رواية غوي بعصيانه قلبي الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم نهال مصطفي
الفصل السادس والثلاثون
(6) ج 2
من كتابها خُلق القلب عصيًا :
-لقد جئتني في الوقت الذي أدركت فيه أن لا فائدة للحُلم ، جئت لتحرق أحلامي الوردية التي تنتظر على ناصيتها الفارس صاحب الحصان الأبيض وقصر الهوى الذي سيشهد على ضحكاتي الرغدة .. جئت بعيد كل البُعد عن خيالي ، ومع ذلك نسيتُ أميري وأحببتك بثيابك المهلهلة ووجهك المُشحم وسقطت في وادٍ عيناك التي رسمت لي الحب جسرًا وأشتهيت المرور عليه بكامل إرادتي .. أحببتك وأنت لا تنتمي لأحلامي .. وفارقتك كعقوبـة من قاضٍ الهوى الذي تمردت على قوانينه ورضيتُ بأقل مما هفا له فؤادي …
~رسيـل_المصري .
•••••
تبدلت ملامح وجهه الساكنة بقُربها وثارت عريكته التي تحولت لغضب يحرق كُل ما يُقابله .. أنصت لصوت دقات قلبه التي ازدادت فجأة وابتعدت عنه بعد ما أرجعت خصله من شعرها وراء أذنها وسألته :
-حصل حاجـة ..
انتهى من كتابة رسالة نصيـة لـيسري يؤكد عليه أن يتبع خطوات المدعو قاسـم وسيتواصل معه صباحـًا ، قفل شاشة هاتفه بعد تلقيـه لتلك الصاعقة التي لم يعد يتحمل بعدها كارثـة وآخرى و رد بنفي :
-لا متشغليش بالك أنتِ ..
حدجته بنظرة تكذيب :
-متأكد ؟
غير مجرى الحديث وسألها :
-بقيتي أحسن دلوقتِ ؟!
أومأت بخفوت :
-أنا تمـام .. أحسـن شويـة .
احتوى كفها بحنو مفرط وقال وهو يناظر نجوم عينيها اللامعـة :
-وأنا مش عايـز أشوفك غيـر في أحسن حال .
أطال التأمل بسمائها معلنًا لقلبـه حقيقة تمسكه بها :
-وأدركت أن مبرري و شغفي بهذهِ العُزلة معك أني أجدُ فيكِ ما لا أجدهُ وأنا مع الناس ، قُربك مرآتي التي أكُون أنا فيها على الحقيقة بلا لونٍ آخر .. يحيى المرء بفضل تلك الأشياء النادرة .. وقلبي حيي بكِ .
وصلت رسالته لقلبهـا فانتفض من مكانه واهتز كيانـه وقالت لتهرب من تلك الورطة التي لا مفر منهـا :
-أنا هقوم أنام .. بعد أذنك .
وثب أمامها بقامتـه العاليـة وهيبته الشامخة ووقف أمامها قائلًا بعرفان :
-شُكرًا لأنك كُنتِ لطيفة معايا قُدام البنات ، وبالعكس انبسطوا أوي .
بعدت عيونها عنه وقالت بجمود :
-ده عشان خاطر البنـات وبس .
تبسم لعنادها الطفولي وقال :
-وأنا راضي يا ستي .
ثم تنهد بتعب :
-يلا روحي نامي ، وأنا هنام هنا ..
رغم رفض دواخلها لقراره إلا أنها اكتفت بإيماءة خافتـة ونظرة أخيرة من مقلتيها وانسحبت بهدوء تجر ذيول تخبطها وحيرتها .. أخذ يُتابع حركتها في الممر حتى أختفت توقفت على باب الغرفة وألقت عليه نظرة لم يفهمها واختبأت بعدها محتمية بـ الجدران التي تفصل بين قلوبهم التائهـة ..
ظل قلبها يخفق بشدة خاليًا من مشاعر الغضب التي استبدلت بمشاعر السلام المحيطة بقلبها كالغيمة الباردة التي تتوق لقوسي شمسه لتتلاشى بينهم كأنها لم تكن .. أمسكت برأسها المعترضة علي طيشهـا ومراهقتها التي لا تليق بإمرأة واعيـة مثلها وقالت بحزم :
-الجنان ده مش هينفع .. لازم يكون في حل !!
ثم ألقت نظرة على ملامحها بالمرآة وسألت قلبها الصاخب :
-أنتِ عايز أيه بس ؟!
أما عنه تمدد على الاريكة رافعًا ذراعه فوق جبهته ثم زفر بضيق :
-ولما نشـوف موالك أيه أنت كمان يا قاسم أفندي .
ثم نهض سريعًا وفحص هاتفه للمرة الثانية التي اكتشف فيها ما حل بـ عاليـة وما فعله مراد نهار أمس ، بدون تفكير أخذ مفاتيحه وفارق المكان هائمـًا على وجهه متوعدًا :
-وشرفي ما هرحمك يا ابن المحلاوي ..
•••••••
" عودة لـ قصر دويدار "
-من وقت الحفلة وأنا مش ملاحقـة على الكوارث والله يا فريد .
قالت " عبلة " جُملتها وهي تتمدد على فراشها بكلل بعد يومٍ متعب استنفذ كل طاقتها ، أشعل فريد سيجارته واتجه نحو مخدعه وهو يهاتفها بنبرة الخداع والمكر :
-مش أنا قايل لك أي مشكلة تكلميني على طول .. ولا أنتِ مش واثقـة في فريد .
-لا لا يا فريد بيـه ، بس محبتش اشغلك بمشاكلي ، أنتَ آكيد عندك حياتك وشغلك ..
ثم غمغمت بتخابث :
-ومراتك …؟
اندلعت منه ضحكة مرتفعـة وقال :
-أولًا أنا مش متجوز ، ثانيًا بقا وده الأهم عبلة هانم المحلاوي تتكلم في أي وقت ، والشغل وحياتي كلها تقف عشانها ..
تبدلت ملامحها الفضولية لأخرى منتصـرة وقالت بدلالٍ :
-ده كتيـر والله ..
-ولا كتيـر ولا حاجة ، المهم حصل أيه معكر مزاج الهانم ، احكي لي ..
"في الغـرفة الثانية "
التي يقطن بها تمـيم وزوجته ، أحضرت شمس كوبًا من مشروب " الينسون " الدافئ له ووضعته بجواره بعجز وهي تعاتبـه بعيونها :
-لازم تنام شوية ، السهر ده هيتعبك أكتر ..
رد باختناق :
-أنام أيه بس يا شمس ، وده وقت نوم ! أنتِ مش شايفة المصايب اللي بتتحدف فوق دماغنـا .
جلست أمامه على طرف السرير وقالت بهدوء:
-من حقك تقلق ، بس من كلامك حسيت أن مراد شخص محترم مش زي أخته ومامته .. يعني آكيد مش هيأذي عاليـة .
مش كده !
تنهد بضيق شديدٍ لعجزه وقلة حيلته :
-نار الغضب بتحرق الأخلاق والعقـل ، وعاليـة ولعت نار هي مش أدها .. مفيش راجل هيبقل الإهانـة دي ويسكت ..
ثم ختم جُملته بقضبته القوية التي فرغت غضبها بـ الكومود وأكمل بعصبية :
-والدليل أهو اختفى ومحدش فينـا عارف يوصلها .. أنا هبلغ الشرطة ..
-استنى بس ، متكبرش الموضوع ، دي في الأول والأخر مراته يعني ممكن تلاقيهم اتصالحو دلوقتِ وبقيوا سمن على عسل ..
ثم ارتسمت ابتسامة خفيفـة على ثغرها كأنها تذكرت شيئًا فاحت رائحة ذكراه وقالت بشرود :
-فاديـة الله يرحمها ، لما كنت اتخانق أنا ونوران مكنتش تدخل بينا خالص ، كانت تقولنـا اتنين ما ينفعش تدخلوا في مشاكلهم مهما حصل ، واحد ومراته ، واتنين أخوات .. المتجوزين بينهم صلة روح ، والأخوات صلة دم .. وأي طرف تالت هيبوظ مش هيحل ..
رمقهـا بإعجاب ثم تمتم :
-يارب يا شمس ، أنت متتصوريش عاليـة دي مش أختي وبس ، لولا الظروف كنت هعرف احميها كويس ..
ثم عادت ملامحه المنكمشـة مرة آخرى :
-بس وديني لأرد لك القلم اتنين يا مراد ، عشان تعرف تبلطج وتمد إيدك على أختي ..
قطع حوار صوت صخب سيارة عاصي التي اقتحمت ممر القصر بسرعة متناهيـة .. ركضت شمس نحو النافذة وقالت بلهفـة :
-عاصي جيـه ..
تحرك تميم بمقعده بسـرعة نحو الباب فلحقت به شمس :
-استني رايح فين !
هبط تمـيم على المنحدر الملاصق للسُلم الذي خُصص لأجله ليواجه أخيـه معلنـًا الحرب بينهم :
-أهي كل المصايب دي بسببك .. شوفت أخر تهورك وعنادك ! مين دفع التمن دلوقتِ غير عاليـة المسكينة .
-هو أزاي الحيـوان ده يتجرأ ويتهجم على البيت بالهمجيـة دي !
قال عاصي جملته بصوت كالرعد أيقظ أهل القصر ، قفلت عبلة مع فريد بسرعة وارتدت روبها الحريري وخرجت إثر مصدر الصوت ، خرج تميم عن صمته الذي طال لسنوات وقال :
-الهمجيـة مش بتولد غير همجيـة زيها ، أنتَ اللي هنت أختك لما اجبرتها تتجوزه ، وأدي النتيجة مش عارفين هي فين ولا ممكن يكون عمل فيها أيه ..
خرجت هدير من غرفتها وعلى المقابل كانت عبلة تركض على درجات السلم بلهفة وذعر :
-أيــه ! صوتكم عالي كده ليه ؟! أنتوا فاكرين بالزعيق ده حل !
ثم اقتربت من عاصي وحدجته معاتبـة :
-ولا حضرتك لسه فاكر أن ليك أهل وبيت مسئولين منك ! لسه راجع دلوقتي تدور على أختك ؟!
نفض دخان غضبه الحارق بوجهها :
-ابن اختك لو لمس شعره من عالية أنا هنسفه من على وش الأرض ..
ثم وجه نظره لهدير وأكمل بعواصف غضبـه مهددًا :
-وصلي الكلام ده لأمك .. أخوكي لو مظهرش أنا هخليه يتمنى الموت ومش هيطوله .
ساد الصمت للحظات يتبادل فيها الجميع النظرات حتى تدخلت شمس قائلة :
-ممكن تهدوا ، ده جوزها ومهما كان سوء الفهم مابينهم هـ يتحل ..
تحولت أنفاس الجميع لدخان يحترق عقد ضبابة سوداء فوق رؤوسهم ، هاتف عاصي رئيس الحرس بغلظة :
-تعالالي …
في تلك اللحظة سمعوا صوت وقوف سيارة بالخارج وحارس الأمن يهاتف عاصي بواسطة اللاسلكي المعلق بالبيت :
-عاصي بيه ، مراد بيه وعاليـة هانم دخلوا القصـر ..
ركض عاصي هائمًا على وجهه وتابعه الجميع بلهفـة ، هبطت عاليـة صاحبه أعين السمك الميت ، عيونها الجاحظة ولكنها مُغيبة تمامًا عن الوعي .. انطلق عاصي إلى السيارة وهجم على ياقـة مراد وسحبه من السيارة صارخًا بوجهه :
-انزل …
هرولت عاليـة لتفصل بين شجارهم صارخة :
-عاصي أنت مش فاهم حاجة .. سيبه .
دفع عاليـة من أمامه بيساره تابعتها يمينه بلكمة قوية تحت عينـه وصرخ بوجهه :
-أنت بأي حق تتهجم على بيتي بالسلاح وتمد أيدك على أختي !!! دا أنا انسفك من على وش الأرض يالا !
دفعه مراد بقوة ليتخلص منه ، وعاتبـه بغضب :
-لسه فاكر أن ليك أخت ؟! أختك اللي رميتها عشان بس صورتك قدام الناس ومكانتك ؟ عشان تنفي شوية إشاعات !!
ثم ثبت عيونه بعيني عبلة :
-ولا خالتي اللي معتبتش بيتي تطمن على بنتها ؟! كأنها بيعة وصدقتوا ما خلصتوا منها ؟!
فأشار بسبابتـه نحو صدره :
-أنا أه غلطت وغلط مش هسامح نفسي عليه من أول ما قبلت بالجوازة دي .. قبلت ادخل لعبـة رخيصه واستخدم حد ملهوش ذنب عشان احقق اللي عـايزه !!
بلل حلقه ثم أتبع :
-بس اللي عايز أوصل له معماش قلبي ؟! ولا خلاني أقرب من واحدة لسه مش عارفة مشاعرها أيه ناحيتي ! أختك دي أنا غلطت في حقها زيكم بالظبط ومهما حاولت أعوضها مش كفاية ، الطريقة الوحيدة اللي ترجع بيها لنفسها هي أني اطلقها .. علاقتي بأختك بقيت مستحيلة ، أهي عندك ملمستش فيها شعرة ..
ثم أخفض نبرته منبهًا :
-بس يا ريت تعرف تحافظ عليها وتحميها زي ما أنا عملت ..
مجرد ما أنهى حديثه صعد سيارته على الفور وغادر لعنة ذلك القصر بسـرعة ، اقتربت عالية من عاصي ومسكت يده وقالت بأنين ضعف :
-أنا كويسـة ، محصلش حاجة .
أطرق نظراته بصدمة مما سمعه ولم يتحمل النطق بشفا كلمـة ، اكتفى أن يضمها إلى صدره ويربت على ظهرها بحنان ثم همس معتذرًا :
-حقك عليـا يا عاليـة .. كل واحد غلط في حقك وأولهم أنا لازم يتعاقب ..
تدفق سيل دموعها الذي لم يتوقف وقالت باستسلام :
-كلها دروس عشان نتعلم منها ، وأنا اتعلمت واتعلمت كتير أوي .. متحملش هم ذنبي ، أنا المذنب الوحيد في كل ده ، أنا اللي كنت بقول حاضـر على حساب نفسي وحياتي .. أنا اللي كان لازم اتعاقب وأهي الدنيا مقصرتش معايـا …
أردفت كلماتها ثم انسحبت بهدوء ، بدون كلمة واحدة مكتفية بالمعارك الطاحنـة الدائرة بها .. تود أن تبحث عنها وعمن تكون في داخلها في وسط الزوبعة العاكسة للاوهام، فلم تجد إلا دخانًا قد تلاشى مع بقية الأرواح المهاجرة بعد كل كارثـة حلت بها .
اندفعت هدير نحوه وأخذت تربت على كفته بثقة وقالت :
-معلش يا عاصي متزعلش نفسك .. يلا تعالى ارتاح في أوضتك ..
حدجها باشمئزاز ثم ابتعد عنها بدون كلام ، جاءت عبلة من الخلف متنهدة :
-الحمد لله عالية بخير ، هنام وانا مطمنة عليهـا .. بالحق بناتك فين يا عاصي ؟!
أغمض عيناه طويلًا ثم أجاب بملل :
-عند خالتهم مروة ..
مجرد ما أردف جملته رحل مُفارقًا ساحة القصر متجهًا إلى غُرفتـه ، مالت شمس على آذان تميم قائلة :
-تعالى نطمن علي عاليـة ..
ما زالت عبلة تحت سطو ذهولها ثم صرخت لنفسها بإعتراض :
-البنات بيعملوا أيه عند مروة !!
تمتمت هدير ببراءة مزيفـة :
-أنا هروح اطمن عليه ..
انصرفت هدير محددة وجهتها وهي غُرفة نومه ، مجرد ما دخلت وجدته مُلقيـا على مخدعه بحذائه الذي لم يتكلف ويخلعه .. اقتربت منه بهدوء الحيـة قبل أن تلذع فريستها وقالت بلين :
-معقولة نمت بالسرعـة دي !
ثم جلست بجواره وأخذت تداعب جدائل شعره بدلال حتى وشوشت إليـه :
-أي رأيك في حمام دافي ومساج يخلي كل الهم إلا على وشك ده يفك ..
لم يتكرم ويفتح جفونه حتى لا يرى وجهها الذي يذكره بأخطائه الكبرى :
-أطلعي بره يا هديـر ..
ببرود :
-هطلع بس لما اطمن عليـك بقيت كويس ولا لا ..
فرغ من مرقده ثم خلع حذائه بكلل ورماه بعشوائية .. شد العظاء فوق جسده متجاهلًا وجودها تمـامًا وخلد إلى النوم ، لم تتحرك من جانبـه إلا لتنزع سترتها الفضفاضة مكتفيـة بملابس النوم وتمددت هي الأخرى بجانبـه ..
••••••••
" صبـاحًا "
لم يتحرك مراد من مقعده الذي احتواه طوال الليل وملابسـه المُقيدة لحركتـه .. أحس بأزميل الفراق بدأ ينخر في قلبـه ، بات صدره وبيته خاليـًا من وجودها للأبد ، بات طيف وجودها يحاصـره بكل مكان .. من بدايـة قسوته معها لنعومـة أيامهم سويًا .. مر شريط الذكريات سريعًا حتى نطق عقله ليحسـم المعركـة :
-مكنش ينفـع ، أنتِ اللي اخترتي يا عاليـة ..
أما عنهـا ؛ فلم يزر النوم عينها للحظـة ، كل ما بها ساكن تحت صاعق الصدمـة ، صدمة الكلمة " أنتي طالق " و الفراق وتبدل حالها لحال أسوأ ، تجلس تحت الشرفـة كالقرفصاء تناجي الليل والنجوم أن تدل حيرتها .. لم تفارق هاتفها الذي كل حين وآخر تلقي عليـه نظرة متأملة في اتصال حتى ولو بالخطأ منـه ..
ثم تدفق إلى قلبها سيل الشوق والحنين إلى التحدث مع الله كما كانت تفعل كل ليلة .. نهضت بهدوء للتوضأ ثم افترشت سجادة الصلاة وبعد وقت طويلٍ من السجود خرت باكيـة ومناجيـة :
-"أعلمُ أنك لن تتركني وأنني في عنايتكَ وأنك ستدلني كلما تهتُ وستعيدني إليك كلما ابتعدتُ، وأعلمُ أنك تسامحني أكثر مما أستغفر، وتحرسني أكثر مما ألجأ، وتحميني أكثر مما أحذرُ، وتُحبني أكثر مما أطيعُ
وأعلمُ أنني بئس العبدُ، وأنكَ نِعم الرّب
أستغفرك وأتوب إليك يا عظيم ولا حول ولا قوة إلا بكَ"
نهضت نوران على صوت نحيبها الدفيـن فغاصت هي الأخرى في البكاء لانها لا تملك وسيلة لتهون عليـها بل شاركتها في الهم والدمع …
••••••••
فتح عاصي عينيـه مازال الغضب والنفور يحاوطه وتيقن من مصدره عندما ولى وجهه وجد تلك الأفعى تتوسد مخدعـه وتطوقـه بذراعها ، رماه بعيدًا ثم قال بضيق وهو ينفث دخان غضبـه بقوة ، نهضت هدير متخذة دور الزوجة الحنونـة :
-حبيبي نمت كويس !؟
رد بإختصار :
-لأ …
قامت خلفـه :
-ليـه .. ؟
-عشان مش بحب حد ينام جمبي .
اقتربت منه متعمدة إثارة غضبـه وتغنجت :
-حبيبي هو أنا وابنك حد ! على فكرة أنا كنت همشي بس ابنك هو اللي صمم ، شكله محبش يسيبك وأنت مضايق ..
ثم غمزت بعينيها :
-مهنتش عليـا .
تجاهل الشجار معها وشرع في خروج ملابسه من الخزانة ففوجئ بها تمرر أناملها على جدار عنقه وتقول :
-أنت هتاخدني بذنب مراد ولا أيه ..
رد بتأفف:
-لا متقلقيش كل واحد سجله عندي مليـان وزيادة .
-يعني أيه ..
ولى وجهه إليـها :
-تعرفي أنا عملت في حياتي جرايم كتير ومندمتش على حاجة فيهم .. إلا جريمة واحدة هفضل ادفع تمنها عمري كله ، وهي أني اتجوزتك .
استقبلت إهانته ببرود وحاولت تلطف الأمر معه وهي تعانقه بدلالٍ:
-أخص عليك يا عاصي ، تصدق أن دي أحلى حاجة في حياتي إني اتجوزتك .
أجابها بفتور :
-طبيعي ..عشان حياتك كلها مفيهاش حاجة عدلة ياهدير ..
ثم اسقط ذراعيها من عليه واقترب منها بابتسامة غامضـة حتى اندمجت انفاسهم وهمس إليهـا بتخابث :
-حطيتي أيه لحياة في العصير ؟!
رفرفت رايات الصدمة على ملامحهـا وهي تغمغم :
-أنت عرفت أزاي !
ابتسم بانتصار ثم قال :
-كنت متأكد أنك أنتِ اللي وراء الحركة الرخيصـة دي ! مش بقولك كل واحد دفتره مليان عندي .
هتفت مبررة :
-أنت بتقول أي جنان وخلاص ! مالي أنا ومالي بست بتاعة دي ..
اخفض نبرته :
-أهدي يا هدير ! أنا بسألك بس عشان عايز اعرف اسمه ايه ، مش يمكن احتاجه تاني .
توترت قليـلًا :
-أنت بتقول أيه ! لو عايزني امشي من البيت قول لي امشي يا هدير لكن مش تتهمني بحاجات عشان تطلعني وحشة كدة ..
-أنا مش محتاج مجهود عشان اظهرك على حقيقتك كل حاجة واضحة وضوح الشمس .. بس انا ماشي معاكي بمبدأ خلي عدوك تحت عينك تسلم .
ثم انقض على ذراعها واحتدت نبرته المرعبة وصرخ بوجهها :
-أنا لو وريتك وش دويدار الحقيقي هتتمني الموت ، وللمرة الألف بقولهالك طلعيني من دماغك يا هدير ..
-بلاش يا عاصي ، بلاش تحطني في خانـة العدو عشان مجربتش عداوتي ..
اشعلت نار الانتقام برأسه من عائلة المحلاوي ، فثارت عواصف غضبـه معلقة بشعرها وشدها بعنفوان وهو يجهر :
-بس أنتِ مجربة …
فتح باب غرفته تحت صوت صراخها ودفعها بكل قوته بعيدًا عنه فاختل اتزانها وتكومت لتأكل بجسدها منحدر السُلم الطويل وهي تستغيث صارخة ..
هرول الجميع إثر صوتها الصاخب وصرخات استغاثتهـا ، أما عنه فوقف ثابتًا يشاهدها بصدمـة ، فلم يسعى لأذيتها بهذه الوحشيـة ، ركضت شمس ثم تابعها نوران وعبلة نحو مصدر الصوت .. جلست شمس على ركبتيها وحاولت إفاقتها فوجدتها تغيبت عن الوعي وفقدت إدراكها.
تفوهت عبلة بصراخ :
-اطلبـوا الإسعاف بسرعـة دي بتنزف ….
•••••••
فتحت حياة جفونها المُطلة على الفتاتين اللاتي ملن الانتظار بمفردهن .. تفوهت بصوت متكاسل :
-أنتـوا صحيتو بدري ليـه ؟؟
تاليـا ببراءة :
-اتعودنـا عشان المدرسـة كل يوم ..
أفسحت لهم مكانًا :
-طيب تيجوا تنامو جمبي ؟!
داليـا برفض :
-أنا جعانة عايزة أفطر ..
ثم أيدتها تاليـا :
-وأنا كمان جعـانة ..
أحست حياة إنها بورطة جديدة، نهضت بتكاسل وهي تلم شعرها :
-هو بابي مش بره ؟
هزت تاليـا رأسها يمينًا ويسـارًا :
-لا .. بابي خرج ..
أصدرت حياة إيماءة خافتة :
-طيب تحبـوا تفطروا أيـه ؟
لم تلق منهم أي رد ثم أكملت :
-تعالوا نفكـر فـ المطبخ !
خرجت حياة من الغرفـة ثم اتبعها البنتين وشرعت في إعداد وجبة الأفطار ، سألتهـا داليـا ببراءة :
-أنطي .. ممكن اسال سؤال ؟
أخرجت حياة الخبز المجمد من المبرد ووضعته بالفرن الكهربي وقالت :
-اتفضلي طبعًا ..
-أنتِ بتحبينا ..؟
-آكيد طبعًا وبحبكم أوي كمان ..
-وبتحبي بابي !
ظلت ترمقها بنظرات خرساء ثم قالت بذهول :
-ليه السؤال ده يا داليـا ؟
-مش عارفة، بس أنا بشوف بابي فرحان أوي هنا ..
ثم تدخلت تاليـا :
-أنطي ، حضرتك ليه مشيتي من القصر ؟
-والله يا توتا السؤال ده يجاوب عليـه بابي ، مش أنا .. هو اللي عايز كده.
ثم جاءت بسؤالٍ جديدٍ :
-أنطي ، أنتِ وبابي متجوزين .. مش كده ؟
غمغمت بتيـه :
-والله منـا عارفة حاجة ؟
ثم جهرت بصوت مسموع :
-ااه .. اااه يا حبيبتي ..
-يعني أنتِ تبقي مامي ؟
تتزاحم الأفكار في ذهنها فلم تستطع تميز شيئا منها سوى إيماءة خافتـة ثم قالت :
-ااه ، طبعا مامي عند ربنا .. بس أنا موجودة هنا لو احتجتوا أي حاجة ..
طلبت منها الصغيرة بترجي :
-طيب ممكن تبقي تروحي معانا المدرسة عشان صُحابي يشوفوا ويصدقوا أنك مامي بجد ..
-ان شاء الله يا حبيبتي ..
ثم أردفت تاليـا سؤالًا أحدث رجة بصدرها :
-أنطي .. لو جبتي بيبي هيكون أخونا الصغير ؟
-أيــه !
ثم بللت حلقها ونبرتها المبحوحة وقالت :
-ليه الكلام ده يا توتا ..
-عشان نفسي يكون عندنا بيبي صغير نلعب بيه أنا وداليـا .. بس مامته متكونش أنطي هدير عشان مش بتحبنا .. ولا أحنا كمان بنحبها.
هربت حياة من قسوة اسئلتهم على رائحة الخبـز المحترق وقالت بفزعٍ :
-العيش اتحرق …
جاء عاصي في هذه اللحظة ، فسمع البنات صوت مفاتيحه فركضن فارحيـن مهللين بقدومـه ، تنفست حياة الصعداء وأخرجت زفيـر اسئلتهم المحرجة وقالت لنفسها :
-اهدي اهدي .. دول عيال صغيـرين .. هتعملي عقلك بعقلهم !
ثم عادت لتكمـل الفطار بفوضى وعدم تركيـز ولم يصدح برأسهـا إلا طلب البنات الغريب ، وضعت كفها على قلبها النابض ثم جوفها فـقالت برفض قاطع :
-مستحيـل .. أنا أخلف من البني آدم ده !!!!!
استلمن الفتاتين رأس أبيهم الذي خلع هموم القصر بخلع حذائه أمام البـاب متناسيًا أمر هدير التي تجهض بالمشفى ، سُحب بواسطة بناته إلى المطبخ وسألته أحدهم :
-بابي أنت روحت فين ؟
-روحت شغل ورجعت أهو .
ثم رفع صغيرته على بار المطبخ وأكمل بصوت عالٍ :
-مقدرتش أبعد عنكم أكتر من كده .. لقيت قلبي مجرور لعندكم وسايب شغل أد كده ورايـا ..
ثم حمل الثانية بجوارها وهي تقول بسعادة :
-بابي أنا مبسوطة أوي ..
-ليه ، فرحيني معاكي ..
قالت داليـا ببراءة :
-اتفقنا مع أنطي حياة هتجيب لنا بيبي نلعب بيه .. أيه رأيك ؟!
ارتسمت ابتسامة واسعة على محياه وهو يجيب :
-وأنا جاهز جدًا ، بس هي تأشر بس ..
سألتـه بجزل طفولي :
-أحنا هننزل نشتريـه سوا من عند الدكتور ؟!
قهقه عاصي بصوت عالٍ جعله يتناسى همومه المتكدسـة ويهرب إلى ملاذه الوحيد بين صخب الحياة ، رصت حياة الأطباق على الطاولة ثم نادت بحدة :
-الفطار جاهز ..
تاليا بمرح :
-يلا يا بابي نفطر ..
ملأ الرباعي أضلاع السفرة المُربعة وشرعوا في تناول فطورهم بصخب مفعم باسئلة بناته ومزاحه معهم حتى غمز لها بطرف عينه متسائلًا :
-سرحانة ومش معانا خالص على فكرة ..
لكت اللقمة في ثغرة ثم ابتلعتها برشفـة ماء وقالت :
-لا أبدا شبعت .
ثم وثبت قائمة وهربت من نظراته الحارقة ودخلت غُرفتهـا ، مسح ثغره ثم دخل وراءها بعد ما أكد على صغاره بتناول إفطارهم كاملًا ، ومجرد ما قفل الباب خلفه قال :
-أنتِ زعلتي ولا أيه ؟! أنا كنت بهزر على فكرة .
جلست على طرف السرير وسألته بجفاء:
-أنت جبتني هنا ليـه ؟
حرر أول زرارين من قميصـه ثم فكر طويلًا حتى جلس أمامها وقال بارتياحٍ :
-عشان عايز أبعدك عن عاصي دويدار وجبروتـه ..
أشاحت نظرها كي لا ترى عيناه وهي تتحدث فتصاب بأسهم الضعف مـرة آخرى ، قرأ الحيرة بعيونها فأكمل موضحًا :
-عالم عاصي دويدار مخيف ومرعب ، أنا عايـز أبعد عن كل ده ، عايز أجيلك هنا كأنك تذكرة سفر حرة قادرة تخليني ألف العالم كله وأنا قاعد مكاني باصص في عيونك …
صمت طويلًا ثم قال :
-عمرك ما هتحبيني وأنا لابس توب دويدار .. التوب ده أكبر لعنـة في حياتي ، عايزك الركن الهادي اللي ارتاح من الدنيا بحالها عندك .. هنا عايز انسى أنا مين ، وأنتِ الوحيدة اللي حسيت معاها بكل ده ..
تركض في حلقة مستديرة يملأها الخوف .. رجل لا يمكنه أن يفرط بها حتى ولو اتبع خطاها إلى أخر العالم .. احتوى كفيها وتمتم راجيـًا :
-خليكي مركبـة النجاة اللي هتنقذني من العك اللي أنا عايش فيـه ..
-أنت قررت كل حاجة من غير ما تاخد رأيي ، أنا مش الشخص اللي في خيالك ؟
نظراتها المهترئه المهزوزة التي تعلن قسوة قراره جعلته يتحرك من مكانه ليقترب منها قائلًا :
-أنت الحاجة الصادقة اللي جات لي من الخيال ، مكنتيش مجرد خيال يا رسيل …
رفعت حاجبها باستغراب :
-أول مرة تقولي رسيـل ..
-لما الموضوع يتعلق بالبحـر تبقي رسيل ، كُنتِ الميـة العذبة اللي خرجت لي من البحر ، المية اللي روت قلبي ، كُنت رسول الحب بيني وبين البحر الوحيد اللي حس وفهم أنا عايز أيه وجابك لحد عندي … تفتكري كل ده صدفة ؟!
حانت منه التفاتة إلى ساعة الحائط ثم أكمل :
-كُنتِ قاطعـة النفس، كل اللي حوليا خافوا عليا اتورط فيكي ، لما أمرتهم يرموكي في البحر حسيت بسلك كهربي كلبش في قلبي .. ودي كانت أول مرة قلبي يتحرك فيها من زمان أوي ومكنتش عارف السبب .. لما بصيت في عيونك عشان استدل تُهت ، تهت أكتر منا تايه ..
أخذ نفسًا طويلًا :
-أول مرة أرغي واكتشف إني رغاي قدامك ، مش بقولك لقيت معاك عاصي اللي بدور عليـه من زمان !
-بردو ما ردتش على سؤالي ، كل كلامك بتفكر في نفسك وبس ، أنا فين من كل ده ؟! مش يمكن مشاعرك دي كلها من طرف واحد ! ليه بتعلق نفسك بواحدة هي مش عارفة هي مين !! ومستني منها تنور حياتك !
أخذ يبتسم في هدوء عجيب مناقض لمجرى الحديث :
-طيب ما تقولي الكلام ده و أنت باصـة في عيني ..
اهتزت نظرتها وقالت :
-أي كلام …!
-اللي قولتيـه .. قوليلي مش عايزاك ، أبعد عني ..بس وأنتِ باصة في عينيا .
اصبحت اجمل في تمنعها وتدللها عليـه عندما أثقل على كتفيها مصيرهم ، تحمحمت بخفوت ثم قالت بتوتر :
-أنت جايب الثقـة دي كلها منين ؟!
رد بثقة :
-مني …!
زفرت بضيق أخفت ورائه ابتسامتها وقالت :
-والله !
ثم أعلنت رفضها :
-بس أنا مش موافقـة على الوضع ده .. منا مش شقة مفروشة تيجي فيها عشان تريح دماغك ..
-ما كُنا حلوين قلبتي ليـه ؟!
ثارت محتجة :
-عشان الوضع ده مش عاجبني ..
ثم فرت من أمامه هاربـة وخرجت من الغرفـة لتحتمي بالصغاره من مكر الثعلب الذي يراوغ بقلبها بدون شفقـة ، من قبيل خبرته بالنساء خفق صدره بانتصار وهو يقول لنفسه :
-شكلك هتغلبيني …
رن هاتفه في تلك اللحظة ، إذن بعبلة معترضة :
-أنت فين يا عاصي ، هدير هنا بتسقط وخالتك وكريم هنا وأنت اختفيت مرة واحدة ، فينك .
هلل بفرحٍ :
-يافرج الله ؟!
ثم تحجج قائلًا :
-عندي شغل .. مضطر أقفل ، سلام دلوقتي..
•••••••
-يا عاليـة أنتِ لازم تاكلي عشان صحتك يا حبيبتي ..
أردفت شمس جملتها التي كررتها كثيرًا حتى يأست من قبول عالية للطعام ، تدخل تميم قائلًا :
-طيب أنتِ زعلانة ليـه ، مش اطلقتوا ، ولو على حقك هيرجع لك صدقيني ، وابن المحلاوي هنعلمـه الأدب .
فزعت متوسلة :
-لا يا تميم .. وغلاوتي عندك بلاش أذية ، مراد عصبي بس عمره ما قل مني بالعكس أنا اللي غلطت فيه ..
رمقها تمـيم بنظراته الكاشفة :
-فيكي أيه يا عاليـة ! متغيرة ليـه ؟
-أبدا يا تميم .. أنا كويسة .
ثم تحججت هاربة من حصار نظراته :
-هنزل اتمشى شوية في الجنينة ..
انصرفت عاليـة فاقتربت شمس منه وطالعته بنظراتها الحائرة ، سألها تميم بفضول :
-شايفة أيه ؟؟
تنهدت شمس بألم ثم قالت :
-بتحبـه ، دي مش عالية اللي أعرفها ، غير كدة نوران بتقولي أنها طول الليل بتعيط ، دا يدل أنه أثر فيها ..
نفى تميم نظريتها :
-لالا .. عالية موجوعة وشايفة أنها اتهانت وهي ماتستاهلش ، هي صعبانة عليـها نفسها مش أكتر .. حاسة أنها مكسورة ..
أجابته بثقة :
-الحب الحاجة الوحيدة اللي تكسر أقوى ست .. وده اللي شايفاه في عاليـة ..
ثم رفعت حاجبها متحدية وهي تعد له خُبزة محشية :
-هتشوف مين فينا الصح .
مدت له الخبز وقالت بخفة :
-اتفضل كُل أنت كمان ومتغلبنيش زيها .
أخذ الرغيف من يدها ثم غير مجرى الحديث قائلًا بغزل:
-أنا قُلت لك قبل كده أن شعرك جميل !
شرعت بطوي شعرها بخجل وهي تبرر :
-أسفة مأخدتش بالي ، أنا اتشغلت بس مع عاليـة و
أمسك ذراعها كي تكُف عما تفعله وقال بحنو :
-وأنا عشان بقول لك شعرك جميل، تحرميني من شوفته ، تاني مرة هأبقى أعاكسك في قلبي يا ستي .
بات قلبها تحت خيمته يتراقص ، بللت حلقها الذي جف وقالت بحزن:
-فاديـة كانت بتحب تضفره دايمًا ، من يوم ما مشيت وأنا مش بعرف أعمله ولا عارفة أهتم بيه ، بقيت مهملة فيه خالص ..
-أنا بعرف أضفره على فكرة .. أممم لو حبيتي يعني ، أنا بردو مش غريب!
وثبت كالملدوغة متحججة:
-هروح أشوف نوران فطرت ولا لسـه ..
دومًا ما تكون حقائب صبر العاشق ضائعة في بحور الهوى ، إلى متى سيتعمد دفن مشاعره المتحركة باستمرار نحوها ؟! متي تفتح قلبها وترافقه دربه الخالٍ من البشـر مكتفيًا بها بقية عمره .
•••••••
-تحبي أخلصك من الجدع اللي اسمه مراد ده خالص ؟
أردف فريد جُملتـه الأخيرة بعدما اطمئن على حالة عالية ووصولها لمنزلها .. ابتعدت عبلة عن أختها بحذر ألا تسمعها وقالت :
-لا طبعا ، أحنا هنربيه مش هنخلص عليه .. ده مهما كان ابن اختي !
نفث دخان سيجارته وقال :
-عموما أنا في الخدمة في أي وقت ، حسيت بس أنه مزعلك ، وأنا مايهونش عليا أشوفك مضايقـة ..
-أفوق بس من الورطة دي ، وهنفكر سوا نعمله أيه عشان يعرف ازاي يتهجم على بيتي ..
فريد بمكر :
-أنتِ لحد دلوقتِ ناسية معادي مع عاصي بيـه ، وبصراحة البضاعة اللي معايا ما ينفعش تقعد أكتر من كده وزبونها واقف على الباب ، ده بس لاني اديتك يا هانم كلمة ..
-متقلقش بكرة بالكتيـر هاخدلك معاد من عاصي وتتفقوا ..
اقتربت منها جيهان التي تشع نارًا من شدة الغضب وقالت :
-ده ابنك عاصي ؟
توترت عبلة وقفلت المكالمة سريعا :
-لا يا جيهان ده شغل ..
هتفت جيهان بانتقام :
-هو فعلا عاصي السبب في اللي حصل لبنتي يا عبلة !
•••••••
-قهوتك ..
مدت له فنجان القهوة التي أعدته خصيصًا لأجله ، أخذه منها كالغريق المتعلق بحبل النجاة :
-ده جـيه في وقت بالتمـام ..
وقف الثنائي يتأملان المنظر من وراء الشرفـة ، وبعد أول رشفة من القهوة أبدى أعجابه بمذاقها فقال :
-واضح كده مش عيونك وبس اللي هتجيبني على ملا وشي ، فنجان قهوتك كمان طلع حكاية !
تبسمت بخفوت ثم قالت دون النظر إليه :
-لما شفتك قُلت ده رجل مش بيعرف يتكلم غير بلغة الفلوس ، حتى مشاعره واللحظات الحلوة اللي بيعيشها بيشتريها بفلوسـه ..
رفع حاجبه منتظرًا تكملة رأيها فيه :
-طيب ودلوقتِ !
-لازم ؟!
-لا أفهم ، ما بحبش اللي يقول حاجة وميكملهاش ..
أخذت رشفـة من القهوة وقالت :
-حتى ولو هيضايقك .. !!
يخشي نظرتها الحادة التى يفهم مغزاها جيدا ، مد قامته بشموخ ثم قال مراوغًا :
-خلي بالك اللي بيضايقني مجبر يصالحني ، وأنا بكون استغلالي أوي في الحتة دي ، بالذات معاك … أممم هتلكك .
تراجعت على الفور :
-وليه الطيب أحسن .. !!
-خوفتي ؟!
تحدته قائلة :
-مابخافش ..
وبعينين لامعتين من شدة حبه للحديث معها :
-أومال جبتي وراء ليـه وسحبتي كلامك !
تنهدت بثقـة ثم قالت :
-محصلش .. بس مش لطيفة لما أقول لعاصي بيه دويدار انك اتعلمت الأونطة …
ضحك ملء فمه ولأول مرة تراه يضحك هكذا ، ظلت ترمقه بعيون لامعة حتى انتهى من ضحكه قائلًا بثبات :
-منا لقيت أن الفلوس مش سكتك ، قُلت أما أجرب الأونطة ..
-ولو مكنتش سكتي ؟
-متقلقيش هفضل احاول لحد ما اعرف أيه هي سكتك ؟!
ثم غمز بطرف عينـه :
-وراكي وراكي ، مفيش مفر
رمقته بشفقة على حاله :
-ربنا يعينك بقا .
تجرع أخر شئ بفنجانه وقال باحثًا عن هاتفه:
-موبايلي فين ؟
ردت على الفور:
-مع البنات بيتفرجوا على كرتون ..
ثم أخذت الفنجان من يده وقالت :
-هرجعه المطبخ واجيبلك الموبايل ..
انصرفت من أمامه تتخبط بجدران حيرتها وتعجبها من تصرفاتها المبهمة ، من أين ترفضه وتسعى لخلق الحديث معه ، كيف تريد بعده وهي التي تتحاشى الأركان لتبقي بجواره ! أخذت الأسئلة تجوب في رأسها حتى دخلت الغرفة على البنات وجدتهن نيام ، شدت الغطاء فوقهم وسحبت الهاتف برفق وغادرت ، أثناء عودتها إليه لم يتوقف يسري عن إرسال بيانات قاسم التي عثر عليها وبالصدفة فُتحت أمامها صورة قاسم القديمـة ، صورة جلاد روحها قبل ما يتحول لقاسم بيه صفوان ..
تجمدت في مكانها تتفقد معالم الصورة حتى أحضرت ذاكرتها تفاصيل كابوسها المُرعب …
###
تشبث برأسها :
-قاسم انا مصدعة أوي ، من وقت العصير ده وحاسة إني دايخة !! يلا نروح !
مد ذراعه كي تستند عليـه :
-نروح أيه ، اسندي عليا بس واقعدي يلا اقعدي ..
لم تتذكر إلا آهات وجعها وعجزها عن المقاومة ، صوت صرخات البحر وتلاطم الموج غضبًا عن اغتصـاب روح حوريته ، سُلبت روحها وسُلب معها الحياة وباتت فريسـة لمكر ذلك الثعلب الذي تسلل إلى جسدها بدافع الحب :
-أنا مش هسيبك لحد غيري ، أنتِ ليا وبس فاهمـة ! فاهمـة يا رسيل !
ساحت دموعها من مقلتيها وهي لا حول لها ولا قوة وتغمغم بحسـرة :
-ليـه ..
صرخ بصوت ينافس صوت البحر :
-عشان أعرف قنديل المصري مين هو قاسم صفوان اللي رفض يجوزه بنته ، أعرفه أنك بتاعتي وبس حتى ولو العالم كله وقف قاصدي ..
استردت حياة وعيها على صوت سقوط الهاتم من يدها ثم سقطت ورائه تائهة في حالة لا توصف من الذهول حتى اندلعت منها صرخة رفض لماضيها رجت قلب عاصي قبل أركان البيت …
يتبع
(6) ج 2
من كتابها خُلق القلب عصيًا :
-لقد جئتني في الوقت الذي أدركت فيه أن لا فائدة للحُلم ، جئت لتحرق أحلامي الوردية التي تنتظر على ناصيتها الفارس صاحب الحصان الأبيض وقصر الهوى الذي سيشهد على ضحكاتي الرغدة .. جئت بعيد كل البُعد عن خيالي ، ومع ذلك نسيتُ أميري وأحببتك بثيابك المهلهلة ووجهك المُشحم وسقطت في وادٍ عيناك التي رسمت لي الحب جسرًا وأشتهيت المرور عليه بكامل إرادتي .. أحببتك وأنت لا تنتمي لأحلامي .. وفارقتك كعقوبـة من قاضٍ الهوى الذي تمردت على قوانينه ورضيتُ بأقل مما هفا له فؤادي …
~رسيـل_المصري .
•••••
تبدلت ملامح وجهه الساكنة بقُربها وثارت عريكته التي تحولت لغضب يحرق كُل ما يُقابله .. أنصت لصوت دقات قلبه التي ازدادت فجأة وابتعدت عنه بعد ما أرجعت خصله من شعرها وراء أذنها وسألته :
-حصل حاجـة ..
انتهى من كتابة رسالة نصيـة لـيسري يؤكد عليه أن يتبع خطوات المدعو قاسـم وسيتواصل معه صباحـًا ، قفل شاشة هاتفه بعد تلقيـه لتلك الصاعقة التي لم يعد يتحمل بعدها كارثـة وآخرى و رد بنفي :
-لا متشغليش بالك أنتِ ..
حدجته بنظرة تكذيب :
-متأكد ؟
غير مجرى الحديث وسألها :
-بقيتي أحسن دلوقتِ ؟!
أومأت بخفوت :
-أنا تمـام .. أحسـن شويـة .
احتوى كفها بحنو مفرط وقال وهو يناظر نجوم عينيها اللامعـة :
-وأنا مش عايـز أشوفك غيـر في أحسن حال .
أطال التأمل بسمائها معلنًا لقلبـه حقيقة تمسكه بها :
-وأدركت أن مبرري و شغفي بهذهِ العُزلة معك أني أجدُ فيكِ ما لا أجدهُ وأنا مع الناس ، قُربك مرآتي التي أكُون أنا فيها على الحقيقة بلا لونٍ آخر .. يحيى المرء بفضل تلك الأشياء النادرة .. وقلبي حيي بكِ .
وصلت رسالته لقلبهـا فانتفض من مكانه واهتز كيانـه وقالت لتهرب من تلك الورطة التي لا مفر منهـا :
-أنا هقوم أنام .. بعد أذنك .
وثب أمامها بقامتـه العاليـة وهيبته الشامخة ووقف أمامها قائلًا بعرفان :
-شُكرًا لأنك كُنتِ لطيفة معايا قُدام البنات ، وبالعكس انبسطوا أوي .
بعدت عيونها عنه وقالت بجمود :
-ده عشان خاطر البنـات وبس .
تبسم لعنادها الطفولي وقال :
-وأنا راضي يا ستي .
ثم تنهد بتعب :
-يلا روحي نامي ، وأنا هنام هنا ..
رغم رفض دواخلها لقراره إلا أنها اكتفت بإيماءة خافتـة ونظرة أخيرة من مقلتيها وانسحبت بهدوء تجر ذيول تخبطها وحيرتها .. أخذ يُتابع حركتها في الممر حتى أختفت توقفت على باب الغرفة وألقت عليه نظرة لم يفهمها واختبأت بعدها محتمية بـ الجدران التي تفصل بين قلوبهم التائهـة ..
ظل قلبها يخفق بشدة خاليًا من مشاعر الغضب التي استبدلت بمشاعر السلام المحيطة بقلبها كالغيمة الباردة التي تتوق لقوسي شمسه لتتلاشى بينهم كأنها لم تكن .. أمسكت برأسها المعترضة علي طيشهـا ومراهقتها التي لا تليق بإمرأة واعيـة مثلها وقالت بحزم :
-الجنان ده مش هينفع .. لازم يكون في حل !!
ثم ألقت نظرة على ملامحها بالمرآة وسألت قلبها الصاخب :
-أنتِ عايز أيه بس ؟!
أما عنه تمدد على الاريكة رافعًا ذراعه فوق جبهته ثم زفر بضيق :
-ولما نشـوف موالك أيه أنت كمان يا قاسم أفندي .
ثم نهض سريعًا وفحص هاتفه للمرة الثانية التي اكتشف فيها ما حل بـ عاليـة وما فعله مراد نهار أمس ، بدون تفكير أخذ مفاتيحه وفارق المكان هائمـًا على وجهه متوعدًا :
-وشرفي ما هرحمك يا ابن المحلاوي ..
•••••••
" عودة لـ قصر دويدار "
-من وقت الحفلة وأنا مش ملاحقـة على الكوارث والله يا فريد .
قالت " عبلة " جُملتها وهي تتمدد على فراشها بكلل بعد يومٍ متعب استنفذ كل طاقتها ، أشعل فريد سيجارته واتجه نحو مخدعه وهو يهاتفها بنبرة الخداع والمكر :
-مش أنا قايل لك أي مشكلة تكلميني على طول .. ولا أنتِ مش واثقـة في فريد .
-لا لا يا فريد بيـه ، بس محبتش اشغلك بمشاكلي ، أنتَ آكيد عندك حياتك وشغلك ..
ثم غمغمت بتخابث :
-ومراتك …؟
اندلعت منه ضحكة مرتفعـة وقال :
-أولًا أنا مش متجوز ، ثانيًا بقا وده الأهم عبلة هانم المحلاوي تتكلم في أي وقت ، والشغل وحياتي كلها تقف عشانها ..
تبدلت ملامحها الفضولية لأخرى منتصـرة وقالت بدلالٍ :
-ده كتيـر والله ..
-ولا كتيـر ولا حاجة ، المهم حصل أيه معكر مزاج الهانم ، احكي لي ..
"في الغـرفة الثانية "
التي يقطن بها تمـيم وزوجته ، أحضرت شمس كوبًا من مشروب " الينسون " الدافئ له ووضعته بجواره بعجز وهي تعاتبـه بعيونها :
-لازم تنام شوية ، السهر ده هيتعبك أكتر ..
رد باختناق :
-أنام أيه بس يا شمس ، وده وقت نوم ! أنتِ مش شايفة المصايب اللي بتتحدف فوق دماغنـا .
جلست أمامه على طرف السرير وقالت بهدوء:
-من حقك تقلق ، بس من كلامك حسيت أن مراد شخص محترم مش زي أخته ومامته .. يعني آكيد مش هيأذي عاليـة .
مش كده !
تنهد بضيق شديدٍ لعجزه وقلة حيلته :
-نار الغضب بتحرق الأخلاق والعقـل ، وعاليـة ولعت نار هي مش أدها .. مفيش راجل هيبقل الإهانـة دي ويسكت ..
ثم ختم جُملته بقضبته القوية التي فرغت غضبها بـ الكومود وأكمل بعصبية :
-والدليل أهو اختفى ومحدش فينـا عارف يوصلها .. أنا هبلغ الشرطة ..
-استنى بس ، متكبرش الموضوع ، دي في الأول والأخر مراته يعني ممكن تلاقيهم اتصالحو دلوقتِ وبقيوا سمن على عسل ..
ثم ارتسمت ابتسامة خفيفـة على ثغرها كأنها تذكرت شيئًا فاحت رائحة ذكراه وقالت بشرود :
-فاديـة الله يرحمها ، لما كنت اتخانق أنا ونوران مكنتش تدخل بينا خالص ، كانت تقولنـا اتنين ما ينفعش تدخلوا في مشاكلهم مهما حصل ، واحد ومراته ، واتنين أخوات .. المتجوزين بينهم صلة روح ، والأخوات صلة دم .. وأي طرف تالت هيبوظ مش هيحل ..
رمقهـا بإعجاب ثم تمتم :
-يارب يا شمس ، أنت متتصوريش عاليـة دي مش أختي وبس ، لولا الظروف كنت هعرف احميها كويس ..
ثم عادت ملامحه المنكمشـة مرة آخرى :
-بس وديني لأرد لك القلم اتنين يا مراد ، عشان تعرف تبلطج وتمد إيدك على أختي ..
قطع حوار صوت صخب سيارة عاصي التي اقتحمت ممر القصر بسرعة متناهيـة .. ركضت شمس نحو النافذة وقالت بلهفـة :
-عاصي جيـه ..
تحرك تميم بمقعده بسـرعة نحو الباب فلحقت به شمس :
-استني رايح فين !
هبط تمـيم على المنحدر الملاصق للسُلم الذي خُصص لأجله ليواجه أخيـه معلنـًا الحرب بينهم :
-أهي كل المصايب دي بسببك .. شوفت أخر تهورك وعنادك ! مين دفع التمن دلوقتِ غير عاليـة المسكينة .
-هو أزاي الحيـوان ده يتجرأ ويتهجم على البيت بالهمجيـة دي !
قال عاصي جملته بصوت كالرعد أيقظ أهل القصر ، قفلت عبلة مع فريد بسرعة وارتدت روبها الحريري وخرجت إثر مصدر الصوت ، خرج تميم عن صمته الذي طال لسنوات وقال :
-الهمجيـة مش بتولد غير همجيـة زيها ، أنتَ اللي هنت أختك لما اجبرتها تتجوزه ، وأدي النتيجة مش عارفين هي فين ولا ممكن يكون عمل فيها أيه ..
خرجت هدير من غرفتها وعلى المقابل كانت عبلة تركض على درجات السلم بلهفة وذعر :
-أيــه ! صوتكم عالي كده ليه ؟! أنتوا فاكرين بالزعيق ده حل !
ثم اقتربت من عاصي وحدجته معاتبـة :
-ولا حضرتك لسه فاكر أن ليك أهل وبيت مسئولين منك ! لسه راجع دلوقتي تدور على أختك ؟!
نفض دخان غضبه الحارق بوجهها :
-ابن اختك لو لمس شعره من عالية أنا هنسفه من على وش الأرض ..
ثم وجه نظره لهدير وأكمل بعواصف غضبـه مهددًا :
-وصلي الكلام ده لأمك .. أخوكي لو مظهرش أنا هخليه يتمنى الموت ومش هيطوله .
ساد الصمت للحظات يتبادل فيها الجميع النظرات حتى تدخلت شمس قائلة :
-ممكن تهدوا ، ده جوزها ومهما كان سوء الفهم مابينهم هـ يتحل ..
تحولت أنفاس الجميع لدخان يحترق عقد ضبابة سوداء فوق رؤوسهم ، هاتف عاصي رئيس الحرس بغلظة :
-تعالالي …
في تلك اللحظة سمعوا صوت وقوف سيارة بالخارج وحارس الأمن يهاتف عاصي بواسطة اللاسلكي المعلق بالبيت :
-عاصي بيه ، مراد بيه وعاليـة هانم دخلوا القصـر ..
ركض عاصي هائمًا على وجهه وتابعه الجميع بلهفـة ، هبطت عاليـة صاحبه أعين السمك الميت ، عيونها الجاحظة ولكنها مُغيبة تمامًا عن الوعي .. انطلق عاصي إلى السيارة وهجم على ياقـة مراد وسحبه من السيارة صارخًا بوجهه :
-انزل …
هرولت عاليـة لتفصل بين شجارهم صارخة :
-عاصي أنت مش فاهم حاجة .. سيبه .
دفع عاليـة من أمامه بيساره تابعتها يمينه بلكمة قوية تحت عينـه وصرخ بوجهه :
-أنت بأي حق تتهجم على بيتي بالسلاح وتمد أيدك على أختي !!! دا أنا انسفك من على وش الأرض يالا !
دفعه مراد بقوة ليتخلص منه ، وعاتبـه بغضب :
-لسه فاكر أن ليك أخت ؟! أختك اللي رميتها عشان بس صورتك قدام الناس ومكانتك ؟ عشان تنفي شوية إشاعات !!
ثم ثبت عيونه بعيني عبلة :
-ولا خالتي اللي معتبتش بيتي تطمن على بنتها ؟! كأنها بيعة وصدقتوا ما خلصتوا منها ؟!
فأشار بسبابتـه نحو صدره :
-أنا أه غلطت وغلط مش هسامح نفسي عليه من أول ما قبلت بالجوازة دي .. قبلت ادخل لعبـة رخيصه واستخدم حد ملهوش ذنب عشان احقق اللي عـايزه !!
بلل حلقه ثم أتبع :
-بس اللي عايز أوصل له معماش قلبي ؟! ولا خلاني أقرب من واحدة لسه مش عارفة مشاعرها أيه ناحيتي ! أختك دي أنا غلطت في حقها زيكم بالظبط ومهما حاولت أعوضها مش كفاية ، الطريقة الوحيدة اللي ترجع بيها لنفسها هي أني اطلقها .. علاقتي بأختك بقيت مستحيلة ، أهي عندك ملمستش فيها شعرة ..
ثم أخفض نبرته منبهًا :
-بس يا ريت تعرف تحافظ عليها وتحميها زي ما أنا عملت ..
مجرد ما أنهى حديثه صعد سيارته على الفور وغادر لعنة ذلك القصر بسـرعة ، اقتربت عالية من عاصي ومسكت يده وقالت بأنين ضعف :
-أنا كويسـة ، محصلش حاجة .
أطرق نظراته بصدمة مما سمعه ولم يتحمل النطق بشفا كلمـة ، اكتفى أن يضمها إلى صدره ويربت على ظهرها بحنان ثم همس معتذرًا :
-حقك عليـا يا عاليـة .. كل واحد غلط في حقك وأولهم أنا لازم يتعاقب ..
تدفق سيل دموعها الذي لم يتوقف وقالت باستسلام :
-كلها دروس عشان نتعلم منها ، وأنا اتعلمت واتعلمت كتير أوي .. متحملش هم ذنبي ، أنا المذنب الوحيد في كل ده ، أنا اللي كنت بقول حاضـر على حساب نفسي وحياتي .. أنا اللي كان لازم اتعاقب وأهي الدنيا مقصرتش معايـا …
أردفت كلماتها ثم انسحبت بهدوء ، بدون كلمة واحدة مكتفية بالمعارك الطاحنـة الدائرة بها .. تود أن تبحث عنها وعمن تكون في داخلها في وسط الزوبعة العاكسة للاوهام، فلم تجد إلا دخانًا قد تلاشى مع بقية الأرواح المهاجرة بعد كل كارثـة حلت بها .
اندفعت هدير نحوه وأخذت تربت على كفته بثقة وقالت :
-معلش يا عاصي متزعلش نفسك .. يلا تعالى ارتاح في أوضتك ..
حدجها باشمئزاز ثم ابتعد عنها بدون كلام ، جاءت عبلة من الخلف متنهدة :
-الحمد لله عالية بخير ، هنام وانا مطمنة عليهـا .. بالحق بناتك فين يا عاصي ؟!
أغمض عيناه طويلًا ثم أجاب بملل :
-عند خالتهم مروة ..
مجرد ما أردف جملته رحل مُفارقًا ساحة القصر متجهًا إلى غُرفتـه ، مالت شمس على آذان تميم قائلة :
-تعالى نطمن علي عاليـة ..
ما زالت عبلة تحت سطو ذهولها ثم صرخت لنفسها بإعتراض :
-البنات بيعملوا أيه عند مروة !!
تمتمت هدير ببراءة مزيفـة :
-أنا هروح اطمن عليه ..
انصرفت هدير محددة وجهتها وهي غُرفة نومه ، مجرد ما دخلت وجدته مُلقيـا على مخدعه بحذائه الذي لم يتكلف ويخلعه .. اقتربت منه بهدوء الحيـة قبل أن تلذع فريستها وقالت بلين :
-معقولة نمت بالسرعـة دي !
ثم جلست بجواره وأخذت تداعب جدائل شعره بدلال حتى وشوشت إليـه :
-أي رأيك في حمام دافي ومساج يخلي كل الهم إلا على وشك ده يفك ..
لم يتكرم ويفتح جفونه حتى لا يرى وجهها الذي يذكره بأخطائه الكبرى :
-أطلعي بره يا هديـر ..
ببرود :
-هطلع بس لما اطمن عليـك بقيت كويس ولا لا ..
فرغ من مرقده ثم خلع حذائه بكلل ورماه بعشوائية .. شد العظاء فوق جسده متجاهلًا وجودها تمـامًا وخلد إلى النوم ، لم تتحرك من جانبـه إلا لتنزع سترتها الفضفاضة مكتفيـة بملابس النوم وتمددت هي الأخرى بجانبـه ..
••••••••
" صبـاحًا "
لم يتحرك مراد من مقعده الذي احتواه طوال الليل وملابسـه المُقيدة لحركتـه .. أحس بأزميل الفراق بدأ ينخر في قلبـه ، بات صدره وبيته خاليـًا من وجودها للأبد ، بات طيف وجودها يحاصـره بكل مكان .. من بدايـة قسوته معها لنعومـة أيامهم سويًا .. مر شريط الذكريات سريعًا حتى نطق عقله ليحسـم المعركـة :
-مكنش ينفـع ، أنتِ اللي اخترتي يا عاليـة ..
أما عنهـا ؛ فلم يزر النوم عينها للحظـة ، كل ما بها ساكن تحت صاعق الصدمـة ، صدمة الكلمة " أنتي طالق " و الفراق وتبدل حالها لحال أسوأ ، تجلس تحت الشرفـة كالقرفصاء تناجي الليل والنجوم أن تدل حيرتها .. لم تفارق هاتفها الذي كل حين وآخر تلقي عليـه نظرة متأملة في اتصال حتى ولو بالخطأ منـه ..
ثم تدفق إلى قلبها سيل الشوق والحنين إلى التحدث مع الله كما كانت تفعل كل ليلة .. نهضت بهدوء للتوضأ ثم افترشت سجادة الصلاة وبعد وقت طويلٍ من السجود خرت باكيـة ومناجيـة :
-"أعلمُ أنك لن تتركني وأنني في عنايتكَ وأنك ستدلني كلما تهتُ وستعيدني إليك كلما ابتعدتُ، وأعلمُ أنك تسامحني أكثر مما أستغفر، وتحرسني أكثر مما ألجأ، وتحميني أكثر مما أحذرُ، وتُحبني أكثر مما أطيعُ
وأعلمُ أنني بئس العبدُ، وأنكَ نِعم الرّب
أستغفرك وأتوب إليك يا عظيم ولا حول ولا قوة إلا بكَ"
نهضت نوران على صوت نحيبها الدفيـن فغاصت هي الأخرى في البكاء لانها لا تملك وسيلة لتهون عليـها بل شاركتها في الهم والدمع …
••••••••
فتح عاصي عينيـه مازال الغضب والنفور يحاوطه وتيقن من مصدره عندما ولى وجهه وجد تلك الأفعى تتوسد مخدعـه وتطوقـه بذراعها ، رماه بعيدًا ثم قال بضيق وهو ينفث دخان غضبـه بقوة ، نهضت هدير متخذة دور الزوجة الحنونـة :
-حبيبي نمت كويس !؟
رد بإختصار :
-لأ …
قامت خلفـه :
-ليـه .. ؟
-عشان مش بحب حد ينام جمبي .
اقتربت منه متعمدة إثارة غضبـه وتغنجت :
-حبيبي هو أنا وابنك حد ! على فكرة أنا كنت همشي بس ابنك هو اللي صمم ، شكله محبش يسيبك وأنت مضايق ..
ثم غمزت بعينيها :
-مهنتش عليـا .
تجاهل الشجار معها وشرع في خروج ملابسه من الخزانة ففوجئ بها تمرر أناملها على جدار عنقه وتقول :
-أنت هتاخدني بذنب مراد ولا أيه ..
رد بتأفف:
-لا متقلقيش كل واحد سجله عندي مليـان وزيادة .
-يعني أيه ..
ولى وجهه إليـها :
-تعرفي أنا عملت في حياتي جرايم كتير ومندمتش على حاجة فيهم .. إلا جريمة واحدة هفضل ادفع تمنها عمري كله ، وهي أني اتجوزتك .
استقبلت إهانته ببرود وحاولت تلطف الأمر معه وهي تعانقه بدلالٍ:
-أخص عليك يا عاصي ، تصدق أن دي أحلى حاجة في حياتي إني اتجوزتك .
أجابها بفتور :
-طبيعي ..عشان حياتك كلها مفيهاش حاجة عدلة ياهدير ..
ثم اسقط ذراعيها من عليه واقترب منها بابتسامة غامضـة حتى اندمجت انفاسهم وهمس إليهـا بتخابث :
-حطيتي أيه لحياة في العصير ؟!
رفرفت رايات الصدمة على ملامحهـا وهي تغمغم :
-أنت عرفت أزاي !
ابتسم بانتصار ثم قال :
-كنت متأكد أنك أنتِ اللي وراء الحركة الرخيصـة دي ! مش بقولك كل واحد دفتره مليان عندي .
هتفت مبررة :
-أنت بتقول أي جنان وخلاص ! مالي أنا ومالي بست بتاعة دي ..
اخفض نبرته :
-أهدي يا هدير ! أنا بسألك بس عشان عايز اعرف اسمه ايه ، مش يمكن احتاجه تاني .
توترت قليـلًا :
-أنت بتقول أيه ! لو عايزني امشي من البيت قول لي امشي يا هدير لكن مش تتهمني بحاجات عشان تطلعني وحشة كدة ..
-أنا مش محتاج مجهود عشان اظهرك على حقيقتك كل حاجة واضحة وضوح الشمس .. بس انا ماشي معاكي بمبدأ خلي عدوك تحت عينك تسلم .
ثم انقض على ذراعها واحتدت نبرته المرعبة وصرخ بوجهها :
-أنا لو وريتك وش دويدار الحقيقي هتتمني الموت ، وللمرة الألف بقولهالك طلعيني من دماغك يا هدير ..
-بلاش يا عاصي ، بلاش تحطني في خانـة العدو عشان مجربتش عداوتي ..
اشعلت نار الانتقام برأسه من عائلة المحلاوي ، فثارت عواصف غضبـه معلقة بشعرها وشدها بعنفوان وهو يجهر :
-بس أنتِ مجربة …
فتح باب غرفته تحت صوت صراخها ودفعها بكل قوته بعيدًا عنه فاختل اتزانها وتكومت لتأكل بجسدها منحدر السُلم الطويل وهي تستغيث صارخة ..
هرول الجميع إثر صوتها الصاخب وصرخات استغاثتهـا ، أما عنه فوقف ثابتًا يشاهدها بصدمـة ، فلم يسعى لأذيتها بهذه الوحشيـة ، ركضت شمس ثم تابعها نوران وعبلة نحو مصدر الصوت .. جلست شمس على ركبتيها وحاولت إفاقتها فوجدتها تغيبت عن الوعي وفقدت إدراكها.
تفوهت عبلة بصراخ :
-اطلبـوا الإسعاف بسرعـة دي بتنزف ….
•••••••
فتحت حياة جفونها المُطلة على الفتاتين اللاتي ملن الانتظار بمفردهن .. تفوهت بصوت متكاسل :
-أنتـوا صحيتو بدري ليـه ؟؟
تاليـا ببراءة :
-اتعودنـا عشان المدرسـة كل يوم ..
أفسحت لهم مكانًا :
-طيب تيجوا تنامو جمبي ؟!
داليـا برفض :
-أنا جعانة عايزة أفطر ..
ثم أيدتها تاليـا :
-وأنا كمان جعـانة ..
أحست حياة إنها بورطة جديدة، نهضت بتكاسل وهي تلم شعرها :
-هو بابي مش بره ؟
هزت تاليـا رأسها يمينًا ويسـارًا :
-لا .. بابي خرج ..
أصدرت حياة إيماءة خافتة :
-طيب تحبـوا تفطروا أيـه ؟
لم تلق منهم أي رد ثم أكملت :
-تعالوا نفكـر فـ المطبخ !
خرجت حياة من الغرفـة ثم اتبعها البنتين وشرعت في إعداد وجبة الأفطار ، سألتهـا داليـا ببراءة :
-أنطي .. ممكن اسال سؤال ؟
أخرجت حياة الخبز المجمد من المبرد ووضعته بالفرن الكهربي وقالت :
-اتفضلي طبعًا ..
-أنتِ بتحبينا ..؟
-آكيد طبعًا وبحبكم أوي كمان ..
-وبتحبي بابي !
ظلت ترمقها بنظرات خرساء ثم قالت بذهول :
-ليه السؤال ده يا داليـا ؟
-مش عارفة، بس أنا بشوف بابي فرحان أوي هنا ..
ثم تدخلت تاليـا :
-أنطي ، حضرتك ليه مشيتي من القصر ؟
-والله يا توتا السؤال ده يجاوب عليـه بابي ، مش أنا .. هو اللي عايز كده.
ثم جاءت بسؤالٍ جديدٍ :
-أنطي ، أنتِ وبابي متجوزين .. مش كده ؟
غمغمت بتيـه :
-والله منـا عارفة حاجة ؟
ثم جهرت بصوت مسموع :
-ااه .. اااه يا حبيبتي ..
-يعني أنتِ تبقي مامي ؟
تتزاحم الأفكار في ذهنها فلم تستطع تميز شيئا منها سوى إيماءة خافتـة ثم قالت :
-ااه ، طبعا مامي عند ربنا .. بس أنا موجودة هنا لو احتجتوا أي حاجة ..
طلبت منها الصغيرة بترجي :
-طيب ممكن تبقي تروحي معانا المدرسة عشان صُحابي يشوفوا ويصدقوا أنك مامي بجد ..
-ان شاء الله يا حبيبتي ..
ثم أردفت تاليـا سؤالًا أحدث رجة بصدرها :
-أنطي .. لو جبتي بيبي هيكون أخونا الصغير ؟
-أيــه !
ثم بللت حلقها ونبرتها المبحوحة وقالت :
-ليه الكلام ده يا توتا ..
-عشان نفسي يكون عندنا بيبي صغير نلعب بيه أنا وداليـا .. بس مامته متكونش أنطي هدير عشان مش بتحبنا .. ولا أحنا كمان بنحبها.
هربت حياة من قسوة اسئلتهم على رائحة الخبـز المحترق وقالت بفزعٍ :
-العيش اتحرق …
جاء عاصي في هذه اللحظة ، فسمع البنات صوت مفاتيحه فركضن فارحيـن مهللين بقدومـه ، تنفست حياة الصعداء وأخرجت زفيـر اسئلتهم المحرجة وقالت لنفسها :
-اهدي اهدي .. دول عيال صغيـرين .. هتعملي عقلك بعقلهم !
ثم عادت لتكمـل الفطار بفوضى وعدم تركيـز ولم يصدح برأسهـا إلا طلب البنات الغريب ، وضعت كفها على قلبها النابض ثم جوفها فـقالت برفض قاطع :
-مستحيـل .. أنا أخلف من البني آدم ده !!!!!
استلمن الفتاتين رأس أبيهم الذي خلع هموم القصر بخلع حذائه أمام البـاب متناسيًا أمر هدير التي تجهض بالمشفى ، سُحب بواسطة بناته إلى المطبخ وسألته أحدهم :
-بابي أنت روحت فين ؟
-روحت شغل ورجعت أهو .
ثم رفع صغيرته على بار المطبخ وأكمل بصوت عالٍ :
-مقدرتش أبعد عنكم أكتر من كده .. لقيت قلبي مجرور لعندكم وسايب شغل أد كده ورايـا ..
ثم حمل الثانية بجوارها وهي تقول بسعادة :
-بابي أنا مبسوطة أوي ..
-ليه ، فرحيني معاكي ..
قالت داليـا ببراءة :
-اتفقنا مع أنطي حياة هتجيب لنا بيبي نلعب بيه .. أيه رأيك ؟!
ارتسمت ابتسامة واسعة على محياه وهو يجيب :
-وأنا جاهز جدًا ، بس هي تأشر بس ..
سألتـه بجزل طفولي :
-أحنا هننزل نشتريـه سوا من عند الدكتور ؟!
قهقه عاصي بصوت عالٍ جعله يتناسى همومه المتكدسـة ويهرب إلى ملاذه الوحيد بين صخب الحياة ، رصت حياة الأطباق على الطاولة ثم نادت بحدة :
-الفطار جاهز ..
تاليا بمرح :
-يلا يا بابي نفطر ..
ملأ الرباعي أضلاع السفرة المُربعة وشرعوا في تناول فطورهم بصخب مفعم باسئلة بناته ومزاحه معهم حتى غمز لها بطرف عينه متسائلًا :
-سرحانة ومش معانا خالص على فكرة ..
لكت اللقمة في ثغرة ثم ابتلعتها برشفـة ماء وقالت :
-لا أبدا شبعت .
ثم وثبت قائمة وهربت من نظراته الحارقة ودخلت غُرفتهـا ، مسح ثغره ثم دخل وراءها بعد ما أكد على صغاره بتناول إفطارهم كاملًا ، ومجرد ما قفل الباب خلفه قال :
-أنتِ زعلتي ولا أيه ؟! أنا كنت بهزر على فكرة .
جلست على طرف السرير وسألته بجفاء:
-أنت جبتني هنا ليـه ؟
حرر أول زرارين من قميصـه ثم فكر طويلًا حتى جلس أمامها وقال بارتياحٍ :
-عشان عايز أبعدك عن عاصي دويدار وجبروتـه ..
أشاحت نظرها كي لا ترى عيناه وهي تتحدث فتصاب بأسهم الضعف مـرة آخرى ، قرأ الحيرة بعيونها فأكمل موضحًا :
-عالم عاصي دويدار مخيف ومرعب ، أنا عايـز أبعد عن كل ده ، عايز أجيلك هنا كأنك تذكرة سفر حرة قادرة تخليني ألف العالم كله وأنا قاعد مكاني باصص في عيونك …
صمت طويلًا ثم قال :
-عمرك ما هتحبيني وأنا لابس توب دويدار .. التوب ده أكبر لعنـة في حياتي ، عايزك الركن الهادي اللي ارتاح من الدنيا بحالها عندك .. هنا عايز انسى أنا مين ، وأنتِ الوحيدة اللي حسيت معاها بكل ده ..
تركض في حلقة مستديرة يملأها الخوف .. رجل لا يمكنه أن يفرط بها حتى ولو اتبع خطاها إلى أخر العالم .. احتوى كفيها وتمتم راجيـًا :
-خليكي مركبـة النجاة اللي هتنقذني من العك اللي أنا عايش فيـه ..
-أنت قررت كل حاجة من غير ما تاخد رأيي ، أنا مش الشخص اللي في خيالك ؟
نظراتها المهترئه المهزوزة التي تعلن قسوة قراره جعلته يتحرك من مكانه ليقترب منها قائلًا :
-أنت الحاجة الصادقة اللي جات لي من الخيال ، مكنتيش مجرد خيال يا رسيل …
رفعت حاجبها باستغراب :
-أول مرة تقولي رسيـل ..
-لما الموضوع يتعلق بالبحـر تبقي رسيل ، كُنتِ الميـة العذبة اللي خرجت لي من البحر ، المية اللي روت قلبي ، كُنت رسول الحب بيني وبين البحر الوحيد اللي حس وفهم أنا عايز أيه وجابك لحد عندي … تفتكري كل ده صدفة ؟!
حانت منه التفاتة إلى ساعة الحائط ثم أكمل :
-كُنتِ قاطعـة النفس، كل اللي حوليا خافوا عليا اتورط فيكي ، لما أمرتهم يرموكي في البحر حسيت بسلك كهربي كلبش في قلبي .. ودي كانت أول مرة قلبي يتحرك فيها من زمان أوي ومكنتش عارف السبب .. لما بصيت في عيونك عشان استدل تُهت ، تهت أكتر منا تايه ..
أخذ نفسًا طويلًا :
-أول مرة أرغي واكتشف إني رغاي قدامك ، مش بقولك لقيت معاك عاصي اللي بدور عليـه من زمان !
-بردو ما ردتش على سؤالي ، كل كلامك بتفكر في نفسك وبس ، أنا فين من كل ده ؟! مش يمكن مشاعرك دي كلها من طرف واحد ! ليه بتعلق نفسك بواحدة هي مش عارفة هي مين !! ومستني منها تنور حياتك !
أخذ يبتسم في هدوء عجيب مناقض لمجرى الحديث :
-طيب ما تقولي الكلام ده و أنت باصـة في عيني ..
اهتزت نظرتها وقالت :
-أي كلام …!
-اللي قولتيـه .. قوليلي مش عايزاك ، أبعد عني ..بس وأنتِ باصة في عينيا .
اصبحت اجمل في تمنعها وتدللها عليـه عندما أثقل على كتفيها مصيرهم ، تحمحمت بخفوت ثم قالت بتوتر :
-أنت جايب الثقـة دي كلها منين ؟!
رد بثقة :
-مني …!
زفرت بضيق أخفت ورائه ابتسامتها وقالت :
-والله !
ثم أعلنت رفضها :
-بس أنا مش موافقـة على الوضع ده .. منا مش شقة مفروشة تيجي فيها عشان تريح دماغك ..
-ما كُنا حلوين قلبتي ليـه ؟!
ثارت محتجة :
-عشان الوضع ده مش عاجبني ..
ثم فرت من أمامه هاربـة وخرجت من الغرفـة لتحتمي بالصغاره من مكر الثعلب الذي يراوغ بقلبها بدون شفقـة ، من قبيل خبرته بالنساء خفق صدره بانتصار وهو يقول لنفسه :
-شكلك هتغلبيني …
رن هاتفه في تلك اللحظة ، إذن بعبلة معترضة :
-أنت فين يا عاصي ، هدير هنا بتسقط وخالتك وكريم هنا وأنت اختفيت مرة واحدة ، فينك .
هلل بفرحٍ :
-يافرج الله ؟!
ثم تحجج قائلًا :
-عندي شغل .. مضطر أقفل ، سلام دلوقتي..
•••••••
-يا عاليـة أنتِ لازم تاكلي عشان صحتك يا حبيبتي ..
أردفت شمس جملتها التي كررتها كثيرًا حتى يأست من قبول عالية للطعام ، تدخل تميم قائلًا :
-طيب أنتِ زعلانة ليـه ، مش اطلقتوا ، ولو على حقك هيرجع لك صدقيني ، وابن المحلاوي هنعلمـه الأدب .
فزعت متوسلة :
-لا يا تميم .. وغلاوتي عندك بلاش أذية ، مراد عصبي بس عمره ما قل مني بالعكس أنا اللي غلطت فيه ..
رمقها تمـيم بنظراته الكاشفة :
-فيكي أيه يا عاليـة ! متغيرة ليـه ؟
-أبدا يا تميم .. أنا كويسة .
ثم تحججت هاربة من حصار نظراته :
-هنزل اتمشى شوية في الجنينة ..
انصرفت عاليـة فاقتربت شمس منه وطالعته بنظراتها الحائرة ، سألها تميم بفضول :
-شايفة أيه ؟؟
تنهدت شمس بألم ثم قالت :
-بتحبـه ، دي مش عالية اللي أعرفها ، غير كدة نوران بتقولي أنها طول الليل بتعيط ، دا يدل أنه أثر فيها ..
نفى تميم نظريتها :
-لالا .. عالية موجوعة وشايفة أنها اتهانت وهي ماتستاهلش ، هي صعبانة عليـها نفسها مش أكتر .. حاسة أنها مكسورة ..
أجابته بثقة :
-الحب الحاجة الوحيدة اللي تكسر أقوى ست .. وده اللي شايفاه في عاليـة ..
ثم رفعت حاجبها متحدية وهي تعد له خُبزة محشية :
-هتشوف مين فينا الصح .
مدت له الخبز وقالت بخفة :
-اتفضل كُل أنت كمان ومتغلبنيش زيها .
أخذ الرغيف من يدها ثم غير مجرى الحديث قائلًا بغزل:
-أنا قُلت لك قبل كده أن شعرك جميل !
شرعت بطوي شعرها بخجل وهي تبرر :
-أسفة مأخدتش بالي ، أنا اتشغلت بس مع عاليـة و
أمسك ذراعها كي تكُف عما تفعله وقال بحنو :
-وأنا عشان بقول لك شعرك جميل، تحرميني من شوفته ، تاني مرة هأبقى أعاكسك في قلبي يا ستي .
بات قلبها تحت خيمته يتراقص ، بللت حلقها الذي جف وقالت بحزن:
-فاديـة كانت بتحب تضفره دايمًا ، من يوم ما مشيت وأنا مش بعرف أعمله ولا عارفة أهتم بيه ، بقيت مهملة فيه خالص ..
-أنا بعرف أضفره على فكرة .. أممم لو حبيتي يعني ، أنا بردو مش غريب!
وثبت كالملدوغة متحججة:
-هروح أشوف نوران فطرت ولا لسـه ..
دومًا ما تكون حقائب صبر العاشق ضائعة في بحور الهوى ، إلى متى سيتعمد دفن مشاعره المتحركة باستمرار نحوها ؟! متي تفتح قلبها وترافقه دربه الخالٍ من البشـر مكتفيًا بها بقية عمره .
•••••••
-تحبي أخلصك من الجدع اللي اسمه مراد ده خالص ؟
أردف فريد جُملتـه الأخيرة بعدما اطمئن على حالة عالية ووصولها لمنزلها .. ابتعدت عبلة عن أختها بحذر ألا تسمعها وقالت :
-لا طبعا ، أحنا هنربيه مش هنخلص عليه .. ده مهما كان ابن اختي !
نفث دخان سيجارته وقال :
-عموما أنا في الخدمة في أي وقت ، حسيت بس أنه مزعلك ، وأنا مايهونش عليا أشوفك مضايقـة ..
-أفوق بس من الورطة دي ، وهنفكر سوا نعمله أيه عشان يعرف ازاي يتهجم على بيتي ..
فريد بمكر :
-أنتِ لحد دلوقتِ ناسية معادي مع عاصي بيـه ، وبصراحة البضاعة اللي معايا ما ينفعش تقعد أكتر من كده وزبونها واقف على الباب ، ده بس لاني اديتك يا هانم كلمة ..
-متقلقش بكرة بالكتيـر هاخدلك معاد من عاصي وتتفقوا ..
اقتربت منها جيهان التي تشع نارًا من شدة الغضب وقالت :
-ده ابنك عاصي ؟
توترت عبلة وقفلت المكالمة سريعا :
-لا يا جيهان ده شغل ..
هتفت جيهان بانتقام :
-هو فعلا عاصي السبب في اللي حصل لبنتي يا عبلة !
•••••••
-قهوتك ..
مدت له فنجان القهوة التي أعدته خصيصًا لأجله ، أخذه منها كالغريق المتعلق بحبل النجاة :
-ده جـيه في وقت بالتمـام ..
وقف الثنائي يتأملان المنظر من وراء الشرفـة ، وبعد أول رشفة من القهوة أبدى أعجابه بمذاقها فقال :
-واضح كده مش عيونك وبس اللي هتجيبني على ملا وشي ، فنجان قهوتك كمان طلع حكاية !
تبسمت بخفوت ثم قالت دون النظر إليه :
-لما شفتك قُلت ده رجل مش بيعرف يتكلم غير بلغة الفلوس ، حتى مشاعره واللحظات الحلوة اللي بيعيشها بيشتريها بفلوسـه ..
رفع حاجبه منتظرًا تكملة رأيها فيه :
-طيب ودلوقتِ !
-لازم ؟!
-لا أفهم ، ما بحبش اللي يقول حاجة وميكملهاش ..
أخذت رشفـة من القهوة وقالت :
-حتى ولو هيضايقك .. !!
يخشي نظرتها الحادة التى يفهم مغزاها جيدا ، مد قامته بشموخ ثم قال مراوغًا :
-خلي بالك اللي بيضايقني مجبر يصالحني ، وأنا بكون استغلالي أوي في الحتة دي ، بالذات معاك … أممم هتلكك .
تراجعت على الفور :
-وليه الطيب أحسن .. !!
-خوفتي ؟!
تحدته قائلة :
-مابخافش ..
وبعينين لامعتين من شدة حبه للحديث معها :
-أومال جبتي وراء ليـه وسحبتي كلامك !
تنهدت بثقـة ثم قالت :
-محصلش .. بس مش لطيفة لما أقول لعاصي بيه دويدار انك اتعلمت الأونطة …
ضحك ملء فمه ولأول مرة تراه يضحك هكذا ، ظلت ترمقه بعيون لامعة حتى انتهى من ضحكه قائلًا بثبات :
-منا لقيت أن الفلوس مش سكتك ، قُلت أما أجرب الأونطة ..
-ولو مكنتش سكتي ؟
-متقلقيش هفضل احاول لحد ما اعرف أيه هي سكتك ؟!
ثم غمز بطرف عينـه :
-وراكي وراكي ، مفيش مفر
رمقته بشفقة على حاله :
-ربنا يعينك بقا .
تجرع أخر شئ بفنجانه وقال باحثًا عن هاتفه:
-موبايلي فين ؟
ردت على الفور:
-مع البنات بيتفرجوا على كرتون ..
ثم أخذت الفنجان من يده وقالت :
-هرجعه المطبخ واجيبلك الموبايل ..
انصرفت من أمامه تتخبط بجدران حيرتها وتعجبها من تصرفاتها المبهمة ، من أين ترفضه وتسعى لخلق الحديث معه ، كيف تريد بعده وهي التي تتحاشى الأركان لتبقي بجواره ! أخذت الأسئلة تجوب في رأسها حتى دخلت الغرفة على البنات وجدتهن نيام ، شدت الغطاء فوقهم وسحبت الهاتف برفق وغادرت ، أثناء عودتها إليه لم يتوقف يسري عن إرسال بيانات قاسم التي عثر عليها وبالصدفة فُتحت أمامها صورة قاسم القديمـة ، صورة جلاد روحها قبل ما يتحول لقاسم بيه صفوان ..
تجمدت في مكانها تتفقد معالم الصورة حتى أحضرت ذاكرتها تفاصيل كابوسها المُرعب …
###
تشبث برأسها :
-قاسم انا مصدعة أوي ، من وقت العصير ده وحاسة إني دايخة !! يلا نروح !
مد ذراعه كي تستند عليـه :
-نروح أيه ، اسندي عليا بس واقعدي يلا اقعدي ..
لم تتذكر إلا آهات وجعها وعجزها عن المقاومة ، صوت صرخات البحر وتلاطم الموج غضبًا عن اغتصـاب روح حوريته ، سُلبت روحها وسُلب معها الحياة وباتت فريسـة لمكر ذلك الثعلب الذي تسلل إلى جسدها بدافع الحب :
-أنا مش هسيبك لحد غيري ، أنتِ ليا وبس فاهمـة ! فاهمـة يا رسيل !
ساحت دموعها من مقلتيها وهي لا حول لها ولا قوة وتغمغم بحسـرة :
-ليـه ..
صرخ بصوت ينافس صوت البحر :
-عشان أعرف قنديل المصري مين هو قاسم صفوان اللي رفض يجوزه بنته ، أعرفه أنك بتاعتي وبس حتى ولو العالم كله وقف قاصدي ..
استردت حياة وعيها على صوت سقوط الهاتم من يدها ثم سقطت ورائه تائهة في حالة لا توصف من الذهول حتى اندلعت منها صرخة رفض لماضيها رجت قلب عاصي قبل أركان البيت …
يتبع