رواية غوي بعصيانه قلبي الفصل الرابع 4 بقلم نهال مصطفي
كأنها جاءته من أحلامه "
كل منا يركض في اتجاهه لتحقيق أهدافه ، منا من يسلك طريق الخير مستندًا على عكاز الصبر ومنا من يقطع طريق الشر والوساطة ليصل أولًا ، والعبرة هنا ليست بأولوية الوصول ولكنه بمصدقية الرحلة !
وصلت " نوران " بصُحبة " كريم " إلى قسم الشرطة مستقلين عربة أجرة وتقدمت بسرعة أشبه بالركض متجهه نحو أحد الأمناء وطلبت :
-لو سمحت عايزه أقدم بلاغ !
وثب الأمين لاستقبالها وإعداد أوراق الطلب وظلت تراقبه بكفها المرتعش على البار وهي تأخذ أنفاسها بصوت مسموع ، وبعد دقيقة عاد إليها قائلًا :
-بلاغ في مين يا ست !
بللت حلقها وشرعت في رواية الحدث الدرامي الذي أخذ به " عاصي " أختها من قلب حارتهم ، فختم الأمين قصتها ساخطًا :
-هو فاكر البلد مفيهاش قانون ولا أيه ؟!
تدخل " كريم " مؤيدًا لجملته بثقة :
-أصله راجل مفتري أوي ، ومحدش بيقدر يقف قدامه .
سأله الأمين بتلقائية :
-أنت تقرب لهم أيه ؟!
توترت الكلمات في حلق كريم ، فأجابته نوران بسرعة :
-قريبنا من البلد ، المهم أختي هترجع بيتها النهاردة ؟!
الأمين برسمية وهو يستعد لكتابة البيانات :
-اسمه أيه الجدع دا !
-عاصي ، عاصي دويدار .
كانت إجابة نوران بحماس وأمل شديد ولكن هنا توقف حبر القلم ، ويد الأمين بمجرد سماعه الاسم ، انكمشت ملامح وجهه وهو يكرر سؤاله :
-قُلتي مين !
-عاصي دويدار حضرتك !
بدا عليه الارتباك والخوف ، وقال متحججًا وهو يتأهب للذهاب من أمامها :
-طيب خليكي هنا هشوف بس سيادة المأمور وأرجع لك حالًا !
•••••••
يسري بثقة عارمة وهو يضع ساق على الأخرى :
-لقيت الحل اللي هيمسكك عقد الإدارة ، ويخرجك من دماغ عبلة هانم للأبد وكمان من غير ما يأثر على رفاهية معاليك !
تلك كانت أخر جُملة أردفها يسري على أذان عاصي مما جعله يصغي إليه متجاهلًا رنين هاتفه ، وقطب حاجبيه متسائلًا :
-أنت دماغك راحت فين ؟!
ابتسامة خبيثة ارتسمت على وجهه يسري وقال :
-راحت شُبرا !
بدا الغضب يكسو ملامحه ، فسأله بنبرة حادة :
-مش فاهم !
تحمحم يسري بخفوت ، وبنبرة مُغلفة بحماس الشـر قال :
-البنت الـ أحنا جبناها من شُبرا .
-قصدك الدكتورة شمس ؟!
أومأ يسري مؤيدًا تساؤله وأكمل :
-هنلفق لها قضية مترتبة ، متعرفش تخرج منها ، غير بطريقة واحدة!
بات حماس عاصي يبهت لما يبدو عليه رافضًا لاقتراح يسري الذي أكمل تقديم وجبة الشر الدسمة :
-هنتفق معاها ، ونقول أنها حُب قديم لمعاليك ، وعشان كدا جبتها القصر ، وتتجوزها كدا وكدا ، لحد ما تاخد الأوكيه من الهانم ، نقطع الورقة ويا دار ما دخلك شر ونراضي البنت بكام مليم ، والموضوع ينتهي !
تمددت ملامح عاصي تدريجيًا لما يدل على أن الحديث راق واستطاب إليه وأخذ يُقلب الفكرة برأسه حتى عادت أنظاره إلى يسري الذي يُغلف له أفكاره السوداوية بشريط هدايا وقال :
-وأنا سألت عليهم زي ما قلت لي ، البنت دخلت الجامعة بمنحة دراسية ولانها فعلا مجتهدة ، وهتبقى وجهة كويسة لمعاليك ، عايزه بس شوية تلميع سيبهم عليا .. قلت أيه !
ضــرب الأرض بمشط حذائه اللامع بخفوت وهو يفكر في الأمر ، ولكنه لم يستغرق وقتًا طويلًا حتى رن هاتفه مرة أخرى ، فقبل ما يجيبه قال ليسري :
-سيبني أقلب الموضوع في دماغي وبعد الاجتماع هقولك تعمل أيه !.
ثم أجاب على هاتفه قائلًا :
-ممدوح باشا ، اخبار معاليـك !
ظل يسري يراقب تبدل ملامح عاصي المُتقلبة هو يتحدث في الهاتف حتى أنهي جُملته بفظاظه وقال :
-لالا ، نفذ اللي طلبته وكملوا إجراءات البلاغ .
يبدو أن الرجل كاد أن ينافشه في الأمر ولكنه أجزم قائلًا :
-مفيش كلمة تعلى فوق القانون سيادتك ، وهو كذلك ، شاكرين لأفضال معاليك .
بمجرد ما أنهي المكالمة سأله يسري بفضول :
-في حاجة يا بُص ؟!
ألقى هاتفه بجواره وقال بهدوء :
-البنت أخت شمس ، مقدمة بلاغ فيا !
-دا ايه الورطة دي بقا ؟! البنت دي لازم تتربي .
عاصي برزانةٍ وهو يضع ساق فوق الأخرى :
-لا ورطة ولا حاجة ، محلولة !!
••••••••••
في حياة كل منا يوم قديم أو حدث حزين ما زال يمتد في كل الأيام ويقاسمها ، أحيانًا يكمُن في نظرة شاردة أو دمعة حارة أو كغضبك الشديد على أشياء سخيفة .. تشاركا تـميـم وشمس في الشرود ، كل منهما شـرد إلى موضع ألمه الذي لم تخدره السنوات .
كانت شمس تطالع الأشجار حولها والطبيعة بصمت يحمل أثقال من الصخب ، تذكرت أمها وأبيها وتلك الصرخة التي اندلعت من صميم قلبها إثر سماع خبر فقدانهم الأبدي ، ترقرقت العبرات من عيونها فتعمدت أن تخفيهم عنه وهي تطالع بتشتت فوضى العمال على الجهة الآخرى .
انغمس تميم في قراءة كتابه وذلك لا يمنعه من اختلاس نظرة كل فترة والثانية من تلك الملاك الثائر ، حيث استمدت صفاتها من اسمها ، كالشمس تشرق لتنير عالمك وفجاة تختفي فلا ترى منها إلا الظلام ، كان مصيرها من اسمها لكل شيء نهاية حتمية ، لا تعلم من أين ابتدى ولأين سينتهي ؟! كانت إمرأة بنكهة اللغز المحير للعقل ومثير للفضول ولكنه كان يخشى أن يقترب منها لتحـرقه !
حاولت أن تُشتت رأسها عن أحزانها والتفتت للكتاب الذي بيده فقالت بإعجاب :
-end of love ?!
كأن ثمة حوار فُتح ليدور بينهم ، استغل تميم الفرصة ليتعرف أكثر عليها ويحل شفرة ألغازه حولها ، قفل الكتاب وقال بتنهيدة :
-لكُل حاجة نهاية حتى الحُب !
رمقته شمس بنظرات مُعارضة :
-أي حاجة في الدنيا وليها نهاية ، حتى الإنسان مننا بينتهي ، لكن الحُب الحاجة الوحيدة اللي ما ينفعش تنتهي !
-قرأتيها ؟!
أصدرت صوتًا نافيًا لسؤاله وقالت بحزن :
-قرأت نصها ، وكالعادة مكملتش !
أسبل عيونه مستفهمًا حول ردها الغريب :
-أزاي ؟! قصدك مش حلوة !
ردت بعفوية :
-إطلاقـا ، بس دي عادتي ما بحبش النهايات حتى ولو سعيدة ، ما بحبش أكمل الرواية واتعلق بأبطالها وفي الأخر يفارقوني ! أو افتكر إنهم مش موجودين معانا ، أنا مش بعرف أمشي الطريق لأخره ! لازم اسيب باب للفضول والحنين ، يديني الفرصة إني أرجع له وقت ما أحب ! دي حياتي .
شرد في كلامها المغلف بأسى ينافس مأسي أيامه، ولكنها أتبعت بشكٍ :
-بس الحب الحاجة الوحيدة اللي ما ينفعش تنتهي ، الحب الصادق يولد ولا يموت ، له نقطة بداية ، بس ملهوش نهاية مهما تجاهلنا الأمر !
ظل يستمع إليها بإعجاب ، يبدو إنها لامست نقطة في عقله لم يوصل لها أحد من قبل ، تأمل شرودها وهي تُنمق الكلمات وتحشو أوجاعها بجوف العبارات لتنطقها بصورة فلسفية وأكملت :
-عارف مشكلة الحُب أيه ؟!
لمعت عيونه بإثارة لاستماع المزيد منها وقالت :
-إنه بيختار الشخص المستحيل ، الشخص السهل المُتاح ليك أبدًا مش بيغريه ، يعني مثلًا الرواية دي ، ضابط في الجيش الروسي ، وقع في حب بنت عادية ، بس جمالها اللي مكنش عادي ، ورغم الحروب والصراعات ما بين جيشه وسكان المدينة إلا أنه تخلى عن كل دا ودخل بيتهم علي إنه شخص فقير ، عشان يكون جمبها .. لو كُنت مكان الكاتب ، كنت هتخلي النهاية أيه ؟!
تضرمها عيناه إعجابًا بفطنتها ، فكر لدقيقتين قبل أن يُجيبها وقال
-أنا لسه معرفش الكاتب رأيه أيه ، بس شايف أن الحُب لازم ينتصر !
-انتصار الحُب الحقيقي في استمراره حتى ولو مش هينفع نكمل مع بعض ؟!
أبت ملامح وجهه كلامها وقال :
-دي يبقي اسمه قـ تل نفس ، ليه الإنسان يعمل في نفسه كدا ! أحنا من حقنا نحب ونلاقي مُقابل للحُب دا ؟! وإلا يبقى زي اللي بيزرع في أرض بور ! الحياة مليانة فُرص يا شمس ، متوقفيش نفسك عند محطة واحدة لمجرد أن القطر فاتك ؟!
أيدت كلامه بعقلانية وقالت :
-دا رد منطقي وواقعي لأي حد جاي الدنيا عشان يعيش أيامه ويمشي ، أه مجبر على طوي اللي فات ، بس حد زيي بيتعامل مع الحُب على إنه هواء وميه ، كل لحظة بنستخدمهم ، بس مش كل لحظة بنقول إننا بنحبهم ، دا الفرق ، الحُب بيجي مرة واحدة وبيعيش فينا بصرف النظر عن حياتك هتكملها مع مين بعدين ؟!
ثم أطلقت تنهيدة وأكملت
-كل واحد جوه قلبه أوضة مقفولة مكتوب عليها ممنوع الإقتراب !
ظن أن بالحديث سيكتشف هويتها ولكن لم يزيدها الكلام إلا غموضًا ، طالعها بتطفل شديدٍ إثر تلك العواصف التي هاجت ببدنه من زوبعة أوجاع امرأة رأت من الدنيا ما رأت ولكنها مازالت صامدة كالجبل .
ركضت " تاليا و داليـا "إلى عمهم وعانقوه بحب ، فقالت تاليا بمرحٍ:
-أخيرًا نزلت الجنينة يا أونكل تميم !
ابتسم تميـم بامتنانٍ:
-اشكروا الدكتورة شمس بقا.
تدخلت داليا بجزل طفولي وسألتها :
-حضرتك الدكتورة شمس ، تاليا قالتلي إنك طيبه أوي .
ثم اقتربت منها وربتت بكفها الصغير على كفها وأكملت :
-ممكن متزعليش من بابي ؟! هو دايمًا عصبي وبيزعق ، نانا دايمًا بتقول إنه مشغول ، عشان كدا هو عصبي .
كغيث انهمر على جروح شمس وهي تطالع رقة ولُطف الصغار وهما يتحاورن معها ، والكثير من المرح الذي جعلها تنسى أوجاعها للحظات مسروقة من الزمن ، إلا أن هبت عاصفة من نوع أخر لتفسد مجلسهم ، فـبمجرد دخول " عبلة " التي اشتعلت النيران من ملامحها وهي تزمجر بغضب عارمٍ:
-مين نزل تميم هنا ؟!
رفع تميـم رأسه إليها بعد ما سـر.ق نظرة سريعة من وجه شمس التي بدا عليها القلق وقال :
-أنا طلبت من الدكتورة شمس .
جثت " عبلة " على ركبتيها أمامها ولكن سِهام الشر تحاصر عيونها وقالت بزيف :
-تميم حبيبي أنا خايفة عليك ، الدنيا مش تمام ، ودربكة الحفلة والجو مش هيبقى لطيف ، لو سمحت متزعلش مني .
ثم صوبت أنظارها الثاقبة لشمس وقالت :
-هنا مفيش حركة بتتم غير بعد رأيي ، اتمنى الدكتورة تعرف أن القصر دا له قواعد ، مش زي الخرابة اللي جاية منها !
احتدت نظرة تميـم إليها فابتلعت عبلة ما تبقى من إهانات ، وطلبت من الفتيات قائلة :
-وصلو أونكل تميـم لأوضته يا حلوين .
وهنا تعالت أصوات صاخبة من الخارج ، وأحد الحراس قادمًا إليهم ، وبمجرد ما سألته عبلة :
-أيه الدوشة اللي بره دي !
طأطأ رأسه وقال:
-دي الشرطة بره ، وبيسألوا على الدكتورة !
رمقتها عبلة بسخرية :
-دكتورة ! أنا عارفة عاصي حدفها علينـا من أي داهية ، اتصل لي به حالًا .
توترت شمس وهي تضم يد دالـيا بقلق ، خاصة بعد وتيرة الإهانات التي سُددت إليها ، ونظرة أخيرة كانت من نصيب تمـيم التي أومأ إليها راجيًا أن تهدأ ، ولا تُفاقم الأمر ، كأنه يريد أن يُخبرها بطريقة ما أن هذا هو الجو المعتاد لقصر آل دويدار .
جذبت عبلة الهاتف من الحارس وقالت بلهفة :
-أيوه يا عاصي ، شوفت المصيبة اللي أنت حدفتها علينا ؟!
خرج عاصي من اجتماعه بعد ما أنهاه بأفضل العروض لصالح شركاته وأخذ يخطو بفظاظة في دهليز المكان ويتبعه يسري ، فقال عاصي بهدوء:
-اديها التليفون !
زفرت عبلة بضيق لعدم تمالكها زمام الأمر ومدت لها الهاتف قائلة :
-كلمي !
بأنامل مرتعشة وصوت لا يقل إنش عن ارتجاف يدها وضعت الهاتف على اذنها وقالت بصوت خافت :
-ألو !
خاض بالأمر بدون مقدمات وأردفت بحدة غير قابلة للنقاش :
-بصي يا شاطرة ، هتخرجي للظابط اللي بره وتقوليله انك هنـا بتشتغلي ، ومش مخـ طوفه ولا حاجة !
تلجلجت معترضة :
-بس!
ارتفعت نبرة صوته بصرامة :
-حرف تاني غير كدا ، هتلاقي نفسك متهمة بسر قة حاجات لو اتباعتي أعضاء مش هتجيبي نص تمنها !
هنا أغلق هاتفه ومده ليسري وواصل طريقه نحو سيارته بفظاظة ، لحق يسري بخُطاه مسرعًا وهو يسأله :
-معاليك مصمم على البنت دي ليه ! افهم من كدا وافقت على كلامنا ؟!
فكر عاصي للحظات ثم قال :
-البنت لسانها طويل وعايزه تتربي !
يسري بعدم فهم :
-وده أيه علاقته ؟!
-فيها من نفس طينة تمـيم ، فـ هي أكتر حد هيعرف يتفاهم معاه !
فتح له يسري باب السيارة وهو يقول :
-نفسي أفهم أيه في دماغ معاليك !
صعد عاصي سيارته الفارهة بالمقعد الخلفي ثم لحق به يسري فأنطلق السائق عائدًا إلي القرية ، وهنا أردف سؤاله الأخير :
-فكرت في كلامنا بتاع الصبح !
انتهى عاصي من إشعال سيجارته وقال
-فكرت ، والفكرة عجبتني !
تحمس يسري للمغامرة الجديدة التي سيخوضها رئيسه وقال بشغفٍ
-هو دا الكلام ! خطط يسري متُخرش المية !
أخذ نفسًا طويلًا من سيجارته ودار برأسه يطالع الطريق من النافذة وقال بمكـر :
-بس مش شمس !
"عودة إلى القصر "
تُراقب " نوران " أختها بذهول شديد بعد ما نفت كل الاتهامات الموجهة لعاصٍ ، فنهرتها أختها معترضة :
-شمس ، أنتِ بتقولي أيه ؟!
ضغطت شمس على كف أختها ثم أكملت حديثها إلى الضابط :
-أختي بس فهمت الموضوع غلط ، وأنا موجودة في القصر هنا بصفتي الدكتورة شمس ، وبقوم برعاية مريض !
أطرق الضابط باحترام ونادي على العساكر كي يتأهبوا للرحيل ، ثم سحبت شمس أختها جنبًا وقالت بحذر
-نوران ، أنا هنا بشتغل ، وصلي لفوفا الكلام دا !
نهرتها نوران بعنف :
-أنت ازاي تقولي كدا علي المُجـ رم دا ؟! شمس أنت واعية لتصرفاتك!
ربتت على كتف أختها بتفهم :
-أنتِ مش فاهمة حاجة ، بصي هو هيجي بكرة وهتكلم معاه ولازم هيكون في حل ، المهم دلوقتِ تخلي بالك من فوفا وادويتها ، وطمنيها أنا كويسة أهو .
ثم مسحت بعيونها ساحة القصر لتطمئن اختها حتى ولو كذبًا :
-وأديكي شايفة المكان ، وليا أوضة لوحدي وبتعامل باحترام ، أنتِ اطمني !
أسبلت نوران عيونها بعدم تصديق :
-مع أن قلبي مش مطمن ، بس هصدقك يا شمس .
مسحت شمس على شعر أختها وقبلت جبهتها بحنان :
-متقلقيش ، ويلا عشان تطمني جدتك ، وأنا هكلمك على طول !
أدخلت نوران يديها بجوف حقيبتها وأعطتها سلة سوداء بداخلها بعض النقود وقالت :
-خدي ارمي له فلوسه في وشه واخلصي من الرعب دا ، المكان دا مش مريح ياشمس أنا خايفة عليكِ !
أخذت النقود من اختها وقالت بهدوء:
-هحاول ، يلا روحي أمشي أنتِ دلوقتِ .
تقف جيهان بصحبة عبلة في أحد زوايا القصر يراقبان الحدث بعيون الشر ، حتى تفوهت جيهان قائلة :
-عبلة اسمعي كلامي البنت دي مش هيجي من وراها غير المشاكل ، قلبي مش مرتاح لها !
عقدت عبلة ذراعيها وهي تحدج نظراتها القوية جهة شمس وتقول:
-لا ومكلف نفسه عاصي وجايب دكتورة تراعي اخوه ، من أمتى بيهتم تميم اصلا !
مالت جيهان على أذان أختها وقالت بصوت يشبه فحيح الأفاعي :
-ياخوفي يكون عاصي ابنك عينه منها ، وجايبها القصر وحجته تميم !
هزت رأسها نافية وهي تقول بثقة :
-مش ذوق ولا مستوى عاصي ، اطمني !
بثت الاطمئنان بقلب جيهان ثم سألتها :
-عبلة ، أحنا لازم نظبط جوازة عاصي من هدير ، دي البنت اطلقت عشان بتحبه !
يبدو أن الجملة لم ترق لمُخطط عبلة ولكنها تجاهلتها سريعًا وهي تغادرتها متجهة نحو شمس العائدة إلى مدخل المنزل ، فـ عاقت طريقها وقالت بشموخ :
-شكلك عوج و بتاعت مشاكل !
فاض صبرها حتى تأفف شمس بضيق ثم قالت :
-آه ، أنا فعلًا كدا والأحسن تتقي شري ، عشان أنا عوج ومش بيهمني حد !
كانت تلك أخر جُملة ألقتها شمس على مسامع عبلة وتركتها وغادرت وهى تلعن الصدفة التي قادتها إلى هنا ، حيث باتت نيران غضبها لا ترى أحد ، بل تلسع كل من يقترب منها ، ذهلت " عبلة" من وقاحتها الزائدة وأخذت تضـ رب كف على الأخر وهي تتوعد لها بأن تحول حياتها لجحيم .
•••••••
تتقوس حول نفسها كحمامة تحت المطر لا تعلم إلى أين ستذهب بعد ما هُدم عشها ! إلى أين تتجه وهي ضعيفة هكذا كالـيرقة ! يبدو أن شعور أُلف واحتضان ذاتها معتادة عليه ! أحست بأنها ليست المرة الاولى التي ترمم فيها نفسها بنفسها ! يبدو أن حياتها القديمة لم تكن بفارق عن حياتها الآن، ربما مـاتت من قبل ألف مرة ! تقاسم الحيرة قلبها ! لِمَ ألقاها المُوج إلى هنا ؟! ما هو المصير الذي ذرفها إليه ؟!
كان مذاق التيه بالنسبة لها كالماء والهواء ، ليست بشعور مخيف تهابه وتخشاه ، رُبما كانوا من قبل أصدقاء ، تتقلب في فراشهم كل ليلة ؟! ولكن توقفت دموعها حائرة ، كحيرة الرمش ، هل يحضن الدمعة أم يتخلى عنها ؟! وسألتها نفسها السؤال الأصعب !
-"هل لا يستحق الإنسان أن يشعر ولو لمرّة واحدة فـ العُمر بأنهُ في المكان الصحيح الذي لا شك به ولا حيرة ! ما هو الذنب الذي يعاقب المرء عليه بتلك القسوة ! أهل من العدلِ أن نسدد دينًا لم نقترضه ؟؟
مسحت "رسيل" عبراتها المترقرقة وهي تدفن وجهها بالوسادة ، حيث بتر خيط أفكارها جُملة المُمرضة :
-لازم تاكلي ! مش هينفع كدا !
صرخت بها رسيل :
-قُلت سيبيني لوحدي !
لبت الممرضة طلبها وجذبت الباب الزجاجي لحديقة غرفتها وانصرفت كي تهاتف الطبيب وتروي له حالة المريض .
وعلى الجهة الأخرى من الحديقة يجلس عاصي ويتناول وجبة غدائه على البحر بأشهى أنواع الأسماك التي يُفضلها ، ارتشف رشفة من كأس النبيذ فـ تقدم إليه يسري بوجه عابث لاحظه عاصي ، وما أن وضع لقمية صغيرة بفمه سأله :
-مالك !
أخفض يسري وجهه بالأرض وقال بأسف :
-لما تخلص أكلك معاليـك !
ترك الشوكة والسكيـن من يده والتفت إليه منتبهًا :
-اخلص يا يسري ؟
خيم الخذلان على وجهه وقال بحزن :
-خسرنا مزاد العلمين .
يعلم يسري بأهمية هذا المزاد بالنسبة لعاصٍ لذلك أردف جملته بأسفٍ شديد ، ولكن رد فعل عاصي كانت غير متوقعه فسأله :
-ورسي على مين !
-على شركة ماريو .
زفر بضيق ثم نهض جاهرًا بغضب واشار إليه محذرًا بسبابته :
-دول زودوها أوي .. يُسري ، تجيب لي قرار الشركة دي وصحابها ومين الممولين بتوعها ، كل حاجة يا يسري ، أنت فاهم !
أومأ يسري بطاعة :
-فاهم ، فاهم معاليك ؟! اهدا بس .
ثم لقمت أعينه تلك الممرضة التي تتحدث في الهاتف ، فعاد إلى هدوئه العاصف مرة أخرى ، وسأله بعيون ماكرة لا يفصح عن خباياها :
-البنت اللي جوه دي فاقت !
تشتت تركيز يسري قليلًا وسأله بحماقة :
-أي بنت معاليك !
حدجه بأنظاره الحادة :
-يسري !
انتبه يسري أخيرًا :
-اه قصد معاليك البنت بتاعت البحر ! اه فاقت وبعت لها الغدا .
ثم اقترب منه وسأله ناصحًا :
-أحنا مش هنخلص منها بقا ؟!
طالع عاصي البحر بعيونه المراوغة ووضع يده في جيب بنطاله الأبيض وقال شاردًا :
-عايزك تعرف أصلها وفصلها !
أحس يسري بالعجز إثر صعوبة طلبه وقال معارضًا وبنبرة مغلفة بالسخرية :
-معاليك أنا خدامك آه ، بس مش بنجم هنا عشان أعرف أصل واحدة هي نفسها مش عارفه هي مين !
لقنه بنظرة حادة أخرسته وجعلته ينسحب من أمامه مُلبيًا لطلبه بدون كلمة زائدة .
••••••
" في جنوب الغردقة "
ضجيج تفجر بجميع أرجاء البيت أخذ يُكسر كل ما يقابله ، كُرة ملتهبة من الغضب تأكل كل ما تلقاه ، هشم " فريد " غُرفته جاهرًا
-يعني أيه تروحي مني !
دخلت " فريال" جهة مصدر الصوت ونهرت أخيها معترضة :
-أنت اتجننت ، سايب عزاء المعلم قنديل وقاعد تكسر هنا ؟
دار إليها بعيونه المحمرة وشعره المُنسدل على جبهته أزاحه للوراء وقال بجنون :
-قلبت البحر عليها حتة حتة ، فوق وتحت ، يعني أيه البحر يغدر بيها ، دول كانوا صحاب ، ويوم ما القاها ياخدها مني ؟!
يبدو أن البحر من معشر الرجال ، إذا غار جُن ، التقم حبيبته كي لا يشاركه أحد فيها ، ربما أراد لها قصة جديدة ومغامرة جديدة سيشهد عليها ، ربما اعتبرها شخص غير عادي ، فلابد من قصة مثيرة لتعيشها ، العادي لا يليق بـ فتاة مثلها ! أو ربما أحس البحر برفضها فتولى مهمة انقاذها من شخص لم تتمناه لساعة أن يقاسم قلبها !
حاولت فريال أن تهدأ من بركان أخيها الثائر وقالت :
-قضاء ربنا يا فريد ، هتكفر !
بعدم تصديق :
-لا ماهي مش دي النهاية ! مش دي النهاية اللي تليق بصبري وحبي ليها السنين دي كلها !
ثم تناول بدلة الغطس وغادر هائمًا :
-هقلب عليها الدنيا يا فريال !
صرخة أخته بخوف عليه من غدر البحر الذي سبق وغدر بابنة عمها ، حاولت أن تلحق بها بسرعة ولكن بدون فائدة ، اندفع هائمًا على وجهه في مهب رياح الحُب والتمرد على أعرافه !
•••••••
يخطو نحو غرفتها بثقة عارمة ظنًا منه بأن كل ما على الأرض خاضعًا لقوانينه ، لأوامره ، طرق على باب غُرفتها ثم دخل قبل أن تأذن له بالدخول ، فزعت من مرقدها بتوتر وهي تضم ساقيها إلى صدرها وتوبيخه قائلة :
-أنتَ أزاي تدخل قبل ما اسمح لك !
جر المقعد الخشبي المُخصص لتسريحة غرفتها وجلس عليه وأخذ يثني في أكمام قميصه تحت عيونها المُرتعدة صامتًا ، لا يهزه انتفاضة صوتها .. سحبت الغطاء إليها ظنًا منها بأنه سيحميها منه وقالت :
-بكلمك ولا مابتسمعش !
تحمحم بخفوت ثم أجاب ببرود غير متناهٍ :
-مستني تحسني أسلوبك معايا عشان أرد !
علمت بأنها أمام رجل قوي ، ليس بالسهل خديعته ولا التفاهم معه ، أخرج سيجارة من جيبه وسألها بهدوء مرعبٍ :
-هتضايقي لو شغلتها !
ألتزمت الصمت ولكن عيونها أعلنت الرفض ، ولكنه عقيم في قراءة عيون النساء تجاهل ما أفصحت به عيونها وأخذ نفسًا من سيجارته وقال برتابة :
-أسف ياااا ، نسيت أنك مش فاكرة حتى اسمك ، بس أنا عايزك تحطي نفسك مكاني .
بللت حلقها الذي جف من هيبته وهي ترمقه بعيونها السماوية الواسعة التي تحتكر نصف مخزون العالم من النبيذ وقالت :
-مش فاهمة !
قرب مقعده منها وقال بنبرة يكسوها المـكر والخديعة :
-بصي أنا راجل مش متجوز ، وليا سُمعتي اللي عشت بحافظ عليها عُمري كله ، مش حلوة في تاريخي دا كله يقولوا عاصي دويدار عنده بنت في الجناح بتاعه !
لمعت نظرات السخرية على وجهه مقارنة بمـا رأته صباحًا ، وبما تسمعه الآن ، ابتسمت باستهزاء وقالت
-اه منا واخدة بالي .
تجاهل سخريتها التي يدرك سببها جيدًا وقال :
-جميل ، نبقي متفقين ، أنا كلها ساعة وراجع القاهرة ، وأنت ما ينفعش تبقي هنا !
اندفعت بدون تفكير :
-ومين قالك إني عايزة أقعد هنا أصلًا !
مثل التأثر الشديد على حالتها وقال معاتبًا :
-هو خير تعمل شر تلقى الزمان دا !
رمت الغطاء من فوقها ولامست الأرض أقدامها العارية التي يغطي الفستان منتصفها ، شيء ما جذبه ليطالع ساقيها الاشبه بأعمدة رُخام مثيرة للمس ، ولكنه سيطر على أهواه مكملًا مسرحيته مُلتفًا لحديثها :
-أكيد أهلي بيدوروا عليا ، أنا هنزل من هنا على أقرب قسم وهبلغ !
وقف أمامها بهيئته المُتناسقة وهو يطرق أنظاره لمستوى أنظارها وقال بنبرة تحدٍ:
-معنديش مانع بس بعد ما تقدمي البلاغ ، هترجعي هنا مش هتلاقي مكان تنامي فيه ، شوفي بقا ممكن تقعدي فين لحد ما البوليس يلاقي أهلك دا إن عرفوا يوصلوا لحاجة !
رفعت عينيها المُقمرتين بوميضٍ خافت من الرعب ولكنها أبت الخضوع لكلامه الذي يفوح منه رائحة الدخان ، قالت متحدية
-هقعد على الرصيف ولا إني اقعد في مكان يخص واحد مغرور زيك !
-هو في حل واحد !
علم أنها امرأة لا تُقتــل بسهولة ، ما كادت أن تخطو خطوتين توقفت إثر جملته الأخيرة التي جعلتها تلتفت إليه منتظرة أن يكمل جملته ، أكمل عاصي بصوته الخفيض وبتردد مزيف :
-مش عارف إذا كنتي هتوافقي ولا لا ، بس الخيار في الأول والأخر ليكِ !
يطوف الفضول بملامحها وهي تناظره :
-سمعني !
أخذ يتحرك في الغُرفة بعشوائية ليكمل مسرحيته على أتم وجه ، لانت معالم وجهه مما يجعلها تحس بحاجته لمساعدتها ، وقف يتأمل البحر من وراء الزجاج للحظات طويلة مازالت تنتظره فيها على مراجل متقدة ، حتى قال بفظاظته المعهودة :
-أنا محتاج مساعدتك زي ما أنت محتاجة مساعدتي !
بللت شفتيها بنفاذ صبر وهي تخطو نحوه بفضول
-وبعدين !
تطرفت بخيالها لأبعد مدى كي تُخمن ما يشغل تفكيره ولكنها فشلت ، رجل مثله لا يكشف كل أوراقه مرة واحدة ، أخذ يطوف حولها كما يطوف الدبور حول الزهرة وقال :
-أنت مشكلتك الوقت وأنا كمان ، محتاجة وقت عشان تعرفي أهلك ، وقت عشان تفتكري انتِ مين ، وكل دا عشان يحصل لازم تكوني في مكان آمن !
ارتاد فكرها ساحات الحيرة وهي تراقبه ،حيث أكمل :
-وأنا محتاجك في حياتي فترة مؤقتة ، هوصل فيهم لهدفي ، والمُقابل متحلميش بيه ، أولهم هدور على أهلك ، هتعيشي في مكان متحلميش بيه ، شيك علي بياض تكتبي المبلغ اللي عايزاه وأنا هنفذ !
دب الرعب في قلبها فأخذت تقبض على ياقة فستانها كي تحمي نفسها من نظراته المريبة وتقوس أصابع أقدامها من شدة الخوف ، وقالت
-قصدك أيه ؟!
-هنلعب لعبة بسيطة أوي ، النهاردة فـ القاهرة في حفل عملاق ، هيكون فيه كبار رجال الأعمال ، أجانب وعرب .
صمت للحظة يراقب تلك الملامح التي استمدت جمالها من صخب البحر ، تثير العواصف وتصنع الدوامات لتغرق أمهر السباحين بهما ، صف أمامها بشموخ وقال
-هقدمك في الحفلة على أنك خطيبتي .. خطيبة عاصي دويدار !
ذهول ، عيون متسعة صامدة ثم ضحك ملء فمها وهي تحاول استيعاب ما سمعت ، حتى تفوهت بسخرية
-أنت مش مغرور وبس ! لا كمان مجنون !
نظر في ساعته بهيبة ثم قال
-قدامك بالظبط ٤٠ دقيقة ، تفكري وتاخدي قرارك ، أكون غيرت هدومي .
وكأن السماء أهطلت فوق رأسها جمرًا ، فالمــوت والحياة الاثنان تآمرا عليها ، وقفت أمامه لتعيق طريقه معلنة رفضها القاطع :
-مش مضطر تستنى الوقت دا كله عشان تعرف ردي ، تقدر تأجر ألف واحدة من اللي تعرفهم يلعبوا معاك اللعبة الرخيصة دي يااا عاصي بيه دويدار !
أفحمته بسخريتها وتقليلها منه ، تعمد أن يحافظ على ثباته لأخر لحظة حتى وهو يراها تغادره وترحل كفراشة لم يرق لها مذاق الصبار فـفر هاربة .
••••••••
" عودة للقـاهرة .. قصـر آل دويدار "
بدأ الحفل وبدأت عبلة في استقبال الضيوف ، التجول بين المقاعد والترحيب بالجميع ، وكانت تُرافق خُطاها " هدير" كي تصنع أكبر عدد من العلاقات والمصالح الشخصية ، باتت تتعرف على بنات وأبناء الضيوف وتمازحهم بخفة وتهتم بتقديم المشاريب إليهم وتعمد الكثير الاقتراب منها لما تملكه من عدد المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي الهشة .
أجبرت " عبلة " ابنتها على حضور الحفل ، ارتدت الفستان الذي احضرته إليها ولكنها تعمدت أن تغطي ذراعيها بـ شال حريري وهي تجلس في مكان هادئ تُراقب الأكاذيب المتحركة ، وكل منهما يعرض أثمن ما لديه .
دلفت " جيهان " إلى ساحة القصر وأخذت تبحث عن أولادها إلى أنها تصادمت بـ " كريم " فجذبته بقوة وسألته :
-أنت مختفي من أول الصبح ليه ؟!
هندم كريم سترته وهو يراقب المحيطين حوله ويهمس لامه خلف أسنانه المُنطبقة ويقول :
-مصالح عُليا يا جيهان هانم ! وبعدين المسكة دي هضيع برستيج ابنك !
زفرت جيهان بإمتعاض :
-أنتَ هتجنني ، بقولك شوفت أخوك مراد ؟!
ذهل كريم من سؤالها :
-هو مُراد جاي ؟!
-قال لي إنه جاي ، ومأكد عليا !
تحمس كريم بعفوية :
-دي الليلة هتبقى دمـار ! دا له ١٠ سنين مدخلش القصر دا ؟
جيهان بتخابث
-ماهو لازم يحضر ، مش أنت لوحدك اللي عندك مصالح عُليـا .
ضحك كريم على سخرية والدته منه ، حيث مال على آذانها وقال
-جي جي ، أنا مُشفق على عاصي ، هو المفروض يختار واحدة بس من كل البنات دي ؟! ما اختار معاه أنا كمان !
لكزته أمه بغلٍ :
-انتيل أفلح في دراستك الاول بدل ما أنت عمال تسقط كدا .
-منا مش هتعدل غير لما اتجوز ، جربي كدا مش هتخسري حاجة .
هنا طل " مُراد " بفخامته وفخامة هيئته وبدلته الأنيقة فكان كالبدر في ليلة تمامه يسطع أمام الجميع ، اندفعت جيهان إليه وعانقته بانتصار وشوشت له :
-كنت متأكدة إنك مش هتخيب أملي ، تعالي تعالي سلم على خالتك .
" في الطابق العلوي "
يجلس تميـم على مقعده المتحرك يُراقب الحاضرين من خلف السور ، يراقب تلك الملايين المتحركة أمامه ، الفتيات يعرضن جمالهن بطريقة مقززة ، صخب عارم هنا وهناك ، أحضان وتلامس بين بعضهم لبعض بحجة الصداقة ، سيدات تتباهى بما لديها من مجوهرات ، ورجال يعرفون أين يدسون أعينهم !
اقتربت شمس منه بخطوات هادئه وأخذت تشاهد الصرح الضخم من الحاضرين وقالت بهدوء :
-ليه منزلتش !
أجابها تميم بدون ما ينظر لها :
-دا عالم مزيف ، عالم مش شبهي ، لو فكرت اتكلم مع شاب من الواقفين دول ، مش هلاقي في عقله ذرة نضج ، كلهم عالم الشو والكذب والفلوس !
ثم أخذ نفسًا بارتياح وأكمل :
-محتوى حياتهم هنصيف فين النهاردة ! مين مُعجب بمين ! تؤ جو مغبر بالكذب ، مش لوني !
عقدت شمس ذراعيها وسألته بفضول :
-طيب وليه أنت مش زيهم !
امتنع "تميـم" عن الرد وعاد لمشاهدة المسرحية التي نعلم جميعنا بأكأذيبها ولكنا مازلنا نشاهدها ، أحست شمس بأنها لامست جرح ما بقلبه تعمد السكوت عنه ، وتعمدت هي الأخرى ألا تغوص في الحديث .
ركضت عبلة إلى ابنتها التي تعبث في شاشة هاتفها ونهرتها معاتبة :
-سيبي الزفت دا وقومي رحبي بالناس !
زفرت عالية باعتراض
-مامي أنا قلت لك مش عايزه انزل واجبرتيني ، متجبرنيش كمان اسلم على ناس غريبة !
بدا التوتر على ملامح عبلة ، فلحظتها عاليـه ، فوقفت وسألتها
-مامي حضرتك تعبانة ؟!
أجابت " عبلة " باختناق :
-الساعة داخلة على ١٢ والبيه أخوكي مجاش ! وبكلمه مش بيرد .
ربتت على كتفها وقالت :
-طيب اهدي ، هروح اشحن موبايلي واكلمه .
ترجتها عبلة بأمل
-حاولي يمكن يرد عليكِ يا عالية ، انا حاسة هتجرالي حاجة لو أخوكي نشف دماغه ومجاش .
رفعت " عالية " ذيل فستانها الطويل وانصرف جهة المنزل وهي تعاود الاتصال بأخيها مرارًا وتكرارًا ، ولكن بدون فائدة ، قفزت في رأسها فكرة كتابة رسالة نصية له ، ظلت تخطو بعبث وهي تجمع تركيزها كله في ترتيب الكلمات ، فاللحظة التي انشغلت فيها " عالية " بهاتفها كان مُراد يتحدث هو الأخر بهاتفه باحثًا عن مكانٍ هادئ وفي تلك اللحظة تصادم الثنائي ببعضهم فـ سُكب كأس العصير الذي بيد "مراد" على فستان " عالية " ، التي فزعت صارخة بوجهه
-مش تفتح ؟!
-ومش مفتحة أنتِ ليه ؟!
أخذت عالية تثرثر بكلمات غير مُبهمة حتى قالت معترضة :
-وقليل ذوق كمان !
ثم انشغلت في تنظيف فستانها وهي تدفعه بقوة من أمامها مما أثار إعجاب مُراد بها الذي لم يتعرف على هويتها بعد ، ابتسم ابتسامة خفيفة ثم قال لنفسه :
-غزالة ، بس بتعض !
في تلك اللحظة التي ينتظرها جميع الفتيات لتوقيع عاصي دويدار في حبهم ، دخل بفخامته وخلفه عدد كبير من الحرس أشبه بموكب ملكي ، صُوبت نحوه جميع الأعين ، من يطالعه بإعجاب ، ومن يحدجه بنظرات التمنى ، ومن يطلق صفير انبهاره علنًا ، رجل تجمعت به وسامة وفخامة رجال الأرض ، ولكن كل هذا انطفىء بمجرد وقوفه جمب فتاة أشبه بحوريات البحر ، ترتدي فستانًا فخمًا باللون الازرق استمد لونه من عيونها ، مرتديه حذاء بكعب مرتفع مما جعلتها تُنافس قامته في الطول ، شعرها المموج الذي ينسدل بطوله ليُغطي أسفل ظهرها ، مُلفتة لانتباه الجميع كالعطر من غير صخب .
تحاشي الجميع موكب" عاصي "الفخم وصُوبت أسهم نظراتهم الثاقبة نحو " رسيل " الواقفه على يساره ، اقبلت عبلة إلى ابنها كإقبال العطشان على بُحيرة ماء وعانقته هامسة بعتب :
-كل دا تأخير ؟!
ربت عاصي على ظهرها وقال :
-كان عندي شغل !
ابتعدت عبلة عنه وهي تراقب " رسيل " بنظرات حارقة وسألته بهمس :
-مين دي ؟!
اتسعت ابتسامة " عاصي " وهو يطوق خصر الفتاة ويجذبها إليه أكثر ويجهر بصوته معلنًا :
-حياة ، حياة مراتي !
يتبع
كل منا يركض في اتجاهه لتحقيق أهدافه ، منا من يسلك طريق الخير مستندًا على عكاز الصبر ومنا من يقطع طريق الشر والوساطة ليصل أولًا ، والعبرة هنا ليست بأولوية الوصول ولكنه بمصدقية الرحلة !
وصلت " نوران " بصُحبة " كريم " إلى قسم الشرطة مستقلين عربة أجرة وتقدمت بسرعة أشبه بالركض متجهه نحو أحد الأمناء وطلبت :
-لو سمحت عايزه أقدم بلاغ !
وثب الأمين لاستقبالها وإعداد أوراق الطلب وظلت تراقبه بكفها المرتعش على البار وهي تأخذ أنفاسها بصوت مسموع ، وبعد دقيقة عاد إليها قائلًا :
-بلاغ في مين يا ست !
بللت حلقها وشرعت في رواية الحدث الدرامي الذي أخذ به " عاصي " أختها من قلب حارتهم ، فختم الأمين قصتها ساخطًا :
-هو فاكر البلد مفيهاش قانون ولا أيه ؟!
تدخل " كريم " مؤيدًا لجملته بثقة :
-أصله راجل مفتري أوي ، ومحدش بيقدر يقف قدامه .
سأله الأمين بتلقائية :
-أنت تقرب لهم أيه ؟!
توترت الكلمات في حلق كريم ، فأجابته نوران بسرعة :
-قريبنا من البلد ، المهم أختي هترجع بيتها النهاردة ؟!
الأمين برسمية وهو يستعد لكتابة البيانات :
-اسمه أيه الجدع دا !
-عاصي ، عاصي دويدار .
كانت إجابة نوران بحماس وأمل شديد ولكن هنا توقف حبر القلم ، ويد الأمين بمجرد سماعه الاسم ، انكمشت ملامح وجهه وهو يكرر سؤاله :
-قُلتي مين !
-عاصي دويدار حضرتك !
بدا عليه الارتباك والخوف ، وقال متحججًا وهو يتأهب للذهاب من أمامها :
-طيب خليكي هنا هشوف بس سيادة المأمور وأرجع لك حالًا !
•••••••
يسري بثقة عارمة وهو يضع ساق على الأخرى :
-لقيت الحل اللي هيمسكك عقد الإدارة ، ويخرجك من دماغ عبلة هانم للأبد وكمان من غير ما يأثر على رفاهية معاليك !
تلك كانت أخر جُملة أردفها يسري على أذان عاصي مما جعله يصغي إليه متجاهلًا رنين هاتفه ، وقطب حاجبيه متسائلًا :
-أنت دماغك راحت فين ؟!
ابتسامة خبيثة ارتسمت على وجهه يسري وقال :
-راحت شُبرا !
بدا الغضب يكسو ملامحه ، فسأله بنبرة حادة :
-مش فاهم !
تحمحم يسري بخفوت ، وبنبرة مُغلفة بحماس الشـر قال :
-البنت الـ أحنا جبناها من شُبرا .
-قصدك الدكتورة شمس ؟!
أومأ يسري مؤيدًا تساؤله وأكمل :
-هنلفق لها قضية مترتبة ، متعرفش تخرج منها ، غير بطريقة واحدة!
بات حماس عاصي يبهت لما يبدو عليه رافضًا لاقتراح يسري الذي أكمل تقديم وجبة الشر الدسمة :
-هنتفق معاها ، ونقول أنها حُب قديم لمعاليك ، وعشان كدا جبتها القصر ، وتتجوزها كدا وكدا ، لحد ما تاخد الأوكيه من الهانم ، نقطع الورقة ويا دار ما دخلك شر ونراضي البنت بكام مليم ، والموضوع ينتهي !
تمددت ملامح عاصي تدريجيًا لما يدل على أن الحديث راق واستطاب إليه وأخذ يُقلب الفكرة برأسه حتى عادت أنظاره إلى يسري الذي يُغلف له أفكاره السوداوية بشريط هدايا وقال :
-وأنا سألت عليهم زي ما قلت لي ، البنت دخلت الجامعة بمنحة دراسية ولانها فعلا مجتهدة ، وهتبقى وجهة كويسة لمعاليك ، عايزه بس شوية تلميع سيبهم عليا .. قلت أيه !
ضــرب الأرض بمشط حذائه اللامع بخفوت وهو يفكر في الأمر ، ولكنه لم يستغرق وقتًا طويلًا حتى رن هاتفه مرة أخرى ، فقبل ما يجيبه قال ليسري :
-سيبني أقلب الموضوع في دماغي وبعد الاجتماع هقولك تعمل أيه !.
ثم أجاب على هاتفه قائلًا :
-ممدوح باشا ، اخبار معاليـك !
ظل يسري يراقب تبدل ملامح عاصي المُتقلبة هو يتحدث في الهاتف حتى أنهي جُملته بفظاظه وقال :
-لالا ، نفذ اللي طلبته وكملوا إجراءات البلاغ .
يبدو أن الرجل كاد أن ينافشه في الأمر ولكنه أجزم قائلًا :
-مفيش كلمة تعلى فوق القانون سيادتك ، وهو كذلك ، شاكرين لأفضال معاليك .
بمجرد ما أنهي المكالمة سأله يسري بفضول :
-في حاجة يا بُص ؟!
ألقى هاتفه بجواره وقال بهدوء :
-البنت أخت شمس ، مقدمة بلاغ فيا !
-دا ايه الورطة دي بقا ؟! البنت دي لازم تتربي .
عاصي برزانةٍ وهو يضع ساق فوق الأخرى :
-لا ورطة ولا حاجة ، محلولة !!
••••••••••
في حياة كل منا يوم قديم أو حدث حزين ما زال يمتد في كل الأيام ويقاسمها ، أحيانًا يكمُن في نظرة شاردة أو دمعة حارة أو كغضبك الشديد على أشياء سخيفة .. تشاركا تـميـم وشمس في الشرود ، كل منهما شـرد إلى موضع ألمه الذي لم تخدره السنوات .
كانت شمس تطالع الأشجار حولها والطبيعة بصمت يحمل أثقال من الصخب ، تذكرت أمها وأبيها وتلك الصرخة التي اندلعت من صميم قلبها إثر سماع خبر فقدانهم الأبدي ، ترقرقت العبرات من عيونها فتعمدت أن تخفيهم عنه وهي تطالع بتشتت فوضى العمال على الجهة الآخرى .
انغمس تميم في قراءة كتابه وذلك لا يمنعه من اختلاس نظرة كل فترة والثانية من تلك الملاك الثائر ، حيث استمدت صفاتها من اسمها ، كالشمس تشرق لتنير عالمك وفجاة تختفي فلا ترى منها إلا الظلام ، كان مصيرها من اسمها لكل شيء نهاية حتمية ، لا تعلم من أين ابتدى ولأين سينتهي ؟! كانت إمرأة بنكهة اللغز المحير للعقل ومثير للفضول ولكنه كان يخشى أن يقترب منها لتحـرقه !
حاولت أن تُشتت رأسها عن أحزانها والتفتت للكتاب الذي بيده فقالت بإعجاب :
-end of love ?!
كأن ثمة حوار فُتح ليدور بينهم ، استغل تميم الفرصة ليتعرف أكثر عليها ويحل شفرة ألغازه حولها ، قفل الكتاب وقال بتنهيدة :
-لكُل حاجة نهاية حتى الحُب !
رمقته شمس بنظرات مُعارضة :
-أي حاجة في الدنيا وليها نهاية ، حتى الإنسان مننا بينتهي ، لكن الحُب الحاجة الوحيدة اللي ما ينفعش تنتهي !
-قرأتيها ؟!
أصدرت صوتًا نافيًا لسؤاله وقالت بحزن :
-قرأت نصها ، وكالعادة مكملتش !
أسبل عيونه مستفهمًا حول ردها الغريب :
-أزاي ؟! قصدك مش حلوة !
ردت بعفوية :
-إطلاقـا ، بس دي عادتي ما بحبش النهايات حتى ولو سعيدة ، ما بحبش أكمل الرواية واتعلق بأبطالها وفي الأخر يفارقوني ! أو افتكر إنهم مش موجودين معانا ، أنا مش بعرف أمشي الطريق لأخره ! لازم اسيب باب للفضول والحنين ، يديني الفرصة إني أرجع له وقت ما أحب ! دي حياتي .
شرد في كلامها المغلف بأسى ينافس مأسي أيامه، ولكنها أتبعت بشكٍ :
-بس الحب الحاجة الوحيدة اللي ما ينفعش تنتهي ، الحب الصادق يولد ولا يموت ، له نقطة بداية ، بس ملهوش نهاية مهما تجاهلنا الأمر !
ظل يستمع إليها بإعجاب ، يبدو إنها لامست نقطة في عقله لم يوصل لها أحد من قبل ، تأمل شرودها وهي تُنمق الكلمات وتحشو أوجاعها بجوف العبارات لتنطقها بصورة فلسفية وأكملت :
-عارف مشكلة الحُب أيه ؟!
لمعت عيونه بإثارة لاستماع المزيد منها وقالت :
-إنه بيختار الشخص المستحيل ، الشخص السهل المُتاح ليك أبدًا مش بيغريه ، يعني مثلًا الرواية دي ، ضابط في الجيش الروسي ، وقع في حب بنت عادية ، بس جمالها اللي مكنش عادي ، ورغم الحروب والصراعات ما بين جيشه وسكان المدينة إلا أنه تخلى عن كل دا ودخل بيتهم علي إنه شخص فقير ، عشان يكون جمبها .. لو كُنت مكان الكاتب ، كنت هتخلي النهاية أيه ؟!
تضرمها عيناه إعجابًا بفطنتها ، فكر لدقيقتين قبل أن يُجيبها وقال
-أنا لسه معرفش الكاتب رأيه أيه ، بس شايف أن الحُب لازم ينتصر !
-انتصار الحُب الحقيقي في استمراره حتى ولو مش هينفع نكمل مع بعض ؟!
أبت ملامح وجهه كلامها وقال :
-دي يبقي اسمه قـ تل نفس ، ليه الإنسان يعمل في نفسه كدا ! أحنا من حقنا نحب ونلاقي مُقابل للحُب دا ؟! وإلا يبقى زي اللي بيزرع في أرض بور ! الحياة مليانة فُرص يا شمس ، متوقفيش نفسك عند محطة واحدة لمجرد أن القطر فاتك ؟!
أيدت كلامه بعقلانية وقالت :
-دا رد منطقي وواقعي لأي حد جاي الدنيا عشان يعيش أيامه ويمشي ، أه مجبر على طوي اللي فات ، بس حد زيي بيتعامل مع الحُب على إنه هواء وميه ، كل لحظة بنستخدمهم ، بس مش كل لحظة بنقول إننا بنحبهم ، دا الفرق ، الحُب بيجي مرة واحدة وبيعيش فينا بصرف النظر عن حياتك هتكملها مع مين بعدين ؟!
ثم أطلقت تنهيدة وأكملت
-كل واحد جوه قلبه أوضة مقفولة مكتوب عليها ممنوع الإقتراب !
ظن أن بالحديث سيكتشف هويتها ولكن لم يزيدها الكلام إلا غموضًا ، طالعها بتطفل شديدٍ إثر تلك العواصف التي هاجت ببدنه من زوبعة أوجاع امرأة رأت من الدنيا ما رأت ولكنها مازالت صامدة كالجبل .
ركضت " تاليا و داليـا "إلى عمهم وعانقوه بحب ، فقالت تاليا بمرحٍ:
-أخيرًا نزلت الجنينة يا أونكل تميم !
ابتسم تميـم بامتنانٍ:
-اشكروا الدكتورة شمس بقا.
تدخلت داليا بجزل طفولي وسألتها :
-حضرتك الدكتورة شمس ، تاليا قالتلي إنك طيبه أوي .
ثم اقتربت منها وربتت بكفها الصغير على كفها وأكملت :
-ممكن متزعليش من بابي ؟! هو دايمًا عصبي وبيزعق ، نانا دايمًا بتقول إنه مشغول ، عشان كدا هو عصبي .
كغيث انهمر على جروح شمس وهي تطالع رقة ولُطف الصغار وهما يتحاورن معها ، والكثير من المرح الذي جعلها تنسى أوجاعها للحظات مسروقة من الزمن ، إلا أن هبت عاصفة من نوع أخر لتفسد مجلسهم ، فـبمجرد دخول " عبلة " التي اشتعلت النيران من ملامحها وهي تزمجر بغضب عارمٍ:
-مين نزل تميم هنا ؟!
رفع تميـم رأسه إليها بعد ما سـر.ق نظرة سريعة من وجه شمس التي بدا عليها القلق وقال :
-أنا طلبت من الدكتورة شمس .
جثت " عبلة " على ركبتيها أمامها ولكن سِهام الشر تحاصر عيونها وقالت بزيف :
-تميم حبيبي أنا خايفة عليك ، الدنيا مش تمام ، ودربكة الحفلة والجو مش هيبقى لطيف ، لو سمحت متزعلش مني .
ثم صوبت أنظارها الثاقبة لشمس وقالت :
-هنا مفيش حركة بتتم غير بعد رأيي ، اتمنى الدكتورة تعرف أن القصر دا له قواعد ، مش زي الخرابة اللي جاية منها !
احتدت نظرة تميـم إليها فابتلعت عبلة ما تبقى من إهانات ، وطلبت من الفتيات قائلة :
-وصلو أونكل تميـم لأوضته يا حلوين .
وهنا تعالت أصوات صاخبة من الخارج ، وأحد الحراس قادمًا إليهم ، وبمجرد ما سألته عبلة :
-أيه الدوشة اللي بره دي !
طأطأ رأسه وقال:
-دي الشرطة بره ، وبيسألوا على الدكتورة !
رمقتها عبلة بسخرية :
-دكتورة ! أنا عارفة عاصي حدفها علينـا من أي داهية ، اتصل لي به حالًا .
توترت شمس وهي تضم يد دالـيا بقلق ، خاصة بعد وتيرة الإهانات التي سُددت إليها ، ونظرة أخيرة كانت من نصيب تمـيم التي أومأ إليها راجيًا أن تهدأ ، ولا تُفاقم الأمر ، كأنه يريد أن يُخبرها بطريقة ما أن هذا هو الجو المعتاد لقصر آل دويدار .
جذبت عبلة الهاتف من الحارس وقالت بلهفة :
-أيوه يا عاصي ، شوفت المصيبة اللي أنت حدفتها علينا ؟!
خرج عاصي من اجتماعه بعد ما أنهاه بأفضل العروض لصالح شركاته وأخذ يخطو بفظاظة في دهليز المكان ويتبعه يسري ، فقال عاصي بهدوء:
-اديها التليفون !
زفرت عبلة بضيق لعدم تمالكها زمام الأمر ومدت لها الهاتف قائلة :
-كلمي !
بأنامل مرتعشة وصوت لا يقل إنش عن ارتجاف يدها وضعت الهاتف على اذنها وقالت بصوت خافت :
-ألو !
خاض بالأمر بدون مقدمات وأردفت بحدة غير قابلة للنقاش :
-بصي يا شاطرة ، هتخرجي للظابط اللي بره وتقوليله انك هنـا بتشتغلي ، ومش مخـ طوفه ولا حاجة !
تلجلجت معترضة :
-بس!
ارتفعت نبرة صوته بصرامة :
-حرف تاني غير كدا ، هتلاقي نفسك متهمة بسر قة حاجات لو اتباعتي أعضاء مش هتجيبي نص تمنها !
هنا أغلق هاتفه ومده ليسري وواصل طريقه نحو سيارته بفظاظة ، لحق يسري بخُطاه مسرعًا وهو يسأله :
-معاليك مصمم على البنت دي ليه ! افهم من كدا وافقت على كلامنا ؟!
فكر عاصي للحظات ثم قال :
-البنت لسانها طويل وعايزه تتربي !
يسري بعدم فهم :
-وده أيه علاقته ؟!
-فيها من نفس طينة تمـيم ، فـ هي أكتر حد هيعرف يتفاهم معاه !
فتح له يسري باب السيارة وهو يقول :
-نفسي أفهم أيه في دماغ معاليك !
صعد عاصي سيارته الفارهة بالمقعد الخلفي ثم لحق به يسري فأنطلق السائق عائدًا إلي القرية ، وهنا أردف سؤاله الأخير :
-فكرت في كلامنا بتاع الصبح !
انتهى عاصي من إشعال سيجارته وقال
-فكرت ، والفكرة عجبتني !
تحمس يسري للمغامرة الجديدة التي سيخوضها رئيسه وقال بشغفٍ
-هو دا الكلام ! خطط يسري متُخرش المية !
أخذ نفسًا طويلًا من سيجارته ودار برأسه يطالع الطريق من النافذة وقال بمكـر :
-بس مش شمس !
"عودة إلى القصر "
تُراقب " نوران " أختها بذهول شديد بعد ما نفت كل الاتهامات الموجهة لعاصٍ ، فنهرتها أختها معترضة :
-شمس ، أنتِ بتقولي أيه ؟!
ضغطت شمس على كف أختها ثم أكملت حديثها إلى الضابط :
-أختي بس فهمت الموضوع غلط ، وأنا موجودة في القصر هنا بصفتي الدكتورة شمس ، وبقوم برعاية مريض !
أطرق الضابط باحترام ونادي على العساكر كي يتأهبوا للرحيل ، ثم سحبت شمس أختها جنبًا وقالت بحذر
-نوران ، أنا هنا بشتغل ، وصلي لفوفا الكلام دا !
نهرتها نوران بعنف :
-أنت ازاي تقولي كدا علي المُجـ رم دا ؟! شمس أنت واعية لتصرفاتك!
ربتت على كتف أختها بتفهم :
-أنتِ مش فاهمة حاجة ، بصي هو هيجي بكرة وهتكلم معاه ولازم هيكون في حل ، المهم دلوقتِ تخلي بالك من فوفا وادويتها ، وطمنيها أنا كويسة أهو .
ثم مسحت بعيونها ساحة القصر لتطمئن اختها حتى ولو كذبًا :
-وأديكي شايفة المكان ، وليا أوضة لوحدي وبتعامل باحترام ، أنتِ اطمني !
أسبلت نوران عيونها بعدم تصديق :
-مع أن قلبي مش مطمن ، بس هصدقك يا شمس .
مسحت شمس على شعر أختها وقبلت جبهتها بحنان :
-متقلقيش ، ويلا عشان تطمني جدتك ، وأنا هكلمك على طول !
أدخلت نوران يديها بجوف حقيبتها وأعطتها سلة سوداء بداخلها بعض النقود وقالت :
-خدي ارمي له فلوسه في وشه واخلصي من الرعب دا ، المكان دا مش مريح ياشمس أنا خايفة عليكِ !
أخذت النقود من اختها وقالت بهدوء:
-هحاول ، يلا روحي أمشي أنتِ دلوقتِ .
تقف جيهان بصحبة عبلة في أحد زوايا القصر يراقبان الحدث بعيون الشر ، حتى تفوهت جيهان قائلة :
-عبلة اسمعي كلامي البنت دي مش هيجي من وراها غير المشاكل ، قلبي مش مرتاح لها !
عقدت عبلة ذراعيها وهي تحدج نظراتها القوية جهة شمس وتقول:
-لا ومكلف نفسه عاصي وجايب دكتورة تراعي اخوه ، من أمتى بيهتم تميم اصلا !
مالت جيهان على أذان أختها وقالت بصوت يشبه فحيح الأفاعي :
-ياخوفي يكون عاصي ابنك عينه منها ، وجايبها القصر وحجته تميم !
هزت رأسها نافية وهي تقول بثقة :
-مش ذوق ولا مستوى عاصي ، اطمني !
بثت الاطمئنان بقلب جيهان ثم سألتها :
-عبلة ، أحنا لازم نظبط جوازة عاصي من هدير ، دي البنت اطلقت عشان بتحبه !
يبدو أن الجملة لم ترق لمُخطط عبلة ولكنها تجاهلتها سريعًا وهي تغادرتها متجهة نحو شمس العائدة إلى مدخل المنزل ، فـ عاقت طريقها وقالت بشموخ :
-شكلك عوج و بتاعت مشاكل !
فاض صبرها حتى تأفف شمس بضيق ثم قالت :
-آه ، أنا فعلًا كدا والأحسن تتقي شري ، عشان أنا عوج ومش بيهمني حد !
كانت تلك أخر جُملة ألقتها شمس على مسامع عبلة وتركتها وغادرت وهى تلعن الصدفة التي قادتها إلى هنا ، حيث باتت نيران غضبها لا ترى أحد ، بل تلسع كل من يقترب منها ، ذهلت " عبلة" من وقاحتها الزائدة وأخذت تضـ رب كف على الأخر وهي تتوعد لها بأن تحول حياتها لجحيم .
•••••••
تتقوس حول نفسها كحمامة تحت المطر لا تعلم إلى أين ستذهب بعد ما هُدم عشها ! إلى أين تتجه وهي ضعيفة هكذا كالـيرقة ! يبدو أن شعور أُلف واحتضان ذاتها معتادة عليه ! أحست بأنها ليست المرة الاولى التي ترمم فيها نفسها بنفسها ! يبدو أن حياتها القديمة لم تكن بفارق عن حياتها الآن، ربما مـاتت من قبل ألف مرة ! تقاسم الحيرة قلبها ! لِمَ ألقاها المُوج إلى هنا ؟! ما هو المصير الذي ذرفها إليه ؟!
كان مذاق التيه بالنسبة لها كالماء والهواء ، ليست بشعور مخيف تهابه وتخشاه ، رُبما كانوا من قبل أصدقاء ، تتقلب في فراشهم كل ليلة ؟! ولكن توقفت دموعها حائرة ، كحيرة الرمش ، هل يحضن الدمعة أم يتخلى عنها ؟! وسألتها نفسها السؤال الأصعب !
-"هل لا يستحق الإنسان أن يشعر ولو لمرّة واحدة فـ العُمر بأنهُ في المكان الصحيح الذي لا شك به ولا حيرة ! ما هو الذنب الذي يعاقب المرء عليه بتلك القسوة ! أهل من العدلِ أن نسدد دينًا لم نقترضه ؟؟
مسحت "رسيل" عبراتها المترقرقة وهي تدفن وجهها بالوسادة ، حيث بتر خيط أفكارها جُملة المُمرضة :
-لازم تاكلي ! مش هينفع كدا !
صرخت بها رسيل :
-قُلت سيبيني لوحدي !
لبت الممرضة طلبها وجذبت الباب الزجاجي لحديقة غرفتها وانصرفت كي تهاتف الطبيب وتروي له حالة المريض .
وعلى الجهة الأخرى من الحديقة يجلس عاصي ويتناول وجبة غدائه على البحر بأشهى أنواع الأسماك التي يُفضلها ، ارتشف رشفة من كأس النبيذ فـ تقدم إليه يسري بوجه عابث لاحظه عاصي ، وما أن وضع لقمية صغيرة بفمه سأله :
-مالك !
أخفض يسري وجهه بالأرض وقال بأسف :
-لما تخلص أكلك معاليـك !
ترك الشوكة والسكيـن من يده والتفت إليه منتبهًا :
-اخلص يا يسري ؟
خيم الخذلان على وجهه وقال بحزن :
-خسرنا مزاد العلمين .
يعلم يسري بأهمية هذا المزاد بالنسبة لعاصٍ لذلك أردف جملته بأسفٍ شديد ، ولكن رد فعل عاصي كانت غير متوقعه فسأله :
-ورسي على مين !
-على شركة ماريو .
زفر بضيق ثم نهض جاهرًا بغضب واشار إليه محذرًا بسبابته :
-دول زودوها أوي .. يُسري ، تجيب لي قرار الشركة دي وصحابها ومين الممولين بتوعها ، كل حاجة يا يسري ، أنت فاهم !
أومأ يسري بطاعة :
-فاهم ، فاهم معاليك ؟! اهدا بس .
ثم لقمت أعينه تلك الممرضة التي تتحدث في الهاتف ، فعاد إلى هدوئه العاصف مرة أخرى ، وسأله بعيون ماكرة لا يفصح عن خباياها :
-البنت اللي جوه دي فاقت !
تشتت تركيز يسري قليلًا وسأله بحماقة :
-أي بنت معاليك !
حدجه بأنظاره الحادة :
-يسري !
انتبه يسري أخيرًا :
-اه قصد معاليك البنت بتاعت البحر ! اه فاقت وبعت لها الغدا .
ثم اقترب منه وسأله ناصحًا :
-أحنا مش هنخلص منها بقا ؟!
طالع عاصي البحر بعيونه المراوغة ووضع يده في جيب بنطاله الأبيض وقال شاردًا :
-عايزك تعرف أصلها وفصلها !
أحس يسري بالعجز إثر صعوبة طلبه وقال معارضًا وبنبرة مغلفة بالسخرية :
-معاليك أنا خدامك آه ، بس مش بنجم هنا عشان أعرف أصل واحدة هي نفسها مش عارفه هي مين !
لقنه بنظرة حادة أخرسته وجعلته ينسحب من أمامه مُلبيًا لطلبه بدون كلمة زائدة .
••••••
" في جنوب الغردقة "
ضجيج تفجر بجميع أرجاء البيت أخذ يُكسر كل ما يقابله ، كُرة ملتهبة من الغضب تأكل كل ما تلقاه ، هشم " فريد " غُرفته جاهرًا
-يعني أيه تروحي مني !
دخلت " فريال" جهة مصدر الصوت ونهرت أخيها معترضة :
-أنت اتجننت ، سايب عزاء المعلم قنديل وقاعد تكسر هنا ؟
دار إليها بعيونه المحمرة وشعره المُنسدل على جبهته أزاحه للوراء وقال بجنون :
-قلبت البحر عليها حتة حتة ، فوق وتحت ، يعني أيه البحر يغدر بيها ، دول كانوا صحاب ، ويوم ما القاها ياخدها مني ؟!
يبدو أن البحر من معشر الرجال ، إذا غار جُن ، التقم حبيبته كي لا يشاركه أحد فيها ، ربما أراد لها قصة جديدة ومغامرة جديدة سيشهد عليها ، ربما اعتبرها شخص غير عادي ، فلابد من قصة مثيرة لتعيشها ، العادي لا يليق بـ فتاة مثلها ! أو ربما أحس البحر برفضها فتولى مهمة انقاذها من شخص لم تتمناه لساعة أن يقاسم قلبها !
حاولت فريال أن تهدأ من بركان أخيها الثائر وقالت :
-قضاء ربنا يا فريد ، هتكفر !
بعدم تصديق :
-لا ماهي مش دي النهاية ! مش دي النهاية اللي تليق بصبري وحبي ليها السنين دي كلها !
ثم تناول بدلة الغطس وغادر هائمًا :
-هقلب عليها الدنيا يا فريال !
صرخة أخته بخوف عليه من غدر البحر الذي سبق وغدر بابنة عمها ، حاولت أن تلحق بها بسرعة ولكن بدون فائدة ، اندفع هائمًا على وجهه في مهب رياح الحُب والتمرد على أعرافه !
•••••••
يخطو نحو غرفتها بثقة عارمة ظنًا منه بأن كل ما على الأرض خاضعًا لقوانينه ، لأوامره ، طرق على باب غُرفتها ثم دخل قبل أن تأذن له بالدخول ، فزعت من مرقدها بتوتر وهي تضم ساقيها إلى صدرها وتوبيخه قائلة :
-أنتَ أزاي تدخل قبل ما اسمح لك !
جر المقعد الخشبي المُخصص لتسريحة غرفتها وجلس عليه وأخذ يثني في أكمام قميصه تحت عيونها المُرتعدة صامتًا ، لا يهزه انتفاضة صوتها .. سحبت الغطاء إليها ظنًا منها بأنه سيحميها منه وقالت :
-بكلمك ولا مابتسمعش !
تحمحم بخفوت ثم أجاب ببرود غير متناهٍ :
-مستني تحسني أسلوبك معايا عشان أرد !
علمت بأنها أمام رجل قوي ، ليس بالسهل خديعته ولا التفاهم معه ، أخرج سيجارة من جيبه وسألها بهدوء مرعبٍ :
-هتضايقي لو شغلتها !
ألتزمت الصمت ولكن عيونها أعلنت الرفض ، ولكنه عقيم في قراءة عيون النساء تجاهل ما أفصحت به عيونها وأخذ نفسًا من سيجارته وقال برتابة :
-أسف ياااا ، نسيت أنك مش فاكرة حتى اسمك ، بس أنا عايزك تحطي نفسك مكاني .
بللت حلقها الذي جف من هيبته وهي ترمقه بعيونها السماوية الواسعة التي تحتكر نصف مخزون العالم من النبيذ وقالت :
-مش فاهمة !
قرب مقعده منها وقال بنبرة يكسوها المـكر والخديعة :
-بصي أنا راجل مش متجوز ، وليا سُمعتي اللي عشت بحافظ عليها عُمري كله ، مش حلوة في تاريخي دا كله يقولوا عاصي دويدار عنده بنت في الجناح بتاعه !
لمعت نظرات السخرية على وجهه مقارنة بمـا رأته صباحًا ، وبما تسمعه الآن ، ابتسمت باستهزاء وقالت
-اه منا واخدة بالي .
تجاهل سخريتها التي يدرك سببها جيدًا وقال :
-جميل ، نبقي متفقين ، أنا كلها ساعة وراجع القاهرة ، وأنت ما ينفعش تبقي هنا !
اندفعت بدون تفكير :
-ومين قالك إني عايزة أقعد هنا أصلًا !
مثل التأثر الشديد على حالتها وقال معاتبًا :
-هو خير تعمل شر تلقى الزمان دا !
رمت الغطاء من فوقها ولامست الأرض أقدامها العارية التي يغطي الفستان منتصفها ، شيء ما جذبه ليطالع ساقيها الاشبه بأعمدة رُخام مثيرة للمس ، ولكنه سيطر على أهواه مكملًا مسرحيته مُلتفًا لحديثها :
-أكيد أهلي بيدوروا عليا ، أنا هنزل من هنا على أقرب قسم وهبلغ !
وقف أمامها بهيئته المُتناسقة وهو يطرق أنظاره لمستوى أنظارها وقال بنبرة تحدٍ:
-معنديش مانع بس بعد ما تقدمي البلاغ ، هترجعي هنا مش هتلاقي مكان تنامي فيه ، شوفي بقا ممكن تقعدي فين لحد ما البوليس يلاقي أهلك دا إن عرفوا يوصلوا لحاجة !
رفعت عينيها المُقمرتين بوميضٍ خافت من الرعب ولكنها أبت الخضوع لكلامه الذي يفوح منه رائحة الدخان ، قالت متحدية
-هقعد على الرصيف ولا إني اقعد في مكان يخص واحد مغرور زيك !
-هو في حل واحد !
علم أنها امرأة لا تُقتــل بسهولة ، ما كادت أن تخطو خطوتين توقفت إثر جملته الأخيرة التي جعلتها تلتفت إليه منتظرة أن يكمل جملته ، أكمل عاصي بصوته الخفيض وبتردد مزيف :
-مش عارف إذا كنتي هتوافقي ولا لا ، بس الخيار في الأول والأخر ليكِ !
يطوف الفضول بملامحها وهي تناظره :
-سمعني !
أخذ يتحرك في الغُرفة بعشوائية ليكمل مسرحيته على أتم وجه ، لانت معالم وجهه مما يجعلها تحس بحاجته لمساعدتها ، وقف يتأمل البحر من وراء الزجاج للحظات طويلة مازالت تنتظره فيها على مراجل متقدة ، حتى قال بفظاظته المعهودة :
-أنا محتاج مساعدتك زي ما أنت محتاجة مساعدتي !
بللت شفتيها بنفاذ صبر وهي تخطو نحوه بفضول
-وبعدين !
تطرفت بخيالها لأبعد مدى كي تُخمن ما يشغل تفكيره ولكنها فشلت ، رجل مثله لا يكشف كل أوراقه مرة واحدة ، أخذ يطوف حولها كما يطوف الدبور حول الزهرة وقال :
-أنت مشكلتك الوقت وأنا كمان ، محتاجة وقت عشان تعرفي أهلك ، وقت عشان تفتكري انتِ مين ، وكل دا عشان يحصل لازم تكوني في مكان آمن !
ارتاد فكرها ساحات الحيرة وهي تراقبه ،حيث أكمل :
-وأنا محتاجك في حياتي فترة مؤقتة ، هوصل فيهم لهدفي ، والمُقابل متحلميش بيه ، أولهم هدور على أهلك ، هتعيشي في مكان متحلميش بيه ، شيك علي بياض تكتبي المبلغ اللي عايزاه وأنا هنفذ !
دب الرعب في قلبها فأخذت تقبض على ياقة فستانها كي تحمي نفسها من نظراته المريبة وتقوس أصابع أقدامها من شدة الخوف ، وقالت
-قصدك أيه ؟!
-هنلعب لعبة بسيطة أوي ، النهاردة فـ القاهرة في حفل عملاق ، هيكون فيه كبار رجال الأعمال ، أجانب وعرب .
صمت للحظة يراقب تلك الملامح التي استمدت جمالها من صخب البحر ، تثير العواصف وتصنع الدوامات لتغرق أمهر السباحين بهما ، صف أمامها بشموخ وقال
-هقدمك في الحفلة على أنك خطيبتي .. خطيبة عاصي دويدار !
ذهول ، عيون متسعة صامدة ثم ضحك ملء فمها وهي تحاول استيعاب ما سمعت ، حتى تفوهت بسخرية
-أنت مش مغرور وبس ! لا كمان مجنون !
نظر في ساعته بهيبة ثم قال
-قدامك بالظبط ٤٠ دقيقة ، تفكري وتاخدي قرارك ، أكون غيرت هدومي .
وكأن السماء أهطلت فوق رأسها جمرًا ، فالمــوت والحياة الاثنان تآمرا عليها ، وقفت أمامه لتعيق طريقه معلنة رفضها القاطع :
-مش مضطر تستنى الوقت دا كله عشان تعرف ردي ، تقدر تأجر ألف واحدة من اللي تعرفهم يلعبوا معاك اللعبة الرخيصة دي يااا عاصي بيه دويدار !
أفحمته بسخريتها وتقليلها منه ، تعمد أن يحافظ على ثباته لأخر لحظة حتى وهو يراها تغادره وترحل كفراشة لم يرق لها مذاق الصبار فـفر هاربة .
••••••••
" عودة للقـاهرة .. قصـر آل دويدار "
بدأ الحفل وبدأت عبلة في استقبال الضيوف ، التجول بين المقاعد والترحيب بالجميع ، وكانت تُرافق خُطاها " هدير" كي تصنع أكبر عدد من العلاقات والمصالح الشخصية ، باتت تتعرف على بنات وأبناء الضيوف وتمازحهم بخفة وتهتم بتقديم المشاريب إليهم وتعمد الكثير الاقتراب منها لما تملكه من عدد المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي الهشة .
أجبرت " عبلة " ابنتها على حضور الحفل ، ارتدت الفستان الذي احضرته إليها ولكنها تعمدت أن تغطي ذراعيها بـ شال حريري وهي تجلس في مكان هادئ تُراقب الأكاذيب المتحركة ، وكل منهما يعرض أثمن ما لديه .
دلفت " جيهان " إلى ساحة القصر وأخذت تبحث عن أولادها إلى أنها تصادمت بـ " كريم " فجذبته بقوة وسألته :
-أنت مختفي من أول الصبح ليه ؟!
هندم كريم سترته وهو يراقب المحيطين حوله ويهمس لامه خلف أسنانه المُنطبقة ويقول :
-مصالح عُليا يا جيهان هانم ! وبعدين المسكة دي هضيع برستيج ابنك !
زفرت جيهان بإمتعاض :
-أنتَ هتجنني ، بقولك شوفت أخوك مراد ؟!
ذهل كريم من سؤالها :
-هو مُراد جاي ؟!
-قال لي إنه جاي ، ومأكد عليا !
تحمس كريم بعفوية :
-دي الليلة هتبقى دمـار ! دا له ١٠ سنين مدخلش القصر دا ؟
جيهان بتخابث
-ماهو لازم يحضر ، مش أنت لوحدك اللي عندك مصالح عُليـا .
ضحك كريم على سخرية والدته منه ، حيث مال على آذانها وقال
-جي جي ، أنا مُشفق على عاصي ، هو المفروض يختار واحدة بس من كل البنات دي ؟! ما اختار معاه أنا كمان !
لكزته أمه بغلٍ :
-انتيل أفلح في دراستك الاول بدل ما أنت عمال تسقط كدا .
-منا مش هتعدل غير لما اتجوز ، جربي كدا مش هتخسري حاجة .
هنا طل " مُراد " بفخامته وفخامة هيئته وبدلته الأنيقة فكان كالبدر في ليلة تمامه يسطع أمام الجميع ، اندفعت جيهان إليه وعانقته بانتصار وشوشت له :
-كنت متأكدة إنك مش هتخيب أملي ، تعالي تعالي سلم على خالتك .
" في الطابق العلوي "
يجلس تميـم على مقعده المتحرك يُراقب الحاضرين من خلف السور ، يراقب تلك الملايين المتحركة أمامه ، الفتيات يعرضن جمالهن بطريقة مقززة ، صخب عارم هنا وهناك ، أحضان وتلامس بين بعضهم لبعض بحجة الصداقة ، سيدات تتباهى بما لديها من مجوهرات ، ورجال يعرفون أين يدسون أعينهم !
اقتربت شمس منه بخطوات هادئه وأخذت تشاهد الصرح الضخم من الحاضرين وقالت بهدوء :
-ليه منزلتش !
أجابها تميم بدون ما ينظر لها :
-دا عالم مزيف ، عالم مش شبهي ، لو فكرت اتكلم مع شاب من الواقفين دول ، مش هلاقي في عقله ذرة نضج ، كلهم عالم الشو والكذب والفلوس !
ثم أخذ نفسًا بارتياح وأكمل :
-محتوى حياتهم هنصيف فين النهاردة ! مين مُعجب بمين ! تؤ جو مغبر بالكذب ، مش لوني !
عقدت شمس ذراعيها وسألته بفضول :
-طيب وليه أنت مش زيهم !
امتنع "تميـم" عن الرد وعاد لمشاهدة المسرحية التي نعلم جميعنا بأكأذيبها ولكنا مازلنا نشاهدها ، أحست شمس بأنها لامست جرح ما بقلبه تعمد السكوت عنه ، وتعمدت هي الأخرى ألا تغوص في الحديث .
ركضت عبلة إلى ابنتها التي تعبث في شاشة هاتفها ونهرتها معاتبة :
-سيبي الزفت دا وقومي رحبي بالناس !
زفرت عالية باعتراض
-مامي أنا قلت لك مش عايزه انزل واجبرتيني ، متجبرنيش كمان اسلم على ناس غريبة !
بدا التوتر على ملامح عبلة ، فلحظتها عاليـه ، فوقفت وسألتها
-مامي حضرتك تعبانة ؟!
أجابت " عبلة " باختناق :
-الساعة داخلة على ١٢ والبيه أخوكي مجاش ! وبكلمه مش بيرد .
ربتت على كتفها وقالت :
-طيب اهدي ، هروح اشحن موبايلي واكلمه .
ترجتها عبلة بأمل
-حاولي يمكن يرد عليكِ يا عالية ، انا حاسة هتجرالي حاجة لو أخوكي نشف دماغه ومجاش .
رفعت " عالية " ذيل فستانها الطويل وانصرف جهة المنزل وهي تعاود الاتصال بأخيها مرارًا وتكرارًا ، ولكن بدون فائدة ، قفزت في رأسها فكرة كتابة رسالة نصية له ، ظلت تخطو بعبث وهي تجمع تركيزها كله في ترتيب الكلمات ، فاللحظة التي انشغلت فيها " عالية " بهاتفها كان مُراد يتحدث هو الأخر بهاتفه باحثًا عن مكانٍ هادئ وفي تلك اللحظة تصادم الثنائي ببعضهم فـ سُكب كأس العصير الذي بيد "مراد" على فستان " عالية " ، التي فزعت صارخة بوجهه
-مش تفتح ؟!
-ومش مفتحة أنتِ ليه ؟!
أخذت عالية تثرثر بكلمات غير مُبهمة حتى قالت معترضة :
-وقليل ذوق كمان !
ثم انشغلت في تنظيف فستانها وهي تدفعه بقوة من أمامها مما أثار إعجاب مُراد بها الذي لم يتعرف على هويتها بعد ، ابتسم ابتسامة خفيفة ثم قال لنفسه :
-غزالة ، بس بتعض !
في تلك اللحظة التي ينتظرها جميع الفتيات لتوقيع عاصي دويدار في حبهم ، دخل بفخامته وخلفه عدد كبير من الحرس أشبه بموكب ملكي ، صُوبت نحوه جميع الأعين ، من يطالعه بإعجاب ، ومن يحدجه بنظرات التمنى ، ومن يطلق صفير انبهاره علنًا ، رجل تجمعت به وسامة وفخامة رجال الأرض ، ولكن كل هذا انطفىء بمجرد وقوفه جمب فتاة أشبه بحوريات البحر ، ترتدي فستانًا فخمًا باللون الازرق استمد لونه من عيونها ، مرتديه حذاء بكعب مرتفع مما جعلتها تُنافس قامته في الطول ، شعرها المموج الذي ينسدل بطوله ليُغطي أسفل ظهرها ، مُلفتة لانتباه الجميع كالعطر من غير صخب .
تحاشي الجميع موكب" عاصي "الفخم وصُوبت أسهم نظراتهم الثاقبة نحو " رسيل " الواقفه على يساره ، اقبلت عبلة إلى ابنها كإقبال العطشان على بُحيرة ماء وعانقته هامسة بعتب :
-كل دا تأخير ؟!
ربت عاصي على ظهرها وقال :
-كان عندي شغل !
ابتعدت عبلة عنه وهي تراقب " رسيل " بنظرات حارقة وسألته بهمس :
-مين دي ؟!
اتسعت ابتسامة " عاصي " وهو يطوق خصر الفتاة ويجذبها إليه أكثر ويجهر بصوته معلنًا :
-حياة ، حياة مراتي !
يتبع