رواية رحلة الآثام الفصل الخامس 5 بقلم منال سالم
الفصل الخامس
(مكرُ الثعالب)
تراصت المقاعد الخشبية المستأجرة بمحاذاة الحيز الشاغر في صالة المنزل بعدما تم إزاحة معظم الأثاث، ليكون ملائمًا لاستقبال الضيوف في هذه الليلة المميزة. كما تولى أحدهم تعليق الزينات والأنوار البراقة، وأضاف آخر حاملًا من الورد وضعه بين الأريكتين المخصصتين لجلوس العروسين في منتصف الحضور. أشرفت "عقيلة" على غالبية من تطوع للمساعدة في إنجاز ما ينقص، وتولت بنفسها تجهيز قوالب الحلوى، وتحضير الشربات والعصائر الطازجة، في حين قامت شقيقتها "أفكار" بتقطيع الفواكه، وحشو الشطائر بقطع الجبن واللحم لتوزيعها على المدعوين، بينما جلست "فردوس" بداخل الغرفة لتقوم جارتها "إجلال" بمعاونتها في تزيين وجهها بمساحيق التجميل.
توافد المدعوون بعد صلاة العشاء تباعًا، وقامت إحداهن برفع صوت المذياع على أغاني الأفراح الطربية، مع إطلاقها لعدة زغاريد مبتهجة، كنوعٍ من الاستعداد لاستقبال عائلة العريس، فقد كانت والدته في المقدمة، واضعة ابتسامة متكلفة على محياها، بدت وكأنها غير راضية عن هذه الخطبة، استقبلتها "عقيلة" بترحيبٍ حار، وأجلستها على الأريكة المجاورة للعروسين، ثم صافحت العريس، وشقيقه الأكبر، وأشارت لإحدى الفتيات بإبلاغ العروس بوصول خطيبها. تعالت أصوات الزغاريد الفرحة المصحوبة ببعض التصفيقات، ليتزاحم الحضور بعد بضعة دقائق انتظارًا لخروج العروس من الداخل.
تحرك "شفيق" من مكانه ليجلس مجاورًا للعريس، مال عليه، وهمس له بشيءٍ من الغل:
-ملاقتش إلا دي يا "بدري"؟
ضغط على شفتيه للحظةٍ، ثم أخبره بعد زفرة سريعة:
-على أد ظروفي.
خاطبه بحقدٍ يملأ صدره:
-يا ابني إنت تستاهل أحسن من كده، دي أختها صعب، وعملت فيا اللي ما اتعمل، وفي الآخر طردتنا.
بناءً على تعامله الشخصي معها، وحديث خالتها "أفكار" عن طبيعتها المسالمة، كان مدركًا إلى حدٍ كبير للفارق بين كلتيهما، لذا رد مدافعًا عنها:
-"فردوس" غيرها.
أصر على رأيه هاتفًا بتصميمٍ:
-الدم واحد، اسمع مني...
لم يبدُ "بدري" مقتنعًا بما يفوه، فلجأ إلى إخباره بنوعٍ من الذم:
-ده غير إن شكلها مش أد كده، في ألف واحدة أحلى منها بكتير.
ظل مطرقًا رأسه وهو يرد:
-أهوو النصيب.
انتقل الشقيق الأكبر من موضعه ليجلس في الجهة المقابلة لشقيقه، وتساءل باسمًا:
-بتكلموا عن مين كده؟
حذره "شفيق" بقدرٍ من التهكم:
-أخوك اللي عملنا فيها شيخ هيوعظنا دلوقت.
تكلم "عوض الله" منتقدًا وصفه المسيء إليه:
-هو عشان بقول كلمة الحق أبقى وحش؟
طالعه "شفيق" بنظراتٍ ناقمة قبل أن يعلق عليه بتحيزٍ:
-يا سيدي بدل ما تركز معانا شوفلك شغلانة عدلة تاكل منها عيش بدل لفك اللي على الفاضي.
للحظةٍ سكت "عوض الله" متحفظًا على كلامه، فقد ارتضى بالعمل نهارًا في وظيفة بسيطة كساعٍ بين المكاتب بالمنطقة الأزهرية، بالإضافة لقيامه بإنهاء الناقص من الأوراق الرسمية لمن يعجز عن إنجازها في مقابلٍ زهيد، أما ليلًا فكان يلازم المقرئين خلال إحيائهم الليالي الدينية إما في مناسبات عامة أو في سرادقات العزاء، ليختتم يومه بالذهاب إلى المسجد لسؤال إمامه عما ينقص من أعمال ليؤديها هو برضا وحبور. لما طال صمته ظن "شفيق" أنه أصاب هدفه، فتمادى في التقليل من شأنه ليرد عليه أخيرًا بتريثٍ:
-أنا بخدم عباد الله، وطالما ربنا سخرني أقضي مصالح الناس ليه أتبطر على النعمة.
سخر منه بلمحةٍ هازئة:
-يعني إنت عاوز تقنعني إن اللي إنت بتعمله ده بالكام مليم دول اسمه شغل؟
رد مبتسمًا وهو يرفع كفيه للسماء:
-فضل ونعمة من ربنا.
سأله بتطفلٍ شبه سمج:
-طب ما سبقتش أخوك الصغير واتجوزت ليه؟!!
سادت في ملامحه لمحاتٍ من التوتر، فهو لم يستطع الإقدام على هذه الخطوة حتى الآن لضيق ذات اليد، ولإنفاقه كامل ما يجنيه على علاج والدته المكلف دون أن يكلف شقيقه الذي يصغره بستة أعوام عناء هذه الأمور، فاكتفى بتحمل الأعباء وحده، ودون شكوى. نظر إليه، وقال بعد تنهيدةٍ خافتة:
-لسه ربنا مأذنش.
تدخل "بدري" متحدثًا كنوعٍ من التلطيف وهو يربت على ذراع شقيقه:
-سيبك منه يا "عوض"، بكرة ربنا يرزقك ببنت الحلال اللي تستاهلك.
ثم التفت ناظرًا إلى "شفيق" ووبخه:
-إنت جاي تتطلع عقدك علينا يا جدع إنت؟
دمدم في حنقٍ لم يخبت نهائيًا:
-يا عم أنا معبي وشايل من العيلة دي، ولولا معزتك عندي قسمًا بالله ما كنت عتبت البيت ده!!
قاطع ثرثرتهما حضور "عقيلة" وهي تحمل في يدها صينية نحاسية اللون مملوءة بكؤوس متشابهة الشكل، انحنت قليلًا تجاه "بدري"، وقالت بوديةٍ حانية:
-اتفضل يا عريس الشربات.
التقط الكأس الزجاجي، وهتف مجاملًا:
-كتر خيرك يا حماتي، من يد ما نعدمها.
نهض "عوض" قائمًا، وأصر على أخذ الصينية منها بتهذيبٍ:
-عنك إنتي يا حاجة، مايصحش تلفي واحنا موجودين.
تحرجت من ذوقه الواضح، وناولته إياها وهي تخبره:
-تسلم وتعيش يا ابني.
هز رأسه مبتسمًا، وسار بين المدعوين يوزع الكؤوس المملوءة بهذا السائل الأحمر وهو يتلقى عبارات التهنئة والمباركة منهم.
................................................
قفزت من على مقعد المرآة لأكثر من مرة لتنظر إلى وجهها الذي صار أكثر نعومة وجاذبية بعدما تم إضفاء مساحيق التجميل عليه، لتصبح شبه مستعدة للخروج ومقابلة خطيبها وعائلته. لم ترغب "فردوس" في الإفراط في وضع أحمر الشفاه، واكتفت بما زين بشرتها، لتقوم بقرص خديها لإعطائهما المزيد من الحمرة الدافئة. تأملت انعكاسها، وتساءلت بتهلفٍ:
-إيه رأيك؟
أصدقتها "إجلال" القول:
-زي القمر ياختي...
ثم قبلتها من أعلى رأسها وتابعت:
-مبروك يا "دوسة"، وربنا يتمملك على خير.
شكرتها بامتنانٍ، ووجهها يزداد إشراقة بابتسامتها المتسعة:
-تسلمي يا "إجلال"، عقبال ليلتك يا حبيبتي.
استحثها على التعجيل قائلة بمرحٍ:
-مش معقول هنسيب العريس يستنى.
هزت رأسها تؤيدها، ونهضت واقفة لتشد طرفي ثوبها لينساب على خصرها بأريحية، شهقت فجأة مصدومة حينما انحنت عليها "إجلال" لتقرصها من ركبتيها، فسألتها مدهوشة وهي ترمقها بهذه النظرة:
-بتعملي إيه؟
أجابتها ضاحكة ببشاشةٍ:
-جايز أحصلك في جمعتك.
حملقت فيها بمحبةٍ وهي ترد:
-يا رب يا حبيبتي، نبقى في ليلة واحدة.
احتضنتها "إجلال" في سعادةٍ، لتتراجع بعدها عنها، لتفسح لها المجال لتمر، وتتجه إلى باب الغرفة. تفشى الاضطراب في وجدان "فردوس"، وراحت تردد بلا صوتٍ في توجسٍ طفيف:
-يا رب اجعل في وشي القبول.
..................................................
ما إن أطلت العروس بهيئتها البهية، حتى اتجهت كافة الأنظار إليها، لتنطلق بعدها الزغاريد، والأصوات المهللة كتعبيرٍ عن فرحة الحاضرين بقدومها. مرقت "فردوس" بين جموع المهنئين بخجلٍ وارتباك، اختطفت نظرات سريعة نحو خطيبها الذي نهض واقفًا ليستقبلها، فرأته بقامته الطويلة، وملامحه التي تنضح بالرجولة، لحظتها شعرت وكأنها لا ترى سواه، ابتسمت له في دلالٍ مطعم بالحياء، وأخفضت رأسها خجلًا حين جلست مجاورة إياه. تسارعت دقات قلبها في تلهفٍ فرح، ثم شبكت يديها معًا ووضعتهما في حجرها، محاولة التغلب على ارتباكها الظاهر للجميع، نظرت إلى جانبها حين خاطبتها والدتها وهي تحتضنها بنظراتها الحانية:
-زي القمر ياخواتي.
ابتسمت على استحياءٍ، بينما أطلقت خالتها زغرودة عالية، أتبعها قولها المهلل:
-النبي حارسك وصاينك.
قامت والدة العريس بتمرير علبة الشبكة على الحاضرين ليتأملوا ما ابتاعه ابنها لعروسه، فقد اشترى لها سوارًا من الذهب عيار 21، خاتمًا، ودبلة. استحسنوا حُسن اختيارهما، فتكلمت والدة "بدري" طالبة منه بعد أن فرغ الجميع من رؤية العلبة:
-قوم يا عريس لبس عروستك شبكتها.
استقام واقفًا، وتناول من العلبة قطعة بعد أخرى ليضعها في يد عروسه، ومن خلفه تصدح الأصوات المبتهجة، صاحت "أفكار" في الحضور من النساء بعد أن وضعت "فردوس" الدبلة في يد خطيبها:
-ما تزعرطوا يا حبايب، خلوا الفرحة تعم.
تقدم بعدئذ "عوض" لتهنئة شقيقه، واكتفى بالابتسام المهذب لـ "فردوس" قبل أن يعود ليجلس بجوار "شفيق"، وجده على حالته الناقمة، فمازحه قائلًا:
-اشرب شرباتك يا "شفيق"، ده حتى الليلة مفترجة.
نظر له شزرًا، وهبَّ واقفًا ليرد بوجومٍ:
-أنا قايم.
ثم برطم بعباراتٍ غير مفهومة تعبر عن سخطه قبل مغادرته المنزل، ضرب "عوض" كفه بالآخر متمتمًا بصوتٍ خافت للغاية:
-ربنا يهديك لحالك.
عاد ليتابع ما يدور بالخطبة وهو يدعو الله في سريرته أن تنتهي الليلة على خير، بل ويتم ذلك الأمر دون عقباتٍ، لينعم شقيقه بالهناء والسعادة مع زوجة طيبة يستحقها، تكون له في النهاية نِعم السُكنى.
....................................................
بهدوءٍ حذر سحب من أسفل يده الورقة بعد أن زيَّلها بتوقيعه، ليطالع بتركيزٍ دقيق ما كُتب على الورقة الأخرى، ظل "فؤاد" على هذه الوضعية الساكنة لعدة دقائق ريثما فرغ من مراجعة الملف بأكمله دون أن ينبس بكلمة، أعطاه لابنه الواقف خلفه، ثم نظر إليه من طرف عينه متسائلًا:
-مافيش أخبار عن "مهاب"؟
أجاب بهزة رأسه:
-لأ.
سأله مستفهمًا وهو يطوي نظارته الطبية بعد أن نزعها من على أنفه:
-إنت بتكلمه؟
تنحنح قبل أن يجيبه:
-لما بسأل عليه بيقولولي إنه يا في عمليات، يا إما بيحضر مؤتمر.
بدت علامات الضيق جلية على قسماته، لوى ثغره معبرًا عن انزعاجه:
-أنا مش فاهم هيفضل مقضيها سفر وغربة لحد إمتى!!
تجرأ "سامي" ليقول بتأدبٍ ماكر:
-لو تسمح لي أقترح حاجة يا بابا.
أعطاه الأذن ليتكلم بأمره المقتضب:
-قول.
عبث برابطة عنقه، وأخبره:
-إيه رأيك نجوزه؟ ده هيخليه يستقر، وآ...
لم يستسغ ما فاه به فقاطعه بازدراءٍ:
-مش كنت فلحت إنت الأول!!
استاء من الاستخفاف به وتحقير مطلبه، فرد بشيءٍ من الهجوم:
-ما حضرتك رفضت البنت اللي كنت عاوزها.
صاح به بصرامةٍ جعلته ينتفض:
-ودي أشكال تجيبهالي؟!!
ثم طرق بيده على سطح مكتبه يسأله في نبرة مليئة بالاتهام:
-إيه أصلها وفصلها؟
لاذ بالصمت عاجزًا عن تبرير اختياره، فوالده من هذا النوع المتعنت من البشر، الذي لا يمنحك الفرصة للاختيار، هو ينتقي الأفضل فقط، ولا بديل عنه، ليكون مجاورًا له، كما أنه لا يؤمن بالمشاعر، أو بما يعرف بميل القلب وهواه. مرة ثانية انتفض "سامي" مذعورًا ووالده ما زال يوبخه بصوته الخشن المرتفع وهو يطرق بيده على المكتب:
-واحدة اتعرفت عليها في حفلة خلاص بقت مناسبة...
رفع إصبعه أمام وجهه متابعًا حديثه الصارم إليه:
-لازم اللي تناسب عيلة "الجندي" يكون معروف هي مين.
هز رأسه مبديًا طاعته الكاملة له وهو يرد:
-حاضر.
لوح له بيده لينصرف دون أن ينبس بكلمةٍ، فانسحب مغادرًا غرفة مكتبه وهو ينفث دخانًا من أذنيه، غمغم بلا صوتٍ، وغليل صدره قد أخذ في التصاعد:
-طبعًا لو كان ده "مهاب" مكونتش كلمته ربع كلمة...
كز على أسنانه في غيظٍ، ووجهه قد تلون بحمرة الغضب:
-مسيرك تعرف قيمتي يا "فؤاد" بيه!
.......................................
بعد عدة أيامٍ، حيث كانت الشمس ساطعة في سماءٍ بلا سحب، والنهار شبه رطب، تنعكس آثاره على الوجوه السائرة والكادحة، تجاوزت كلتاهما إشارة المرور بعدما انتهتا من التجول في محال السوق الشعبي القريب، لتتجها بعدئذ إلى عدة محالٍ مصفوفة على ناصية الطريق، حيث تقوم بعرض منتجاتها المخفضة في الواجهات الزجاجية من أجل جذب الزبائن. لم تترك "فردوس" محلًا إلا ودلفت إليه لتتفقد الأحدث، وتبتاع المناسب. حملت معظم الحقائب والأكياس عن والدتها، واستطردت تخاطبها برنة حماس ظاهرة في صوتها:
-احنا كده كملنا الفوط والملايات، عاوزين نشوف الحاجات الشفتشي بقى يامه، خليني أدلع سي "بدري".
نهرتها والدتها بنظرة صارمة من عينيها قبل نبرتها:
-يا بت اتلمي، بلاش مياصة.
اعترضت بتذمرٍ وهي تواصل مشيها المتمهل:
-الله! مش هابقى مراته، ومن حقي أبقى ست الحسن في عينيه.
أصابت ابنتها في قولها، لذا هزت "عقيلة" رأسها قليلًا، وعلقت بشيءٍ من التفهم:
-لما أقبض الجمعية آخر الشهر ده هننزل ننقي ونشتري.
بنفس الصوت المتحمس أضافت "فردوس" مرة أخرى:
-وأوضة النوم سي "بدري" قالي هيستلمها الأسبوع الجاي.
على ملامح وجه والدتها ظهر الضيق، فعبرت لها عن مخاوفها بصوتٍ شبه مهموم:
-ربنا يكملها على خير، ولو إني مش مستريحة لأقعدتك مع أمه.
سألتها باسترابةٍ:
-ليه بس؟ دي شكلها طيبة أوي، وتتحط على الجرح تطيب.
لم تحبذ "عقيلة" أن تظل ابنتها على هذا القدر من السذاجة والحُمق، ولم ترغب أيضًا في إثقال صدرها بالهموم والقلق دون داعٍ، لهذا طرحت عنها تفكيرها السوداوي، وهمهمت في خفوتٍ:
-ربنا يخيب ظني.
بعد برهةٍ وصلت الاثنتان إلى منطقتهما الشعبية، قبل أن يتجاوزا رصيف دكان البقال، صاح صاحبه مناديًا بصوتٍ مرتفع:
-يا ست "أم تهاني"، تعالي أوام، ليكي مكالمة من برا.
توقفت عن المسير وقد اتسعت عيناها في صدمةٍ لحظية، لتردد بعدئذ في لوعةٍ:
-أكيد "تهاني"!
عاودت أدراجها صائحة في ابنتها وهي تهرول باشتياقٍ:
-مدي أوام يا "فردوس".
تركت "عقيلة" الأكياس عند قدميها، وأمسكت بالسماعة لتضعها على أذنها، ما إن سمعت صوت ابنتها يأتي من الطرف الآخر حتى لاحقتها بأسئلتها اللهفى المشتاقة إليها:
-أيوه يا "تهاني"، إزيك يا ضنايا؟ عاملة إيه يا حبيبتي؟ إنتي كويسة؟ ردي عليا وطمنيني.
أخبرتها في هدوءٍ:
-أنا بخير الحمدلله..
تنفست والدتها الصعداء، فأكملت "تهاني" كلامها:
-أخباركم إنتو إيه؟
في التو أجابتها وهي تحتضن السماعة بيديها، كأنما تضم صغيرتها:
-احنا كويسين...
بالكاد منعت نفسها من ذرف العبرات وهي تعاتبها في حنوٍ أموميٍ صادق:
-بقى ينفع تغيبي المدة دي كلها من غير ما تسألي على أمك؟ جالك قلب يا "تهاني"؟
أتى ردها عاديًا للغاية:
-مشغولة في الدراسة والمعمل.
ومع ذلك ارتضت والدتها بالقليل المحدود منها، وأعطتها وافر محبتها بقولها المليء بالتوصيات:
-خدي بالك من صحتك، وكلي كويس، واتغطي يا "تهاني"، عشان عضمك يا ضنايا.
تكلمت بإيجازٍ:
-حاضر.
كانت ابنتها على وشك إنهاء المكالمة لكنها هتفت تخبرها بتنهيدة متحمسة:
-بالحق، "فردوس" أختك اتخطبت.
صمتت للحظةٍ، وقالت في فتورٍ:
-مبروك.
صاحت بها "عقيلة" وهي تنقل السماعة من يدها ليد ابنتها:
-خدي باركيلها بنفسك.
أمسكت "فردوس" بسماعة الهاتف، ابتسمت تعابيرها بشكلٍ تلقائي حين استطردت مرددة:
-ألو، أيوه ياختي، وحشاني يا حبيبتي.
توقعت أن ترد بمودةٍ؛ لكنها فاجأتها عندما خاطبتها بتهكمٍ ساخرٍ للغاية:
-اتخطبتي بقى لمين عشان أقولك مبروك، متقوليش، أنا عارفة، أكيد يا فران يا ميكانيكي، ده إن مكانش آ...
انقلبت سِحنتها بشدة، فما زالت شقيقتها تسير على نفس النهج من الاحتقار، والتقليل من شأنها، لتُشعرها بأنها غير كاملة مثلها، تفتقر لأدنى مقومات الجمال الموجودة في الأنثى، بصعوبةٍ كتمت حنقها منها، وهتفت مقاطعة إياها وهي تضع ابتسامة مزيفة على محياها:
-الله يبارك فيكي، أنا مش سمعاكي، الصوت بيقطع.
ثم أغلقت السماعة في وجهها لتدعي بعبوسٍ:
-الخط قطع يامه.
اكفهر وجه "عقيلة" وقالت باستياءٍ:
-يا خسارة، ملحقناش نتكلم مع أختك.
انحنت "فردوس" لتحمل الأكياس والحقائب، لتقول بغير مبالاة وقد بدأت بالتحرك خارج دكان البقالة:
-تبقى تطلبنا تاني بقى لما تفضى.
.............................................
بعض المشاعر لا يمكن السيطرة عليها بسهولة، خاصة حينما تتعلق بتقدير الذات، والإعلاء من شأنها، هذه النزعة الغرورية التي تمتلكها كانت تتأثر بسوء اختيارات من حولها من أهلها، ومهما حاولت التغاضي عن تصرفاتهم غير المقبولة تعود مشاعر الضيق والنفور لتستبد بها. بتعابيرٍ تبدو منزعجة، ونظرات حانقة خرجت "تهاني" من مركز الاتصالات القريب من مقر عملها، لتسير عائدة إليه في خطواتٍ شبه متعجلة. لم تخف حدة الضيق من على تقاسيمها وهي لا تزال تُحادث نفسها:
-غبية! مش عاملة لنفسها قيمة خالص.
ولجت لداخل استقبال المشفى، واتجهت صاعدة على سلم الدرج وهي تتكلم بتبرمٍ ناقم:
-والله لو جالها شحات لهتوافق، هو أنا مش عارفاها.
أمسكت بالدرابزين، وتابعت حديث نفسها بتأففٍ أكبر:
-وطبعًا أنا مش محتاجة أخمن هتعيش فين ولا مع مين.
سارت في الرواق متجهة إلى الغرفة الخاصة بالمتدربين وهي تقول بازدراء:
-هي ماتستهلش إلا كده، تدفن نفسها بالحيا، عكرت مزاجي على الصبح.
مسحت على مقدمة شعرها لتسوي ما نفر من خصلاتها، ثم ضيقت ناظريها حين رأت باقة ضخمة من الورد الأحمر تحتل مكتبها، تحسست البتلات الزاهية بنعومةٍ وتساءلت في إعجابٍ واضح:
-الله، لمين الورد ده؟
أجابت عليها إحدى المتواجدات معها بالحجرة بابتسامة ماكرة:
-ليكي.
قطبت جبينها مندهشة قبل أن ترد:
-معقولة؟ ليا أنا؟
تساءلت بصوتٍ شبه مسموع وهي تفتش عن ورقةٍ تدل على هوية مُرسله:
-وده من مين يا ترى؟
وجدت ضالتها بالأسفل، فأمسكت بالورقة الصغيرة بإصبعيها، رفعتها إلى مستوى بصرها لتقرأ بلا صوتٍ ما كُتب فيها:
-صباحٌ مشرق بلون الحياة معكِ.
دهشة أكبر سيطرت عليها حين قرأت اسم صاحبها، فهزت شفتيها هامسة:
-"ممدوح"!
تبدلت تعبيراتها المتجهمة، وصارت أكثر ارتخاءً وسرورًا. أطلقت تنهيدة بطيئة من صدرها، لتهمهم في حبورٍ، وقد تألقت في عينيها نظرة متحمسة:
-ده ذوق خالص.
أحست "تهاني" بالانتشاء، والرضا عن حالها وهي تستشعر مدى لهفة الاثنين عليها، وتحديدًا ذوي السلطة والمال والكلمة المسموعة. زاد غرورها بداخلها، وإحساسها المنتشي عندما التفتت بتمهلٍ لتجد "مهاب" واقفًا على عتبة الغرفة، صدمها رؤيته، وتداركت نفسها لتتطلع إليه باستغرابٍ، فدنا منها مُلقيًا عليها التحية:
-صباح الخير.
تقدمت ناحيته بثباتٍ، وقالت وهي تضم باقة الورد إلى صدرها عن عمدٍ لتثير اهتمامه:
-صباح النور يا د. "مهاب".
حدث ما دبرت له لحظتها، فسألها، وعيناه تطوفان بفضولٍ على ما معها:
-أخبارك إيه؟
أجابته بابتسامةٍ رقيقة:
-الحمدلله.
استطرد مشيرًا بنظراته للباقة الملفتة:
-شيك أوي الورد ده.
دار في خلدها أن تستغل الأمر لصالحها، أن تشعره بالغيرة، تستفز مشاعره الذكورية تجاه منافس آخر يحاول كسب ودها، ربما قد يحسن ذلك من فرصتها مع أحدهما، وإن كانت كفة الميزان ترجح ميلها لجهة "مهاب"، ورغم هذا أبقت الأمر في وضع المساومة حتى اللحظة الأخيرة. حافظت على نقاء بسمتها، وقالت بدلالٍ خبيث، وهي تسبل عينيها:
-من دكتور "ممدوح".
مط فمه للحظةٍ، وعلق بفتورٍ:
-حلو.
تابعت قائلة بمكرِ الثعالب:
-الصراحة ذوقه جميل.
هز رأسه مرددًا:
-معاكي حق.
مجددًا قربت الباقة من أنفها لتشتم رائحة الورود، واختلست النظرات إليه، فلمحت على وجهه المسترخي القليل من الانزعاج، فابتسمت في زهوٍ وقد نجحت خطتها الساذجة، لاحظت كذلك نظرته العابرة من فوق كتفها لمن تتواجد معها بالحجرة، قبل أن يحيد ببصره عنها مستأذنًا بصوتٍ شبه منخفض:
-ممكن نتكلم برا شوية؟
أسندت الباقة على مكتبها وهي ترد:
-أكيد طبعًا.
تحركت بخفةٍ للخارج لتلحق به، لكن دقات قلبها المتحمس راحت تدق في سرعةٍ، وجدته ينتظرها على مسافة عدة أمتار، فأشار لها بيده لتأتي إليه، وبعدها استأنفا المشي معًا في الردهة، توقف فجأة ليسألها وهو ينظر في عينيها:
-إيه رأيك لو سافرتي معايا المؤتمر اللي جاي؟
باغتها بعرضه المغري، فزوت ما بين حاجبيها مرددة في استغرابٍ مصدوم:
-مؤتمر؟!!!
أخبرها موضحًا، وكأنه يستحثها على عدم الرفض:
-أيوه، دي فرصة تكتسبي خبرة، وتعرفي الجديد في عالم الطب والبحث العلمي.
انعكس التردد على تعابيرها، وأفصحت عنه عندما تعللت باعتذارٍ لبق:
-مش هاينفع، أنا عندي محاضرات وآ...
قاطعها بإصرارٍ، وهو يرمقها بنظرة واثقة مملوءة بالغموض المثير:
-متقلقيش، أنا هظبطلك كل حاجة، إنتي معاكي "مهاب الجندي".
عضت على شفتها السفلى في خجلٍ مصطنع، وأطرقت رأسها قليلًا لتبدو وكأنها تستحي منه، فألح عليها بصوته الهادئ:
-أنا حقيقي نفسي تكوني معايا المرادي.
كانت على وشك النطق بشيء لكنه عارضها بقدرٍ من التحكم:
-مش مسموحلك ترفضي.
استلذت طريقته المسيطرة في محاولة جذبها إليه، وردت مبتسمة:
-حاضر.
نظر في ساعة يده، وأخبرها:
-عندي دلوقتي عملية، نتقابل بعدين عشان نتكلم في التفاصيل.
دون أن تخبت ابتسامتها قالت:
-ماشي.
شيعته بنظراتها اللامعة، ولوحت له بيدها وهو ينصرف مبتعدًا عنها، لترتكن بعدئذ بظهرها للحائط وهي تخاطب نفسها في صوتٍ مهموس حالم للغاية:
-شكل الدنيا ضحكتلك يا "تهاني".
مرة أخرى حررت تنهيدة عميقة من صدرها لتردد في نبرة متمنية:
-بكرة تقولي للفقر والقحط مع السلامة.
همَّت بالعودة إلى حجرتها؛ لكن استوقفتها واحدة لم تتوقع أبدًا ظهورها هنا، اتسعت عيناها مذهولة وهي تحرك شفتيها لتنطق:
-"ابتهال"!
وضعت الأخيرة ابتسامة عريضة على وجهها، قد تصل من الأذن للأخرى، وسألتها وهي تهز رأسها للجانبين في مرحٍ غريب:
-إيه رأيك في المفاجأة دي؟
في التو تجهمت ملامحها، واختفت الإشراقة الناعمة من على محياها، كانت متيقنة أنها لن تتركها لحالها، حتمًا ستغرقها بالأسئلة المتطفلة لتستعلم عما لا يخصها بفضولٍ مثير للحنق، سرعان ما تابعت السير بتعجلٍ، وهي متلفحة بالصمت. لحقتها "ابتهال" شبه راكضة وهي تصيح مسترسلة في الكلام:
-أنا خلصت بدري قولت أفوت عليكي أشوف بتعملي إيه!
ثم لكزتها في جانب ذراعها وهي تردد بلؤمٍ:
-أومال مين الشاب الحليوة ده؟
توقفت "تهاني" مرة واحدة بعد جملتها الموحية، وحدجتها بنظرة قاسية، محتجة على تصرفها الغليظ المتدخل في شئونها، زفرت الهواء بعمقٍ قبل أن تجيب على سؤالها بآخر مراوغ، وبصوتها لمحة استنكار:
-شاب مين؟
راحت تصف مظهره الجسماني مستخدمة يديها في التوضيح:
-أبو شعر مسبسب، واللي طوله جايب السقف، وكتافه عريضة، ده أنا حتى معرفتش أشوفك منه.
نفخت عاليًا، وأجابتها وقد فهمت من تقصد بكلامها المتواري:
-ده الدكتور "مهاب"، رئيس قسم الجراحة.
التمعت عيناها بقدرٍ من الحسد، ومالت عليها لتقول بغمزةٍ خاطفة:
-يا وعدي، مسئول القسم بذات نفسه.
ثم اعتدلت في وقفتها، وصفقت بيديها في غبطةٍ وهي تخبرها:
-بيضالك في القفص يا "توتو"!
دفعتها من كتفها لتمر وهي تغمغم في صبرٍ شبه نافد:
-استغفر الله العظيم، بلاش نبر الله يكرمك، ده مجرد زميل، هتألفي حوار من غير ما يكون في حاجة أصلًا!
ضحكت من خلفها، وقالت بسماجةٍ:
-هي بتبدأ بكده.
أطبقت على جفنيها للحظةٍ، قبل أن تهمس في حنقٍ مزعوج:
-خلصني يا رب منها.
لازمتها "ابتهال" معظم الوقت محاولة اكتشاف ما تفعله في هذا المشفى الضخم، بالإضافة لفرض نفسها على الآخرين، وكأنها تعتقد بذلك أنها ذات قدرة فائقة على صنع الصداقات من العدم، رغم تحفظ المعظم في التعامل معها.
..............................................
على عكس ما تخيلت، صار كل شيء سلسًا، منظمًا، وبدون أدنى متاعب، لتجد نفسها بعد عدة أيامٍ تستقل الطائرة إلى جوار "مهاب الجندي"، تلبيةً لدعوته المميزة لحضور هذا المؤتمر الطبي المقام في إحدى الدول الأوربية. كانت هذه زيارتها الأولى لبلدٍ كهذا، فتحمست كثيرًا، ولم تبخل على نفسها للاستمتاع بأيامها هناك. لم ترغب في الظهور بمظهرٍ متدنٍ أمامه، فاحتارت وتحيرت فيما تأخذ من ثياب، بالكاد اشترت من نفقاتها ما وجدته ملائمًا بعد جولة في المحال التجارية، وفي نفس الوقت يبث الدفء لجسدها. تململت في جلستها، والتفتت ناظرة إليه عندما سألها في اهتمامٍ:
-مبسوطة؟
هزت رأسها مرددة في الحال:
-أكيد.
سألها مرة أخرى باسمًا:
-أول مرة ليكي صح؟
أجابته بإيماءة خفيفة:
-أيوه.
في جُرأة مدروسة، امتدت يده ليضعها فوق كفها المبسوط على مسند الأريكة، ارتجفت من لمسته المفاجأة على جلدها، ورفعت نظرها لتحدق فيه بفمٍ شبه مفتوح، فحافظ على ثبات بسمته المنمقة وهو يخاطبها:
-ومش هتكون الأخيرة طالما إنتي معايا.
لم تعرف بماذا تعلق، فكل ما يفعله من توددٍ مقنع يوحي بانجذابه إليها، اكتفت بالابتسام خجل، ثم قامت بسحب يدها من أسفله في تحرجٍ، لتحدق في النافذة البيضاوية المجاورة لها، وهي تشعر بتدافع دقات قلبها. التصقت بشفتيها ابتسامة سعيدة للغاية لم تنجح في إخفائها، وكيف لها أن تواري عن فرحة تشعر في أعماقها أنها باتت وشيكة الحدوث؟
...........................................
لفحتها برودة غير عادية عندما وطأت قدماها خارج المطار، فضمت ياقتي معطفها الأسود، ونظرت إلى السماء، فكانت ملبدة بالغيوم الرمادية، انكمشت على نفسها محاولة مقاومة إحساس البرد الذي تغلل إلى أطرافها، وتفشى في جسدها كسرعة البرق. أحست "تهاني" بيدٍ تتلمس ظهرها فانتفضت بقلقٍ، ونظرت جانبها، لتجد "مهاب" يخاطبها:
-العربية واقفة هناك.
نظرت إلى حيث أشار بعينه، فرأت سيارة ليموزين سوداء اللون، تربض بمحاذاة الرصيف، يقف أمام بابها الخلفي أحدهم، وكأنه في انتظارهما. تركته يقودها إليها وهي تسير بتعجلٍ محاولة تصديق أنها حقًا ستركب واحدة كتلك. استقرت بالمقعد الخلفي إلى جواره، وشعرت بشيء من الدفء يتسلل إليها، غاصت بالمقعد، وتركت شعور الانتشاء يلفها، ثم ألقت نظرة متألمة لما يطوف عليه بصرها عبر النافذة، حقًا بَهَر نظرها كل ما تُعايشه من فخامة ورقي، حتى في الاستقبال والمعاملة، شعرت وكأنها ملكة متوجة، والخدم يتراصون عند قدميها لتنفيذ كل ما ترغب فيه دون نقاشٍ، كم ودت أن تدوم هذه اللحظات إلى الأبد فلا تفيق من حلم الراحة والتدلل مُطلقًا!
آنئذ طاف ببالها لمحاتٍ مقتضبة لواقعها البائس في الحارة الشعبية، وما بها من مظاهر بؤسٍ، وفقرٍ مدقع، بالكاد نفدت بجلدها، وطفت على سطح ذلك المستنقع قبل أن تفر منه بأعجوبةٍ، آه لو لم تعاند وتتشبث بقرارها بالسفر، لربما كانت الآن تجلس عند قدمي ذلك النقاش تدعكهما بالماء والملح! ابتسمت في سخرية مريرة، قبل أن تترك ما يزعجها جانبًا، وتركز كل اهتمامها على ما تنعم به حاليًا. أحضرها "مهاب" من شرودها الصامت بكلامه المرتب وهو يرتشف من كأس المشروب الملاصق لجانبه من السيارة:
-احنا هنروح افتتاحية المؤتمر الأول، وبعد كده هنطلع على الفندق نرتاح شوية.
تفاجأت بإقباله على شرب الخمر، ووارت ذلك الشعور بالضيق خلف ابتسامة لبقة مرسومة بعنايةٍ، هزت رأسها بتفهمٍ، فأكمل باسمًا، وكأنه يقطع وعدًا لها:
-بس بعد كده هخدك في جولة بالبلد هنا، ممكن تقولي فسحة على مزاجك.
بدت سعيدة بهذا الاقتراح، وتكلمت في رعشة خفيفة:
-أنا متخيلتش إن المكان ساقع كده.
أخبرها وهو يميل ناحيتها بعدما ترك كأسه في موضعه:
-أوروبا معروفة بجوها البارد.
ثم أمسك بكفها ليحتضنه بين راحتيه، نظرت له مدهوشة، وقد صدمها بما يفعل، لم يحرر يدها رغم محاولتها استعادتها، وأطبق عليها بين أصابعه في قوةٍ طفيفة، ليدلك بشرتها برفقٍ وفي حركة دائرية خفيفة، قبل أن يرمقها بهذه النظرة القريبة وهو يهمس لها بإيحاءٍ خطير:
-إنتي بس محتاجة تدفي شوية، وأنا عارف حل ده إزاي.
طالعته عن كثب مستشعرة الحرارة المنبعثة من جسده حينما صار قريبًا منها، إحساسها كأنثى لا يكذب، هو يشعر بالميل تجاهها، يرغب فيها بتحرقٍ واضح، يطمح في نيل لحظة مميزة معها، قد تكون جامحة، وتفوق ما تتصوره في مخيلتها من حب عذري، كانت شفتاه ترتجفان، تئنان بلا صوت، لطمت أنفاسه خدها القريب منه، كان ما يحيط بها ينذرها لاتخاذ حذرها، لذا قبل أن تفقد زمام السيطرة على الأمور –خاصة مع تأثير الخمر عليه- سحبت يدها قائلة برسميةٍ مقنعة وهي تبتعد عنه:
-ميرسي يا د. "مهاب"، حضرتك إنسان قبل ما تكون دكتور.
أرادت تذكيره بما هو عليه بالنسبة لها ليستفيق من دوامة الخيالات التي استحوذت عليه جراء ما تجرع، لدهشتها لم يتحرك، وظل مائلًا تجاهها ليخبرها بمكرٍ:
-بس معاكي بكون حد تاني خالص، مختلف عن اللي اتعودت عليه.
كلامه المعسول، وما على هذه الشاكلة من تنهيدات مفعمة بالأشواق والأمنيات، اخترق وجدانها، وأسكرها بلا شربٍ، فرجت بشدة أن يحدث المراد، وتتخذ علاقتهما –إن كانت جادة حقًا- شكلًا رسميًا. تحفظت في الرد عليه وهي تضع يدها على ياقة معطفها:
-أنا مش واخدة عليك وإنت شارب يا دكتور "مهاب".
ضحك باستمتاعٍ قبل أن يوضح لها:
-ده ماسموش شرب، ده ( Drink ) خفيف كده، يعني عشان ندفي جسمنا، وبعدين النظام هنا مختلف.
احتجت على تبريره قائلة بشيءٍ من الهجوم:
-أظنه مايناسبنيش.
حافظ على بسمته المتسلية وهو يخبرها:
-لأنك بس مش متعودة.
زادت من نقدها الحاد له وهي ترد عليه:
-المفروض حضرتك دكتور مهم، رئيس قسم الجراحة، ومحتاج تكون مركز، إزاي هتقدر تقوم بعملية وإنت يعني.. مش في وعيك؟!!
أدار دفة الحديث المهاجم له، ووجهها إلى شيءٍ مغاير، أراد به أن يصيب هدفه في مقتلٍ دون عناءٍ، فسألها بجديةٍ لا تخلو من الابتسام:
-إنتي خايفة عليا؟
تحرجت نسبيًا من نظراته وطريقة سؤاله، فتنحنحت قبل أن ترد:
-حاجة زي كده!
ليزيد من حبك حبائله الماكرة عليها، أوهمها أنه يخشى من إغضابها، فضغط على زر فتح النافذة الملاصقة له، لتبصره وهو يمسك بالكأس ليُلقي به، ومن ورائه زجاجة الخمر، انفرجت شفتاها في دهشةٍ أكبر، فأغلق النافذة، واستطرد قائلًا بهذه النبرة العذبة، وعيناه لا تحيدان على تأمل وجهها:
-أنا حقيقي محظوظ إن بقى في حياتي واحدة زيك تهتم بيا، عادة محدش بيقولي لأ، أو حتى بيفكر يعارضني.
عاد شعورها بالنشوة يغمرها من رأسها لأخمص قدميها، انطلت عليه خدعته، وظنت أنها ذات تأثيرٍ قوي عليه، فقالت بثقةٍ مغترة:
-ده لأنهم مش أنا.
قال مؤكدًا لها بنظرة عميقة:
-إنتي فعلًا مختلفة.
تباطأت سرعة السيارة، فالتفتت لناحيتها لتمعن النظر خارج النافذة، رأت إحدى واجهات الفنادق العريقة تحجب السماء عنها، فتساءلت باهتمامٍ:
-هو احنا وصلنا؟
قال وهو يستعد للنزول من السيارة:
-أيوه، يالا بينا.
تبعته بعينيها المتشوقتين وهو يترجل قبلها، ليقوم أحدهم باستقباله في حفاوةٍ وكأن نجمًا لامعًا قد جاء في زيارة رسمية إلى هنا. ليسرع بعدئذ أحد العاملين بهذا الفندق لفتح بابها حتى تهبط هي الأخرى، تضاعف شعورها المستمتع بما يقدمه الحظ لها في غفلة من الزمن، تعهدت لنفسها بعزيمةٍ وهي تنتصب بكتفيها في كبرياءٍ ورفعة، ونظراتها تصبو إلى ما هو أبعد:
-بكرة أخليه يتغير، ويعمل اللي أنا عاوزاه ........................... !!
...............................
(مكرُ الثعالب)
تراصت المقاعد الخشبية المستأجرة بمحاذاة الحيز الشاغر في صالة المنزل بعدما تم إزاحة معظم الأثاث، ليكون ملائمًا لاستقبال الضيوف في هذه الليلة المميزة. كما تولى أحدهم تعليق الزينات والأنوار البراقة، وأضاف آخر حاملًا من الورد وضعه بين الأريكتين المخصصتين لجلوس العروسين في منتصف الحضور. أشرفت "عقيلة" على غالبية من تطوع للمساعدة في إنجاز ما ينقص، وتولت بنفسها تجهيز قوالب الحلوى، وتحضير الشربات والعصائر الطازجة، في حين قامت شقيقتها "أفكار" بتقطيع الفواكه، وحشو الشطائر بقطع الجبن واللحم لتوزيعها على المدعوين، بينما جلست "فردوس" بداخل الغرفة لتقوم جارتها "إجلال" بمعاونتها في تزيين وجهها بمساحيق التجميل.
توافد المدعوون بعد صلاة العشاء تباعًا، وقامت إحداهن برفع صوت المذياع على أغاني الأفراح الطربية، مع إطلاقها لعدة زغاريد مبتهجة، كنوعٍ من الاستعداد لاستقبال عائلة العريس، فقد كانت والدته في المقدمة، واضعة ابتسامة متكلفة على محياها، بدت وكأنها غير راضية عن هذه الخطبة، استقبلتها "عقيلة" بترحيبٍ حار، وأجلستها على الأريكة المجاورة للعروسين، ثم صافحت العريس، وشقيقه الأكبر، وأشارت لإحدى الفتيات بإبلاغ العروس بوصول خطيبها. تعالت أصوات الزغاريد الفرحة المصحوبة ببعض التصفيقات، ليتزاحم الحضور بعد بضعة دقائق انتظارًا لخروج العروس من الداخل.
تحرك "شفيق" من مكانه ليجلس مجاورًا للعريس، مال عليه، وهمس له بشيءٍ من الغل:
-ملاقتش إلا دي يا "بدري"؟
ضغط على شفتيه للحظةٍ، ثم أخبره بعد زفرة سريعة:
-على أد ظروفي.
خاطبه بحقدٍ يملأ صدره:
-يا ابني إنت تستاهل أحسن من كده، دي أختها صعب، وعملت فيا اللي ما اتعمل، وفي الآخر طردتنا.
بناءً على تعامله الشخصي معها، وحديث خالتها "أفكار" عن طبيعتها المسالمة، كان مدركًا إلى حدٍ كبير للفارق بين كلتيهما، لذا رد مدافعًا عنها:
-"فردوس" غيرها.
أصر على رأيه هاتفًا بتصميمٍ:
-الدم واحد، اسمع مني...
لم يبدُ "بدري" مقتنعًا بما يفوه، فلجأ إلى إخباره بنوعٍ من الذم:
-ده غير إن شكلها مش أد كده، في ألف واحدة أحلى منها بكتير.
ظل مطرقًا رأسه وهو يرد:
-أهوو النصيب.
انتقل الشقيق الأكبر من موضعه ليجلس في الجهة المقابلة لشقيقه، وتساءل باسمًا:
-بتكلموا عن مين كده؟
حذره "شفيق" بقدرٍ من التهكم:
-أخوك اللي عملنا فيها شيخ هيوعظنا دلوقت.
تكلم "عوض الله" منتقدًا وصفه المسيء إليه:
-هو عشان بقول كلمة الحق أبقى وحش؟
طالعه "شفيق" بنظراتٍ ناقمة قبل أن يعلق عليه بتحيزٍ:
-يا سيدي بدل ما تركز معانا شوفلك شغلانة عدلة تاكل منها عيش بدل لفك اللي على الفاضي.
للحظةٍ سكت "عوض الله" متحفظًا على كلامه، فقد ارتضى بالعمل نهارًا في وظيفة بسيطة كساعٍ بين المكاتب بالمنطقة الأزهرية، بالإضافة لقيامه بإنهاء الناقص من الأوراق الرسمية لمن يعجز عن إنجازها في مقابلٍ زهيد، أما ليلًا فكان يلازم المقرئين خلال إحيائهم الليالي الدينية إما في مناسبات عامة أو في سرادقات العزاء، ليختتم يومه بالذهاب إلى المسجد لسؤال إمامه عما ينقص من أعمال ليؤديها هو برضا وحبور. لما طال صمته ظن "شفيق" أنه أصاب هدفه، فتمادى في التقليل من شأنه ليرد عليه أخيرًا بتريثٍ:
-أنا بخدم عباد الله، وطالما ربنا سخرني أقضي مصالح الناس ليه أتبطر على النعمة.
سخر منه بلمحةٍ هازئة:
-يعني إنت عاوز تقنعني إن اللي إنت بتعمله ده بالكام مليم دول اسمه شغل؟
رد مبتسمًا وهو يرفع كفيه للسماء:
-فضل ونعمة من ربنا.
سأله بتطفلٍ شبه سمج:
-طب ما سبقتش أخوك الصغير واتجوزت ليه؟!!
سادت في ملامحه لمحاتٍ من التوتر، فهو لم يستطع الإقدام على هذه الخطوة حتى الآن لضيق ذات اليد، ولإنفاقه كامل ما يجنيه على علاج والدته المكلف دون أن يكلف شقيقه الذي يصغره بستة أعوام عناء هذه الأمور، فاكتفى بتحمل الأعباء وحده، ودون شكوى. نظر إليه، وقال بعد تنهيدةٍ خافتة:
-لسه ربنا مأذنش.
تدخل "بدري" متحدثًا كنوعٍ من التلطيف وهو يربت على ذراع شقيقه:
-سيبك منه يا "عوض"، بكرة ربنا يرزقك ببنت الحلال اللي تستاهلك.
ثم التفت ناظرًا إلى "شفيق" ووبخه:
-إنت جاي تتطلع عقدك علينا يا جدع إنت؟
دمدم في حنقٍ لم يخبت نهائيًا:
-يا عم أنا معبي وشايل من العيلة دي، ولولا معزتك عندي قسمًا بالله ما كنت عتبت البيت ده!!
قاطع ثرثرتهما حضور "عقيلة" وهي تحمل في يدها صينية نحاسية اللون مملوءة بكؤوس متشابهة الشكل، انحنت قليلًا تجاه "بدري"، وقالت بوديةٍ حانية:
-اتفضل يا عريس الشربات.
التقط الكأس الزجاجي، وهتف مجاملًا:
-كتر خيرك يا حماتي، من يد ما نعدمها.
نهض "عوض" قائمًا، وأصر على أخذ الصينية منها بتهذيبٍ:
-عنك إنتي يا حاجة، مايصحش تلفي واحنا موجودين.
تحرجت من ذوقه الواضح، وناولته إياها وهي تخبره:
-تسلم وتعيش يا ابني.
هز رأسه مبتسمًا، وسار بين المدعوين يوزع الكؤوس المملوءة بهذا السائل الأحمر وهو يتلقى عبارات التهنئة والمباركة منهم.
................................................
قفزت من على مقعد المرآة لأكثر من مرة لتنظر إلى وجهها الذي صار أكثر نعومة وجاذبية بعدما تم إضفاء مساحيق التجميل عليه، لتصبح شبه مستعدة للخروج ومقابلة خطيبها وعائلته. لم ترغب "فردوس" في الإفراط في وضع أحمر الشفاه، واكتفت بما زين بشرتها، لتقوم بقرص خديها لإعطائهما المزيد من الحمرة الدافئة. تأملت انعكاسها، وتساءلت بتهلفٍ:
-إيه رأيك؟
أصدقتها "إجلال" القول:
-زي القمر ياختي...
ثم قبلتها من أعلى رأسها وتابعت:
-مبروك يا "دوسة"، وربنا يتمملك على خير.
شكرتها بامتنانٍ، ووجهها يزداد إشراقة بابتسامتها المتسعة:
-تسلمي يا "إجلال"، عقبال ليلتك يا حبيبتي.
استحثها على التعجيل قائلة بمرحٍ:
-مش معقول هنسيب العريس يستنى.
هزت رأسها تؤيدها، ونهضت واقفة لتشد طرفي ثوبها لينساب على خصرها بأريحية، شهقت فجأة مصدومة حينما انحنت عليها "إجلال" لتقرصها من ركبتيها، فسألتها مدهوشة وهي ترمقها بهذه النظرة:
-بتعملي إيه؟
أجابتها ضاحكة ببشاشةٍ:
-جايز أحصلك في جمعتك.
حملقت فيها بمحبةٍ وهي ترد:
-يا رب يا حبيبتي، نبقى في ليلة واحدة.
احتضنتها "إجلال" في سعادةٍ، لتتراجع بعدها عنها، لتفسح لها المجال لتمر، وتتجه إلى باب الغرفة. تفشى الاضطراب في وجدان "فردوس"، وراحت تردد بلا صوتٍ في توجسٍ طفيف:
-يا رب اجعل في وشي القبول.
..................................................
ما إن أطلت العروس بهيئتها البهية، حتى اتجهت كافة الأنظار إليها، لتنطلق بعدها الزغاريد، والأصوات المهللة كتعبيرٍ عن فرحة الحاضرين بقدومها. مرقت "فردوس" بين جموع المهنئين بخجلٍ وارتباك، اختطفت نظرات سريعة نحو خطيبها الذي نهض واقفًا ليستقبلها، فرأته بقامته الطويلة، وملامحه التي تنضح بالرجولة، لحظتها شعرت وكأنها لا ترى سواه، ابتسمت له في دلالٍ مطعم بالحياء، وأخفضت رأسها خجلًا حين جلست مجاورة إياه. تسارعت دقات قلبها في تلهفٍ فرح، ثم شبكت يديها معًا ووضعتهما في حجرها، محاولة التغلب على ارتباكها الظاهر للجميع، نظرت إلى جانبها حين خاطبتها والدتها وهي تحتضنها بنظراتها الحانية:
-زي القمر ياخواتي.
ابتسمت على استحياءٍ، بينما أطلقت خالتها زغرودة عالية، أتبعها قولها المهلل:
-النبي حارسك وصاينك.
قامت والدة العريس بتمرير علبة الشبكة على الحاضرين ليتأملوا ما ابتاعه ابنها لعروسه، فقد اشترى لها سوارًا من الذهب عيار 21، خاتمًا، ودبلة. استحسنوا حُسن اختيارهما، فتكلمت والدة "بدري" طالبة منه بعد أن فرغ الجميع من رؤية العلبة:
-قوم يا عريس لبس عروستك شبكتها.
استقام واقفًا، وتناول من العلبة قطعة بعد أخرى ليضعها في يد عروسه، ومن خلفه تصدح الأصوات المبتهجة، صاحت "أفكار" في الحضور من النساء بعد أن وضعت "فردوس" الدبلة في يد خطيبها:
-ما تزعرطوا يا حبايب، خلوا الفرحة تعم.
تقدم بعدئذ "عوض" لتهنئة شقيقه، واكتفى بالابتسام المهذب لـ "فردوس" قبل أن يعود ليجلس بجوار "شفيق"، وجده على حالته الناقمة، فمازحه قائلًا:
-اشرب شرباتك يا "شفيق"، ده حتى الليلة مفترجة.
نظر له شزرًا، وهبَّ واقفًا ليرد بوجومٍ:
-أنا قايم.
ثم برطم بعباراتٍ غير مفهومة تعبر عن سخطه قبل مغادرته المنزل، ضرب "عوض" كفه بالآخر متمتمًا بصوتٍ خافت للغاية:
-ربنا يهديك لحالك.
عاد ليتابع ما يدور بالخطبة وهو يدعو الله في سريرته أن تنتهي الليلة على خير، بل ويتم ذلك الأمر دون عقباتٍ، لينعم شقيقه بالهناء والسعادة مع زوجة طيبة يستحقها، تكون له في النهاية نِعم السُكنى.
....................................................
بهدوءٍ حذر سحب من أسفل يده الورقة بعد أن زيَّلها بتوقيعه، ليطالع بتركيزٍ دقيق ما كُتب على الورقة الأخرى، ظل "فؤاد" على هذه الوضعية الساكنة لعدة دقائق ريثما فرغ من مراجعة الملف بأكمله دون أن ينبس بكلمة، أعطاه لابنه الواقف خلفه، ثم نظر إليه من طرف عينه متسائلًا:
-مافيش أخبار عن "مهاب"؟
أجاب بهزة رأسه:
-لأ.
سأله مستفهمًا وهو يطوي نظارته الطبية بعد أن نزعها من على أنفه:
-إنت بتكلمه؟
تنحنح قبل أن يجيبه:
-لما بسأل عليه بيقولولي إنه يا في عمليات، يا إما بيحضر مؤتمر.
بدت علامات الضيق جلية على قسماته، لوى ثغره معبرًا عن انزعاجه:
-أنا مش فاهم هيفضل مقضيها سفر وغربة لحد إمتى!!
تجرأ "سامي" ليقول بتأدبٍ ماكر:
-لو تسمح لي أقترح حاجة يا بابا.
أعطاه الأذن ليتكلم بأمره المقتضب:
-قول.
عبث برابطة عنقه، وأخبره:
-إيه رأيك نجوزه؟ ده هيخليه يستقر، وآ...
لم يستسغ ما فاه به فقاطعه بازدراءٍ:
-مش كنت فلحت إنت الأول!!
استاء من الاستخفاف به وتحقير مطلبه، فرد بشيءٍ من الهجوم:
-ما حضرتك رفضت البنت اللي كنت عاوزها.
صاح به بصرامةٍ جعلته ينتفض:
-ودي أشكال تجيبهالي؟!!
ثم طرق بيده على سطح مكتبه يسأله في نبرة مليئة بالاتهام:
-إيه أصلها وفصلها؟
لاذ بالصمت عاجزًا عن تبرير اختياره، فوالده من هذا النوع المتعنت من البشر، الذي لا يمنحك الفرصة للاختيار، هو ينتقي الأفضل فقط، ولا بديل عنه، ليكون مجاورًا له، كما أنه لا يؤمن بالمشاعر، أو بما يعرف بميل القلب وهواه. مرة ثانية انتفض "سامي" مذعورًا ووالده ما زال يوبخه بصوته الخشن المرتفع وهو يطرق بيده على المكتب:
-واحدة اتعرفت عليها في حفلة خلاص بقت مناسبة...
رفع إصبعه أمام وجهه متابعًا حديثه الصارم إليه:
-لازم اللي تناسب عيلة "الجندي" يكون معروف هي مين.
هز رأسه مبديًا طاعته الكاملة له وهو يرد:
-حاضر.
لوح له بيده لينصرف دون أن ينبس بكلمةٍ، فانسحب مغادرًا غرفة مكتبه وهو ينفث دخانًا من أذنيه، غمغم بلا صوتٍ، وغليل صدره قد أخذ في التصاعد:
-طبعًا لو كان ده "مهاب" مكونتش كلمته ربع كلمة...
كز على أسنانه في غيظٍ، ووجهه قد تلون بحمرة الغضب:
-مسيرك تعرف قيمتي يا "فؤاد" بيه!
.......................................
بعد عدة أيامٍ، حيث كانت الشمس ساطعة في سماءٍ بلا سحب، والنهار شبه رطب، تنعكس آثاره على الوجوه السائرة والكادحة، تجاوزت كلتاهما إشارة المرور بعدما انتهتا من التجول في محال السوق الشعبي القريب، لتتجها بعدئذ إلى عدة محالٍ مصفوفة على ناصية الطريق، حيث تقوم بعرض منتجاتها المخفضة في الواجهات الزجاجية من أجل جذب الزبائن. لم تترك "فردوس" محلًا إلا ودلفت إليه لتتفقد الأحدث، وتبتاع المناسب. حملت معظم الحقائب والأكياس عن والدتها، واستطردت تخاطبها برنة حماس ظاهرة في صوتها:
-احنا كده كملنا الفوط والملايات، عاوزين نشوف الحاجات الشفتشي بقى يامه، خليني أدلع سي "بدري".
نهرتها والدتها بنظرة صارمة من عينيها قبل نبرتها:
-يا بت اتلمي، بلاش مياصة.
اعترضت بتذمرٍ وهي تواصل مشيها المتمهل:
-الله! مش هابقى مراته، ومن حقي أبقى ست الحسن في عينيه.
أصابت ابنتها في قولها، لذا هزت "عقيلة" رأسها قليلًا، وعلقت بشيءٍ من التفهم:
-لما أقبض الجمعية آخر الشهر ده هننزل ننقي ونشتري.
بنفس الصوت المتحمس أضافت "فردوس" مرة أخرى:
-وأوضة النوم سي "بدري" قالي هيستلمها الأسبوع الجاي.
على ملامح وجه والدتها ظهر الضيق، فعبرت لها عن مخاوفها بصوتٍ شبه مهموم:
-ربنا يكملها على خير، ولو إني مش مستريحة لأقعدتك مع أمه.
سألتها باسترابةٍ:
-ليه بس؟ دي شكلها طيبة أوي، وتتحط على الجرح تطيب.
لم تحبذ "عقيلة" أن تظل ابنتها على هذا القدر من السذاجة والحُمق، ولم ترغب أيضًا في إثقال صدرها بالهموم والقلق دون داعٍ، لهذا طرحت عنها تفكيرها السوداوي، وهمهمت في خفوتٍ:
-ربنا يخيب ظني.
بعد برهةٍ وصلت الاثنتان إلى منطقتهما الشعبية، قبل أن يتجاوزا رصيف دكان البقال، صاح صاحبه مناديًا بصوتٍ مرتفع:
-يا ست "أم تهاني"، تعالي أوام، ليكي مكالمة من برا.
توقفت عن المسير وقد اتسعت عيناها في صدمةٍ لحظية، لتردد بعدئذ في لوعةٍ:
-أكيد "تهاني"!
عاودت أدراجها صائحة في ابنتها وهي تهرول باشتياقٍ:
-مدي أوام يا "فردوس".
تركت "عقيلة" الأكياس عند قدميها، وأمسكت بالسماعة لتضعها على أذنها، ما إن سمعت صوت ابنتها يأتي من الطرف الآخر حتى لاحقتها بأسئلتها اللهفى المشتاقة إليها:
-أيوه يا "تهاني"، إزيك يا ضنايا؟ عاملة إيه يا حبيبتي؟ إنتي كويسة؟ ردي عليا وطمنيني.
أخبرتها في هدوءٍ:
-أنا بخير الحمدلله..
تنفست والدتها الصعداء، فأكملت "تهاني" كلامها:
-أخباركم إنتو إيه؟
في التو أجابتها وهي تحتضن السماعة بيديها، كأنما تضم صغيرتها:
-احنا كويسين...
بالكاد منعت نفسها من ذرف العبرات وهي تعاتبها في حنوٍ أموميٍ صادق:
-بقى ينفع تغيبي المدة دي كلها من غير ما تسألي على أمك؟ جالك قلب يا "تهاني"؟
أتى ردها عاديًا للغاية:
-مشغولة في الدراسة والمعمل.
ومع ذلك ارتضت والدتها بالقليل المحدود منها، وأعطتها وافر محبتها بقولها المليء بالتوصيات:
-خدي بالك من صحتك، وكلي كويس، واتغطي يا "تهاني"، عشان عضمك يا ضنايا.
تكلمت بإيجازٍ:
-حاضر.
كانت ابنتها على وشك إنهاء المكالمة لكنها هتفت تخبرها بتنهيدة متحمسة:
-بالحق، "فردوس" أختك اتخطبت.
صمتت للحظةٍ، وقالت في فتورٍ:
-مبروك.
صاحت بها "عقيلة" وهي تنقل السماعة من يدها ليد ابنتها:
-خدي باركيلها بنفسك.
أمسكت "فردوس" بسماعة الهاتف، ابتسمت تعابيرها بشكلٍ تلقائي حين استطردت مرددة:
-ألو، أيوه ياختي، وحشاني يا حبيبتي.
توقعت أن ترد بمودةٍ؛ لكنها فاجأتها عندما خاطبتها بتهكمٍ ساخرٍ للغاية:
-اتخطبتي بقى لمين عشان أقولك مبروك، متقوليش، أنا عارفة، أكيد يا فران يا ميكانيكي، ده إن مكانش آ...
انقلبت سِحنتها بشدة، فما زالت شقيقتها تسير على نفس النهج من الاحتقار، والتقليل من شأنها، لتُشعرها بأنها غير كاملة مثلها، تفتقر لأدنى مقومات الجمال الموجودة في الأنثى، بصعوبةٍ كتمت حنقها منها، وهتفت مقاطعة إياها وهي تضع ابتسامة مزيفة على محياها:
-الله يبارك فيكي، أنا مش سمعاكي، الصوت بيقطع.
ثم أغلقت السماعة في وجهها لتدعي بعبوسٍ:
-الخط قطع يامه.
اكفهر وجه "عقيلة" وقالت باستياءٍ:
-يا خسارة، ملحقناش نتكلم مع أختك.
انحنت "فردوس" لتحمل الأكياس والحقائب، لتقول بغير مبالاة وقد بدأت بالتحرك خارج دكان البقالة:
-تبقى تطلبنا تاني بقى لما تفضى.
.............................................
بعض المشاعر لا يمكن السيطرة عليها بسهولة، خاصة حينما تتعلق بتقدير الذات، والإعلاء من شأنها، هذه النزعة الغرورية التي تمتلكها كانت تتأثر بسوء اختيارات من حولها من أهلها، ومهما حاولت التغاضي عن تصرفاتهم غير المقبولة تعود مشاعر الضيق والنفور لتستبد بها. بتعابيرٍ تبدو منزعجة، ونظرات حانقة خرجت "تهاني" من مركز الاتصالات القريب من مقر عملها، لتسير عائدة إليه في خطواتٍ شبه متعجلة. لم تخف حدة الضيق من على تقاسيمها وهي لا تزال تُحادث نفسها:
-غبية! مش عاملة لنفسها قيمة خالص.
ولجت لداخل استقبال المشفى، واتجهت صاعدة على سلم الدرج وهي تتكلم بتبرمٍ ناقم:
-والله لو جالها شحات لهتوافق، هو أنا مش عارفاها.
أمسكت بالدرابزين، وتابعت حديث نفسها بتأففٍ أكبر:
-وطبعًا أنا مش محتاجة أخمن هتعيش فين ولا مع مين.
سارت في الرواق متجهة إلى الغرفة الخاصة بالمتدربين وهي تقول بازدراء:
-هي ماتستهلش إلا كده، تدفن نفسها بالحيا، عكرت مزاجي على الصبح.
مسحت على مقدمة شعرها لتسوي ما نفر من خصلاتها، ثم ضيقت ناظريها حين رأت باقة ضخمة من الورد الأحمر تحتل مكتبها، تحسست البتلات الزاهية بنعومةٍ وتساءلت في إعجابٍ واضح:
-الله، لمين الورد ده؟
أجابت عليها إحدى المتواجدات معها بالحجرة بابتسامة ماكرة:
-ليكي.
قطبت جبينها مندهشة قبل أن ترد:
-معقولة؟ ليا أنا؟
تساءلت بصوتٍ شبه مسموع وهي تفتش عن ورقةٍ تدل على هوية مُرسله:
-وده من مين يا ترى؟
وجدت ضالتها بالأسفل، فأمسكت بالورقة الصغيرة بإصبعيها، رفعتها إلى مستوى بصرها لتقرأ بلا صوتٍ ما كُتب فيها:
-صباحٌ مشرق بلون الحياة معكِ.
دهشة أكبر سيطرت عليها حين قرأت اسم صاحبها، فهزت شفتيها هامسة:
-"ممدوح"!
تبدلت تعبيراتها المتجهمة، وصارت أكثر ارتخاءً وسرورًا. أطلقت تنهيدة بطيئة من صدرها، لتهمهم في حبورٍ، وقد تألقت في عينيها نظرة متحمسة:
-ده ذوق خالص.
أحست "تهاني" بالانتشاء، والرضا عن حالها وهي تستشعر مدى لهفة الاثنين عليها، وتحديدًا ذوي السلطة والمال والكلمة المسموعة. زاد غرورها بداخلها، وإحساسها المنتشي عندما التفتت بتمهلٍ لتجد "مهاب" واقفًا على عتبة الغرفة، صدمها رؤيته، وتداركت نفسها لتتطلع إليه باستغرابٍ، فدنا منها مُلقيًا عليها التحية:
-صباح الخير.
تقدمت ناحيته بثباتٍ، وقالت وهي تضم باقة الورد إلى صدرها عن عمدٍ لتثير اهتمامه:
-صباح النور يا د. "مهاب".
حدث ما دبرت له لحظتها، فسألها، وعيناه تطوفان بفضولٍ على ما معها:
-أخبارك إيه؟
أجابته بابتسامةٍ رقيقة:
-الحمدلله.
استطرد مشيرًا بنظراته للباقة الملفتة:
-شيك أوي الورد ده.
دار في خلدها أن تستغل الأمر لصالحها، أن تشعره بالغيرة، تستفز مشاعره الذكورية تجاه منافس آخر يحاول كسب ودها، ربما قد يحسن ذلك من فرصتها مع أحدهما، وإن كانت كفة الميزان ترجح ميلها لجهة "مهاب"، ورغم هذا أبقت الأمر في وضع المساومة حتى اللحظة الأخيرة. حافظت على نقاء بسمتها، وقالت بدلالٍ خبيث، وهي تسبل عينيها:
-من دكتور "ممدوح".
مط فمه للحظةٍ، وعلق بفتورٍ:
-حلو.
تابعت قائلة بمكرِ الثعالب:
-الصراحة ذوقه جميل.
هز رأسه مرددًا:
-معاكي حق.
مجددًا قربت الباقة من أنفها لتشتم رائحة الورود، واختلست النظرات إليه، فلمحت على وجهه المسترخي القليل من الانزعاج، فابتسمت في زهوٍ وقد نجحت خطتها الساذجة، لاحظت كذلك نظرته العابرة من فوق كتفها لمن تتواجد معها بالحجرة، قبل أن يحيد ببصره عنها مستأذنًا بصوتٍ شبه منخفض:
-ممكن نتكلم برا شوية؟
أسندت الباقة على مكتبها وهي ترد:
-أكيد طبعًا.
تحركت بخفةٍ للخارج لتلحق به، لكن دقات قلبها المتحمس راحت تدق في سرعةٍ، وجدته ينتظرها على مسافة عدة أمتار، فأشار لها بيده لتأتي إليه، وبعدها استأنفا المشي معًا في الردهة، توقف فجأة ليسألها وهو ينظر في عينيها:
-إيه رأيك لو سافرتي معايا المؤتمر اللي جاي؟
باغتها بعرضه المغري، فزوت ما بين حاجبيها مرددة في استغرابٍ مصدوم:
-مؤتمر؟!!!
أخبرها موضحًا، وكأنه يستحثها على عدم الرفض:
-أيوه، دي فرصة تكتسبي خبرة، وتعرفي الجديد في عالم الطب والبحث العلمي.
انعكس التردد على تعابيرها، وأفصحت عنه عندما تعللت باعتذارٍ لبق:
-مش هاينفع، أنا عندي محاضرات وآ...
قاطعها بإصرارٍ، وهو يرمقها بنظرة واثقة مملوءة بالغموض المثير:
-متقلقيش، أنا هظبطلك كل حاجة، إنتي معاكي "مهاب الجندي".
عضت على شفتها السفلى في خجلٍ مصطنع، وأطرقت رأسها قليلًا لتبدو وكأنها تستحي منه، فألح عليها بصوته الهادئ:
-أنا حقيقي نفسي تكوني معايا المرادي.
كانت على وشك النطق بشيء لكنه عارضها بقدرٍ من التحكم:
-مش مسموحلك ترفضي.
استلذت طريقته المسيطرة في محاولة جذبها إليه، وردت مبتسمة:
-حاضر.
نظر في ساعة يده، وأخبرها:
-عندي دلوقتي عملية، نتقابل بعدين عشان نتكلم في التفاصيل.
دون أن تخبت ابتسامتها قالت:
-ماشي.
شيعته بنظراتها اللامعة، ولوحت له بيدها وهو ينصرف مبتعدًا عنها، لترتكن بعدئذ بظهرها للحائط وهي تخاطب نفسها في صوتٍ مهموس حالم للغاية:
-شكل الدنيا ضحكتلك يا "تهاني".
مرة أخرى حررت تنهيدة عميقة من صدرها لتردد في نبرة متمنية:
-بكرة تقولي للفقر والقحط مع السلامة.
همَّت بالعودة إلى حجرتها؛ لكن استوقفتها واحدة لم تتوقع أبدًا ظهورها هنا، اتسعت عيناها مذهولة وهي تحرك شفتيها لتنطق:
-"ابتهال"!
وضعت الأخيرة ابتسامة عريضة على وجهها، قد تصل من الأذن للأخرى، وسألتها وهي تهز رأسها للجانبين في مرحٍ غريب:
-إيه رأيك في المفاجأة دي؟
في التو تجهمت ملامحها، واختفت الإشراقة الناعمة من على محياها، كانت متيقنة أنها لن تتركها لحالها، حتمًا ستغرقها بالأسئلة المتطفلة لتستعلم عما لا يخصها بفضولٍ مثير للحنق، سرعان ما تابعت السير بتعجلٍ، وهي متلفحة بالصمت. لحقتها "ابتهال" شبه راكضة وهي تصيح مسترسلة في الكلام:
-أنا خلصت بدري قولت أفوت عليكي أشوف بتعملي إيه!
ثم لكزتها في جانب ذراعها وهي تردد بلؤمٍ:
-أومال مين الشاب الحليوة ده؟
توقفت "تهاني" مرة واحدة بعد جملتها الموحية، وحدجتها بنظرة قاسية، محتجة على تصرفها الغليظ المتدخل في شئونها، زفرت الهواء بعمقٍ قبل أن تجيب على سؤالها بآخر مراوغ، وبصوتها لمحة استنكار:
-شاب مين؟
راحت تصف مظهره الجسماني مستخدمة يديها في التوضيح:
-أبو شعر مسبسب، واللي طوله جايب السقف، وكتافه عريضة، ده أنا حتى معرفتش أشوفك منه.
نفخت عاليًا، وأجابتها وقد فهمت من تقصد بكلامها المتواري:
-ده الدكتور "مهاب"، رئيس قسم الجراحة.
التمعت عيناها بقدرٍ من الحسد، ومالت عليها لتقول بغمزةٍ خاطفة:
-يا وعدي، مسئول القسم بذات نفسه.
ثم اعتدلت في وقفتها، وصفقت بيديها في غبطةٍ وهي تخبرها:
-بيضالك في القفص يا "توتو"!
دفعتها من كتفها لتمر وهي تغمغم في صبرٍ شبه نافد:
-استغفر الله العظيم، بلاش نبر الله يكرمك، ده مجرد زميل، هتألفي حوار من غير ما يكون في حاجة أصلًا!
ضحكت من خلفها، وقالت بسماجةٍ:
-هي بتبدأ بكده.
أطبقت على جفنيها للحظةٍ، قبل أن تهمس في حنقٍ مزعوج:
-خلصني يا رب منها.
لازمتها "ابتهال" معظم الوقت محاولة اكتشاف ما تفعله في هذا المشفى الضخم، بالإضافة لفرض نفسها على الآخرين، وكأنها تعتقد بذلك أنها ذات قدرة فائقة على صنع الصداقات من العدم، رغم تحفظ المعظم في التعامل معها.
..............................................
على عكس ما تخيلت، صار كل شيء سلسًا، منظمًا، وبدون أدنى متاعب، لتجد نفسها بعد عدة أيامٍ تستقل الطائرة إلى جوار "مهاب الجندي"، تلبيةً لدعوته المميزة لحضور هذا المؤتمر الطبي المقام في إحدى الدول الأوربية. كانت هذه زيارتها الأولى لبلدٍ كهذا، فتحمست كثيرًا، ولم تبخل على نفسها للاستمتاع بأيامها هناك. لم ترغب في الظهور بمظهرٍ متدنٍ أمامه، فاحتارت وتحيرت فيما تأخذ من ثياب، بالكاد اشترت من نفقاتها ما وجدته ملائمًا بعد جولة في المحال التجارية، وفي نفس الوقت يبث الدفء لجسدها. تململت في جلستها، والتفتت ناظرة إليه عندما سألها في اهتمامٍ:
-مبسوطة؟
هزت رأسها مرددة في الحال:
-أكيد.
سألها مرة أخرى باسمًا:
-أول مرة ليكي صح؟
أجابته بإيماءة خفيفة:
-أيوه.
في جُرأة مدروسة، امتدت يده ليضعها فوق كفها المبسوط على مسند الأريكة، ارتجفت من لمسته المفاجأة على جلدها، ورفعت نظرها لتحدق فيه بفمٍ شبه مفتوح، فحافظ على ثبات بسمته المنمقة وهو يخاطبها:
-ومش هتكون الأخيرة طالما إنتي معايا.
لم تعرف بماذا تعلق، فكل ما يفعله من توددٍ مقنع يوحي بانجذابه إليها، اكتفت بالابتسام خجل، ثم قامت بسحب يدها من أسفله في تحرجٍ، لتحدق في النافذة البيضاوية المجاورة لها، وهي تشعر بتدافع دقات قلبها. التصقت بشفتيها ابتسامة سعيدة للغاية لم تنجح في إخفائها، وكيف لها أن تواري عن فرحة تشعر في أعماقها أنها باتت وشيكة الحدوث؟
...........................................
لفحتها برودة غير عادية عندما وطأت قدماها خارج المطار، فضمت ياقتي معطفها الأسود، ونظرت إلى السماء، فكانت ملبدة بالغيوم الرمادية، انكمشت على نفسها محاولة مقاومة إحساس البرد الذي تغلل إلى أطرافها، وتفشى في جسدها كسرعة البرق. أحست "تهاني" بيدٍ تتلمس ظهرها فانتفضت بقلقٍ، ونظرت جانبها، لتجد "مهاب" يخاطبها:
-العربية واقفة هناك.
نظرت إلى حيث أشار بعينه، فرأت سيارة ليموزين سوداء اللون، تربض بمحاذاة الرصيف، يقف أمام بابها الخلفي أحدهم، وكأنه في انتظارهما. تركته يقودها إليها وهي تسير بتعجلٍ محاولة تصديق أنها حقًا ستركب واحدة كتلك. استقرت بالمقعد الخلفي إلى جواره، وشعرت بشيء من الدفء يتسلل إليها، غاصت بالمقعد، وتركت شعور الانتشاء يلفها، ثم ألقت نظرة متألمة لما يطوف عليه بصرها عبر النافذة، حقًا بَهَر نظرها كل ما تُعايشه من فخامة ورقي، حتى في الاستقبال والمعاملة، شعرت وكأنها ملكة متوجة، والخدم يتراصون عند قدميها لتنفيذ كل ما ترغب فيه دون نقاشٍ، كم ودت أن تدوم هذه اللحظات إلى الأبد فلا تفيق من حلم الراحة والتدلل مُطلقًا!
آنئذ طاف ببالها لمحاتٍ مقتضبة لواقعها البائس في الحارة الشعبية، وما بها من مظاهر بؤسٍ، وفقرٍ مدقع، بالكاد نفدت بجلدها، وطفت على سطح ذلك المستنقع قبل أن تفر منه بأعجوبةٍ، آه لو لم تعاند وتتشبث بقرارها بالسفر، لربما كانت الآن تجلس عند قدمي ذلك النقاش تدعكهما بالماء والملح! ابتسمت في سخرية مريرة، قبل أن تترك ما يزعجها جانبًا، وتركز كل اهتمامها على ما تنعم به حاليًا. أحضرها "مهاب" من شرودها الصامت بكلامه المرتب وهو يرتشف من كأس المشروب الملاصق لجانبه من السيارة:
-احنا هنروح افتتاحية المؤتمر الأول، وبعد كده هنطلع على الفندق نرتاح شوية.
تفاجأت بإقباله على شرب الخمر، ووارت ذلك الشعور بالضيق خلف ابتسامة لبقة مرسومة بعنايةٍ، هزت رأسها بتفهمٍ، فأكمل باسمًا، وكأنه يقطع وعدًا لها:
-بس بعد كده هخدك في جولة بالبلد هنا، ممكن تقولي فسحة على مزاجك.
بدت سعيدة بهذا الاقتراح، وتكلمت في رعشة خفيفة:
-أنا متخيلتش إن المكان ساقع كده.
أخبرها وهو يميل ناحيتها بعدما ترك كأسه في موضعه:
-أوروبا معروفة بجوها البارد.
ثم أمسك بكفها ليحتضنه بين راحتيه، نظرت له مدهوشة، وقد صدمها بما يفعل، لم يحرر يدها رغم محاولتها استعادتها، وأطبق عليها بين أصابعه في قوةٍ طفيفة، ليدلك بشرتها برفقٍ وفي حركة دائرية خفيفة، قبل أن يرمقها بهذه النظرة القريبة وهو يهمس لها بإيحاءٍ خطير:
-إنتي بس محتاجة تدفي شوية، وأنا عارف حل ده إزاي.
طالعته عن كثب مستشعرة الحرارة المنبعثة من جسده حينما صار قريبًا منها، إحساسها كأنثى لا يكذب، هو يشعر بالميل تجاهها، يرغب فيها بتحرقٍ واضح، يطمح في نيل لحظة مميزة معها، قد تكون جامحة، وتفوق ما تتصوره في مخيلتها من حب عذري، كانت شفتاه ترتجفان، تئنان بلا صوت، لطمت أنفاسه خدها القريب منه، كان ما يحيط بها ينذرها لاتخاذ حذرها، لذا قبل أن تفقد زمام السيطرة على الأمور –خاصة مع تأثير الخمر عليه- سحبت يدها قائلة برسميةٍ مقنعة وهي تبتعد عنه:
-ميرسي يا د. "مهاب"، حضرتك إنسان قبل ما تكون دكتور.
أرادت تذكيره بما هو عليه بالنسبة لها ليستفيق من دوامة الخيالات التي استحوذت عليه جراء ما تجرع، لدهشتها لم يتحرك، وظل مائلًا تجاهها ليخبرها بمكرٍ:
-بس معاكي بكون حد تاني خالص، مختلف عن اللي اتعودت عليه.
كلامه المعسول، وما على هذه الشاكلة من تنهيدات مفعمة بالأشواق والأمنيات، اخترق وجدانها، وأسكرها بلا شربٍ، فرجت بشدة أن يحدث المراد، وتتخذ علاقتهما –إن كانت جادة حقًا- شكلًا رسميًا. تحفظت في الرد عليه وهي تضع يدها على ياقة معطفها:
-أنا مش واخدة عليك وإنت شارب يا دكتور "مهاب".
ضحك باستمتاعٍ قبل أن يوضح لها:
-ده ماسموش شرب، ده ( Drink ) خفيف كده، يعني عشان ندفي جسمنا، وبعدين النظام هنا مختلف.
احتجت على تبريره قائلة بشيءٍ من الهجوم:
-أظنه مايناسبنيش.
حافظ على بسمته المتسلية وهو يخبرها:
-لأنك بس مش متعودة.
زادت من نقدها الحاد له وهي ترد عليه:
-المفروض حضرتك دكتور مهم، رئيس قسم الجراحة، ومحتاج تكون مركز، إزاي هتقدر تقوم بعملية وإنت يعني.. مش في وعيك؟!!
أدار دفة الحديث المهاجم له، ووجهها إلى شيءٍ مغاير، أراد به أن يصيب هدفه في مقتلٍ دون عناءٍ، فسألها بجديةٍ لا تخلو من الابتسام:
-إنتي خايفة عليا؟
تحرجت نسبيًا من نظراته وطريقة سؤاله، فتنحنحت قبل أن ترد:
-حاجة زي كده!
ليزيد من حبك حبائله الماكرة عليها، أوهمها أنه يخشى من إغضابها، فضغط على زر فتح النافذة الملاصقة له، لتبصره وهو يمسك بالكأس ليُلقي به، ومن ورائه زجاجة الخمر، انفرجت شفتاها في دهشةٍ أكبر، فأغلق النافذة، واستطرد قائلًا بهذه النبرة العذبة، وعيناه لا تحيدان على تأمل وجهها:
-أنا حقيقي محظوظ إن بقى في حياتي واحدة زيك تهتم بيا، عادة محدش بيقولي لأ، أو حتى بيفكر يعارضني.
عاد شعورها بالنشوة يغمرها من رأسها لأخمص قدميها، انطلت عليه خدعته، وظنت أنها ذات تأثيرٍ قوي عليه، فقالت بثقةٍ مغترة:
-ده لأنهم مش أنا.
قال مؤكدًا لها بنظرة عميقة:
-إنتي فعلًا مختلفة.
تباطأت سرعة السيارة، فالتفتت لناحيتها لتمعن النظر خارج النافذة، رأت إحدى واجهات الفنادق العريقة تحجب السماء عنها، فتساءلت باهتمامٍ:
-هو احنا وصلنا؟
قال وهو يستعد للنزول من السيارة:
-أيوه، يالا بينا.
تبعته بعينيها المتشوقتين وهو يترجل قبلها، ليقوم أحدهم باستقباله في حفاوةٍ وكأن نجمًا لامعًا قد جاء في زيارة رسمية إلى هنا. ليسرع بعدئذ أحد العاملين بهذا الفندق لفتح بابها حتى تهبط هي الأخرى، تضاعف شعورها المستمتع بما يقدمه الحظ لها في غفلة من الزمن، تعهدت لنفسها بعزيمةٍ وهي تنتصب بكتفيها في كبرياءٍ ورفعة، ونظراتها تصبو إلى ما هو أبعد:
-بكرة أخليه يتغير، ويعمل اللي أنا عاوزاه ........................... !!
...............................