رواية مملكة سفيد الفصل الخامس والثلاثون 35 بقلم رحمة نبيل
قبل القراءة متنسوش التصويت والتعليق على الفصل.
_________________
تلك الكلمات التي سمعها تخرج من فيها، ورُغم أنها كانت متوقعة، إلا أن صداها شابه صدى إلقاء قنبلة مدوية في وسط غرفة فارغة .
تراجع إيفان للخلف يحاول أن يستوعب ما سمع، ينظر لملامحها التي أجابت سؤاله قبل لسانها، ملامحها التي أعادته لذلك الوقت الذي كان يجاور والده في غرفته يرى صورة لوجهها في خزانته الخاصة، ملامح كان يحقد عليها في وقتٍ من الأوقات ظنًا أنها السبب الأساسي في تعاسة والدته، حتى اكتشف أن تلك الملامح لم تكن الأقرب لوالده فقط، بل وله أيضًا .
ابتلع ريقه تحت نظرات زمرد التي بدأت تشعر بالريبة منه ومن تشنجات جسده، وقررت أن تنهض وتبحث عن شيء تحتمي به، حتى إذا قرر أن يتخذ أي خطوة مريبة صوبها تلقيه بها في وجهه ...
" والدتك ؟؟ هي نفسها والدتك التي أنجبتك ؟!"
بالنسبة لإيفان كان سؤاله يحمل سر خلفه، أما لها فهي رمقته فقط بسخرية لا تدرك ما يدور حوله هامسة في نفسها :
" مرحى يا كهرمان تسببتي في جنون الرجل "
زفرت تقول بصوت منخفض حتى تنتهي من هذا التحقيق :
" نعم، وهل هناك والدة غير تلك التي أنجبتك ؟! ما تعريف الأم بالنسبة لك إن لم تكن هي نفسها من أنجبتك ؟؟"
رفع إيفان عيونه لها يبتسم بسمة لم تفهمها هي ولم تفهم إن كانت ساخرة أم موجوعة، هو فقط هز كتفه لها يتحرك صوب الفراش الخاص بها بشكل جعلها تشعر بالريبة وهي تتراجع، تسمع صوته يقول بهدوء :
" هل ستصدقيني إن أخبرتك أن لا تعريف للأم لدي؟؟ فأنا لم اعلم حتى هذه اللحظة كيف تكون الأم، هل هي من انجبتني حقًا ؟! وإن كان هذا هو التعريف الحقيقي للأم فأنا لم احصل على واحدة كالجميع، لم أكن محظوظًا لأفعل، وإن كان تعريف الأم أنها هي من تعتني بك، فهذا أيضًا لم احصل عليه فلم تعتني بي أم، لذا أخبريني أنتِ هل ..."
توقف ثواني وكأنه يحاول اخراج الاسم من فمه دون أن يخرج غصته معه :
"هل آمنة هي والدتك التي أنجبتك ؟!"
شعرت زمرد بالوجع يتسرب من أحرف إيفان صوبها، لتشعر وللمرة الأولى بالشفقة عليه، وقد تحطمت صورة الملك المتجبر أمامها لترى إنسان طبيعي يشعر كالجميع:
" ما علاقتك بوالدتي ؟! لِمَ كل هذه الأسئلة عنها ؟! هل ؟؟ هل تعرفها ؟؟"
أخرج إيفان العقد الذي كان يخفيه بين طيات ثوبه :
" هل هذا العقد يعود لها ؟!"
اتسعت أعين زمرد بفزع تتحسس رقبتها الفارغة وقد بدأت نبضات قلبها تزداد بشكل مرعب تمد يدها لتلتقطه بقوة من بيت أنامله، لكنه أعاده للخلف بسرعة بشكل جعل انتفاضة جسدها تصبح اقوى واقوى مما جعل وجعها يزيد وهي تتمسك بمعدتها تطلق صرخة مرتفعة، ازداد رعب إيفان على إثرها :
" يا ويلي هل أنتِ بخير ؟؟ اجلسي مكانك وتوقفي عن الحركة "
رفعت زمرد عيونها له وهي تستند على الجدار خلفها تحاول التحرز لنزع عقد والدتها من بين أصابعه، لكنه كان فقط مشغولًا في النظر لها بقلق آثار ريبتها :
" اعطني هذا العقد، إنه لي أنا ؟! كيف تتجرأ وتسرقه مني ؟؟"
نظر لها إيفان بصدمة يصرخ مذهولًا من استنتاجها ذاك :
" سرقته ؟؟ هل تمزحين معي ؟؟ كيف يسرق الإنسان ما يخصه ؟!"
اشتعلت أعين زمرد بالشر وقد بدأ غضبها يزداد منه :
" يخص من أيها اللص ؟! إن كنت تعتقد أنني سأصمت خوفًا من مكانتك هنا، فقد اخطأت هذا العقد يخص والدتي وهي من اورثته لي، هيا اعطني إياه "
" إذن هذا العقد يعود لوالدتك آمنة صحيح ؟؟"
كانت أعين زمرد مشتعلة لا تستطيع الانخراط معه في حوار هادئ تصرخ وهي تحاول النهوض بغضب أشد من السابق :
" اللعنة عليك اعطني هذا العقد "
اتسعت أعين إيفان بقوة وغصب مماثل يصرخ في وجهها بصرامة :
" احفظي لسانك يا امرأة وتأدبي حين حديثك مع ملك بلادك "
وزمرد التي كادت تجن وهي تراه يقبض على عقد والدتها وكأنه يرفض أن يحرره :
" اللعنة على بلادك أنا لا انتمي لها وأنت لست ملكي ولم انتمي يومًا لها وقوانينكم لا تسري عليه، لا تتوقع مني أن اتبع قوانين لبلاد لا يهمني فيها سوى اسم والدتي الذي اقترن بها في يوم من الأيام "
ومن بين كل تلك الجمل الغاضبة التي كانت تخرج من شدة قهرتها، التقط إيفان ما يريده بمهارة شديدة :
" إذن والدتك كانت تنتمي لسفيد ؟؟"
" أنت..."
كادت تطلق سبة احكمتها بمهارة منقطة النظير، ثم قالت بغضب :
" ما شأنك وامي يا هذا ؟! ما لك تتحدث عنها ؟؟ هل تعرفها ؟؟"
كان السؤال الأخير خافتًا مصدومًا وكأنها خلال حديثها أدركت أن الملك ربما يكون على علم بوالدتها حقًا، وإيفان اطال النظر بها قبل أن يتحرك بكل بساطة خارج الغرفة معه عقدها دون قول كلمة واحدة، وحين خرج نظر له الجميع بفضول لكنه فقط نطق بكل بساطة :
" لا يقتربن أحدكم من غرفتها حتى اعود "
تحرك بعيدًا عنهم تاركًا جميع الأعين تحدق به في فصول وتعجب شديد، حتى قاطع أرسلان كل ذلك يقول :
" جُن الفتى ..."
ودانيار الذي كان يتابع كل ذلك لم يستطع أن يهدأ، إذ نظر صوب كهرمان يقول بجدية فقد كانت أقرب النساء له :
" هل يمكنك الدخول والتأكد أنها ترتدي حجابها؟! اود فقط الاطمئنان عليها رجاءً "
جذب أرسلان كهرمان جواره أكثر وهو يحدق في وجه دانيار بحنق :
" بالطبع هي ترتدي حجابها أيها الغبي، فقد خرج إيفان من غرفتها للتو، بالطبع لم يكن كل ذلك يقف أمامها دون أن تكون متسترة بحجابها، هل توقف عقلك عن العمل؟؟ "
كاد دانيار يجيبه على حديثه، لكن فجأة أبصر الجميع جسد إيفان يندفع للغرفة مجددًا دون كلمة واحدة يحمل بين يديه صندوق متوسط الحجم ودخل الغرفة مرة أخرى .
وارسلان يلوي شفتيه ثم نظر لسالار يقول:
" هل يمكنك اخباري ما يحدث هنا ؟؟ ما الذي يجعل الملك يقتحم غرفة فتاة لا تحل له بهذه الطريقة دون حتى أن يستأذن الدخول ؟؟ هل جُن إيفان؟! "
فتح سالار فمه يحاول تبرير تصرفات إيفان للجميع، وقد حان الوقت ليدافع هو أن إيفان أمام الجميع :
" ليس الأمر كما تظن أرسلان، إيفان بالفعل يدرك ذلك، ربما هو أخبرها بعودته لها بالفعل، لذلك دخل دون استئذان منها فهي على علم بعودته، كما أنه يدرك الصواب من الخطأ ويعلم حدوده و..."
فجأة انتفضت جميع الاصوات على صوت غلق عنيف لباب الغرفة جعل الأعين تتسع بصدمة كبيرة، وجنون دانيار يزداد وهو ما يزال متصنمًا أمام الباب .
رمى أرسلان نظرة للباب وهو يتحدث بجدية :
" يعلم حدوده ؟؟ حينما ذكرت أمر المحاكمة بينك وبين إيفان، من كنت تقصد بالآثم وقتها ؟؟ أنت أم إيفان ؟؟ ومن ذا الذي سيحاكم الآخر ؟!"
ابتسم له سالار بسمة صغيرة يخبره بجدية :
" آه بخصوص هذا ..."
صمت ينظر لارسلان بجدية :
" هل تمانع أن تتولى أنت الحكم عليّ أنا وإيفان ؟؟؟؟"
ومن بين كل تلك الحوارات الكثيرة استغلت تبارك انشغال الجميع بما يحدث وتحركت بهدوء شديد بعيدًا عنهم صوب جناحها تحاول أن تتماسك وقد بدأ الشحوب يزحف لوجهها بشكل مريب .
وحين رحلت وظنت أنها نجحت في الهروب من الأعين لم تدرك أن أعين سالار كانت تبحث عنها كل ثانية لتطمئن بوجودها في الحوار وحين اختفت انتفض جسده يبحث عنها بريبة حوله ....
______________________
بمجرد أن خرجت من المشفى استنشقت تبارك أكبر قدر من الهواء، ودون شعور ورغم كل ذلك الدوار والألم الذي يداهمها ابتسمت، ابتسمت بسمة واسعة تستقبل مساء صافي كما اعتادت منذ جاءت، لا شيء يحيل بينها وبين النجوم، مشهد لو كانت ابصرته في عز صراعها في الطفولة لكان خفف عليها الكثير والكثير ...
" هل أنتِ بخير ؟؟"
ابتسمت تبارك بسمة أوسع وأوسع دون أن تستدير صوبه وقد أدركت مجيئه خلفها دون الحاجة لسماع صوته في الحقيقة وهذه الفكرة جعلتها تبتسم معترفة :
" إما أنك أصبحت تسير مصطنعًا اصواتًا صاخبة، أو أنني أنا من أضحى ماهرًا في كشف المتسللين خلف ظهري "
ابتسم سالار بسمة أوسع من خاصتها رغم أنه لم يرها في الحقيقة، وظل على بعد مناسب منها يضع يده خلف ظهره يقول :
" سأتظاهر إذن أنه الخيار الثاني وأفخر بكِ...مولاتي"
توقفت تلك الكلمة في منتصف حلق تبارك :
" لست كذلك ..."
رفع سالار حاجبه لتستدير هي ببطء شديد تقول بصوت منخفض وهي ترفع عيونها على استحياء به :
" لست ملكة وهذا لا يجعلني مولاتك سالار، انتهى هذا الفصل من حياتي، وأنا الآن فقط تبارك "
وكلمات كثيرة تزاحمت في عقل سالار في هذه اللحظة، لكنه لم ينطق بها ولجم كامل شياطينه يبعد عيونه عنها يقول بصوت خافت :
" لم تفقدي بعد لقبك مولاتي، مازلتِ تحتفظين به"
نظرت له بتعجب ولم تدرك مقصده، وهو لم يخض معها هذا الحديث، ليس الآن، ليس وهو لا يحق حتى أن ينظر لها مجرد نظرة عابرة، لكن عسى الله أن يحدث بعد ذلك أمرًا .
" غدًا المحاكمة ومن بعدها يمكنني أن أخبرك ما يزيل نظرات الحيرة هذه عن عيونك "
نظرت له ولم تهتم بكل تلك الجملة سوى كلمة (المحاكمة )، أي محاكمة يقصد ؟!
" هل حان وقت محاكمة المنبوذين ؟؟"
ارتسمت بسمة واسعة على فم سالار ولم تكن بالسعيدة ولكنها كانت ساخرة بالكامل، وشيئًا فشيء تحولت تلك البسمة الساخرة لضحكة صغيرة :
" لا، موعد محاكمة المنبوذين ليس الآن، بل هي محاكمة لي أنا"
انتفض جسد تبارك بقوة للخلف تقول بعدم فهم :
" محاكمة لك ؟؟ محاكمة ماذا ؟! لماذا ؟! هل .. هل تعلنون الترقيات خلال المحاكمات هنا أم ماذا ؟؟"
استدار سالار صوبها فجأة يتساءل عن معنى تلك الجملة قبل أن يرى نظراتها البريئة تنتظر منه تأكيدًا على كلماتها التي نبثت بها للتو، ودون أن يشعر انطلقت ضحكات سالار الصاخبة أكثر وأكثر:
" هل تعتقدين أن محاكمتي لترقيتي ؟؟ لا لا ليس لهذا، لا اعتقد أن مسمى محاكمة يختلف عن ذلك في عالمك صحيح ؟؟"
اقتربت تبارك منه بفزع خطوات تراجعها هو بسرعة للخلف يحاول أن يجعل بينهما منفذًا وألا يمنح الشيطان فرصته الثانية لإيقاعه في شركه :
" هل ...هل تمزح معي ؟! ما سبب محاكمتك ؟! لقد كنت تحارب معهم ببسالة في المعركة، لولا وجودك لكانوا خسروا .."
صحح لها سالار بملامح جامدة أعادت لها سالار القديم الذي كانت ترمقه بغيظ ثم تستدير راحلة، لكن الآن لا يمكنها حتى أن تفعل ولو تحول لمستذئب أمامها :
" النصر بيد الله وجنودي رجال أشداء على الكفار، سواء بوجودي أو لا كانوا سينتصرون بفضل من الله وتوفيقه، وجودي بينهم كقائد كان عامل منظم للحرب، وليس سبب للنصر "
لم تهتم تبارك بكل ذلك بل فقط قالت :
" ونعم بالله، لكن ما علاقة كل ذلك بمحاكمتك ؟! ما الخطأ الذي دفع بك صوب المحاكمة ؟! هل .... "
" أنتِ "
كلمة قاطع بها سالار سيل كلمات تبارك التي اتسعت عيونها بشدة تشعر بالصدمة مما سمعت، ونظراتها المستفهمة جعلته يوضح أكثر من يقصد :
" تسائلتي عن نوع الخطأ الذي قد يلقي بي في محاكمة ملكية، واخبرتك أنه أنتِ هذا الخطأ"
تأوهت تبارك بصدمة كبيرة تتراجع للخلف دون شعور، يا الله هل سيُحاكم بسببها هي ؟!
" أوه، يبدو هذا أوضح الآن"
شعر سالار أن الطريقة التي أخبرها بشأن الأمر جعلت الأمر اصعب عليها، لذا سارع يقول بجدية :
" لا تأخذي الأمر بشكل شخصي رجاءً، أنتِ ربما السبب لهذه المحاكمة، لكنك لستِ المتسببة في الإثم، الإثم اثمي والخطأ خطأي، أنا المخطئ وأنا الآثم، وأنتِ ..."
رفعت عيونها له تقول بصوت خرج بصعوبة بسبب غصتها :
" إثمك الوحيد ..."
ابتسم لها بسمة صغيرة وكأنها للتو مدحته ولم تصف نفسها بالاثم :
" الإثم الوحيد ؟؟ لقب كبير مولاتي، لا يوجد انسان خالي من الآثام، أنا لست ملاكًا ولست معصومًا من الخطأ، بالطبع أخطأت في الكثير من المرات سابقًا، وارتكبت العديد من الآثام لولا ستر الله لي، لكن ....ربما هذا إثمي الوحيد الذي لا رغبة لي بالتوبة منه "
تنهد بصوت مرتفع يقول :
" فنعم، إن اعتبرنا وجودك إثم، فمرحبًا بالآثام من هذا النوع ..."
نظرت له تبارك بأعين دامعة :
" صدقني لو كنت مكانك الآن لكرهت اليوم الذي أبصرت فيه وجهي، لقد حولتك من بطل يستحق وسام لشاجعته، إلى آثم سيتعرض لمحاكمة على مرأى ومسمع للجميع "
" صدقيني أنتِ، أنا لا اهتم إن كانت تلك المحاكمة ستنتهي بفوزي بكِ، إذن أنا مستعد لخوضها، ولست على استعداد لخسارة حرب رابعة بعد خسارتي لثلاثة امامك بالفعل، ومن الأفضل أن أخرج غدًا منتصرًا بحقي فيكِ حتى أتمكن وقتها من أخبارك كل شيء بشكله الصحيح دون أن اضطر للوقوف معكِ هنا في هذا المكان واصفًا لكِ كم أنتِ إثم مرغوب به "
وهذه الكلمات كانت لتسعد تبارك في أي وقت باعتبارها كلمات ( شبه رومانسية ) أو ربما مقارنة بكلمات سالار السابقة، تُعد هذه كلمات مقبولة بعض الشيء، لكن في هذه اللحظة وهي تفكر في المحاكمة كل ما استطاعت قوله هو كلمات متبوعة بغصة بكاء :
" إن قلت في المحاكمة أنني أنا المخطئة ذلك اليوم هل يخفف هذا عنك ؟!"
" بل سيثقل الأمر عليّ فلا تفعلينها رجاءً "
تنهد بصوت مرتفع شفق عليها من تفكيرها الذي تسبب في بكائها في هذه اللحظة يقول بصوت خافت خرج دون شعور منه بحنان :
" مولاتي ..."
هنا وانفجرت تبارك في البكاء تقول بصوت مختنق غير مفهوم من بين أصوات بكائها :
" أنا آسفة من وقت ما جيت هنا وأنت بتعاني، من وقت ما جبتني وانا بسبب ليك مشاكل، أنا آسفة، مكانش لازم اكون هنا، مكانش لازم اوافق اجي معاك"
كانت تتحدث باكية أمامه وهو يراقبها بشفقة يقول بصوت منخفض :
" ربما وجودك في هذا الوقت كان خطئًا تبارك "
ازداد بكاء تبارك بقوة تجلس ارضًا ترتكن لأحد الجدران تدفن وجهها في أقدامها تحاول تدارك موجة البكاء التي أصابتها وهو فقط تنفس بصوت مرتفع يحاول أن يخرجها ويخرج نفسه من كل هذا .
وهي لا تحاول حتى أن ترفع وجهها، تخشى أن وجودها هنا لم يكن له سبب، هي منذ جاءت لم تشعر نفسها منهم، وحين بدأت تشعر بالألفة معهم وتعتاد المكان وتشعر أنها يمكنها أن تقضي المتبقي من حياتها هنا، كان ذلك الشعور فقط لأجله هو، لأنها شعرت بالانتماء له هو، كان هو المتسبب الأول في هذا الشعور، لاول مرة تشعر أن هناك من يهتم بأمرها، لأول مرة تشعر أنها مرغوبة وليست ضيف ثقيل على أحد، وماذا كافئته بمنحها هذا الشعور ؟؟ حولته من بطل لبلاده إلى مجرم سيُحاكم ..
" نعم كان وجودك في هذا الوقت خطئًا، فأنا احتجتك منذ سنوات ولم أجدك تبارك، لذا عدم وجودك من البداية كان خطئًا أكبر من وجودك الآن في هذا الوقت وبهذه الطريقة "
رفعت تبارك عيونها بعيدًا عن قدمها بتعجب ترمقه من بين عيونها الدامعة، وهو ومن مكانه الذي يبعد عنها بعض الشيء جلس القرفصاء كي يكون مقابلًا لها، يحاول ألا يطيل هذه الجلسة كثيرًا، يخرج من جيب سترته منديل أبيض مطرز بحواف فضية يمده لها تاركًا إياها على زهرة مستقرة أمامها يقول بصوت خافت :
" تماسكي مولاتي فنحن في بداية الحرب، وأنا مصر على الفوز بها ...وبكِ "
نهض بعد هذه الكلمات يتحرك بعيدًا عنها مجبرًا نفسه على عدم الانقياد خلفه اصوات عقله التي تخبره ألا يرحل ويأخذها لغرفتها حتى يطمئن عليها :
" عودي لغرفتك وتناولي ادويتك فوجهك شاحب مولاتي "
نظرت تبارك لظهره من بين دموعها لا تدرك ما يجب فعله في هذه اللحظة، أمسكت المنديل الذي وضعه لها لتطيل النظر به طويلًا تلمح اسم منقوش بخط عربي جميل، نطقته بصوت خافت تتعجبه :
" جوبان ؟؟"
______________________
انتفض جسد زمرد بمجرد رجوع إيفان للغرفة مرة أخرى، لترفع حاجبها بتحفز ولم تكد تتحدث كلمة حتى وجدته يلقي بصندوق على الفراش، ثم تحرك صوب الباب الخاص بالغرفة يقول بصوت خافت لا يدري هل وصل لمن بالخارج أم لا :
" استئذنكم جميعًا .."
ومن ثم صدح صوت اغلاق الباب بقوة جعلت جسد زمرد يتراجع للخلف أكثر حتى اعتقدت أنها قد تحفر الجدار وتهرب منه، بينما إيفان تحرك صوبها يشمر أمامه بشكل جعلها تخشاه وحقًا، ربما في السابق كانت تخشى والدها وتخشى بافل وتخشى جميع الرجال، وتكرههم جميعهم بلا استثناء _ عدا دانيار بالطبع _ إلا أنها يومًا لم تظهر ذلك لهم، كما ظهر عليها الآن أمامه.
" ما الذي تريده مني ؟؟ وكيف ...كيف تغلق الباب بهذا الشكل، اقسم إن اقتربت مني خطوة لأصرخن وأخبر الجميع أنك تحاول الـ..."
قاطع إيفان كل كلماتها تلك جلوسه ببساطة شديدة على مقعد أمام فراشها وأمام الصندوق الذي أحضره يقول بصوت خافت خرج بنبرة غريبة :
" اصمتي قليلًا رجاءً "
ابتلعت ريقها تراقبه يفتح الصندوق أمامها، ثم أخرج منه رسمة صغيرة لوجه لم يكن واضحًا لها حتى وضع الرسمة أمام عيونها يهتف بصوت مختنق بغصة بكاء أو هذا ما شعرته هي فالملك لن يبكي أمامها بالطبع :
" هل هذه هي ؟؟"
نظرت له ثواني قبل أن تحرك نظراتها صوب الصورة بين أنامله تتأملها بهدوء، ومن ثم اتسعت عيونها ببطء تختطف الصورة من يده وقد بدأت عيونها تمتلئ بالدموع وهناك بسمة واسعة ترتسم على فمها كأنها لا تصدق أنها تراها مجددًا بعد كل هذا الوقت :
" أمي؟؟ هذه أمي، كيف ...كيف وجدت هذه الرسمة لها ؟؟ من رسمها ؟؟ هل ...هل يمكنني أن احتفظ بها رجاءً "
صمتت لتسقط دموعها تقول برجاء وهي تضم الصورة لصدرها :
" يمكنني ...يمكنني ترك العقد لك مقابل رسمتها تلك ارجوك، فأنا... أنا اشتاقها وبشدة "
رمقها إيفان ثواني يعض شفتيه، ثم دفع الصندوق الخاص بوالده صوبها والذي كان ممتلئًا بالعديد من الرسومات لها وللعقد يقول بصوت خافت :
" كله لكِ "
نظرت زمرد للصندوق بتعجب شديد وهي تحاول فهم ما يحدث، لكنها رغم ذلك قالت ودموعها تتساقط من عيونها :
" حقًا ؟؟ يمكنني ؟؟ أنت كيف حصلت على كل هذه الرسومات لأمي ؟؟ هل تعرفها ؟؟"
نظر لها إيفان ثواني وقد فشل في إحكام سيطرته على دموعه :
" أمي "
رفعت زمرد عيونها عن الصورة ترمقه بعدم فهم :
" ماذا قلت؟؟"
قال إيفان بصوت خرج صعبًا بعدما تأكدت ظنونه بشأن كل شيء :
" هي ... أمي، آمنة هي والدتي "
شعرت زمرد بقلبها ينتفض وهي تضم صورة والدتها لصدرها ترمقه بشر وغضب :
" ما الذي تهزي به أنت ؟؟ هل جننت ؟؟ هذه أمي أنا فقط، نعم هذه والدتي، ثم ما الذي تطمح له من ادعائك هذا ؟؟ كل هذا لأجل العقد ؟! أخبرتك خذه مقابل الرسومات و...."
صمتت فجأة حينما أبصرت انهيار إيفان الماجئ أمامها بشكل جعل أعينها تتسع وهي تراه يدفن وجهه بين يديه يبكي بصوت متقطع وهي فقط ترمقه بأعين دامعة وقد بدأ قلبها يرتجف لرؤيته بهذه الطريقة تقول بصوت متردد مرتجف :
" أمي لم تنجب سواي و...هي كان لديها أبناء وجميعهم قتلوا يوم خطفها أبي و...هي أخبرتني أن جميع ابنائها قتلوا ذلك اليوم مع زوجها، طفلها وجنينها وزوجها، الجميع قُتل يوم خطفها "
رفع إيفان عيونه لها وقد كان الاحمرار قد غزاها وبشدة يهتف بصوت مرتجف :
" هل أخبرتك من يكون زوجها ؟! كيف عاشت هناك ولم يعلم عنها أحد شيئًا لقد ...لقد خاض أبي غارات عديدة عليهم ولم يعثر لها على أثر، كيف حدث ذلك ؟!"
" هي ...هي لم تخبرني سوى أنها كانت تمتلك عائلة وجميعهم قُتلوا ذلك اليوم، وقد اجهضت جنينها الذي كانت تحمل به قبلي، وهي ...هي حاولت الهرب مرارًا وتكرارًا من أبي، لكنه كان يحبط هروبها كل مرة وآخر مرة تسبب لها في إصابة بالغة في يدها وهددها بي و...استسلمت لقدرها حتى ..."
صمتت ولا تعلم سبب اخبارها له بكل تلك الأسرار وهي التي لم تأمن لصديقاتها إلا بعد معرفة اشهر طويلة، وها هي تقص على الملك كل شيء عنها دون حتى أن تعلم السبب.
وإيفان كان يمسك المفرش بين قبضتيه بقوة مخيفة، يشعر بجسده يرتجف بشدة لما يسمع :
" حتى ماذا ؟؟ ما الذي حدث لها، وأين هي الأن ؟؟"
نظرت له زمرد تشعر أنها تعاصر وجعها على والدتها من خلاله تهمس له بصوت موجوع مقتول :
" قتلها ذلك الوسخ المُسمى أبي "
كان أمل صغير بناه إيفان داخل صدره، والآن فقط تهدم، كان فقط يأمل أن يراها مرة واحدة وتضمه، أمل تهدم الآن واحترق صدره بالوجع وهو يهتف بآهٍ خرجت من اعماق صدره بدفن وجهه بالفراش بالقرب من قدم زمرد، يكتم صرخاته به، وهي تراقبه بوجع ترتعش لما تراه تهتف بصوت منخفض :
" هل ...هل هي والدتك حقًا ؟؟ هي ...هي كانت تحبك "
في الحقيقة هي لم تكن واثقة، لكنها تدرك أن والدتها كانت لتحب أي طفل لها، لقد كانت تبكيهم ليل نهار، كانت تصرخ وتناجي الله لأجلهم .
ارتعشت يد زمرد وهي تمدها ببطء صوب إيفان تضعها على رأسه بتوتر، مرتعشة غير ثابتة، لتُصدم فجأة وهي تجد إيفان يرفع رأسه عن الفراش يدفنها في أحضانها يتلمس بها أثر والدته ورائحتها باكيًا .
يبكي جميع اعتقداته التي تأكدت الآن، والدته أُنتهكت دون حتى أن يعلموا أنها حية، والآن هو له شقيقة الله وحده يعلم كيف نشأت بين هؤلاء القوم وكيف عاشت .
وزمرد ارتجفت تحاول دفعه للخلف برعب وهستيرية، لكنه أبى الابتعاد يردد :
" لا تفعلي ارجوكِ "
" أنت... أنت لا يمكنك ...هذا خطأ ابتعد، لا يمكنك، يا ويلي، ابتعد "
" ليس خطئًا، أنا شقيقك الأكبر "
وهذه الكلمات ورغم أنها لم تفهم بعد حقيقتها إلا أنها جعلت جسدها يسترخي بشكل غريب وهي تنظر له بتعجب تحاول إدراك ما يحدث، وشيئًا فشيء تحركت يدها صوب خصلات شعره تربت عليها بتردد هامسة له وكأنها تحتاج الكلمات أكثر منه :
" هي الآن بخير، لقد أراحها الله من كل شيء، هي بخير وقد نالت قصاصها، هي بخير ..."
_______________________
" انتهينا يا فتى، هيا عد لمنزلك وارتح حتى الغد "
ابتسم مرجان وهو يحمل بعض الكتب كي يقرأهم في المساء :
" لأول مرة تخبرني أن ارتاح أيها العريف، لقد تغيرت على مدار هذه الأيام، أشعر أن الحرب التي نشبت في القصر بدلت الكثير والكثير في المكان، حتى أن الهواء لم يعد كما كان "
نظر له العريف بغموض يقول مبتسمًا:
" انظر إليك يا مرجان ؟! بدأت تدرك الأمور بشكل اوضح، يبدو أنك تسير في طريقك لتصبح عريفًا لهذه البلاد "
ختم حديثه يتحسس ريش البومة أمامه والتي أصدرت اصواتًا مستمتعة، ومرجان ابتسم بسمة واسعة بسعادة شديدة، ثم اقترب منه يردد بجدية :
" حقًا أيها العريف !!"
نفخ العريف يقول بسخرية :
" لا أيها الفتى أنا لا افكر في ترك الأمر في الوقت القريب "
التوى ثغر مرجان، لكنه عاد وابتسم يقول :
" حسنًا وانا لا افكر في العمل كعريف في الوقت القريب، لم انتهي بعد من قراءة جميع الكتب هنا "
استدار له العريف بعدما كان يتحرك في المكان ليقول ببسمة ساخرة :
" هل تظن أنني سبق وقرأت كل تلك الكتب مرجان ؟!"
رمقه مرجان بحيرة :
" بالطبع فعلت فأنت العريف، وتدرك جميع العلوم ؟!"
ابتسم له العريف يقول ببسمة :
" لم أفعل، بما ستفيدك كثرة الكتب إن كان نصفها فارغًا من الداخل ؟! "
اقترب يقول بجدية محدثًا مرجان :
" ثقافتك لا ترتبط بعدد ما قرأت من كُتب مرجان، بل ترتبط بقدرتك على انتقاء ما يفيدك من كل الكتب التي قرأت، فهمت يا بني ؟؟"
نظر له مرجان يحاول أن يدرك الجملة داخل عقله، قبل أن يبتسم بسمة واسعة جعلت العريف يربت على كتفه قائلًا :
" والآن انصرف فقد اكتفيت من البشر لهذا اليوم الذي لا ينتهي "
فتح مرجان فمه ليجيبه، لكن قاطع كل ذلك صوت خطوات اقتحم هدوء مكتبته ليمد العريف عيونه يبصر من أتى، التوى ثغره بغيظ واشمئزاز :
" يا ويلي الآن افضل النوم بين أحضان مرجان على قضاء ثانية مع هذه القذرة "
" مرحبًا أيها العريف .."
زفر العريف يقول بجدية :
" ظننت أن الملك قد عاقبك بالفعل وعزلك عن المملكة في المنزل الجنوبي الذي تخفين قذارتك به يا امرأة "
اتسعت أعين مرجان بصدمة كبيرة من طريقة حديث العريف مع الملكة الأم ولم يكد ينطق بكلمة حتى رمقه العريف يقول :
" ارحل يا بني كي لا يتلوث عقلك الصافي بمقدار القذارة في المكان، وخذ معك بومتي حتى لا تفزع"
اتسعت أعين مرجان وكذلك شهرزاد التي تعجبت إفصاح العريف عن كرهه علنية أمام مساعده بعدما كان يلتزم بادعاء الاحترام أمام الجميع، هل فاتها الكثير ؟؟
ابتلع مرجان ريقه يمسك البومة يضعها على كتفه يتحرك للخارج بتوتر وحين مر بشهرزاد لم يكد يهز رأسه لها في تحية احترام، حتى أصدرت البومة صوتًا قويًا غاضبًا جعله يمسكها ويركض بها للخارج مغلقًا الباب .
اقتربت شهرزاد من العريف الذي ابتسم لها يقول :
" أي الاعيب مارستي لتصلي إلى مكتبتي شهرزاد ؟؟"
" هل تود حقًا سماع ما فعلت ؟!"
" إن سئلتني عما أود حقًا سماعه في هذه اللحظة فسيكون صوت غلق الباب خلفك وأنتِ راحلة "
ابتسمت له شهرزاد بسمة مقيتة تقول :
" يبدو أنك لم تعد تخشاني أيها العريف وأصبحت تعلن عصيانك عليّ "
" ومنذ متى خفتك أيتها المرأة ؟؟ يا الله أنتِ حتمًا النقطة السوداء في حياة الملك بارق، جيد أنه تبرأ من معرفتك منذ سنوات "
اشتعلت أعين شهرزاد حين سمعت اسم ابن عمها الذي كان يخجل منها ويخجل من اخبار الجميع أنها تحمل دماء سبز في أوردتها وأنها ابنة عمه، والعريف يدرك غضبها من ذاك الأمر لذا تعمد لذكره.
" آه بارق ذلك الحقير الضعيف الذي يخشى رفع مشرطًا في وجه انسان ؟؟ لقد كدت انسى أنه يحيا معنا هنا في هذا العالم، رجل ضعيف لا يستطيع أن يفرض وجوده بين الممالك، لطالما كان ضعيفًا"
" بل قويًا، الملك بارق هو أكثر الملوك قوة بصبره وحكمته وحُلمه، يكفيه أنه تحملك حتى تخلص منك، هذه أمور لا يفهما الشياطين أمثالك "
تنفست شهرزاد بغضب ليبتسم العريف وقد حاز نقطة أخرى يقول وهو يتحرك صوب أحد المقاعد بارهاق شديد :
" إذن ما الذي جعل مكتبتي وجهتك الأولى في القصر مولاتي ؟؟"
" إيفان ؟؟"
رفع العريف عيونه لها يقول :
" ولد الملكة آمنة ؟؟ خير ما الذي فعله هذا الفتى ؟؟"
اشتعلت غضب شهرزاد تصرخ بصوت صاخب :
" أنت أيها الحقير لقد وعدتني، لقد وعدتني أنك لن تأتي على ذكر هذا الأمر، ما لك تعيد ذكره الان ؟؟ هذا ولدي أنا فقط سمعت ؟؟ "
" هل فعلت ؟؟ ربما كنتُ كاذبًا حقًا، لا أحد عاقل قد يأمن لي مولاتي، هذا خطأك "
نظرت له شهرزاد بعدم فهم، وهو ابتسم لها بسمة جعلتها تتراجع بصدمة تشعر بالمكان يدور بها، هي جاءت هنا لتخبره أن يعترض على قرار عزلها فهي تدرك أن اعتراض العريف على أمر ملكي قد يعيد الحكم مرة أخرى، فهو سلطة منفصلة عن السلطة الملكية في المملكة، جاءت تمسك بين يديها بطاقة ابن جوبان لتهدده بها، لكن تلك النظرات في عيونه جعلتها تهمس برعب :
" أنت... أنت لم تفعلها، لم تخبر أحدًا صحيح ؟؟"
ابتسم لها يقول بصوت منخفض حتى يجعلها تأمن وتسعد فتأتيها الطامة اقوى من معرفتها الآن منه وتتخذ حذرها :
" نعم لم أفعل، لم أخبر أحدًا، لكن إن استمريتِ فيما تفعلين أخبرت الجميع واولهم إيفان"
شعرت شهرزاد بالأرض تدور أسفلها تقول بصدمة ورعب :
" لقد ...لقد اتفقنا و... أنت الآن تهددني و تخلي بجزئك من الاتفاق و...ابن جوبان أنت حقًا لا تدرك بأي كارثة تلقي به، أنت تدرك ما يمكنني فعله إن افشيت سري "
نهض العريف عن مقعده يبصر مقدار غباء تلك المرأة:
" هل حقًا ظننتي يومًا أنني ابعدت ابن القائد جوبان عن القصر أو أنني أخشى منكِ ؟؟ يا امرأة هذا ابن القائد جوبان والأحق بالعرش، وابن الأميرة عائشة أميرة مملكة آبى، وخاله هو الملك آزار ملك آبى، هل تعتقدين أنني قد أخشى من حشرة مثلك على فتى بمكانة سالار ؟؟"
نظرت له وهي تشعر بقلبها على وشك التوقف رعبًا مما يحدث، صوّر لها غرورها أن العريف قد يخشاها حقًا ويسارع لإخفاء ابن جوبان عنها.
ضحكت بصخب تدرك ما ابصرته وانكرته، طوال هذه السنوات كانت تشك وتدرك أنه لا يمكنه الاستمرار في وعده، ورغم ذلك صمتت وادعت الجهل طالما هو بعيد عن الحكم، كانت تحاول الإيقاع به مرات عديدة، شكت به بالطبع هي ليست غبية لهذه الدرجة كي تجهل ظهوره المفاجئ في القصر .
سالار القائد هو نفسه سالار جوبان .
" أنت... أنت، لقد كنت اعلم...لقد أدركت أنك لن..."
قاطعها العريف يخبرها ببساطة :
" لقد أبعدته عنكِ بالفعل لسنوات طويلة بعد استشهاد جوبان والأميرة عائشة، وحين أبصرت اطمئنانك للأمر، عاد وحش سفيد لينال مكانته المستحقة بين الجميع "
نظرت له بوجه شاحب ليبتسم هو قائلًا :
" القائد سالار والذي ترعرع أسفل سقف القصر كصبي في الجيش بعيدًا عن الأعين نضج وكبر وحاز مكانته المستحقة في الجيش ليصبح قائدًا لجميع جيوش بلاده ويتقلد مكانة والده بكل بسالة، وكل ذلك بمباركة منكِ مولاتي "
شحب وجه شهرزاد وهي ترى الآن ما كانت تشك به يتأكد أمام عيونها، كيف، كيف لم تتأكد، لم تنتبه للأمر، الاسم والقوى نفسها، لكن ...هي ...كيف لها أن تفعل ؟؟ العديد من الرجال يمتلكون نفس الاسم، و...ملامحه لا تمت لجوبان أو عائشة بصلة، أم هي من عمت عن الأمر ولم تهتم يومًا لتبصر ملامحه من تلك الجهة ؟!
في هذه اللحظة تمثل أمام شهرزاد وجه سالار وهو يبتسم لها بسمة ساخرة وشعرت أن روح عائشة وجوبان تجسدتا له لتتراجع للخلف وهي تشعر بقلبها يكاد يتوقف ولم تكد تتحدث كلمة، حتى سمعت صوت أحد الجنود يدخل المكتبة يقول بجدية :
" سيدي العريف الملك يخبرك أن محاكمة قائد الجيوش غدًا في العاشرة صباحًا، ويستدعيك للحضور"
اتسعت أعين شهرزاد تستدر صوب الجندي تردد بحيرة وعدم فهم :
" محاكمة قائد الجيوش ؟؟؟ ما الذي يحدث هنا في المملكة ؟؟"
_______________________
انتهى اليوم وأخيرًا للجميع، انتهى ورحلت معه الآلام وتجددت أخرى، رحلت دون أن يدرك البعض ما سر اختفاء إيفان في غرفة زمرد بالساعات، وما سر خروجه منها في النهاية بوجه جامد دون كلمة واحدة ومن بعدها سمح للنساء بالدخول وسحب معه الرجال بعيدًا دون كلمة واحدة .
وزمرد تلقت كل اسئلتهم بملامح تعلوها صدمة وحيرة مما علمت وسمعت، لتخبر كهرمان الجميع أن يدعوها الآن لترتاح قليلًا فهي بالفعل تبدو شاحبة الوجه بشكل مخيف ...
وهكذا مر الليل، ثقيلًا على البعض كدانيار الذي يتزحزح من أمام غرفتها، بل فقط جلس ارضًا ينتظر أن تطل عليه وتخبره أنها بخير، أنها تسامحه لأنه تخلى عنها وتسبب لها بكل هذا الوجع.
وها هي محاكمة قائد الجيوش التي ترقبها الجميع قد حانت ....
خرجت من غرفتها تتحرك في الممرات تنظر أمامها تدعي أنها لا ترى أو تسمع أحدًا، هي فقط انفصلت عن الجميع مؤقتًا حتى وصلت لقاعة العرش لتبصر الجميع يحدقون صوب الباب .
شعرت بالتوتر يمليء صدرها وكادت تتراجع لولا صوت الملك الذي قال بنبرته المعهودة القوية :
" تقدمي سمو الأميرة، كنا في انتظارك "
نظرت تبارك حولها تحاول أن تعلم إن كان يتحدث عنها أم لا، قبل أن تبصر بسمة إيفان والذي أخبرها بعيونه أنه بالفعل كان يتحدث معها.
حسنًا يبدو أنها ستأخذ وقتًا طويلًا حتى تتأقلم على تلك " سمو الأميرة " كما فعلت مع مولاتي سابقًا .
تقدمت ببطء شديد حتى توقفت في منتصف القاعة ليشير لها إيفان أن تجلس على مقعد جوار العريف .
وقبل أن يتحدث أحدهم بكلمة أبصروا وبشكل مفاجئ دخول الملكة الأم والتي قالت بصوت ثابت قوي :
" اتمنى ألا يكون قد فاتني شيء ما هنا "
ابتسم لها إيفان بسمة صغيرة بسيطة :
" بالطبع لا مولاتي، نحن لم نبدأ بعد، وجيد أنك أتيتِ كنت سأستدعيكِ من المنزل الجنوبي على أية حال "
نظرت له بحاجب مرفوع ورغم ذلك تقدمت لتجلس في مكانها المعروف، لكن إيفان أوقفها يقول بجدية وبسمة صغيرة :
" لا "
رفعت عيونها له ومن ثم نظرت حولها بصدمة تردد كلمته :
" لا ؟؟"
" نعم، لا، معذرة مولاتي لا يمكنك الجلوس على هذا المقعد "
" والسبب؟"
ابتسم لها يقول ببساطة :
" لم ننظفه منذ رحلتي، لذا أخشى على ثيابك الثمينة أن تُلوث، اجلسي هناك في هذا المقعد الفارغ "
تحركت أعين شهرزاد مع إصبع إيفان حتى توقفت على مقعد في مؤخرة القاعة بعيدًا عن الجميع، اشتعل صدرها بالغضب ورغم ذلك لم تتحدث بكلمة وهي تتحرك بهدوء كي لا تثير الأقاويل حولها، هي فقط جاءت تشهد إذلال طفل عائشة وجوبان .
ثواني وارتفع صوت أحد الجنود يقول بقوة :
" قائد الجيوش الاعلى يطلب الدخول ..."
ابتسم إيفان يهز رأسه له، ثواني هي حتى أبصر الجميع تقدم سالار داخل القاعة بكل هدوء وقوة لا ينظر يمينًا أو يسارًا حتى وصل أمام العرش يجمع كفيه خلف ظهره يقول بصوت هادئ ثابت :
" مولاي .."
نظر له إيفان بجدية يزيل جانبًا أي مشاعر قد يتخذها أحدهم ذريعة في الاعتراض على حكمه :
" القائد سالار أنت تدرك سبب وجودك هنا في هذه اللحظة صحيح "
استقام سالار في وقفته يرفع رأسه بقوة دون أن يخفضها لحظة واحدة أمام أعين احد، بينما عين تبارك تحوم حوله وهي تفرك كفها بتوتر.
" نعم مولاي "
" وما ردك على ما قيل في حقك وحق الأميرة تبارك؟؟"
نظر له سالار بقوة يجيب :
" إن كان ما قيل في حقنا يخص ما حدث خلال الحرب فقط حينما جذبت الملكة بعيدًا عن الموكب المحترق، فلا رد عندي، الحلال بين والحرام بين، والجميع في هذا المكان يدرك أن مجرد لمسي لها دون سبب لهو إثم يعاقبني الله عليه، وأنا ما كنت لابرر في حياتي كلها إثم ولو جُزت عنقي بسببه، لذا فيما يخص هذه النقطة، فأنا على كامل الاستعداد لتحمل أي عقاب تسقطه عليّ مولاي ولا اعترض معاذ الله "
صُدمت تبارك من حديثه وقد بدأت يدها تضغط على المقعد الذي تجلس فوقه وكأنها تخشى أن يتحرك جسدها دون إرادة منها ويهب ليدافع عنه .
بينما سالار استمر في حديثه ولم تهتز نبرته لجزء من الثانية وهو يكمل كلماته بنفس القوة التي بدأ بها :
" وإن كنت تقصد ردي على ما قيل في حقي وحق الملكة مولاي بشكل عام، فلا رد لي سوى أن من يمتلك الشجاعة ليتحدث بكلمة واحدة عن عرضي وشرفي المتمثل بزوجتي المستقبلية ليأتي ويتحدث في وجهي وحينها اجيبه بنفسي "
كبت إيفان بسمته يقول بصوت قوي :
" قلت لي زوجتك سالار ؟؟"
رفع سالار عيونه لإيفان يتبادل معه نظرات صارمة ثم قال بهدوء ما اتفق عليه مع إيفان :
" ألم يقل العريف أنها زوجة الملك المقدرة مولاي ؟؟"
هنا وابتسم إيفان بسمة واسعة يجيبه :
" هذا صحيح "
" إذن الملكة تبارك جاءت هنا لتصبح زوجتي أنا ومنذ اليوم الذي ذهبت واحضرتها وقد كتبها الله لي، منذ ذلك اليوم أنا من دربتها وجهزتها لتصبح زوجتي، والجميع هنا يدرك ذلك صحيح ؟؟"
علت نظرات البلاهة أوجه جميع الحاضرين، وشهرزاد تتبادل النظرات مع الأشخاص حولها تنتظر أن يعترض أحدهم على هذه المهزلة التي تشهدها، لكن إيفان قاطع هذه الهمسات والنظرات بصوت صارم :
" هدوء رجاءً يا سادة، الأمور جميعها ستتضح الآن ولا أود أن أسمع صوتًا حتى تنتهي المحاكمة "
ختم حديثه ينظر صوب سالار بقوة :
" قلت لي أنها زوجة الملك المقدرة سالار ؟؟ "
" نعم مولاي "
هز إيفان رأسه يقول :
" أنت لست خائفًا بوقوفك أمامي وأمام الجميع بهذا الشكل معلنًا عن مشاعرك تجاه المرأة التي جاءت لتصبح زوجتي؟! هل هذه إشارة منك إلى أنك خائنٌ سالار ؟؟"
رفع سالار عيونه له يدافع عن نفسه ومشاعره أمام الملك والجميع :
" والله ما خنت بلادي لحظة والجميع في هذا المكان يشهد على صدق كلماتي، حاربت كل من سولت له نفسه الاقتراب من حبة رمل واحدة من رمال سفيد، وإن صنفنا حبي للملكة خيانة فأنا ارتضي بالخيانة مصيرًا مولاي "
نظر إيفان لعيونه يقول بصوت قوي :
" تعلم أن عقاب الخيانة هو الموت سالار "
تحكم سالار في جميع نظراته وردات فعله وقد اشتد جسده بقوة يقول :
" ليكن إذن، وليشهد التاريخ على محاربٍ عاش مخلصًا، وسيموت عاشقًا "
عند هذه الكلمات انتفض جسد تبارك بقوة تصرخ في المكان :
" أنا اعترض مولاي "
نظر لها سالار بقوة وتحذير أن تجلس، لكن إيفان استدار ببطء لها يقول بصوت هادئ :
" وما هو اعتراضك سمو الأميرة ؟؟"
نظرت له تبارك بقوة تقول :
" ما عهدتك ظالمًا مولاي، بعد كل ما قدمه القائد سالار للمملكة تصنفه وجنودك خائنًا؟؟ هذا ليس عدلًا، هو لم يخطأ، اقسم أنه يومًا لم يخطأ أو يقترب مني بشكل يـ"
نهضت شهرزاد في هذه اللحظة تستغل الفوضى اللحظية التي صنعتها تبارك :
" لكنه خان الملك والمملكة وأحب المرأة التي كُتبت للملك، هذه خيانة عظمى، خان الملك الذي استأمنه على تدريب زوجته على المبارزة ومد اعينه لها "
اشتدت أعين دانيار الذي تحركت يده دون شعور صوب سهامه حين رأى تحفز أجساد من بالقاعة وكأنهم يوافقون ضمنيًا على حديث تلك المشعوذة، بينما تميم يدور بعيونه بين الجميع يدرك أنه إن قامت حرب في هذه القاعة فهو يعلم جيدًا لاي صف سينضم هو ودانيار .
همس دانيار بغضب شديد :
" تلك المشعوذة النكراء "
" اصمت دانيار لئلا يسمعنك أحدهم "
نظر له دانيار بشر يهمس :
" لطالما كرهت تلك المرأة، لا ادري كيف يمكن أن يتحملها بشر ؟! كان الله في عون الملك "
تحركت عين سالار صوب شهرزاد، يرميها بنظرات قوية يقول بصوت قوي :
" دليل برائتي في حديثك مولاتي "
نظرت له شهرزاد دون فهم ليقاطع إيفان كل ذلك بصوت صاخب :
" الجميع يصمت ..."
وبالفعل عادت القاعة لتغرق بالصمت إلا من أصوات انفاس تبارك المرتفعة، وإيفان نظر للجميع يقول :
" الجميع حاضر والجميع بلا استثناء رأى ما حدث في ساحة الحرب، القائد سالار فعل ما فعل لينقذ الأميرة تبارك، والتي جاءت لتصبح زوجة الملك أي زوجة سالار وليست زوجتي أنا "
علت نظرات البلاهة أعين الجميع وقد شعروا للحظة أنهم لا يدركون ما يحدث هنا، ليهتف إيفان بقوة بينهم :
" القائد سالار ابن الأمير جوبان هو الأحق بالملك مني، وقد سبق وتنازل لي عن العرش حين تقلدته، أبى أن يحكم البلاد وتنازل عنه لأجلي وارتضى أن يقود هو جيوش المملكة، لكن وحسب قوانين العائلة والمملكة فالاكبر من عائلة الملك سفيد الأول هو من يرث العرش، لذا حين نطق العريف بأن الأسطورة تخص الملك كان يقصد الملك سالار وليس أنا "
ارتفعت الشهقات في المكان وقد بدأت نظرات الصدمة والدهشة تحلق حول سالار وإيفان الذي يعلو عرشه، كانت تلك الطريقة الوحيدة ليمحو لها إيفان نظرات الجميع لسالار فهو يدرك أنه حتى إن برأ سالار أمامهم وتنازل عن تبارك له، بل واعترف أنه لم يحبها واحب امرأة اخرى، ستظل هناك فئة تصف سالار بالخائن .
إذن إن كانت الحقيقة المختبئة ستنقذ سالار، فليكن .
اكمل إيفان كلماته كي ينتهي من كل ذلك :
" سالار منذ اللحظة التي احضر فيها الملكة تبارك، أحضرها لتكون زوجته هو، وليس أنا وما حدث في البداية كان ظن خاطئ منا جميعًا وكنا على وشك حله أمام الجميع، لولا ما مرت به البلاد من حروب وتقلبات، فرأينا أن نكمل تلك اللعبة كستار نخدع به المنبوذين، لذا في هذه القصة إن كان هناك من يمكن أن نصنفه دخيلًا على الحكاية فهو أنا "
رفع سالار عيونه له رافضًا أن يصف نفسه بهذا الوصف فقط ليخلصه من جميع الأحاديث :
" العفو مولاي، أنا لم أتنازل عن العرش لك شفقة مني أو تكرمًا معاذ الله، بل تنازلت عنه لثقة مني أن لا أحد يستحق أن يعتلي عرش سفيد إلاك، ولا يليق الملك بسواك ملك إيفان، وهذه القوانين التي وضعت لاختيار الملك ليست ضرورية اتباعها، الأهم هو أن تحصل سفيد على تلك عادل حكيم مثلك، لذا فالملك الان هو أنت مولاي "
ابتسم له إيفان بسمة واسعة يهبط عن العرش يقترب من سالار يربت كتفه، ليجذبه لصدره بحب :
" إن أخترت المُلك كنت لتصبح ملكًا رائعًا سالار أثق في ذلك "
أجابه سالار بثقة وقوة وصدق ظهر للجميع في نبرته وقد أوضح في هذه اللحظة أن أي شقاق بينه وبين الملك سيكون بموت أحدهما :
" وضع الله كلٌ في المكان الذي يليق به مولاي، فلا أنا كنت سأحب أن أصبح ملكًا ولا كنت سأطيق العيش خارج ساحة الحرب "
تنهد إيفان يبتعد عنه يراقب الأعين التي كانت تتابعهم بتأثر وتقدير واحترام، ثم نطق بصوت قوي :
" رحبوا بقائد الجيوش وابن الأمير جوبان يا رجال، واعدوا العدة لاستقبال الافراح والاحتفال بزواجه من الأميرة تبارك "
نهض الجميع ينظرون لسالار بتقدير بعدما كان البعض يرمقه باستنكار، استطاعوا أن يحولوا نظرات الرفض لنظرات تقبل وترحيب ..
ضم سالار إيفان وهو ينظر نظرات مسروقة صوب تبارك التي كانت تقف تحاول أن تستوعب ما سمعت وما يحدث، لكنها فشلت، فرأت أن تنتظر حتى تفهم ما يحدث ثم ترى ما يجب فعله، لكن في هذه اللحظة
فقط عليها السعادة لأجل ما قيل ..
هي ستصبح زوجة قائد الجيوش وأمير سفيد، هل هناك خبر أكثر روعة من هذا !!
كل هذا كان يحدث على مرأى ومسمع من الجميع، وتميم الذي اندفع صوب القاعة يحتضن سالار ببسمة واسعة وقد كان منذ لحظات يجلس على جمر جوار دانيار والاثنان على أتم الاستعداد للانقلاب على جميع من بالقاعة لأجل قائدهما ..
" مبارك يا قائد "
ابتسم سالار يضم له تميم بحب :
" اشكرك تميم، العقبى لزفافك يا اخي "
ابتسم له تميم يتنحى جانبًا مفسحًا لدانيار الطريق وقد اقترب الاخير يعانق سالار وهو يردد له بصوت خافت :
" جيد أن الملك حل الأمر، فلا أظن أن سهامي كانت ستكفي جميع من بالقاعة "
أطلق سالار ضحكات مرتفعة يربت على ظهر دانيار :
" احفظ سهامك لأجل حروبك يا فتى فسيفي يكفي الجميع، لكننا لا نرفع سلاحًا في وجه مسلم دانيار "
ابتسم له دانيار يهز رأسه مخبرًا إياه بعيونه أنه فقط كان يمزح وسالار تفهم الأمر يستدير صوب تبارك التي كانت تراقب كل ما يحدث دون أن تدرك ردة الفعل التي يجب أن تتخذها .
ومن بين كل تلك الاحتفالات والمشاركات كانت هي تقبع في مؤخرة المجلس تشعر أن ما كل ما بنته في سنوات يتهدم فوق رأسها في ثواني، الجميع يعرف الآن حقيقة سالار والتي اطمئنت أنه لن ينبث بها يومًا .
لكن ها هو وقد حدث ما خشيت منه، إذن ما الخطوة القادمة ؟؟
______________
خرج يهرول من القاعة وعيونه تسبقه صوب غرفتها التي ما تزال متسطحة بها، وبمجرد أن وصل هناك حتى تنفس بصوت مرتفع يطرق الباب الخاص بها وانتظر الرد...
ثواني ووصل له صوت كهرمان تقترب من الباب لتجيب، وحين ابصرها تسد الرؤية عنه عاد للخلف خطوات صغيرة يخفض رأسه قائلًا :
" مرحبًا سمو الأميرة، هل استيقظت زمرد ؟؟"
نظرت له كهرمان ثواني قبل أن تبتسم وتقول ببساطة :
" نعم فعلت منذ ساعة تقريبًا"
تردد في طرح سؤاله التالي، لكنه رغم ذلك تحدث وقال بجدية :
" هل ...هل يمكنني أن اقابلها رجاءً ؟؟"
ورغم أنها كانت تبصر رغبته واضحة في عيونه إلا أنها تعجبت صراحته المبالغ بها وقال بهدوء :
" هو ...هل يمكنك الانتظار بعض الوقت رجاءً ؟؟"
هز دانيار رأسه وهو يتراجع أكثر للخلف مانحًا إياها كل الوقت لتعود له بموافقة تسعده، وما هي إلا ثواني حتى عادت كهرمان تفتح الباب لنهايته وهي تبتسم له بسمة صغيرة مشيرة صوب الفراش الذي تجلس عليه زمرد قائلة :
" تفضل "
ابتلع دانيار ريقه يتقدم من الغرفة وحين خطى لها شعر بضربات قلبه تزداد أكثر بشكل ازعجه بعض الشيء، رفع رأسه ببطء حتى استقرت عيونه وأخيرًا على وجهها الحبيب الذي افتقده وكاد يفقده .
" مرحبًا "
كلمة خرجت دون وعي منه وكأن قلبه أبى إلا أن يلقي عليها تحيته بعد غياب، وزمرد توترت وهي تهمس له :
" مرحبًا بك "
نظر دانيار حوله وهو يسأل نفسه عن الخطوة القادمة، فهو بالفعل جاء هنا لا يدرك ما يريده سوى أنه يود رؤيتها، ومن بعد ذلك لم يجهز شيئًا .
مد يده يداعب خصلاته بحيرة وهو يردد :
" كيف ...كيف حالك ؟؟"
ابتسمت زمرد تبصر توتره :
" بخير، هل جئت لتطمئن إن كنت حية أم لا !!"
نظر لها ثواني وهز رأسه بنعم، ثم لا بسرعة وقال :
" لا أنا فقط جئت اطمئن عليكِ، هل أنتِ بخير؟!"
" أنت لا تظن أن طعنة من يدٍ ضعيفة كيد ذلك الخنزير قد تقتلني صحيح ؟؟"
اطال لها دانيار النظر قبل أن يبتسم بسمة سلبت لبها بكل بساطة وقد شعرت بعيونه تضيء كما لو أن ضوءًا انعكس عليها :
" لا، لا اعتقد ذلك أبدًا فأنا أدرك أي نوع من الأشخاص أنتِ "
" أي نوع يا ترى سيدي القائد ؟؟"
" ذاك النوع القوي الذي لا يُخشى عليه من مصائب الحياة "
ابتسمت له زمرد بسمة واسعة وقد شعرت بالاطراء ولا تعلم السبب لكنها احببت كلماته كثيرًا ولم تكد تتساءل عن سبب تغيره بهذا الشكل، لكنه قاطع كل ذلك يقول بجدية :
" بل إن اردتي الصدق، فالاجدر بالإنسان أن يخشى على مصائب الحياة منكِ "
كانت ضربة موفقة أصابت منتصف الهدف لتتلاشى بسمة زمرد وهي تقول بغيظ شديد :
" هل جئت لي خصيصًا كي تعكر لي مزاجي ؟؟ للتو نهضت من مرض وأنت تأتي لتزيده عليّ؟؟"
اتسعت أعين دانيار وا?
اتسعت أعين دانيار والذي كان يتحدث معها بتلقائية كبيرة دون أن يشعر وقال :
" لا أنا لا أفعل، أنا فقط جئت ...جئت ..."
" فقط أردت التأكد أن الله كتب لي عمرًا اضافيًا "
نظرت له زمرد بعدم فهم وكادت تتحدث متسائلة ما علاقته بها، إلا أن دانيار نظر حوله يدرك أنه بالفعل اطال وجوده هنا دون سبب وعليه الرحيل، لكنه سيعود مجددًا .
" حسنًا أنا سأذهب الآن، ولاحقًا أعود، حينما تستطيعين التماسك والنهوض على قدمين لتسيري إلى موكب زفافنا "
هزت هي رأسها بهدوء تريحها للخلف :
" لا بأس فقط ....مــــاذا ؟! ما الذي تفضلت به منذ ثواني ؟؟"
ابتسم لها دانيار يجيب بكل بساطة :
" سنتزوج ؟؟"
" سنتـ ماذا أنت ؟؟ هل تمزح معي ؟! أليس هناك رأي تنتظره مني أو ما شابه ؟؟"
توقفت اقدام دانيار ونظر لها بتعجب ودهشة وكأنها نطقت بشيء مريب او عجيب :
" مهلًا ألم يكن سبب رفضك للزواج هو خوفك كما تخفينه ؟؟ وها أنا بالفعل أعلمه واتقبله وسنتزوج "
بدا الأمر لزمرد في هذه اللحظة كما لو أنه يجبرها على الزواج منه :
" ومن أخبرك أنني اوافق على ما تريد أو أن عائلتي ستوافق على زواجي منك ؟!"
اشتعلت أعين دانيار وشعر بالغضب يملئ صدره، يا الله ليس مجددًا لقد تحمل من هذه المرأة عدد مرات رفض لا حدود لها .
" أنتِ يا امرأة ما مشكلتك الآن ؟؟ لقد كان سبب رفضك لأنني أجهل حقيقتك، وأنا بالفعل اعلمها الآن ولا تهمني بشيء، تبًا لكل شيء قد يمنعني الزواج بكِ زمرد "
كان يتحدث صارخًا في وجهها واعينه تكاد تخرج من محاجرهما، وقد احمر وجهه بالفعل، وشعر أنه على استعداد لقتلها وقتل نفسه في هذه اللحظة .
فجأة هدأ جسده ليقول بصوت غريب :
" مهلًا هل قلتِ للتو عائلتك ؟! أي عائلة تقصدين ؟؟ من هذا الذي قد يمنعك عني زمرد بعد كل ما تكبدته في هذه القصة المريبة ؟!"
" أنا..."
هي كلمة فقط سمعها دانيار تصدر من خلفه بصوتٍ يدركه جيدًا ليستدير ببطء وريبة يبصر الملك يتوسط مدخل الغرفة وهو يضم يديه لصدره مبتسمًا بسمة باردة :
" أنا من سأمنعك دانيار، هل تمتلك اعتراضًا على الأمر ؟؟؟"
نظر له دانيار بأعين غاضبة وقد شعر أن الجميع يحاول دفعه بعيدًا عنه وهذا ما زاد جنونه اضعافًا ليتحدث بقوة في وجه الملك :
" لا اقصد التبجح مولاي، لكن بصفتك من قد تمنعني من الزواج بالمرأة التي أريد ؟! لا اعتقد أن مكانتك كملك هنا تؤهلك لفعل ذلك ؟؟"
ابتسم له إيفان يهز رأسه هزة صغيرة يتحرك صوب فراش زمرد، ثم جلس جوارها تحت أعين دانيار المتسعة ومال عليها قبل رأسها بحب يجذب رأسها لاحضانه يقول بشكل جعل أعين دانيار المظلمة تتسع بصدمة :
" بصفتي شقيقها الأكبر لزمرد ...."
____________________
خرجت من القاعة تشعر أنها على وشك الطيران، تتحرك بين الجميع تستقبل بسماتهم ببسمة مشابهة، وقد شعرت لشدة سعادتها أن القصر بحجمه الكبير لا يتسع لسعادتها .
دخلت المحاكمة منبوذة تقريبًا مُدانة حزينة، خرجت منها منتصرة سعيدة على وشك الفوز بحملها الوحيد الذي تمنته منذ جاءت لهذه البلاد .
كانت تتحرك بسرعة كبيرة صوب القصر تود الوصول لغرفتها كي تلقي ذاتها على الفراش تتمرغ به تستوعب ما حدث لها، لكن وقبل أن تفعل ذلك أبصرت جسد يقاطع طريقها وصوت تألفه أكثر من أي شيء يقول :
" ها أنتِ ذا، كنت أبحث عنكِ "
رفعت تبارك عيونها ببطء صوب وجهه تقول بصوت خافت خرج منها مُحملًا بالعديد والعديد من المشاعر دون شعور منها وقد دعت ألا ينتبه لنبرتها :
" مرحبًا يا قائد"
ابتسم لها سالار بسمة صغيرة رأتها هي في قمة اللطف :
" مرحبًا مولاتي .."
" اعتقد أنني الآن تخليت عن هذا اللقب بالكامل يا قائد، لم اعد الملكة بعد الآن، نادني تبارك "
لكن سالار تعمد تجاهل تلك النقطة يقول بجدية وهو يخرج من جيب ثوبه عقد ذهبي يبتسم لها بلطف :
" كنت ابحث عنك لأجل هذا "
نظرت تبارك ليده بتعجب تمد كفها له ليترك هو العقد به يقول مجييًا اسئلتها غير المنطوقة :
" هذا عقد امي المتوارث، اعتادت نساء عائلتها ارتدائه يوم الزفاف، ربما تحبين ارتدائه "
التمعت عيون تبارك بقوة وهي تحدق بالعقد، ثم رفعت عيونها له تقول :
" هو لي ؟!"
" نعم، هو لكِ "
ابتسمت بسمة واسعة له وقد بدأت عيونها تزداد لمعانًا، لكن هذه المرة بدموعها تهمس بصوت منخفض :
" أنا حقًا ...حقًا اشكرك من قلبي يا قائد .."
" سالار .."
" ماذا ؟؟"
" نادني سالار، فلا يعقل أن تنادي الرجل الذي سيصبح زوجك بعد قليل بلقبه الحربي صحيح ؟!"
هزت تبارك رأسها تمسح دموعها مبتسمة :
" أنا فقط اقولها دون شعور و...."
فجأة شعرت بضربة توجه لرأسها حين استوعبت ما قيل تهمس دون فهم :
" ماذا ؟! بعد قليل ؟؟"
ابتسم لها سالار يميل ببطء محتفظًا بمسافة بينهما هامسًا بصوت منخفض وكأنه يلقي لها بأحد أسراره الحربية :
" أنتِ بالطبع تدركين مكانتي في القصر صحيح ؟!"
هزت تبارك رأسها تضم لها العقد دون فهم، ليبتسم هو هامسًا :
" إذن أنتِ لن يعجبك أن تتسببي في تحويل القائد الأعلى هنا للمحاكمة كل دقيقة لأن الجنود شاهدوه يتعدى حدوده مع المرأة التي يريد صحيح ؟؟"
وتبارك فقط تحدق فيه بعدم فهم تحاول فهم ما يريد الوصول له، بينما هو ابتسم لها يقول بمزاح، وجانب لأول مرة تلمسه به :
" بالطبع أنا لن أفعل ذلك، لكن للضمان أن الشيطان لن يجد لي مدخلًا من جانبك، فأنا قررت أن يصبح عقد قرآننا اليوم بعد صلاة الظهر، والزفاف سيكون لاحقًا حينما نتجهز له، فقط سأتكد أنكِ لن تتركي جانبي وحينها اطمئن، حسنًا ؟؟"
لكن تبارك لم تكن تستوعب كل ما قيل فقط تحدق فيه بصدمة كبيرة وهو ابتسم لها بإحراج شديد وقد شعر أنه يضغط عليها بهذا الشكل، لكنه حقًا يود التعجل بعقد القرآن، وقد خرج من القاعة على شيخ القصر ليخبره برغبته تلك .
ابتلع ريقه يقول بجدية شديدة :
" أنا لا أريد أن أشعر أنني اجبرك على الأمر، لا تقلقي مازال لدينا الكثير حتى صلاة الظهر، فقط لا تتوتري الـ "
قاطع حديثه صوت شجي يصدح في المكان بأكمله معلنًا وقت صلاة الظهر ليبتسم لها سالار يقول وهو ينظر حوله يحاول إيجاد مخرج له، فهي فقط تحدق به بأعين متسعة دون كلمة واحدة :
" أو يمكنك التوتر...."
نظر حوله قبل أن يبصر الرجال يهرولون صوب المسجد، ليفعل هو المثل قبل أن يقول لها :
" سوف ...انتظرك، لقد أخبرت الأميرة كهرمان والنساء ليساعدونك بالفعل، إذن اراكِ حسنًا ؟؟"
لكن لا رد من تبارك فقط كالصخرة تراقبه وهو ابتسم لها يتحرك من أمامها بسرعة، لكنه فجأة توقف يستدير لها يقول :
" و...تبارك أنا لا اضغط عليكِ صحيح ؟؟"
رمقته بملامحها المصدومة ليبتسم هو متنهدًا براحة :
" حسنًا إذن ألقاكِ على خير ..."
وبهذه الكلمات ختم حديثه تاركًا تبارك في مكانها تحاول استيعاب ما قيل منذ ثواني، قبل أن تبتسم د دون وعي تردد :
" أنا سأصبح زوجة القائد رسميًا خلال دقائق معدودة ؟؟؟؟؟؟"
___________________