رواية رحلة الآثام الفصل الثالث 3 بقلم منال سالم
الفصل الثالث
(موعدٌ، فلقاء، فـ ...)
رغم تفاوت أعمارهم إلا أن القاعة الدراسية امتلأت بعشرات منهم، فجميعهم قد جاءوا وافدين من مختلف الدول لتلقي محاضراتهم بنهمٍ واهتمام، كما راحوا يعملون كالنحل في خليته لتدوين كل ما يُملى عليهم من معلومات قيمة ومفيدة لئلا يفوتهم أي مستجد طرأ على الساحة العلمية. بعد ساعات متصلة من التركيز والمتابعة، حصل الجميع على وقت للاستراحة، وإعادة شحن طاقاتهم المستهلكة. تجولت "ابتهال" بصحبة "تهاني" في أروقة المكان لتفقده، لاحظت كلتاهما كيف امتاز الحرم الجامعي بالعراقة والفخامة، فغمرهما شعوري الانبهار والفخر، فقد كان من النادر الظفر بفرصة كتلك.
تناثر الطلبة بين الأروقة، وعند القاعات المخصصة للدراسة، غالبيتهم كانوا من الشباب الذكور، قلما رأوا شابات يافعات بينهم، اِربد وجه "ابتهال" بنضارة متحمسة، ومالت على رفيقتها تهمس لها بعينين لامعتين تحويان لهفة طامعة وهي تتأمل حلقة الشباب القريبة منهما:
-شايفة الدكاترة اللي هناك دول؟
رمت "تهاني" نظرة عابرة على هذه المجموعة التي مرت من جوارها، ولم تعقب بشيء، بينما بقيت أنظار رفيقتها معلقة بمن في هذه المجموعة من شباب منهمك في النقاش. أطلقت ضحكة خافتة، وأضافت مازحة:
-المفروض الواحد يطلع من البعثة دي بعريس محترم من دول.
توقفت "تهاني" عن المشي وهذا التعبير المتجهم مرسوم على وجهها، رمقتها بنظرة حادة قبل أن تسألها بلومٍ:
-هو إنتي جاية تدرسي ولا تنقي عريس؟
أخفت شفتيها المبتسمتين خلف ظهر كفها، وصرحت لها بخفوتٍ:
-بيني وبينك، أنا عاوزة أشوف عريس لقطة هنا، ما هو التعليم موجود هيروح مننا فين.
غمغمت في تأفف:
-فعلًا، كل واحد ودماغه.
تساءلت "ابتهال" وهي تضبط ياقتي بلوزتها الوردية:
-هو إنتي معايا المحاضرة الجاية؟
زفرت الأولى الهواء بصوتٍ مسموع، وكأنها تزيح حملًا ثقيلًا عنها، قبل أن تجيبها بهذه الابتسامة العريضة:
-الحمدلله لأ.
عبست الأخيرة قائلة بضيقٍ:
-يا خسارة، أه لو كنا نفس التخصص، مكوناش فرقنا بعض للحظة.
برقت عينا "تهاني" لحظيًا، ورددت بين جنبات نفسها وهي تسرع في خطاها لتبتعد عنها:
-دي كانت تبقى مصيبة تانية.
لم تنكر أن شعور النفور نشأ بداخلها تجاهها منذ اللحظة الأولى، لم تستسغ صداقتها، ولم تحبذ توددها اللزج إليها، بالكاد حاولت التأقلم مع وجودها المفروض عليها، إلى أن يحين الوقت وتنفصل كليًا عنها.
..................................................
بتوقيرٍ واضح في تصرفه معه، انحنى ناحيته ليسحب برويةٍ الملف من أسفل يده بعد الانتهاء من توقيعه، ثم وضع آخر ليقوم بمراجعته بتدقيقٍ قبل أن يذيله في النهاية بتوقيعه. استقام "سامي" واقفًا، وتأكد من إعطاء والده كل الملفات المطلوبة قبل أن يدير في رأسه عندما سأله:
-أخوك سافر خلاص؟
أجابه بحذرٍ وهو يستدير حول المكتب ليجلس في المقعد المقابل له:
-أيوه، أنا وصلته بنفسي للمطار.
لم يكن "سامي" قد استراح بعد في جلسته على المقعد حين مد والده يده برزمة من الأوراق ناحيته وصوته الآمر يردد:
-عايز الملفات دي تتراجع، وتجيلي تاني النهاردة.
سأله مستغربًا وهو يأخذها منه:
-ليه؟ فيها حاجة مش مظبوطة؟
بدا وجهه جليديًا، ونبرته خشنة وهو يخاطبه بحزمٍ:
-نفذ اللي قولتلك عليه من غير نقاش.
كان يعلم أنه يهدد علنًا لمرة واحدة، وفي الأخرى تجده قد نفذ ما هدد به، بجهدٍ جهيد أخفى ضيقه من تسلطه، ليقول بخنوعٍ:
-حاضر.
نهض بعدئذ من موضعه استعدادًا لمغادرة غرفته؛ لكن صوته الأجش استوقفه قبيل الباب متسائلًا:
-عملت إيه في الأرض اللي طلبت منك تخلص ورقها؟
تجمدت أصابعه على المقبض للحظة جعلت الارتباك القلق يتناوب عليه، ازدرد ريقه، وجاوبه وهو يدير رأسه ببطءٍ لينظر إليه:
-معدتش فاضل غير التراخيص.
أخبره في صوتٍ جاف صارم:
-عاوز أسمع إنك بدأت بُنى فيها...
أومأ برأسه مبديًا طاعته له؛ لكن ما لبث أن ارتسم الخوف على تقاسيمه وهو يتم جمله بتهديدٍ آخر صريح:
-أي تقصير هحاسبك إنت!!!
مرة ثانية بلع ريقًا غير موجود في جوفه، وقال بتلبكٍ:
-على طول يا بابا.
طرقة حانقة على السطح الزجاجي جعلته يتصلب في مكانه توجسًا، أتبعها صياح والده المحتج:
-طالما احنا في الشغل تقولي "فؤاد" باشا، كام مرة هنبه عليك بده؟
اهتزت شفتاه وهو يقول:
-حاضر يا "فؤاد" باشا.
في التو خرج من الغرفة وهو يتمنى ألا يكون والده قد لاحظ ارتباكه، فالأخير من النوع المرتاب المشكك الذي لا يترك شيئًا دون التدقيق فيه أو مراجعته، فماذا ستكون عاقبته إن علم بما حاز عليه من ربح خفي جراء قطعة الأرض التي ابتاعها وأوهمه بغلاء سعرها؟!!
..................................................
اعتصرت الخرقة بعدما انتشلتها من الدلو تمهيدًا لمسح أرضية المطبخ، ليصبح المكان نظيفًا، لا تتراكم به البقايا أو المخلفات عند الأركان وأسفل الموقد العتيق. حملت بعدئذ الدلو، واتجهت به إلى الحمام لتفرغ ما فيه من ماءٍ متسخ في البالوعة، ثم أعادته إلى موضع تخزينه، وسارت ناحية المطبخ لتعطي نظرة أخيرة على وعاء الطهي، استنشقت بعمقٍ الرائحة الطيبة للملفوف الشهي، وأغلقت النار تاركة الغطاء غير محكمٍ عليه. انتبهت إلى صوت أمها المنادي من الخارج:
-يا "فردوس"!
تحركت بتؤدة نحو عتبة المطبخ، وهتفت ترد:
-أيوه يامه.
سألتها من بعيد بنفس النبرة العالية:
-المحشي خلص؟
أجابتها من موضع وقوفها:
-أنا طفيت النار عليه، وسيباه يتهوى.
أمرتها بما أصابها بقليلٍ من الحيرة الممزوجة بالدهشة:
-جهزي طبق كده وصاية لخالتك "أفكار".
لم ترهق عقلها بالتفكير، اكتفت بحك جانب عنقها قائلة بلا نقاش:
-من عينيا، دقيقتين ويكون جاهز.
انشغلت في ملء الصحن وإعداده بقطع الملفوف اللذيذة، لكنها تخشبت في مكانها للحظة عندما تابعت والدتها تعليماتها إليها:
-عاوزاكي تلبسي حاجة كويسة كده من دولاب أختك.
استدارت نصف التفاتة برأسها تجاهها، وسألتها بملامح حائرة، ونظرة مستفهمة:
-ليه؟
أجابت بغموضٍ زاد من حيرتها:
-هتعرفي بعدين.
كعادتها لم تتجادل معها أو حتى تسعى لتقصي حقائق الأمور، قالت في انصياعٍ معتادٍ منها:
-ماشي يامه.
.......................................
ملَّت من كثرة ساعات الدراسة، وقلة أوقات الراحة، فأصابها الصداع، وجعل رأسها يطن كما لو كانت هناك نحلة نشيطة تسكنه، لا تكل من العمل المتواصل. بغير استئذانٍ تأبطت ذراع "تهاني"، وسارت متثاقلة الخطى في الرواق، تستند عليها بأريحية تامة، وكأن بينهما صداقة ممتدة لسنوات، بدت غير منتبهة للضجر الظاهر على وجه رفيقتها، وراحت تشكو إليها بإرهاقٍ واضح:
-ياني على وجع الدماغ، ده كله لوك لوك كده من صباحية ربنا، إيه مابيفصلوش.
انزعجت الأخيرة مما اعتبرته لزاجتها المنفرة، وانتشلت مرفقها من تحت يدها بصعوبة، لتسرع في خطواتها، وكأنها تفر منها، فحاولت الأولى اللحاق بها وهي تسألها:
-إنتي رايحة فين كده؟
أجابت مندفعة نحو الأمام، ودون أن تلتفت إليها:
-هشوف مكان التدريب.
انقلبت سحنتها هاتفة في تأفف وقد تمكنت من بلوغها:
-يا خسارة، كان نفسي نكون سوا.
حانت من "تهاني" نظرة جانبية من طرف عينها قبل أن تُسمعها:
-الحمدلله.
استغربت من كلامها، وسألتها بحاجبين معقودين:
-الحمدلله على إيه؟
المماطلة أو المراوغة معها لن يأتي بجدواه أبدًا، عليها أن تكون مباشرة وواضحة، إذ ربما تعي في نهاية الأمر أن صداقتهما ليست كما تظن دائمة مستديمة، وإنما فرضت عليها بحكم الواقع، ولهذا عليها أن تضع الحدود في علاقتهما معًا. توقفت "تهاني" عن السير لتستدير ناحيتها، وبدأت تكلمها بتعابيرٍ جادة:
-"ابتهال" يا حبيبتي، أنا عاوزاكي تعتمدي على نفسك، ماتفضليش لازقة كده في الناس عشان ما يزهقوش منك.
علقت مستنكرة حديثها:
-وهو في حد يقدر يستغنى عن هزاري وفرفشتي؟
-إنتي واحدة ناضجة، والمفروض تكوني مستقلة.
-احنا في غربة، ولازم نكون إيد واحدة.
هناك فرق بين التعاون مع الآخرين، وبين ملازمتهم كظلهم ليل نهار، غير تاركين أي متنفس لهم، أدركت "تهاني" أن محاولة إفهامها طبيعة مشكلتها لن يكون بالأمر اليسير، فأثرت الذهاب، وهتفت مشيرة بيدها نحو الفراغ:
-الظاهر العربية اللي مستنياني جت، سلام.
سألتها من خلفها بشكلٍ آلي، غير مانحة نفسها الفرصة لسماع أي جوابٍ:
-طب هترجعي إمتى؟ وهناكل سوا ولا هتتأخري؟ والغسيل هنعمل في إيه؟ ده احنا المفروض نشوف نقصدنا إيه من الطلبات ونجيبه؟
تجاهلتها كليًا، وزادت من سرعة خطواتها، فنادتها عاليًا:
-يا "تهاني"! ردي عليا! طب المحاضرات الـ ....
سدت أذنيها عنها، رافضة الإنصات لما تردده من بعيد، إلى أن خرجت من البوابة الرئيسية، حينئذ تنفست الصعداء، وهتفت مبرطمة بصوتٍ خفيض، كأنما تخاطب نفسها:
-يا ساتر يا رب، بجد إنسانة تخنق، وتخليك تخرج عن شعورك.
................................................
إدراكها بأن قطار العنوسة يهدد فرص زواجها جعلت همومها تزداد يومًا بعد يوم، خاصة أن ابنتها افتقرت لمسحة من الجمال الجذاب الذي يسلب عقول الرجال، ويجعلهم يتلهفون شوقًا على الارتباط بها، ومع ذلك امتلكت سماتٍ أخرى محمودة في الزوجة، من كونها مدبرة جيدة، تجيد الطهي والتنظيف، ولينة سهلة التشكيل طوع بنان من يملك زمام أمرها؛ لهذا لجأت للمتعارف عليه من الطرق التقليدية، لعل وعسى تجد الزوج المناسب لها في الأخير، وإن كان فقيرًا معدمًا، لن تمانع مطلقًا، أو تضع العقبات لتزويجها، ستفعل المستحيل لتراها مستقرة مع أحدهم.
اصطحبت "عقيلة" ابنتها معها لزيارة شقيقتها القاطنة على مسافة قريبة من مسكنها، فاستقبلتهما الأخيرة بترحاب حار وودود جعل اللقاء بها ممتعًا. جلست الشقيقتان متجاورتان على مصطبة قديمة مجاورة للشرفة، تضحكان في ألفة ومحبة، عاتبت "أفكار" شقيقتها الصغرى بنظرة حانية وهي تشير إلى ما أحضرته معها مما لذ وطاب:
-مكانش ليه لازمة التعب ده، هو أنا غريبة.
أبدت اعتذارها منها بلطافةٍ وهي تربت على فخذها برفقٍ:
-ده أنا مقصرة معاكي ياختي، أديلي زمن ما شوفتكيش.
ثم أعطت ابنتها أمرًا واضحًا:
-قومي علقي على الشاي يا "دوسة".
مسحت الأخيرة على جانبي الثوب الذي ترتديه لتفرده وهي تنهض، وقالت مبتسمة:
-حاضر يامه.
استطاعت الانفراد بشقيقتها بعد أن صرفتها، لئلا تساورها الشكوك وهي تستفيض في الحديث معها. استهلت "عقيلة" كلامها متسائلة بشكل روتيني:
-وإنتي إزاي صحتك دلوقتي؟
أجابت باسمة في رضا:
-في نعمة والحمدلله.
كان التعليق التالي منها مصحوبًا ببسمة مماثلة:
-يستاهل الحمد.
تولت "أفكار" دفة الحديث مجددًا، فمال ناحية شقيقتها تسألها باهتمامٍ:
-مافيش جديد عن بنتك "تهاني"؟
هزت رأسها نافية وهي تجيبها:
-لا لسه، أدينا مستنين منها مكالمة ولا جواب تطمنا بيه على أحوالها.
عاتبتها وهي مقطبة الجبين:
-مكانش لازم تسبيها يا "أم تهاني"، السفر للبنات مش حلو...
ثم خفضت من نبرتها خاتمة جملها بتحذيرٍ أصاب قلبها بارتجافة متوجسة:
-وإنتي أدرى الناس باللي بيحصل ولو غاب الرقيب.
ردت برجاءٍ:
-إن شاءالله ما يحصلش حاجة، أنا اللي مطمني إن العِلم واكل دماغها.
أخفت "عقيلة" قلقها الذي انبثق بداخلها لتنظر إلى ابنتها عندما عادت وهي تحمل صينية بها أكواب الشاي، تكملت الأخيرة باسمة وهي تناول الكوب الزجاجي لخالتها:
-الشاي أهوو يا خالتي...
ثم أعطت والدتها خاصتها، وتابعت مشيرة بيدها الأخرى الطليقة كأنما تشرح لها:
-وابور الجاز عاوز يتصلح، مرضاش يولع خالص.
ارتسم العبوس على وجه "أفكار" وهي تفسر لها سبب عطله:
-ده بقاله يومين على الحال ده، عاوزة أشوف حد يبص عليه، ده إيدي ورجلي هنا، لأحسن مبقدرش أقف على البوتجاز كتير.
من تلقاء نفسها اقترحت "عقيلة":
-نوديه عند "أبو منسي"، هو أجدع واحد يسلك بوابير الجاز.
استحسنت شقيقتها الفكرة، وعاودت النظر إلى "فردوس" عندما وجهت أمها إليها الحديث بصيغة شبه آمرة:
-ابقي جهزيه يا "دوسة" ناخده معانا واحنا نازلين.
أبدت طاعتها المعتادة عندما ردت:
-حاضر يامه.
دعت لها خالتها وهي تبتسم لها:
-نتعبلك كده نهار فرحتنا بيكي يا غالية.
تورد وجهها من الخجل، وقالت وهي تجلس في الخلف على الكرسي الخشبي:
-تسلميلي يا خالتي.
تسامر بعد ذلك ثلاثتهن في مواضيع شتى، دارت غالبيتها حول مشاكل الجيران وأهالي المنطقة، أخرجهن من التفاصيل المتشعبة صوت قرع الجرس، وقتئذ انتصبت "أفكار" في جلستها، فقد سعت بجهدٍ جهيد للتحايل على الظروف المعاندة من أجل خلق فرصة مناسبة لابنة شقيقتها، فإذ ربما يحدث المراد، وتلقى القبول من أحد الأغراب. في التو فردت كتفيها قائلة بلهجة ودية لكنها آمرة:
-قومي شوفي مين على الباب يا "دوسة".
امتثلت لطلبها قائلة وهي تنهض من موضعها:
-حاضر يا خالتي.
استدارت ولم تلحظ النظرات المعقودة على آمال كبيرة تجاهها وهي تتعلق بظهرها أثناء ذهابها بعيدًا عنهما، سارت "فردوس" بتعجلٍ نحو الباب لتفتحه، فتفاجأت بوجود أحدهم يسد عليها الفراغ، له طول فاره، وبشرة وجه سمراء، وشعر قصير فاحم مموج، يرتدي قميصًا مخططًا يجمع بين درجات اللون الأزرق، على بنطالٍ من الجينز. انفرجت شفتاها عن دهشة متعجبة، سرعان ما تنبهت لكونها قد أطالت التحديق فيه عندما بادر مُلقيًا التحية:
-سلام عليكم.
أطرقت رأسها حرجًا وهي ترد:
-وعليكم السلام.
سألها متحاشيًا النظر تجاهها:
-الحاجة "أفكار" موجودة؟
لم تتمكن من الإجابة عليه، حيث أسمعته خالتها صوتها وهي تخبره من الداخل:
-تعالى يا "بدري" أنا هنا.
عندئذ تنحت للجانب لتسمح له بالمرور، فرأته ممسكًا بحقيبة معدنية في يده. خفض "بدري" من صوته مرددًا:
-يا رب يا ساتر.
تقدم ناحية صاحبة البيت التي أتت إليه هاتفًا بنوعٍ من الاحترام:
-إزيك يا حاجة؟
قالت وهي تقترب منه بتعابيرٍ بشوشة:
-في نعمة والحمدلله، مواعيدك مظبوطة يا "بدري".
ضحك معلقًا بعدها في مرحٍ:
-إنتي عارفاني مقدرش أتأخر عليكي.
ربتت على جانب ذراعه تشكره:
-تعيش يا ابني.
سأله مستفسرًا وهو يرفع يده الحرة ليضعها على مؤخرة عنقه كلزمةٍ تلقائية:
-إيه المشكلة؟
أخبرته بقليلٍ من التجهم:
-الحنفية عمالة تنقط، ومش عارفة إن كانت عاوزة جلدة جديدة ولا آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها بعد أن استنبط طبيعة مشكلتها:
-أنا هشوفهالك.
تهللت أساريرها للأمر، وقالت بنظرة غامضة مخاطبة ابنة شقيقتها:
-روحي معاه يا "فردوس"...
قفزت الأخيرة في مكانها مشدوهة للطلب غير المتوقع منها، فبرقت عيناها تجاهها، وظلت على حالتها المصدومة وهي تتابع أوامرها لها:
-وخليكي على إيده لحد ما يخلص، ماتسبيهوش، وشوفي طلباته، لأحسن ركبي شادة عليا، ومش قادرة أقف على حيلي.
لعقت شفتيها الجافتين، ورددت في صوتٍ مهتز:
-حاضر يا خالتي.
سارت في إثره بخطواتٍ متعثرة، تدل على ارتباكها، فلم تختلِ مطلقًا بأحد الغرباء عنها دون وجود أمها إلى جوارها؛ لكن بداخلها استشعرت ترتيبًا خفيًا يتم من أجلها، ويا ليته يأتي بنتيجة مرجوة!
غابت "عقيلة" عن المشهد متعمدة لئلا تسبب الحرج لابنتها، لكنها استرقت السمع من موضعها، رفعت كفيها للسماء، وراح لسانها يدعو في رجاءٍ شديد:
-ربنا يجعل في وشك القبول المرادي.
انضمت إليها شقيقتها وهي تختم دعائها، فقالت هي الأخرى:
-يا رب ياختي.
عمَّ الوجوم على ملامح "عقيلة" فاستطردت في نبرة مهمومة:
-البت دي بختها قليل أوي، وخايفة أموت وأفوتها كده لوحدها، لا سند ولا ضهر.
من فورها ردت "أفكار" بنظرة معاتبة:
-بعد الشر عليكي، متقوليش كده، حسك بالدنيا يا حبيبتي، وبعدين كل شيء قسمة ونصيب، ووقت ما يجي نصيبها محدش هيحوشه.
تنهدت مليًا وببطءٍ قبل أن تضيف، والأمل يبزغ في أعماقها:
-يسمع منك ربنا.
................................................
لم يحدث جلبةً وهو يعمل في صمتٍ لتبديل قلب الصنبور غير الصالح بآخر جديد، انهمك في أداء ما جاء لأجله بتركيزٍ شديد، كأنه جراح يجري عملية جراحية دقيقة، تتطلب كافة طاقته وقدراته، ومع ذلك انتهزت الفرصة لتراقبه بغير حرجٍ، وتتأمله عن قربٍ، الآن تفقه ذهنها لسبب إصرار والدتها على ارتداء أحد أثواب شقيقتها، وكانت ممتنة لذلك، وإلا لبدا مظهرها أقرب للخادمات عن الشابات اليافعات. مسدت "فردوس" على جانبيها بخفةٍ لتفرد ما تجعد من القماش، ثم رفعت يدها للأعلى لتمسح سريعًا على مقدمة رأسها لتتأكد من تسوية شعرها. فتشت بنظراتها سريعًا عن شيء لامع يشبه المرآة، لتلقي نظرة خاطفة على وجهها. انتفضت مرة واحدة عندما تكلم فجأة دون استهلالٍ:
-أنا كده ظبطت الحنفية، وكله بقى تمام.
وكأن لسانها قد علق بداخل جوفها، فاستغرقها الأمر لحظات حتى ترد عليه بابتسامة مشوبة بالخجل:
-تسلم .. تعبناك معانا.
جمع عدته المتناثرة هنا وهناك في صندوقه المعدني، فسألته، وقد تسرب الخجل إلى دمائها، فاندفع مسببًا توردًا خفيفًا في وجنتيها:
-تحب أعملك شاي؟
أجاب بلا تردد وفي التو:
-يا ريت.
سألته مبتسمة وهي ترمش بعينيها:
-كام معلقة سكر؟
قال وهو يستقيم واقفًا:
-تلاتة.
لوهلةٍ شعرت بنظراته تطوف عليها، كأنما تفحصها، وتتفرس فيها، فزاد خجلها وشعورها بالارتباك، إنها مرتها الأولى التي تتعرض فيها لمثل هذه النوعية من النظرات القريبة المهتمة، إحساسها كأنثى مرغوبة جعلها تشعر بالنشوة والسرور، فقلما وجدت من أحدهم ذاك الاهتمام، بسبب استحواذ شقيقتها على كل الانتباه والإعجاب. تضاعفت ربكتها مع قدوم خالتها لتتساءل في مكرٍ:
-إيه الأخبار يا ولاد؟
بلهفةٍ عجيبة أجابت "فردوس"، وقد ملأ الإشراق قسماتها:
-الأسطى "بدري" صلح الحنفية خلاص.
أطلقت "أفكار" ضحكة مرحة قبل أن تمتدحه:
-طول عمره أسطى أد الدنيا.
هتف مجاملًا وهو يسير تجاهها:
-كتر خيرك يا حاجة.
أشارت له بالتحرك وهي تخاطبه:
-تعالى اقعد معانا حلة، أهوو تستريح شوية وتاخد نفسك.
حمحم معترضًا في تهذيبٍ:
-أنا معملتش حاجة تستاهل.
أصرت عليه بتصميمٍ أكبر:
-ودي تيجي، ده إنت في بيتي.
علق باسمًا وهو يسير معها:
-مش هكسرلك كلمة يا حاجة.
توقفت "أفكار" عن المسير لتستدير من جديد نحو ابنة شقيقتها تأمرها:
-وإنتي يا "دوسة" صُبي الشاي وحصلينا.
قالت بوجه متورد بشدة وهي ترمش بعينيها في استحياءٍ:
-حاضر يا خالتي.
أحست "فردوس" بدبيب قلبها المتحمس يتسارع، لم تتخيل أن تنتابها مثل هذه الأحاسيس المتعاظمة لمجرد رؤية أحدهم يُظهر اهتمامًا زائدًا بها، ربما بدا عاديًا للآخرين؛ لكنه معها كان مختلفًا! وضعت كلتا يديها على وجنتيها تتحسس السخونة المنبعثة فيهما، دارت حول نفسها كأنما ترقص فرحًا، ورفعت بصرها للسماء مرددة:
-اجعله بالخير يا رب.
تنهدت مليًا، وأغمضت عينيها محاولة إعادة هذه اللحظات القليلة في ذاكرتها لتنتشي مجددًا، ويا ليت حلمها الوردي يكتمل!
..................................................
ما إن انتهت من إعداد الشاي الساخن وتقديمه للضيف مع بعض الحلوى الشهية، حتى لحقت "فردوس" بوالدتها التي انتظرتها بجوار باب البيت تمهيدًا لذهابهما، فلا داعي لبقائهما بعد انقضاء الموعد المدبر، وكذلك تجنبًا للمزيد من الحرج والتوتر الخجل، ومع ذلك لم تغفل عن اختطاف نظرة أخيرة قبل انصرافها، لتجعل ذكراها ملازمة لها لبعض الوقت. تركت "عقيلة" الساحة لشقيقتها لتكمل ما بقي عالقًا، فاستطردت تتساءل مباشرة بعدما اقتصرت الجلسة عليهما فقط:
-ها عجبتك؟ قول ما تتكسفش، رأيك إيه فيها؟
بترددٍ محسوس في صوته، ومعكوس على ملامحه ونظراته حاول "بدري" المناص من هذا الموقف المراوغ قائلًا:
-أصلي مابفكرش في الجواز دلوقتي.
من فورها سألته وقد قاربت ما بين حاجبيها:
-وحد قالك قوم اتجوز بكرة؟!
همَّ بالاعتراض، لكنها بادرت بإيقافه بإشارة من كف يدها، فالتزم الصمت، حينئذ استرسلت بمكرٍ ناعم لإقناعه:
-بس مافيش مانع تخطب واحدة بنت حلال من أصل طيب، مش طمعانة في حاجة غير حيطة تداريها، وراجل ياخد باله منها.
رفع يده على جانب رأسه ليَهرشه معقبًا:
-مش عارف والله يا حاجة!
استخدمت نفس الأسلوب المحنك في التأثير عليه بترديدها:
-مش عشانها بنت أختي بكلمك عليها، مع إن المثل بيقول أخطب لبنتك وماتخطبش لابنك، بس البت زي العجينة الطرية، تشكلها زي ما إنت عاوز، مش بتاعة مشاكل.
فرقع أنامله مبديًا ردًا محايدًا:
-اللي فيه الخير يعمله ربنا.
أمعنت النظر في وجهه مُضيفة في لطافة وأُلفة وهي تقرب طبق الحلوى منه:
-فكر كده، ورد عليا، وصدقني مش هتندم.
ثم ابتسمت بمحبةٍ، ولم تزد حرفًا، تاركة الفرصة له للتفكير بجدية أكبر في شأن الارتباط بها، مع وعدٍ بردٍ قريب على عرضها، إما بالقبول أو الرفض!
..........................................
لم تعتد بعد على هذا القدر من الإجهاد المتواصل لفترات طويلة، بالإضافة لمحاولتها المضنية للتأقلم مع اختلاف المناخ، وتغيير نمط تناولها للطعام الجيد الذي يعود عليها بفائدة، سرعان ما أحست "تهاني" بالإعياء يجتاحها، ورغم هذا قاومت الاستسلام له، وتابعت انتظام جدول دراستها الذي يلحق به ساعات تدريبها، إلا أن التعب تمكن منها في الأخير. بالكاد كانت تمشي باعتدالٍ وهي تهبط الدرجات لتتجه نحو موقف السيارات، حيث تتواجد العربة المخصصة لإعادتها إلى مكان سكنها.
توقفت لأكثر من مرة واشتدت قبضتها على الدرابزين المعدني المؤدي في نهايته للباحة الخلفية، أدركت أنها لن تستطيع الصمود ما لم تتوجه إلى عيادة الطوارئ الملحقة بالمشفى للاطمئنان على صحتها، سحبت نفسًا عميقًا، واستدارت لتعاود الصعود للأعلى، لم تنتبه في خطواتها لمن اصطدمت به في كتفه وهو يهبط عكسها. اعتذرت منه في التو دون أن ترفع رأسها وتنظر ناحيته:
-أسفة.
جاءها صوتًا رجوليًا متسائلًا بلهجةٍ مصرية:
-إنتي كويسة؟
أجابت باقتضابٍ:
-يعني.
سألها ليتأكد من هويتها الجنسية:
-هو إنتي مصرية؟
نظرت إلى من بدا وكأنه يحقق معها بنظراتٍ مشوشة، وأجابت بزفيرٍ ثقيل أظهر مدى إعيائها:
-أيوه.
وجدت ابتسامة صغيرة تزحف على ثغره وهو يعقب:
-صدفة عجيبة...
باعدت ناظريها عنه لتتأوه بصوت خفيض، فسألها مهتمًا:
-تحبي أساعدك؟
رفضت بلباقة:
-شكرًا، أنا رايحة ناحية الطوارئ.
أصر على الذهاب معها، فوقف إلى جوارها قائلًا:
-طب اسمحيلي أفرض نفسي عليكي وأوصلك بنفسي.
تمسكت برفضها وهي تدير رأسها ناحيته:
-مافيش داعي.
أكملت صعودها؛ لكن الدوار الذي عصف برأسها جعل توازنها يختل، فبادر بإسنادها من ذراعها وهو يحذرها بخوفٍ غير مصطنع:
-خدي بالك.
بدت متحرجة من تصرفها الأخرق، وقالت بصوتٍ خافت:
-أسفة.
رد بصدر رحبٍ متعمدًا التأثير عليها للاستجابة لمطلبه:
-المرض مافيش فيه اعتذار...
ثم مد ذراعه لتستند عليه خلال مشيها، واستطرد بلطافةٍ:
-اتفضلي يا آ...
سألها بعد صمتٍ لحظي:
-ما اتشرفتش باسمك يا فندم؟
وضعت بسمة ناعمة على محياها حين جاوبته:
-أنا الدكتورة "تهاني".
بادلها الابتسام مُعرفًا بنفسه في نبرة تشع ثقة، تلك التي تجبر مستمعيه على تقدير مكانته في الحال دون التحقق منه:
-وأنا د. "مهاب الجندي"، رئيس قسم الجراحة العامة هنا ........................... !!
(موعدٌ، فلقاء، فـ ...)
رغم تفاوت أعمارهم إلا أن القاعة الدراسية امتلأت بعشرات منهم، فجميعهم قد جاءوا وافدين من مختلف الدول لتلقي محاضراتهم بنهمٍ واهتمام، كما راحوا يعملون كالنحل في خليته لتدوين كل ما يُملى عليهم من معلومات قيمة ومفيدة لئلا يفوتهم أي مستجد طرأ على الساحة العلمية. بعد ساعات متصلة من التركيز والمتابعة، حصل الجميع على وقت للاستراحة، وإعادة شحن طاقاتهم المستهلكة. تجولت "ابتهال" بصحبة "تهاني" في أروقة المكان لتفقده، لاحظت كلتاهما كيف امتاز الحرم الجامعي بالعراقة والفخامة، فغمرهما شعوري الانبهار والفخر، فقد كان من النادر الظفر بفرصة كتلك.
تناثر الطلبة بين الأروقة، وعند القاعات المخصصة للدراسة، غالبيتهم كانوا من الشباب الذكور، قلما رأوا شابات يافعات بينهم، اِربد وجه "ابتهال" بنضارة متحمسة، ومالت على رفيقتها تهمس لها بعينين لامعتين تحويان لهفة طامعة وهي تتأمل حلقة الشباب القريبة منهما:
-شايفة الدكاترة اللي هناك دول؟
رمت "تهاني" نظرة عابرة على هذه المجموعة التي مرت من جوارها، ولم تعقب بشيء، بينما بقيت أنظار رفيقتها معلقة بمن في هذه المجموعة من شباب منهمك في النقاش. أطلقت ضحكة خافتة، وأضافت مازحة:
-المفروض الواحد يطلع من البعثة دي بعريس محترم من دول.
توقفت "تهاني" عن المشي وهذا التعبير المتجهم مرسوم على وجهها، رمقتها بنظرة حادة قبل أن تسألها بلومٍ:
-هو إنتي جاية تدرسي ولا تنقي عريس؟
أخفت شفتيها المبتسمتين خلف ظهر كفها، وصرحت لها بخفوتٍ:
-بيني وبينك، أنا عاوزة أشوف عريس لقطة هنا، ما هو التعليم موجود هيروح مننا فين.
غمغمت في تأفف:
-فعلًا، كل واحد ودماغه.
تساءلت "ابتهال" وهي تضبط ياقتي بلوزتها الوردية:
-هو إنتي معايا المحاضرة الجاية؟
زفرت الأولى الهواء بصوتٍ مسموع، وكأنها تزيح حملًا ثقيلًا عنها، قبل أن تجيبها بهذه الابتسامة العريضة:
-الحمدلله لأ.
عبست الأخيرة قائلة بضيقٍ:
-يا خسارة، أه لو كنا نفس التخصص، مكوناش فرقنا بعض للحظة.
برقت عينا "تهاني" لحظيًا، ورددت بين جنبات نفسها وهي تسرع في خطاها لتبتعد عنها:
-دي كانت تبقى مصيبة تانية.
لم تنكر أن شعور النفور نشأ بداخلها تجاهها منذ اللحظة الأولى، لم تستسغ صداقتها، ولم تحبذ توددها اللزج إليها، بالكاد حاولت التأقلم مع وجودها المفروض عليها، إلى أن يحين الوقت وتنفصل كليًا عنها.
..................................................
بتوقيرٍ واضح في تصرفه معه، انحنى ناحيته ليسحب برويةٍ الملف من أسفل يده بعد الانتهاء من توقيعه، ثم وضع آخر ليقوم بمراجعته بتدقيقٍ قبل أن يذيله في النهاية بتوقيعه. استقام "سامي" واقفًا، وتأكد من إعطاء والده كل الملفات المطلوبة قبل أن يدير في رأسه عندما سأله:
-أخوك سافر خلاص؟
أجابه بحذرٍ وهو يستدير حول المكتب ليجلس في المقعد المقابل له:
-أيوه، أنا وصلته بنفسي للمطار.
لم يكن "سامي" قد استراح بعد في جلسته على المقعد حين مد والده يده برزمة من الأوراق ناحيته وصوته الآمر يردد:
-عايز الملفات دي تتراجع، وتجيلي تاني النهاردة.
سأله مستغربًا وهو يأخذها منه:
-ليه؟ فيها حاجة مش مظبوطة؟
بدا وجهه جليديًا، ونبرته خشنة وهو يخاطبه بحزمٍ:
-نفذ اللي قولتلك عليه من غير نقاش.
كان يعلم أنه يهدد علنًا لمرة واحدة، وفي الأخرى تجده قد نفذ ما هدد به، بجهدٍ جهيد أخفى ضيقه من تسلطه، ليقول بخنوعٍ:
-حاضر.
نهض بعدئذ من موضعه استعدادًا لمغادرة غرفته؛ لكن صوته الأجش استوقفه قبيل الباب متسائلًا:
-عملت إيه في الأرض اللي طلبت منك تخلص ورقها؟
تجمدت أصابعه على المقبض للحظة جعلت الارتباك القلق يتناوب عليه، ازدرد ريقه، وجاوبه وهو يدير رأسه ببطءٍ لينظر إليه:
-معدتش فاضل غير التراخيص.
أخبره في صوتٍ جاف صارم:
-عاوز أسمع إنك بدأت بُنى فيها...
أومأ برأسه مبديًا طاعته له؛ لكن ما لبث أن ارتسم الخوف على تقاسيمه وهو يتم جمله بتهديدٍ آخر صريح:
-أي تقصير هحاسبك إنت!!!
مرة ثانية بلع ريقًا غير موجود في جوفه، وقال بتلبكٍ:
-على طول يا بابا.
طرقة حانقة على السطح الزجاجي جعلته يتصلب في مكانه توجسًا، أتبعها صياح والده المحتج:
-طالما احنا في الشغل تقولي "فؤاد" باشا، كام مرة هنبه عليك بده؟
اهتزت شفتاه وهو يقول:
-حاضر يا "فؤاد" باشا.
في التو خرج من الغرفة وهو يتمنى ألا يكون والده قد لاحظ ارتباكه، فالأخير من النوع المرتاب المشكك الذي لا يترك شيئًا دون التدقيق فيه أو مراجعته، فماذا ستكون عاقبته إن علم بما حاز عليه من ربح خفي جراء قطعة الأرض التي ابتاعها وأوهمه بغلاء سعرها؟!!
..................................................
اعتصرت الخرقة بعدما انتشلتها من الدلو تمهيدًا لمسح أرضية المطبخ، ليصبح المكان نظيفًا، لا تتراكم به البقايا أو المخلفات عند الأركان وأسفل الموقد العتيق. حملت بعدئذ الدلو، واتجهت به إلى الحمام لتفرغ ما فيه من ماءٍ متسخ في البالوعة، ثم أعادته إلى موضع تخزينه، وسارت ناحية المطبخ لتعطي نظرة أخيرة على وعاء الطهي، استنشقت بعمقٍ الرائحة الطيبة للملفوف الشهي، وأغلقت النار تاركة الغطاء غير محكمٍ عليه. انتبهت إلى صوت أمها المنادي من الخارج:
-يا "فردوس"!
تحركت بتؤدة نحو عتبة المطبخ، وهتفت ترد:
-أيوه يامه.
سألتها من بعيد بنفس النبرة العالية:
-المحشي خلص؟
أجابتها من موضع وقوفها:
-أنا طفيت النار عليه، وسيباه يتهوى.
أمرتها بما أصابها بقليلٍ من الحيرة الممزوجة بالدهشة:
-جهزي طبق كده وصاية لخالتك "أفكار".
لم ترهق عقلها بالتفكير، اكتفت بحك جانب عنقها قائلة بلا نقاش:
-من عينيا، دقيقتين ويكون جاهز.
انشغلت في ملء الصحن وإعداده بقطع الملفوف اللذيذة، لكنها تخشبت في مكانها للحظة عندما تابعت والدتها تعليماتها إليها:
-عاوزاكي تلبسي حاجة كويسة كده من دولاب أختك.
استدارت نصف التفاتة برأسها تجاهها، وسألتها بملامح حائرة، ونظرة مستفهمة:
-ليه؟
أجابت بغموضٍ زاد من حيرتها:
-هتعرفي بعدين.
كعادتها لم تتجادل معها أو حتى تسعى لتقصي حقائق الأمور، قالت في انصياعٍ معتادٍ منها:
-ماشي يامه.
.......................................
ملَّت من كثرة ساعات الدراسة، وقلة أوقات الراحة، فأصابها الصداع، وجعل رأسها يطن كما لو كانت هناك نحلة نشيطة تسكنه، لا تكل من العمل المتواصل. بغير استئذانٍ تأبطت ذراع "تهاني"، وسارت متثاقلة الخطى في الرواق، تستند عليها بأريحية تامة، وكأن بينهما صداقة ممتدة لسنوات، بدت غير منتبهة للضجر الظاهر على وجه رفيقتها، وراحت تشكو إليها بإرهاقٍ واضح:
-ياني على وجع الدماغ، ده كله لوك لوك كده من صباحية ربنا، إيه مابيفصلوش.
انزعجت الأخيرة مما اعتبرته لزاجتها المنفرة، وانتشلت مرفقها من تحت يدها بصعوبة، لتسرع في خطواتها، وكأنها تفر منها، فحاولت الأولى اللحاق بها وهي تسألها:
-إنتي رايحة فين كده؟
أجابت مندفعة نحو الأمام، ودون أن تلتفت إليها:
-هشوف مكان التدريب.
انقلبت سحنتها هاتفة في تأفف وقد تمكنت من بلوغها:
-يا خسارة، كان نفسي نكون سوا.
حانت من "تهاني" نظرة جانبية من طرف عينها قبل أن تُسمعها:
-الحمدلله.
استغربت من كلامها، وسألتها بحاجبين معقودين:
-الحمدلله على إيه؟
المماطلة أو المراوغة معها لن يأتي بجدواه أبدًا، عليها أن تكون مباشرة وواضحة، إذ ربما تعي في نهاية الأمر أن صداقتهما ليست كما تظن دائمة مستديمة، وإنما فرضت عليها بحكم الواقع، ولهذا عليها أن تضع الحدود في علاقتهما معًا. توقفت "تهاني" عن السير لتستدير ناحيتها، وبدأت تكلمها بتعابيرٍ جادة:
-"ابتهال" يا حبيبتي، أنا عاوزاكي تعتمدي على نفسك، ماتفضليش لازقة كده في الناس عشان ما يزهقوش منك.
علقت مستنكرة حديثها:
-وهو في حد يقدر يستغنى عن هزاري وفرفشتي؟
-إنتي واحدة ناضجة، والمفروض تكوني مستقلة.
-احنا في غربة، ولازم نكون إيد واحدة.
هناك فرق بين التعاون مع الآخرين، وبين ملازمتهم كظلهم ليل نهار، غير تاركين أي متنفس لهم، أدركت "تهاني" أن محاولة إفهامها طبيعة مشكلتها لن يكون بالأمر اليسير، فأثرت الذهاب، وهتفت مشيرة بيدها نحو الفراغ:
-الظاهر العربية اللي مستنياني جت، سلام.
سألتها من خلفها بشكلٍ آلي، غير مانحة نفسها الفرصة لسماع أي جوابٍ:
-طب هترجعي إمتى؟ وهناكل سوا ولا هتتأخري؟ والغسيل هنعمل في إيه؟ ده احنا المفروض نشوف نقصدنا إيه من الطلبات ونجيبه؟
تجاهلتها كليًا، وزادت من سرعة خطواتها، فنادتها عاليًا:
-يا "تهاني"! ردي عليا! طب المحاضرات الـ ....
سدت أذنيها عنها، رافضة الإنصات لما تردده من بعيد، إلى أن خرجت من البوابة الرئيسية، حينئذ تنفست الصعداء، وهتفت مبرطمة بصوتٍ خفيض، كأنما تخاطب نفسها:
-يا ساتر يا رب، بجد إنسانة تخنق، وتخليك تخرج عن شعورك.
................................................
إدراكها بأن قطار العنوسة يهدد فرص زواجها جعلت همومها تزداد يومًا بعد يوم، خاصة أن ابنتها افتقرت لمسحة من الجمال الجذاب الذي يسلب عقول الرجال، ويجعلهم يتلهفون شوقًا على الارتباط بها، ومع ذلك امتلكت سماتٍ أخرى محمودة في الزوجة، من كونها مدبرة جيدة، تجيد الطهي والتنظيف، ولينة سهلة التشكيل طوع بنان من يملك زمام أمرها؛ لهذا لجأت للمتعارف عليه من الطرق التقليدية، لعل وعسى تجد الزوج المناسب لها في الأخير، وإن كان فقيرًا معدمًا، لن تمانع مطلقًا، أو تضع العقبات لتزويجها، ستفعل المستحيل لتراها مستقرة مع أحدهم.
اصطحبت "عقيلة" ابنتها معها لزيارة شقيقتها القاطنة على مسافة قريبة من مسكنها، فاستقبلتهما الأخيرة بترحاب حار وودود جعل اللقاء بها ممتعًا. جلست الشقيقتان متجاورتان على مصطبة قديمة مجاورة للشرفة، تضحكان في ألفة ومحبة، عاتبت "أفكار" شقيقتها الصغرى بنظرة حانية وهي تشير إلى ما أحضرته معها مما لذ وطاب:
-مكانش ليه لازمة التعب ده، هو أنا غريبة.
أبدت اعتذارها منها بلطافةٍ وهي تربت على فخذها برفقٍ:
-ده أنا مقصرة معاكي ياختي، أديلي زمن ما شوفتكيش.
ثم أعطت ابنتها أمرًا واضحًا:
-قومي علقي على الشاي يا "دوسة".
مسحت الأخيرة على جانبي الثوب الذي ترتديه لتفرده وهي تنهض، وقالت مبتسمة:
-حاضر يامه.
استطاعت الانفراد بشقيقتها بعد أن صرفتها، لئلا تساورها الشكوك وهي تستفيض في الحديث معها. استهلت "عقيلة" كلامها متسائلة بشكل روتيني:
-وإنتي إزاي صحتك دلوقتي؟
أجابت باسمة في رضا:
-في نعمة والحمدلله.
كان التعليق التالي منها مصحوبًا ببسمة مماثلة:
-يستاهل الحمد.
تولت "أفكار" دفة الحديث مجددًا، فمال ناحية شقيقتها تسألها باهتمامٍ:
-مافيش جديد عن بنتك "تهاني"؟
هزت رأسها نافية وهي تجيبها:
-لا لسه، أدينا مستنين منها مكالمة ولا جواب تطمنا بيه على أحوالها.
عاتبتها وهي مقطبة الجبين:
-مكانش لازم تسبيها يا "أم تهاني"، السفر للبنات مش حلو...
ثم خفضت من نبرتها خاتمة جملها بتحذيرٍ أصاب قلبها بارتجافة متوجسة:
-وإنتي أدرى الناس باللي بيحصل ولو غاب الرقيب.
ردت برجاءٍ:
-إن شاءالله ما يحصلش حاجة، أنا اللي مطمني إن العِلم واكل دماغها.
أخفت "عقيلة" قلقها الذي انبثق بداخلها لتنظر إلى ابنتها عندما عادت وهي تحمل صينية بها أكواب الشاي، تكملت الأخيرة باسمة وهي تناول الكوب الزجاجي لخالتها:
-الشاي أهوو يا خالتي...
ثم أعطت والدتها خاصتها، وتابعت مشيرة بيدها الأخرى الطليقة كأنما تشرح لها:
-وابور الجاز عاوز يتصلح، مرضاش يولع خالص.
ارتسم العبوس على وجه "أفكار" وهي تفسر لها سبب عطله:
-ده بقاله يومين على الحال ده، عاوزة أشوف حد يبص عليه، ده إيدي ورجلي هنا، لأحسن مبقدرش أقف على البوتجاز كتير.
من تلقاء نفسها اقترحت "عقيلة":
-نوديه عند "أبو منسي"، هو أجدع واحد يسلك بوابير الجاز.
استحسنت شقيقتها الفكرة، وعاودت النظر إلى "فردوس" عندما وجهت أمها إليها الحديث بصيغة شبه آمرة:
-ابقي جهزيه يا "دوسة" ناخده معانا واحنا نازلين.
أبدت طاعتها المعتادة عندما ردت:
-حاضر يامه.
دعت لها خالتها وهي تبتسم لها:
-نتعبلك كده نهار فرحتنا بيكي يا غالية.
تورد وجهها من الخجل، وقالت وهي تجلس في الخلف على الكرسي الخشبي:
-تسلميلي يا خالتي.
تسامر بعد ذلك ثلاثتهن في مواضيع شتى، دارت غالبيتها حول مشاكل الجيران وأهالي المنطقة، أخرجهن من التفاصيل المتشعبة صوت قرع الجرس، وقتئذ انتصبت "أفكار" في جلستها، فقد سعت بجهدٍ جهيد للتحايل على الظروف المعاندة من أجل خلق فرصة مناسبة لابنة شقيقتها، فإذ ربما يحدث المراد، وتلقى القبول من أحد الأغراب. في التو فردت كتفيها قائلة بلهجة ودية لكنها آمرة:
-قومي شوفي مين على الباب يا "دوسة".
امتثلت لطلبها قائلة وهي تنهض من موضعها:
-حاضر يا خالتي.
استدارت ولم تلحظ النظرات المعقودة على آمال كبيرة تجاهها وهي تتعلق بظهرها أثناء ذهابها بعيدًا عنهما، سارت "فردوس" بتعجلٍ نحو الباب لتفتحه، فتفاجأت بوجود أحدهم يسد عليها الفراغ، له طول فاره، وبشرة وجه سمراء، وشعر قصير فاحم مموج، يرتدي قميصًا مخططًا يجمع بين درجات اللون الأزرق، على بنطالٍ من الجينز. انفرجت شفتاها عن دهشة متعجبة، سرعان ما تنبهت لكونها قد أطالت التحديق فيه عندما بادر مُلقيًا التحية:
-سلام عليكم.
أطرقت رأسها حرجًا وهي ترد:
-وعليكم السلام.
سألها متحاشيًا النظر تجاهها:
-الحاجة "أفكار" موجودة؟
لم تتمكن من الإجابة عليه، حيث أسمعته خالتها صوتها وهي تخبره من الداخل:
-تعالى يا "بدري" أنا هنا.
عندئذ تنحت للجانب لتسمح له بالمرور، فرأته ممسكًا بحقيبة معدنية في يده. خفض "بدري" من صوته مرددًا:
-يا رب يا ساتر.
تقدم ناحية صاحبة البيت التي أتت إليه هاتفًا بنوعٍ من الاحترام:
-إزيك يا حاجة؟
قالت وهي تقترب منه بتعابيرٍ بشوشة:
-في نعمة والحمدلله، مواعيدك مظبوطة يا "بدري".
ضحك معلقًا بعدها في مرحٍ:
-إنتي عارفاني مقدرش أتأخر عليكي.
ربتت على جانب ذراعه تشكره:
-تعيش يا ابني.
سأله مستفسرًا وهو يرفع يده الحرة ليضعها على مؤخرة عنقه كلزمةٍ تلقائية:
-إيه المشكلة؟
أخبرته بقليلٍ من التجهم:
-الحنفية عمالة تنقط، ومش عارفة إن كانت عاوزة جلدة جديدة ولا آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها بعد أن استنبط طبيعة مشكلتها:
-أنا هشوفهالك.
تهللت أساريرها للأمر، وقالت بنظرة غامضة مخاطبة ابنة شقيقتها:
-روحي معاه يا "فردوس"...
قفزت الأخيرة في مكانها مشدوهة للطلب غير المتوقع منها، فبرقت عيناها تجاهها، وظلت على حالتها المصدومة وهي تتابع أوامرها لها:
-وخليكي على إيده لحد ما يخلص، ماتسبيهوش، وشوفي طلباته، لأحسن ركبي شادة عليا، ومش قادرة أقف على حيلي.
لعقت شفتيها الجافتين، ورددت في صوتٍ مهتز:
-حاضر يا خالتي.
سارت في إثره بخطواتٍ متعثرة، تدل على ارتباكها، فلم تختلِ مطلقًا بأحد الغرباء عنها دون وجود أمها إلى جوارها؛ لكن بداخلها استشعرت ترتيبًا خفيًا يتم من أجلها، ويا ليته يأتي بنتيجة مرجوة!
غابت "عقيلة" عن المشهد متعمدة لئلا تسبب الحرج لابنتها، لكنها استرقت السمع من موضعها، رفعت كفيها للسماء، وراح لسانها يدعو في رجاءٍ شديد:
-ربنا يجعل في وشك القبول المرادي.
انضمت إليها شقيقتها وهي تختم دعائها، فقالت هي الأخرى:
-يا رب ياختي.
عمَّ الوجوم على ملامح "عقيلة" فاستطردت في نبرة مهمومة:
-البت دي بختها قليل أوي، وخايفة أموت وأفوتها كده لوحدها، لا سند ولا ضهر.
من فورها ردت "أفكار" بنظرة معاتبة:
-بعد الشر عليكي، متقوليش كده، حسك بالدنيا يا حبيبتي، وبعدين كل شيء قسمة ونصيب، ووقت ما يجي نصيبها محدش هيحوشه.
تنهدت مليًا وببطءٍ قبل أن تضيف، والأمل يبزغ في أعماقها:
-يسمع منك ربنا.
................................................
لم يحدث جلبةً وهو يعمل في صمتٍ لتبديل قلب الصنبور غير الصالح بآخر جديد، انهمك في أداء ما جاء لأجله بتركيزٍ شديد، كأنه جراح يجري عملية جراحية دقيقة، تتطلب كافة طاقته وقدراته، ومع ذلك انتهزت الفرصة لتراقبه بغير حرجٍ، وتتأمله عن قربٍ، الآن تفقه ذهنها لسبب إصرار والدتها على ارتداء أحد أثواب شقيقتها، وكانت ممتنة لذلك، وإلا لبدا مظهرها أقرب للخادمات عن الشابات اليافعات. مسدت "فردوس" على جانبيها بخفةٍ لتفرد ما تجعد من القماش، ثم رفعت يدها للأعلى لتمسح سريعًا على مقدمة رأسها لتتأكد من تسوية شعرها. فتشت بنظراتها سريعًا عن شيء لامع يشبه المرآة، لتلقي نظرة خاطفة على وجهها. انتفضت مرة واحدة عندما تكلم فجأة دون استهلالٍ:
-أنا كده ظبطت الحنفية، وكله بقى تمام.
وكأن لسانها قد علق بداخل جوفها، فاستغرقها الأمر لحظات حتى ترد عليه بابتسامة مشوبة بالخجل:
-تسلم .. تعبناك معانا.
جمع عدته المتناثرة هنا وهناك في صندوقه المعدني، فسألته، وقد تسرب الخجل إلى دمائها، فاندفع مسببًا توردًا خفيفًا في وجنتيها:
-تحب أعملك شاي؟
أجاب بلا تردد وفي التو:
-يا ريت.
سألته مبتسمة وهي ترمش بعينيها:
-كام معلقة سكر؟
قال وهو يستقيم واقفًا:
-تلاتة.
لوهلةٍ شعرت بنظراته تطوف عليها، كأنما تفحصها، وتتفرس فيها، فزاد خجلها وشعورها بالارتباك، إنها مرتها الأولى التي تتعرض فيها لمثل هذه النوعية من النظرات القريبة المهتمة، إحساسها كأنثى مرغوبة جعلها تشعر بالنشوة والسرور، فقلما وجدت من أحدهم ذاك الاهتمام، بسبب استحواذ شقيقتها على كل الانتباه والإعجاب. تضاعفت ربكتها مع قدوم خالتها لتتساءل في مكرٍ:
-إيه الأخبار يا ولاد؟
بلهفةٍ عجيبة أجابت "فردوس"، وقد ملأ الإشراق قسماتها:
-الأسطى "بدري" صلح الحنفية خلاص.
أطلقت "أفكار" ضحكة مرحة قبل أن تمتدحه:
-طول عمره أسطى أد الدنيا.
هتف مجاملًا وهو يسير تجاهها:
-كتر خيرك يا حاجة.
أشارت له بالتحرك وهي تخاطبه:
-تعالى اقعد معانا حلة، أهوو تستريح شوية وتاخد نفسك.
حمحم معترضًا في تهذيبٍ:
-أنا معملتش حاجة تستاهل.
أصرت عليه بتصميمٍ أكبر:
-ودي تيجي، ده إنت في بيتي.
علق باسمًا وهو يسير معها:
-مش هكسرلك كلمة يا حاجة.
توقفت "أفكار" عن المسير لتستدير من جديد نحو ابنة شقيقتها تأمرها:
-وإنتي يا "دوسة" صُبي الشاي وحصلينا.
قالت بوجه متورد بشدة وهي ترمش بعينيها في استحياءٍ:
-حاضر يا خالتي.
أحست "فردوس" بدبيب قلبها المتحمس يتسارع، لم تتخيل أن تنتابها مثل هذه الأحاسيس المتعاظمة لمجرد رؤية أحدهم يُظهر اهتمامًا زائدًا بها، ربما بدا عاديًا للآخرين؛ لكنه معها كان مختلفًا! وضعت كلتا يديها على وجنتيها تتحسس السخونة المنبعثة فيهما، دارت حول نفسها كأنما ترقص فرحًا، ورفعت بصرها للسماء مرددة:
-اجعله بالخير يا رب.
تنهدت مليًا، وأغمضت عينيها محاولة إعادة هذه اللحظات القليلة في ذاكرتها لتنتشي مجددًا، ويا ليت حلمها الوردي يكتمل!
..................................................
ما إن انتهت من إعداد الشاي الساخن وتقديمه للضيف مع بعض الحلوى الشهية، حتى لحقت "فردوس" بوالدتها التي انتظرتها بجوار باب البيت تمهيدًا لذهابهما، فلا داعي لبقائهما بعد انقضاء الموعد المدبر، وكذلك تجنبًا للمزيد من الحرج والتوتر الخجل، ومع ذلك لم تغفل عن اختطاف نظرة أخيرة قبل انصرافها، لتجعل ذكراها ملازمة لها لبعض الوقت. تركت "عقيلة" الساحة لشقيقتها لتكمل ما بقي عالقًا، فاستطردت تتساءل مباشرة بعدما اقتصرت الجلسة عليهما فقط:
-ها عجبتك؟ قول ما تتكسفش، رأيك إيه فيها؟
بترددٍ محسوس في صوته، ومعكوس على ملامحه ونظراته حاول "بدري" المناص من هذا الموقف المراوغ قائلًا:
-أصلي مابفكرش في الجواز دلوقتي.
من فورها سألته وقد قاربت ما بين حاجبيها:
-وحد قالك قوم اتجوز بكرة؟!
همَّ بالاعتراض، لكنها بادرت بإيقافه بإشارة من كف يدها، فالتزم الصمت، حينئذ استرسلت بمكرٍ ناعم لإقناعه:
-بس مافيش مانع تخطب واحدة بنت حلال من أصل طيب، مش طمعانة في حاجة غير حيطة تداريها، وراجل ياخد باله منها.
رفع يده على جانب رأسه ليَهرشه معقبًا:
-مش عارف والله يا حاجة!
استخدمت نفس الأسلوب المحنك في التأثير عليه بترديدها:
-مش عشانها بنت أختي بكلمك عليها، مع إن المثل بيقول أخطب لبنتك وماتخطبش لابنك، بس البت زي العجينة الطرية، تشكلها زي ما إنت عاوز، مش بتاعة مشاكل.
فرقع أنامله مبديًا ردًا محايدًا:
-اللي فيه الخير يعمله ربنا.
أمعنت النظر في وجهه مُضيفة في لطافة وأُلفة وهي تقرب طبق الحلوى منه:
-فكر كده، ورد عليا، وصدقني مش هتندم.
ثم ابتسمت بمحبةٍ، ولم تزد حرفًا، تاركة الفرصة له للتفكير بجدية أكبر في شأن الارتباط بها، مع وعدٍ بردٍ قريب على عرضها، إما بالقبول أو الرفض!
..........................................
لم تعتد بعد على هذا القدر من الإجهاد المتواصل لفترات طويلة، بالإضافة لمحاولتها المضنية للتأقلم مع اختلاف المناخ، وتغيير نمط تناولها للطعام الجيد الذي يعود عليها بفائدة، سرعان ما أحست "تهاني" بالإعياء يجتاحها، ورغم هذا قاومت الاستسلام له، وتابعت انتظام جدول دراستها الذي يلحق به ساعات تدريبها، إلا أن التعب تمكن منها في الأخير. بالكاد كانت تمشي باعتدالٍ وهي تهبط الدرجات لتتجه نحو موقف السيارات، حيث تتواجد العربة المخصصة لإعادتها إلى مكان سكنها.
توقفت لأكثر من مرة واشتدت قبضتها على الدرابزين المعدني المؤدي في نهايته للباحة الخلفية، أدركت أنها لن تستطيع الصمود ما لم تتوجه إلى عيادة الطوارئ الملحقة بالمشفى للاطمئنان على صحتها، سحبت نفسًا عميقًا، واستدارت لتعاود الصعود للأعلى، لم تنتبه في خطواتها لمن اصطدمت به في كتفه وهو يهبط عكسها. اعتذرت منه في التو دون أن ترفع رأسها وتنظر ناحيته:
-أسفة.
جاءها صوتًا رجوليًا متسائلًا بلهجةٍ مصرية:
-إنتي كويسة؟
أجابت باقتضابٍ:
-يعني.
سألها ليتأكد من هويتها الجنسية:
-هو إنتي مصرية؟
نظرت إلى من بدا وكأنه يحقق معها بنظراتٍ مشوشة، وأجابت بزفيرٍ ثقيل أظهر مدى إعيائها:
-أيوه.
وجدت ابتسامة صغيرة تزحف على ثغره وهو يعقب:
-صدفة عجيبة...
باعدت ناظريها عنه لتتأوه بصوت خفيض، فسألها مهتمًا:
-تحبي أساعدك؟
رفضت بلباقة:
-شكرًا، أنا رايحة ناحية الطوارئ.
أصر على الذهاب معها، فوقف إلى جوارها قائلًا:
-طب اسمحيلي أفرض نفسي عليكي وأوصلك بنفسي.
تمسكت برفضها وهي تدير رأسها ناحيته:
-مافيش داعي.
أكملت صعودها؛ لكن الدوار الذي عصف برأسها جعل توازنها يختل، فبادر بإسنادها من ذراعها وهو يحذرها بخوفٍ غير مصطنع:
-خدي بالك.
بدت متحرجة من تصرفها الأخرق، وقالت بصوتٍ خافت:
-أسفة.
رد بصدر رحبٍ متعمدًا التأثير عليها للاستجابة لمطلبه:
-المرض مافيش فيه اعتذار...
ثم مد ذراعه لتستند عليه خلال مشيها، واستطرد بلطافةٍ:
-اتفضلي يا آ...
سألها بعد صمتٍ لحظي:
-ما اتشرفتش باسمك يا فندم؟
وضعت بسمة ناعمة على محياها حين جاوبته:
-أنا الدكتورة "تهاني".
بادلها الابتسام مُعرفًا بنفسه في نبرة تشع ثقة، تلك التي تجبر مستمعيه على تقدير مكانته في الحال دون التحقق منه:
-وأنا د. "مهاب الجندي"، رئيس قسم الجراحة العامة هنا ........................... !!