينيه الرماديتين ، فابتلعت لعابها بصعوبة ، وسألت بصوت خافت : انت منين جبت الكلام دا؟
تطلع باسم بها للحظات معدودة قبل أن يهز كتفيه بلا مبالاة ، وتمتم ببرود غامض : مش مهم .. هتفرق في ايه؟
زمّت ريهام شفتيها بغضب ، واحتد تنفسها ، وتحدثت بنبرة حادة واضحة ، رغم انخفاض صوتها : باسم .. انت لو فاكرني هسكت علي اللي بتعملو تبقي غلطان .. انا لا هخليك تلعب بأختي ولا هسمحلك تخليني مجرد نزوة في حياتك وإبريل هعرفها حقيقتك
استقر باسم بعيناه عليها مباشرة ، ومال بجذعه إلى الأمام ، وأسند مرفقيه على الطاولة ، ثم شبك أصابعه ببعضها ، ليتحدث بتأني : دور الاخت الكبيرة اللي خايفة علي اختها من الراجل الشر ير مش لايق عليكي يا ريهام .. وانتي حتي ماحصلتيش نزوة في حياتي عشان لا كان في حاجة بينا ولا هيكون في يوم .. دا اول هام..
حدق باسم فى محتوي الفنجان على الطاولة ، ثم رفع عينيه إليها وأكمل حديثه بعد وهلة صمت : ولو عايزة تقوليلها حاجة .. ممكن تحكيلها مثلا عن اللي كنتي بتعمليه معايا .. مثلا مجيتك لحد بيتي وترمي نفسك عليا بكل سهولة .. وعشان يكون عندك اثبات لكلامك مستعد اجيبلك فيديو وانتي داخلة للعمارة وانتي طلعالي وتوريهولها ساعتها هتصدقك بس..
أصابها الارتباك من علمها مقصده ، وتوالت الضربات من مطرقته القاسية فوق رأسها ، وهو يقترب أكثر من خلال الطاولة ، مما جعلها تحبس أنفاسها تلقائيًا داخل قفصها الصدري ترقبًا ، بينما يهسهس بصوت جاف ومخارج حروفه واضحة ، تزلزل أركان قلبها جراءها رعبًا وهولاً : بس قولي هيكون شكلك ايه قدامها وقدام اهلك؟ وقتها هتطلعي خسرانة سمعتك وكرامتك ومش بعيد طليقك ياخد ابنك منك
أشاحت ريهام وجهها المحمر عنه ، بعد أن اختفت قوتها الواهية التي كانت تتشبث بها أمامه ، قبل أن تنظر إليه مرة أخرى ، لتسأله بمرارة تغطي علي صوتها المصدوم ، وتشعر بآلام تهاجم ثنايا صدرها : معقولة بقيت بتكرهني اوي كدا؟ لدرجة انك عايز تردلي القلم بتاع زمان بالقسوة والجحود دا؟
نظر باسم إليها بوجه غير مقروء تعابير وجهه قبل أن يعتدل في مقعده ، ليخبرها بصوت هادئ صادق : بالعكس انا مش بكرهك ولا في نيتي حاجة تضرك..
تجمعت الدموع في مقلتيها ، وهي تعقد ذراعيها على صدرها ، وتكمل بقية جملته بدلا عنه : بس كمان بطلت تحبني مش دا اللي هتقوله؟
نظر باسم إليها طويلا ، وكأنه يرتب كلماته التالية في ذهنه أولا ، قبل أن يأتيها رده بثبات : اللي كنت حاسو نحيتك ماكنش هو الحب يا ريهام .. كانت مشاعر مش ناضجة .. والكلام في الماضي مش هيفيد .. وانا اللي بقولك كفاية نضايق في بعض اكتر من كدا .. احنا مهما كان هيبقي في بينا نسب وهبقي جوز اختك
قال كلماته الأخيرة مشددًا على كل حرف للتأكد من فهمها الكامل لحديثه ، لكنها كانت تنظر إليه بملامح غامضة غير مقروءة ، ولم يدرك أنه مزق كبرياء الأنثى داخلها ، وكأنه يضعها فى وسط النار ، ويطلب منها أن تتنفس بعمق لدرجة الموت والاختناق ، وهذا ما زادها غضباً وحقداً أكثر فأكثر.
❈-❈-❈
عند صلاح
في السيارة أمام الفيلا
ركن صلاح سيارته جانبا أمام مدخل الفيلا ، ولم يطفئ محركاتها ، فأدارت وسام رأسها متسائلة : انت مش هتنزل معانا يا صلاح؟
أجاب صلاح بعد وهلةٍ من الصمت : لا يا حبيبتي .. انا راجع علي المستشفي
أفاقت لميس من شرودها ، فتحدثت بسرعة من المقعد الخلفي ، حيث لم تعد تحتمل الجلوس معه في مكان واحد أكثر ، إذ تستشعر بغريزتها الأنثوية أنه يكذب ويخدع تلك المرأة الطيبة : طب انا هسبقكم .. يلا تصبحوا علي خير
أمأت وسام لها بالموافقة ، قائلة بهدوء : وانتي من اهله يا قلبي
_راجع هناك ليه؟
_هكلم مع ابنك واشوف هحل المشكلة اللي وقعنا فيها دي ازاي؟
_ما انا فهمتك الحكاية عاملة ازاي .. هي بلسانها قالت انها فسخت خطوبتها من مصطفي قدام اهلها
سألها صلاح مستفسراً : انتي سمعتي من اهل مصطفي انه سابها يعني؟
هزت رأسها بالسلب ، متحدثة بتخمين عقلاني : لا .. بس جايز متكتمين علي الموضوع .. واعتقد مش كتير يعرفوا بموضوع خطوبتها منه الا القريبين .. شوف هما احرار .. بس بصراحة تصرف مصطفي دا ابدا معجبنيش .. ازاي يخطب واحدة ويخبي عليها انه متجوز .. ايه العك دا؟
رد صلاح بصوت منفعل : مش هو دا موضوعنا يا وسام .. اللي حصل دا ممكن يخسرنا علاقتنا بالناس .. كان لازم باسم قبل مايتصرف من دماغه يدينا خبر ايه شغل المفاجأت بتاعه دا!!
أومأت بالإيجاب ، لتقول بصوت هاديء : في دي معاك حق .. بس من فضلك يا صلاح مادخلش البيزنس بتاعكو في الامور الشخصية .. انا حاسة ان باسم معجب بجد بالبنت دي .. انت ماشوفتش ازاي كان ملهوف عليها؟
اقتربت وسام منه أكثر ، وبنبرة صوت لينة حاولت إقناعه ، وهي تربت على كفه : عشان خاطري يا صلاح
رد صلاح عليها بابتسامة ، وهو يرفع يدها إلى مستوى فمه ويقبلها بلطف ، ويوافقها بهدوء : طيب يا عمري .. بس خليني اروح اشوفه وبعدين نفكر هنعمل ايه؟
_علي راحتك حبيبي
❈-❈-❈
عند ابريل
فى غرفة العناية
كانت ابريل مستلقية على السرير الأبيض مغمضة عينيها ، ومن يرآها من بعيد يظن أنها لا تشعر بأي شيء حولها ، لكن الحقيقة هي أنها في عالمها الخاص كانت تصارع عقلها الذي لا يتوقف عن التفكير.
إذ رأت ابريل نفسها في أرض واسعة ، وهناك الكثير من الناس يحيطون بها كالدائرة ، وكانت واقفة في المنتصف تستمع إلى أحاديثهم بنفس واحد بعقل مرتبك حائر.
استطاعت ابريل تمييز صوت والدها الذي من المفترض أن يكون أقرب شخص إليها ، وهو يقول بصوت قوي : هو لعب عيال ولا فاكرة نفسك مالكيش كبير .. يعني تسيبي تفسخي خطوبتك من غير موافقتي؟
أدارت ابريل رأسها ، حالما سمعت صوت أنثى ناعم يردد : انا حنين .. ابقي مرات مصطفي الترابلسي .. خطيبك
سرعان ما تحدثت ريهام بصوت عالٍ ، مما جعل إبريل تنظر إليها : دي وحدة غيرانة منك وعايزة تبوظ فرحتك
ردت حنين بصوت منتحب : مش عايزة بيتي يتخرب مش عايزة بناتي يتربوا بعد عن ابوهم ولا بعيد عني
جاءها صوت وسام تخبرها بتحذير : ما تصدقهاش يا ابريل دي استغلت فرصة غيابه عشان تيجي وتقهرك
صاح فهمى بصوت غاضب يملأه النقمة : اسمعي يا بنت الهام فرحك بعد كام يوم .. ولا عايزة تصغري عريسك و تفضحينا كلنا قدام الناس
_اخرسوا .. كفاية
صرخت أبريل منهارة ، تهز رأسها بالرفض وهي تركع على الأرض ، تغطي أذنيها بكلتا يديها ، لتحاول منع أصواتهما من التسلل إليها ، فلا فائدة من الوقوف بشموخ إذا كانت الروح جاثية على ركبتيها.
بعد لحظات قصيرة ، فوجئت بكفين فوق يديها ، رفعت رأسها ببطء ، وامتلأت عيناها بالدموع حالما رأت وجه جدها البشوش ، وإنحدرت العبرات على خديها شوقاً إليه قبل أن تهمس بصوتٍ مكسورٍ مذعورٍ باكٍ : جدي .. ماتسيبنيش هنا .. انا محتجالك .. انا اتأذيت منهم كلهم يا جدي .. خلاص مابقتش عايزة افضل في الدنيا دي بعد كدا .. انا تعبت .. انا خايفة ووحيدة يا جدي وسطهم .. خليك معايا عشان خاطري او خدني معاك عشان خاطري
رد عليها بصوته الحنون دون أن يخلو من الحزم : اللي انتي بتعمليه هو الغلط .. الهروب جبن وانا مربتش جبانة .. واجهي يا ابريل و الا هيفضلو يطاردوكي زي الاشباح .. خدي حقك .. وماتسمحيش لحد يأذيكي انتي
_قومي علي حيلك
قالها الجد ، وهو يساعدها على الوقوف مرة أخرى ، قبل أن يرفع بكلتا يديه وجهها المملوء بالدموع ، ليمسحهم بإبهامه بحنان ، ثم ظهرت البسمة على وجهه الطيب ، ليقول بحنو مفعم بالجدية ملأ خلاياها بالقوة : اقفي قدام اي حد بثبات يا ابريل .. ماتنزليش عينك في الارض .. عشان محدش كسرها ولا حد يقدر الا اذا انتي سمحتيلو .. خليكي دايما صلبة طولك .. وخليهم هما مايقدروش يحطو عينهم في عينك .. اخرسيهم .. وماترضيش بقليلك اللي يرضي بقليله بيعيش ويموت محدش فاكرو .. ولا بيعملولو قيمة والكل بيدوسه من غير رحمة
ساد حولهم الصمت تستوعب كلماته ، ولم تكاد ترد حتى تشوشت صورته أمام بصرها ، واختفى تماما كالهواء.
❈-❈-❈
خلال ذلك الوقت
أبريل بجسد مسطح في صمت ، قانت بتحريك جفنيها المغمضين قبل أن تفتحهما بصعوبة ، وظهرت فيروزيتها المليئة بدموع من خلف ستار محفوف بالرموش ، لترفرف بهم ، وهي تشعر أن هناك ثقلًا كالجبال فوقها ، وكأنها نامت دهرًا ، وليس ساعات قليلة فقط.
ظلت نظراتها ساكنة لعدة لحظات ، وهي تتذكر تفاصيل حلمها ورؤية جدها الحبيب ، وتمنت لو كانت محظوظة بما يكفي للبقاء معه لفترة أطول قبل أن يغادر بسلام كما جاء ، ففي الكثير من الأحيان ، عندما يأتي الفراق ، يتمنى القلب أن تتجمد اللحظة حتى لا يودع من يحب ، فالفراق قطعة من الجحيم تجعل النفس تشعر بالغربة والضياع.
شعرت أبريل بألم حارق في يدها اليمنى ، مما جعل عينيها تتجهان نحوها ، رفعت كفها ببطء لترى الإبرة تخترق وريدها ، وتتصل بمحلول معلق أعلى السرير ، وقبل أن ترفع ذراعها اليسرى ، ولمست بأطراف أصابعها أنبوب التنفس الرفيع الذي تم تركيبه داخل فتحتي أنفها ، ليساعدها على إيصال الأكسجين بسلاسة إلى رئتيها ، وبالإرهاق ضغطت بإصبعها على جرس الإنذار الصغير بجوار الفراش.
مرت لحظات قليلة حتى استجابت الممرضة للنداء ، ودلفت إليها قبل أن تتقدم منها ، وهي تبتسم لتقول بلطافة : الحمدلله علي سلامتك
صدرت عن أبريل إيماءة صامتة ، قبل أن تتجعد جبهتها بخطوط الغضب ، حالما ظهر وميض مثل شريط سينمائي للمجموعة الأخيرة من أحداث الليلة الماضية ، والذي مر فجأة في ذاكرتها بوتيرة سريعة ، ما إن أدارت رأسها والتقت فيروزيتها برماديتيه ، وكان قد أتى مؤخراً مع ريهام من الكافتيريا ، ليروا يوسف واقفاً أمام زجاج غرفة العناية قبل أن يخبرهم أنها استعادت وعيها ، وأنهم سينقلونها إلى غرفة عادية خلال فترة قصيرة ، مما جعلهم يقفون ، وينظرون إليها بمشاعر مختلفة غمرتهم.
لم تستطع أبريل حبس دموعها أكثر ، فقد انزلقت واحدة تلو الأخرى مبللة الوسادة ، وهي تتذكر ما فعله بها هذا الشخص الحقير الذي يقف بكل برود وثقة بعد أن كان سببًا في وصولها إلى هذا المكان ، وهي لا تدري أن نظراتها الكارهة له ، بمثابة طعنة في قلبه فعلت به الأفاعيل ، وعيناها من بعيد تديران المعركة بكل قوتها ، دون عدالة أو رحمة.
أغمضت أبريل عينيها بضيق شديد ، وهي تدير رأسها إلى الجانب الآخر ، فرؤيته شيء لم تستطع تحمله في الوقت الحاضر.
❈-❈-❈
بعد مرور فترة وجيزة
توقفت سيارة باهظة الثمن أمام الفناء الخارجي للمنزل ، ثم ترجل منها فسقط ظله الطويل على الأرض ، وسار عدة خطوات متوازنة حتى وصل إلى الدرج المؤدي إلى باب الفيلا ، لكن بدلاً من الصعود ، انحرف إلى اليمين ، وأحنى ظهره ، ليجلس علي عقبيه أمام حوض الزرع.
مد أصابعه ، وفتش فيه بخفة حتى أخرج المفتاح ، ونظفه بمنديل ، ثم مسح كفه به من آثار الطين ، وبدأ يصعد الدرج بخفة.
دخل المنزل بعد دقيقة ، تقدم إلى الأمام ، وهو يبحث عنها بعينيه ، فلم يجد أحداً ، فواصل سيره بخطوات تشير إلى أنه يعرف كل شبر وركن من هذا المكان.
صعد إلى الطابق العلوي ، وفتح باب غرفة النوم ، فجاءت عيناه عليها ، وهي مستلقية على السرير تشاهد التلفاز ، قبل أن تدير رأسها في اتجاهه فور دخوله بنظرة مذهولة ، سرعان ما أخفتها وهي تنظر إلى الأمام ، وتسأل ببرود : ايه اللي جابك يا صلاح؟
اقترب صلاح من دعاء ، يستشعر غضبها الرقيق ، ثم توقف أمام السرير ، يتأملها بعينين شاردتين ، يغطي جسدها شبه العاري ملاءة خفيفة.
دعاء غلبها فضولها ، فرفعت بصرها نحوه ، لترى عينيه الحادتين تلتهمان تفاصيلها الساحرة ، وصولاً إلى عينيها التي عاتبته بصمت.
بين الأحلام واليقظة ، قصص عشق كثيرة ، غرام موشوم على جدران الأعماق ، خالد في العقل كخلود الأديان ، منها حكاية كان فيها وجع عميق لم يُنسى ولم يلتئم الجرح علي الرغم من مرور السنوات ، ومنها حكاية قلوب كالأكؤوس إن أرادوا ملأوها حباً ، لكنهم اختاروا أن يملأوها حقداً وطمعاً ، وسيشرب كل منهم مما وضع ، ومنهم حكاية كتبت بحروف عشق ذهبي ، فحافظت بالوفاء والصدق على سطورها الجميلة بالقلب علي مدار الزمان ، أما بعد
الحكاية الرئيسية لها قلوب تكتبها الآن بصمت ، دعونا لا نفكر في النهاية ، ونستمتع بتفاصيل حكايتهم التي بدأت للتو.
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈-❈
عند خالد
تراجعت لميس خطوة إلى الوراء ، بعد أن تفاجئت بخالد خلفها ، مما جعل الذعر يظهر على ملامحها ، لذا تكلم على الفور : اسف ماقصدتش اخوفك
ضيق خالد مقلتا عينيه ، ملاحظاً خدودها تلمع نتيجة بللها من الدموع التي سقطت من عينيها لا إراديا ، وهي غارقة في التفكير ، فسألها بصوت رجولي يدل على الاهتمام والتعجب في نفس الوقت : هو انتي كنتي بتعيطي في حاجة ولا ايه؟
رفعت لميس عينيها ، لتنظر إليه في ذهول من علمه رغم أن المكان كان شبه مظلم حولهما ، ثم هزت رأسها بالنفي ، وردت تكذب بلجلجة : لا دا انا حسيت بشوية دوخة وقولت اخرج اشم هوا .. علي الاغلب نزل ضغطي من الارهاق
وخزة عنيفة استهدفت قلبه ، وغريزة خوفه عليها طغت على حواسه ، فقال بصوت مليء بالحزم الممزوج بالحنان وهو يقترب منها خطوة : طيب خلينا نروح نقيس ضغطك ونطمن احسن
عارضت لميس كلامه برعشة فى جسدها حاولت السيطرة عليها ، وهي تعض شفتها السفلى : مش مستهلة انا كويسة دلوقتي
عقص خالد أصابعه على بعض ، وكبت رغبة دفعته إلى الإمساك بمعصمها ، وسحبها إلى الداخل رغمًا عنها ، فارتفع صوته بشكل لا يمكنه السيطرة عليه ، وهو يقول بانفعال وقلق : بلاش اهمال في الصحة .. انتي مش شايفة وشك مصفر ازاي ولا عايزة تقعي من طولك فجأة زي المسكينة اللي فوق
تذكيره لها بهذه الدخيلة على حياتهم ، جعل قلبها يحترق بنار غريبة ، أعمت عينيها عن رؤية القلق الحقيقي فى حدقتى هذا الرجل العاشق لها ، ووجدت نفسها تسأله بنبرة حادة : انت ليه مكبر القصة؟ ومتعصب عليا ليه كدا؟
قست تعابير وجهه ، ودون أن يفكر مرتين أجابها بصوت عميق نابع من أعماق روحه ، جعل قلبها المسكين يخفق بجنون : حقي اتعصب من خوفي علي الناس اللي بحبهم..
_لميس
تسللت الخيبة إلى قلبه المشتاق بعد أن قطع صوت وسام تكملة كلامه ، بعد أن نادت على لميس من داخل السيارة ، تحثها على الحضور ، مما جعلها تلبى النداء بعد أن ظلت تحدق به مطولاً إلى خضراوتيه المذهلتين بنظراتهم العميقة ، بأعين ضاقت من شدة ضوء مصابيح السيارة ، وخفقاتها فى تفاقم قبل أن تعى علي نفسها ، لتتحرك بسرعة ، وهو يتبعها بعينيه اللامعتين حتى رحلت تماما ، وبقى شاردًا في أثرها.
❈-❈-❈
فى ذات الوقت
داخل المستشفي
عند هالة
تفاجأوا جميعًا ، حالما دخل عدد من الممرضات والممرضين من باب طوارئ المستشفى ، يركضون مع السرير المتحرك الذي يرقد عليه جسد رجل طويل وضخم البنية ، غارقًا في دمائه.
هرولت هالة خلفهم ، لتسأل بسرعة : ايه اللي حصله؟
أجابتها الممرضة علي الفور بصوت لاهث : واخد رصاصة يا دكتورة .. نزف كتير والنبض ضعيف
هتف فريد بصوت قوي ، فيما يركض إليهم : علي العمليات حالا
إسترسل فريد مسرعًا ، وهو يحث إحدى الممرضين علي ركض أسرع بصوت آمر ، مما جعل هالة تلتفت إليه بنظرات مليئة بالتعجب : بسرعة شوية .. استعجل يلا .. استعجلوا
ازدادت دهشة هالة حالما كاد يدخل من باب العمليات ، لكن إحدى الممرضات أوقفته وهي توشك علي إغلاق الباب ، وقالت بنبرة عملية : عفوا يا استاذ .. ممنوع دخول غرفة العمليات
وضع فريد يده بسرعة على الباب قبل أن تغلقه ، وسأل بجدية : هما في المستشفي دي بيمنعوا الدكاترة من دخول العمليات ولا ايه؟
سرعان ما هتفت هالة بنفس الجدية بعد أن كانت تتابع هذا الحديث من الداخل بإستغراب : بس انت مش دكتور هنا
دفع فريد الباب بقوة ، ليدخل رغماً عن الممرضة ، هو يرد عليها بصوته الواثق : الدكتور دكتور في اي مكان
نظرت إليه هالة في ذهول ، وهو يقترب منها بخطوات واسعة ، ليستأنف كلامه بثبات : لو عايزة تنقذي حياة الراجل اللي جوا من الموت
وقف فريد بجانبها ، فأدارت رأسها إليه بترقب ، ليشمل هيئتها الجميلة بعسليته الكهرمانية ، وأضاف بإستهزاء : اتعقمي وحصليني
أدارت هالة جسدها ، وتتبعته بسرعة دون أن تنطق بأي شيء ، دون أم تعطي لنفسها فرصة للتفكير ، فهذه حالة طارئة يجب أن تتعامل معها بحكمة وبأعصاب هادئة ، حتى تسيطر على الوضع مهما كان كما تعلمت.
❈-❈-❈
عند باسم
فى كافيتريا المستشفي
يجلس باسم مرتاحًا قبالتها ، وهي صامتة ، تحدق به تارة ، وتارة أخري تحدق في فنجان قهوتها الذي لا يزال بخاره المنعش يتصاعد حولها ، لكن في داخلها لا تشتهيه بسبب اضطرابها.
_هنفضل نبص لبعض كتير!!
قال باسم بتعجب بارد ، مع رفع فنجان قهوته إلى شفته ، وهو يرتشف منها فإستطيب مذاقه ، وفي نفس الوقت كان منتبه لحالتها المتوترة بسبب نقرها المستمر على سطح الطاولة ، فأضاف سؤالا ، لكى يفتح المجال لها : كنتي عايزة تقولي ايه يا ريهام؟
وضعت ريهام يدها فى حجرها ، وتململت بتوتر في مقعدها ، ثم سألته بهدوء بذلت قصارى جهدها ، لتظهر عليه : عايزة افهم ايه خلاك تعمل اللي عملته؟
_وانا عملت ايه؟
سألها باسم سؤالا مماثلا ، وهو يقطب بين حاجبيه بتركيز ، بعد أن وضع كوبه على الطاولة : اكلمي دغري بلاش اسلوب المراوغة بتاعك دا
اتسعت عيناها بصدمة ، وهي تشير نحو قلبها الهادر بقوة ، وسألت بصوت متعجب : انا اللي براوغ؟
تابعت ريهام تتساءل ، وهي تبتسم بعصبية يشوبها السخرية : ماتستهونش بعقلي يا باسم .. منين كنت هتخطب البت الموديل للي كنت ماشي معاها .. ودلوقتي فجأة بتتقدم لأختي .. امتي عرفتوا بعض اصلا؟
_دا السؤال اللي قولتي المقدمة دي كلها عشان توصليلو؟
رد باسم ساخراً ، بابتسامة ظهرت على جانب فمه بخبث منتصر بعد أن جعلها تعترف بما أرادت قوله منذ لحظة جلوسهما ، رفع باسم حاجبيه للأعلى ، واستطرد قولاً بنفس السخرية : كنت متأكد ان محروق دمك عشان في تفصيلة عني عدت من تحت ايديكي
لمع الغيظ في عينيها بشدة ، إذ فهمت محاولاته الخبيثة للنيل من ثقتها في التحدث ، فأومأت برأسها وأكدت كلامها السابق بصوتها الأنثوي الناعم : وانا متأكدة من اللي بقوله .. لا هي عمرها جابت سيرتك ولا انت عمرك ما اتكلمت عنها .. ماتجيش تعمل المسلسل الهندي دا .. ومنتظر اني اصدقك بالبساطة دي يا باسم الكل لو دخل عليه الحوار دا انا لا
قوس باسم فمه ، وهو يستمع إلى حديثها ، ثم قال لها بجدية رغم هدوء لهجته : اللي استهون بالتاني كان انتي .. افتكرتي بغباء انك تقدري تقتحمي حياتي بالساهل كدا وفي اي وقت
أضاف باسم بتهكم فظ غلف نبرته مع تعابير وجهه : مش معني اني كنت بتسلي شوية .. وسيبتك عايشة في جو العميلة السرية الخايب بتاعك دا اللي بتخطط وتراقب وتتجسس علي مكالماتي وعلاقاتي .. انك تتخيلي بالسذاجة دي ان خلاص بقيتي عارفة عني اللي محدش يعرفو
ازدادت عصبية ريهام ، واشتعلت عيناها الزرقاوان بلهب حاد من ثقته المفرطة في نفسه ، فضلاً عن أسلوبه الاستفزازي القادر على إصابة أعتى الرجال بالجنون ، من هى لتصدم أمامه؟
خرجت الكلمات من فمها بشكل اندفاعي غير محسوب عندما سألته : تقصد ايه يعني؟ كنتو تعرفوا بعض من زمان وبتخدعونا كلنا بما فينا خطيبها .. عشان كدا كنت رافض رجوعنا
❈-❈-❈
عند عز
حبس أنفاسه بصدمة فور أن لاحظها شاحبة الملامح وحبيبات العرق الباردة على جبهتها ، فإحتوى جسدها الساكن علي صدره ، وهو يضرب علي وجهها بأصابعه ، مع مسحه على جبهتها بيده الأخرى عدة مرات ، وارتعش بدنه من القلق ، وهو يحاول إيقاظها دون أن إستجابة منها ، ليهتف بصوت مترجي ، وهو على وشك الانهيار : مني جرالك ايه بس يا حبيبتي .. ماتوقعيش قلبي بقي عشان خاطري تردي عليا !!
أخفض عز بصره ، وهو يضيقهما في عدم إستيعاب علي قنينة عقار ، لأحد الأدوية ملقاة تحت جسدها ، وكانت هناك عدة حبوب بسيطة متناثرة حولها ، لتحظ عينيه من الهلع ، ودقات قلبه تجاوزت المعدل الطبيعي من شدة خوفه.
نظر عز إلى وجهها بفم مفتوحًا ، وهو يكذب هذا الهاجس الذى طرق في عقله ، أنها لن تفعل هذا الشيء بنفسها ، ولا شعورياً صرخ باسمها بصوت مذعور بينما يهزها بقوة : مـنـي!!!
انحنى عز فوقها بعد أن مددها على الأرضية ، ليفحص نبضها ، فوجد أنه ضعيف جدًا ، بالكاد يسمع ، وبسحابة كثيفة من الكلمات تغشي عينيه أخرج هاتفه من جيب بنطاله ، ثم نقر على عدة أرقام بأصابع مرتعشة ، وهو يحدق فيها بينما قلبه يرتجف من الرعب داخل قفصه الصدري ، ليردد بخوف : عملتي ايه في روحك يا مجنونة
هتف بصوت مهتز مليئ بالرعب ، بمجرد أن أجابه الطرف الآخر على الهاتف : ايوه لو سمحت عايز عربية اسعاف بسرعة .. العنوان .. العنوان
تابع عز يخبره بالعنوان ، قائلا بعجالة : بسرعة بسرعة الله يخليك
رمى الهاتف من يده وهو يجذب شعره بتوتر شديد ، ثم أحاطها بذراعه ليقربها منه ، ابتلع غصة مريرة في حلقه ، والدموع تنهمر على خديه ، وهو يشعر بالعجز التام ، ليتساءل بصوت خافت بجنون كأنه بداخل كابوس : ليه؟ ليه تعملي كدا في نفسك .. لــيــــه؟
صرخ بكل صوته في الكلمة الأخيرة بانهيار قبل أن تتدحرج نظراته على فستانها الذي كانت ترتديه في الحفلة ، مستلقيا بجانبها ، ممزقا تماما بالمقص.
تشكلت الإجابة على سؤاله على الفور في ذهنه ، وجسده كله إرتجف بعنف ، كما لو أنه تعرض لصدمة كهربائية ، وتردد في ذهنه بمرارة وندم ساحق ، أنه هو الذي أوصلها إلى تلك الحالة ، أو بالأحرى ، الغيرة في الحب مثل الماء للورد ، القليل ينعشه ، لكن الكثير يقتله.
❈-❈-❈
عند باسم
تملكت منه حالة من الغضب ، وهو يستمع إلى كلامها الأحمق الذي يسيء إلى أختها ، إلا أنه رد عليها بصوت هادئ لا يخلو من حدة ، مع الحفاظ على رباطة جأشه : الزمي حدودك يا ريهام .. بس هقولك ايه يعني! حتي مش مستغرب انك بتقولي كدا علي اختك
عبست ملامحها ، وساد الصمت من الجانبين للحظات قبل أن يبادر باسم ليقطعه ، مضيفا بجدية وهو ينظر في عينيها : خلينا نكلم علي المكشوف يا ريهام .. اللي كانت بتخدع اللي حواليها هو انتي واهلك .. هو مش برده كنتو عايزين تجوزوها لواحد متجوز بدون ماتعرفوها عشان شوية المصالح اللي مابينكو وبينه
جالت الصدمة علي ملامحها بوضوح أمام عينيه الرماديتين ، فابتلعت لعابها بصعوبة ، وسألت بصوت خافت : انت منين جبت الكلام دا؟
تطلع باسم بها للحظات معدودة قبل أن يهز كتفيه بلا مبالاة ، وتمتم ببرود غامض : مش مهم .. هتفرق في ايه؟
زمّت ريهام شفتيها بغضب ، واحتد تنفسها ، وتحدثت بنبرة حادة واضحة ، رغم انخفاض صوتها : باسم .. انت لو فاكرني هسكت علي اللي بتعملو تبقي غلطان .. انا لا هخليك تلعب بأختي ولا هسمحلك تخليني مجرد نزوة في حياتك وإبريل هعرفها حقيقتك
استقر باسم بعيناه عليها مباشرة ، ومال بجذعه إلى الأمام ، وأسند مرفقيه على الطاولة ، ثم شبك أصابعه ببعضها ، ليتحدث بتأني : دور الاخت الكبيرة اللي خايفة علي اختها من الراجل الشر ير مش لايق عليكي يا ريهام .. وانتي حتي ماحصلتيش نزوة في حياتي عشان لا كان في حاجة بينا ولا هيكون في يوم .. دا اول هام..
حدق باسم فى محتوي الفنجان على الطاولة ، ثم رفع عينيه إليها وأكمل حديثه بعد وهلة صمت : ولو عايزة تقوليلها حاجة .. ممكن تحكيلها مثلا عن اللي كنتي بتعمليه معايا .. مثلا مجيتك لحد بيتي وترمي نفسك عليا بكل سهولة .. وعشان يكون عندك اثبات لكلامك مستعد اجيبلك فيديو وانتي داخلة للعمارة وانتي طلعالي وتوريهولها ساعتها هتصدقك بس..
أصابها الارتباك من علمها مقصده ، وتوالت الضربات من مطرقته القاسية فوق رأسها ، وهو يقترب أكثر من خلال الطاولة ، مما جعلها تحبس أنفاسها تلقائيًا داخل قفصها الصدري ترقبًا ، بينما يهسهس بصوت جاف ومخارج حروفه واضحة ، تزلزل أركان قلبها جراءها رعبًا وهولاً : بس قولي هيكون شكلك ايه قدامها وقدام اهلك؟ وقتها هتطلعي خسرانة سمعتك وكرامتك ومش بعيد طليقك ياخد ابنك منك
أشاحت ريهام وجهها المحمر عنه ، بعد أن اختفت قوتها الواهية التي كانت تتشبث بها أمامه ، قبل أن تنظر إليه مرة أخرى ، لتسأله بمرارة تغطي علي صوتها المصدوم ، وتشعر بآلام تهاجم ثنايا صدرها : معقولة بقيت بتكرهني اوي كدا؟ لدرجة انك عايز تردلي القلم بتاع زمان بالقسوة والجحود دا؟
نظر باسم إليها بوجه غير مقروء تعابير وجهه قبل أن يعتدل في مقعده ، ليخبرها بصوت هادئ صادق : بالعكس انا مش بكرهك ولا في نيتي حاجة تضرك..
تجمعت الدموع في مقلتيها ، وهي تعقد ذراعيها على صدرها ، وتكمل بقية جملته بدلا عنه : بس كمان بطلت تحبني مش دا اللي هتقوله؟
نظر باسم إليها طويلا ، وكأنه يرتب كلماته التالية في ذهنه أولا ، قبل أن يأتيها رده بثبات : اللي كنت حاسو نحيتك ماكنش هو الحب يا ريهام .. كانت مشاعر مش ناضجة .. والكلام في الماضي مش هيفيد .. وانا اللي بقولك كفاية نضايق في بعض اكتر من كدا .. احنا مهما كان هيبقي في بينا نسب وهبقي جوز اختك
قال كلماته الأخيرة مشددًا على كل حرف للتأكد من فهمها الكامل لحديثه ، لكنها كانت تنظر إليه بملامح غامضة غير مقروءة ، ولم يدرك أنه مزق كبرياء الأنثى داخلها ، وكأنه يضعها فى وسط النار ، ويطلب منها أن تتنفس بعمق لدرجة الموت والاختناق ، وهذا ما زادها غضباً وحقداً أكثر فأكثر.
❈-❈-❈
عند صلاح
في السيارة أمام الفيلا
ركن صلاح سيارته جانبا أمام مدخل الفيلا ، ولم يطفئ محركاتها ، فأدارت وسام رأسها متسائلة : انت مش هتنزل معانا يا صلاح؟
أجاب صلاح بعد وهلةٍ من الصمت : لا يا حبيبتي .. انا راجع علي المستشفي
أفاقت لميس من شرودها ، فتحدثت بسرعة من المقعد الخلفي ، حيث لم تعد تحتمل الجلوس معه في مكان واحد أكثر ، إذ تستشعر بغريزتها الأنثوية أنه يكذب ويخدع تلك المرأة الطيبة : طب انا هسبقكم .. يلا تصبحوا علي خير
أمأت وسام لها بالموافقة ، قائلة بهدوء : وانتي من اهله يا قلبي
_راجع هناك ليه؟
_هكلم مع ابنك واشوف هحل المشكلة اللي وقعنا فيها دي ازاي؟
_ما انا فهمتك الحكاية عاملة ازاي .. هي بلسانها قالت انها فسخت خطوبتها من مصطفي قدام اهلها
سألها صلاح مستفسراً : انتي سمعتي من اهل مصطفي انه سابها يعني؟
هزت رأسها بالسلب ، متحدثة بتخمين عقلاني : لا .. بس جايز متكتمين علي الموضوع .. واعتقد مش كتير يعرفوا بموضوع خطوبتها منه الا القريبين .. شوف هما احرار .. بس بصراحة تصرف مصطفي دا ابدا معجبنيش .. ازاي يخطب واحدة ويخبي عليها انه متجوز .. ايه العك دا؟
رد صلاح بصوت منفعل : مش هو دا موضوعنا يا وسام .. اللي حصل دا ممكن يخسرنا علاقتنا بالناس .. كان لازم باسم قبل مايتصرف من دماغه يدينا خبر ايه شغل المفاجأت بتاعه دا!!
أومأت بالإيجاب ، لتقول بصوت هاديء : في دي معاك حق .. بس من فضلك يا صلاح مادخلش البيزنس بتاعكو في الامور الشخصية .. انا حاسة ان باسم معجب بجد بالبنت دي .. انت ماشوفتش ازاي كان ملهوف عليها؟
اقتربت وسام منه أكثر ، وبنبرة صوت لينة حاولت إقناعه ، وهي تربت على كفه : عشان خاطري يا صلاح
رد صلاح عليها بابتسامة ، وهو يرفع يدها إلى مستوى فمه ويقبلها بلطف ، ويوافقها بهدوء : طيب يا عمري .. بس خليني اروح اشوفه وبعدين نفكر هنعمل ايه؟
_علي راحتك حبيبي
❈-❈-❈
عند ابريل
فى غرفة العناية
كانت ابريل مستلقية على السرير الأبيض مغمضة عينيها ، ومن يرآها من بعيد يظن أنها لا تشعر بأي شيء حولها ، لكن الحقيقة هي أنها في عالمها الخاص كانت تصارع عقلها الذي لا يتوقف عن التفكير.
إذ رأت ابريل نفسها في أرض واسعة ، وهناك الكثير من الناس يحيطون بها كالدائرة ، وكانت واقفة في المنتصف تستمع إلى أحاديثهم بنفس واحد بعقل مرتبك حائر.
استطاعت ابريل تمييز صوت والدها الذي من المفترض أن يكون أقرب شخص إليها ، وهو يقول بصوت قوي : هو لعب عيال ولا فاكرة نفسك مالكيش كبير .. يعني تسيبي تفسخي خطوبتك من غير موافقتي؟
أدارت ابريل رأسها ، حالما سمعت صوت أنثى ناعم يردد : انا حنين .. ابقي مرات مصطفي الترابلسي .. خطيبك
سرعان ما تحدثت ريهام بصوت عالٍ ، مما جعل إبريل تنظر إليها : دي وحدة غيرانة منك وعايزة تبوظ فرحتك
ردت حنين بصوت منتحب : مش عايزة بيتي يتخرب مش عايزة بناتي يتربوا بعد عن ابوهم ولا بعيد عني
جاءها صوت وسام تخبرها بتحذير : ما تصدقهاش يا ابريل دي استغلت فرصة غيابه عشان تيجي وتقهرك
صاح فهمى بصوت غاضب يملأه النقمة : اسمعي يا بنت الهام فرحك بعد كام يوم .. ولا عايزة تصغري عريسك و تفضحينا كلنا قدام الناس
_اخرسوا .. كفاية
صرخت أبريل منهارة ، تهز رأسها بالرفض وهي تركع على الأرض ، تغطي أذنيها بكلتا يديها ، لتحاول منع أصواتهما من التسلل إليها ، فلا فائدة من الوقوف بشموخ إذا كانت الروح جاثية على ركبتيها.
بعد لحظات قصيرة ، فوجئت بكفين فوق يديها ، رفعت رأسها ببطء ، وامتلأت عيناها بالدموع حالما رأت وجه جدها البشوش ، وإنحدرت العبرات على خديها شوقاً إليه قبل أن تهمس بصوتٍ مكسورٍ مذعورٍ باكٍ : جدي .. ماتسيبنيش هنا .. انا محتجالك .. انا اتأذيت منهم كلهم يا جدي .. خلاص مابقتش عايزة افضل في الدنيا دي بعد كدا .. انا تعبت .. انا خايفة ووحيدة يا جدي وسطهم .. خليك معايا عشان خاطري او خدني معاك عشان خاطري
رد عليها بصوته الحنون دون أن يخلو من الحزم : اللي انتي بتعمليه هو الغلط .. الهروب جبن وانا مربتش جبانة .. واجهي يا ابريل و الا هيفضلو يطاردوكي زي الاشباح .. خدي حقك .. وماتسمحيش لحد يأذيكي انتي
_قومي علي حيلك
قالها الجد ، وهو يساعدها على الوقوف مرة أخرى ، قبل أن يرفع بكلتا يديه وجهها المملوء بالدموع ، ليمسحهم بإبهامه بحنان ، ثم ظهرت البسمة على وجهه الطيب ، ليقول بحنو مفعم بالجدية ملأ خلاياها بالقوة : اقفي قدام اي حد بثبات يا ابريل .. ماتنزليش عينك في الارض .. عشان محدش كسرها ولا حد يقدر الا اذا انتي سمحتيلو .. خليكي دايما صلبة طولك .. وخليهم هما مايقدروش يحطو عينهم في عينك .. اخرسيهم .. وماترضيش بقليلك اللي يرضي بقليله بيعيش ويموت محدش فاكرو .. ولا بيعملولو قيمة والكل بيدوسه من غير رحمة
ساد حولهم الصمت تستوعب كلماته ، ولم تكاد ترد حتى تشوشت صورته أمام بصرها ، واختفى تماما كالهواء.
❈-❈-❈
خلال ذلك الوقت
أبريل بجسد مسطح في صمت ، قانت بتحريك جفنيها المغمضين قبل أن تفتحهما بصعوبة ، وظهرت فيروزيتها المليئة بدموع من خلف ستار محفوف بالرموش ، لترفرف بهم ، وهي تشعر أن هناك ثقلًا كالجبال فوقها ، وكأنها نامت دهرًا ، وليس ساعات قليلة فقط.
ظلت نظراتها ساكنة لعدة لحظات ، وهي تتذكر تفاصيل حلمها ورؤية جدها الحبيب ، وتمنت لو كانت محظوظة بما يكفي للبقاء معه لفترة أطول قبل أن يغادر بسلام كما جاء ، ففي الكثير من الأحيان ، عندما يأتي الفراق ، يتمنى القلب أن تتجمد اللحظة حتى لا يودع من يحب ، فالفراق قطعة من الجحيم تجعل النفس تشعر بالغربة والضياع.
شعرت أبريل بألم حارق في يدها اليمنى ، مما جعل عينيها تتجهان نحوها ، رفعت كفها ببطء لترى الإبرة تخترق وريدها ، وتتصل بمحلول معلق أعلى السرير ، وقبل أن ترفع ذراعها اليسرى ، ولمست بأطراف أصابعها أنبوب التنفس الرفيع الذي تم تركيبه داخل فتحتي أنفها ، ليساعدها على إيصال الأكسجين بسلاسة إلى رئتيها ، وبالإرهاق ضغطت بإصبعها على جرس الإنذار الصغير بجوار الفراش.
مرت لحظات قليلة حتى استجابت الممرضة للنداء ، ودلفت إليها قبل أن تتقدم منها ، وهي تبتسم لتقول بلطافة : الحمدلله علي سلامتك
صدرت عن أبريل إيماءة صامتة ، قبل أن تتجعد جبهتها بخطوط الغضب ، حالما ظهر وميض مثل شريط سينمائي للمجموعة الأخيرة من أحداث الليلة الماضية ، والذي مر فجأة في ذاكرتها بوتيرة سريعة ، ما إن أدارت رأسها والتقت فيروزيتها برماديتيه ، وكان قد أتى مؤخراً مع ريهام من الكافتيريا ، ليروا يوسف واقفاً أمام زجاج غرفة العناية قبل أن يخبرهم أنها استعادت وعيها ، وأنهم سينقلونها إلى غرفة عادية خلال فترة قصيرة ، مما جعلهم يقفون ، وينظرون إليها بمشاعر مختلفة غمرتهم.
لم تستطع أبريل حبس دموعها أكثر ، فقد انزلقت واحدة تلو الأخرى مبللة الوسادة ، وهي تتذكر ما فعله بها هذا الشخص الحقير الذي يقف بكل برود وثقة بعد أن كان سببًا في وصولها إلى هذا المكان ، وهي لا تدري أن نظراتها الكارهة له ، بمثابة طعنة في قلبه فعلت به الأفاعيل ، وعيناها من بعيد تديران المعركة بكل قوتها ، دون عدالة أو رحمة.
أغمضت أبريل عينيها بضيق شديد ، وهي تدير رأسها إلى الجانب الآخر ، فرؤيته شيء لم تستطع تحمله في الوقت الحاضر.
❈-❈-❈
بعد مرور فترة وجيزة
توقفت سيارة باهظة الثمن أمام الفناء الخارجي للمنزل ، ثم ترجل منها فسقط ظله الطويل على الأرض ، وسار عدة خطوات متوازنة حتى وصل إلى الدرج المؤدي إلى باب الفيلا ، لكن بدلاً من الصعود ، انحرف إلى اليمين ، وأحنى ظهره ، ليجلس علي عقبيه أمام حوض الزرع.
مد أصابعه ، وفتش فيه بخفة حتى أخرج المفتاح ، ونظفه بمنديل ، ثم مسح كفه به من آثار الطين ، وبدأ يصعد الدرج بخفة.
دخل المنزل بعد دقيقة ، تقدم إلى الأمام ، وهو يبحث عنها بعينيه ، فلم يجد أحداً ، فواصل سيره بخطوات تشير إلى أنه يعرف كل شبر وركن من هذا المكان.
صعد إلى الطابق العلوي ، وفتح باب غرفة النوم ، فجاءت عيناه عليها ، وهي مستلقية على السرير تشاهد التلفاز ، قبل أن تدير رأسها في اتجاهه فور دخوله بنظرة مذهولة ، سرعان ما أخفتها وهي تنظر إلى الأمام ، وتسأل ببرود : ايه اللي جابك يا صلاح؟
اقترب صلاح من دعاء ، يستشعر غضبها الرقيق ، ثم توقف أمام السرير ، يتأملها بعينين شاردتين ، يغطي جسدها شبه العاري ملاءة خفيفة.
دعاء غلبها فضولها ، فرفعت بصرها نحوه ، لترى عينيه الحادتين تلتهمان تفاصيلها الساحرة ، وصولاً إلى عينيها التي عاتبته بصمت.