رواية وريث آل نصران الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم فاطمة عبدالمنعم
بسم الله الرحمن الرحيم
حين التقت روحي بك... صار الوجع ضعفا
حين انتظرتك يا وتينِ... كنت بلا مأوى
قد ظن قلبي أن مأواه أتى...
لكنه بعد لقاك لم يعد يحيا
وطريقي صاح:
الظن صاحبنا لكنه وهم ... لفراقنا استدعى
لنعود كما كنا...
قلب بلا مأوى.
تلك النسمات الباردة في منتصف النهار تنعش الروح، فعلت ذلك مع "طاهر" الذي جلس في ورشة إصلاح السيارات الواقعة في منتصف القرية، وترك كوب الشاي الساخن بعد أن رشف منه وهو يسأل:
بقولك ايه يا "عز" عايزك في مصلحة.
"عز" ذلك الشاب الذي استحوذ على مكانة كبيرة لدى "نصران" بسبب مروءته وحسن أخلاقه، وكان صديق ل "فريد" وكذلك "طاهر" أيضا.
خرج "عز" من أسفل السيارة التي يعمل بها وهو يقول:
اؤمرني يا أستاذ "طاهر".
_ أنت سمعت الكلام اللي داير في البلد؟
سأله " طاهر" بينما كان "عز" يخرج لفافة تبغه ثم أجاب على السؤال بآخر:
كلام ايه لا مؤاخذة؟
ابتسم "طاهر" بسخرية وقد رفع حاجبه الأيسر وهو يحدثه:
بقى مش عارف كلام ايه برضو؟... مش هتصيع عليا يا "عز" ده أنا اللي بدعت الصياعة.
بادله "عز" الضحك وجذب مقعد له أمام "طاهر" أثناء إخباره له:
سمعته، بس أنا معرفش اتكلم في حاجة الناس كلها بتتكلم عليها من غير دليل... كلام اتقال في البلد وماشيين ينقلوه... لكن لو أنت متأكد فعلا إن "شاكر" هو اللي غدر ب "فريد" فمش انتوا لوحدكم اللي هتجيبوا حقه... كل نفر عايش في البلد دي هيجيب حقه معاكم، كل بيت من البيوت دي عليه دين للحاج "نصران" والأصيل منهم لو طلبت منه السداد هتشوف أفعال مش كلام.
أكمل "طاهر" الحديث بدلا عنه:
لكن الخسيس لا يتلام ولا هنستنى منه حاجة...
الغدر هو الحاجة الوحيدة اللي ممكن تستناها من الخسيس.
هز "عز" رأسه بموافقة على حديث الجالس أمامه وتابع "طاهر":
أنا عايز أعرف مين اللي نشر الكلام ده في البلد... أنا عارف انه اتنقل من القرية اللي جنبنا لهنا، بس أنا عايز أعرف الأصل... أول واحد ذاع الكلام ده.
ضرب " عز" على الطاولة أمامه بتفكير تبعه قوله:
هو صعب... بس بيتهيألي القهوة ممكن نلاقي فيها إجابة، نسأل حد من اللي بيقعدوا على القهوة، وأنت عارف السوق والقهوة أكتر مكانين الكلام بيروحلهم هوا.
لمح "عز" أحدهم يسير في الخارج، فوقف وهو يقول منبها:
بقولك ايه عبد الصمد برا اهو، وده بقى ليل نهار قاعد على القهوة... أنا هنده عليه وأحاول أعرف أي حاجة.
أخذ "طاهر" جانبا حتى لا ينتبه له أحد من الخارج، واسترق السمع وهو يرى "عز" قد خرج وبدأ في النداء... توقف "عبد الصمد" عن إكمال طريقه، وتوجه ليصبح أمام الورشة الخاصة ب "عز" وهو يسأل باستغراب:
خير يا "عز"؟
_واحشني يا راجل ... ايه الغيبة الطويلة دي؟
قالها " عز" بتودد في حين بدا على الرجل الاستغراب وهو يسأل:
واحشك! ، ده أنت فاضحني على باقي حساب تصليح المكنة.
مسح "عز" على وجهه سائلا باستنكار:
يعني تاكل عليا شقايا، واقف اضربلك تعظيم سلام ولا اعمل ايه بالظبط؟
كان الرجل سيرحل بوجوم مما جعل "عز" يتراجع وهو ينطق بضجر:
خلاص استنى...حقي عند ربنا يا عم مش عايز من وشك حاجة، قولي بقى ايه حكاية الكلام اللي بيدور في البلد اليومين دول ده؟
_ابن الحاج "نصران" ؟
سأل "عبد الصمد" باستفسار فهز "عز" رأسه مؤكدا فأجابه الرجل بضيق:
والله ما انا عارف اهو كلام بيتقال على كل لسان، بس انا شاكك ان العمايل اللي حصلت في البلد دي مش من فراغ بدايتها البيت اللي ولع جنب الأرض اللي مات فيها أستاذ "فريد" و نهايته محل الراجل اللي اتكسر هنا.... دي حاجة تثبت ان الكلام اللي بيدور صح وكل والحاج "نصران" يضرب مهدي ضربة، ومهدي يضرب ضربة وفي الآخر يجي "نصران" يتشطر علينا احنا ويقول محدش يخرج من بيته من بعد الساعة ٧ .
لم يكد يكمل حديثه حتى وجد "طاهر" أمام وجهه وقد خرج من الداخل قائلا بانفعال:
اسمه الحاج "نصران" ولو متعرفش ازاي تحترم كبيرك... قولي علشان اعلمك تحترمه ازاي.
بهت وجه "عبد الصمد" ورمق "عز" بنظرات غاضبة على أنه لم يخبره فرفع "عز" كفيه ببراءة في حين تابع "طاهر":
الحاج " نصران" لما قال كل واحد يقعد في بيته، كان علشان نعرف مين اللي ماشي يدور الخراب في البلد، وعلشان محدش فيكم يتكسرله محل ولا مكنة وترجعوا تعيطوا... لكن كبيرك مش فاضي يقف يلعب عسكر وحرامية مع واحد... ده يحرقله بيت، وده يكسرله محل.
تحدث "عبد الصمد" بحرج:
حقك عليا يا أستاذ "طاهر" مكنش قصدي.
حثه "طاهر" على السير قائلا:
روح اقعد على القهوة اللي مبتقومش من عليها، وابقى روح بيتكوا قبل ٧ علشان ٧ ودقيقة لو لمحتك في الشارع هخليك تزعل.
بمجرد أن انتهى "طاهر" من حديثه، غادر "عبد الصمد" بانزعاج في حين نطق "عز" برضا ضاحكا:
أنا كان ليا فلوس عنده، بس بعد ترويقك ليه ده أنا خدتها خلاص.
في نفس التوقيت كانت سيارة "عيسى" ما زالت في مكانها، حيث توقف بها وقدم اعتذاره عما بدر منه... أما عنها فأحست وكأن العالم توقف وهي تشعر بملمس كفه على وجنتها حيث أزال دموعها معتذرا:
أنا أسف.
لم تدرك ماذا حدث بعد ذلك سوى أنها أزالت كفه، وتركها هو بالسيارة ونزل منها، لا تعلم أين ذهب هي فقط تجلس منتظرة.
دقائق آخري مرت عليها لتجده يعود بكوبين من القهوة، قدم لها الكوب البلاستيكي الخاص بها، لم تأخذه في البداية حتى قال:
ايدي وجعتني خلصي.
تناولته على مضض بضيق، وفتح هو الخاص به ولكن منعه عن استكمال ما يفعل صوت هاتفه، نظر للمتصل فوجده والدتها، ناولها الهاتف ناطقا:
خدي ردي والدتك.
نظرت في هاتفها فوجدت أن والدتها اتصلت مرات عديدة ولكنها لم تنتبه له، بالتأكيد لجأت له بعد عدم ردها، أجابت لتسمع صوت والدتها القلق فطمأنتها:
ألو يا ماما أنا "ملك".
أتتها نبرة والدتها منفعلة غاضبة وهي تقول:
مبترديش على تليفونك ليه.
_معلش يا ماما أنا لسه واخدة بالي منه والله.
هدأت نبرة والدتها وهي تسألها باهتمام:
طب انتِ فين دلوقتي؟
أعطتها الجواب مطمئنة:
احنا راجعين اهو.
أنهت معها المكالمة بعدما هدأتها، ومدت يدها له بالهاتف ولكنه تغافل عن كفها الممدود قائلا:
أنا مقولتش إننا راجعين.
أجابته بتحد صريح:
وأنا عايزة أروح... وقولت لماما خلاص إني مروحة.
استدار يطالعها وهو يردف بهدوء:
وأنا مش مسئول عن حاجة أنتِ قولتيها، وأنا مقولتهاش.
أنا اعتذرتلك مع إني مغلطتش فيكي.
كررت كلماته باستنكار:
مغلطتش فيا؟... أنت سامع نفسك؟
هز رأسه مؤكدا:
اه سامعها، أنا مليش دخل بنيتك الطيبة... أنا ليا دخل انك مسكتي حاجة من غير ما تعرفي صاحبها هيبقى راضي ولا لا... أنا كنت أقدر أعملها لكن سايبها ومش عايز أعملها.
سألته بغضب واضح:
ولبستها ليه لما أنت مش عايز.
جاوبها ببساطة:
علشان عملتيها.
تركت كوب القهوة على المسند أمامها، وتركت هاتفه على حقيبتها، وهي تقول:
لا وأنا ميرضينيش.
اقتربت من يده التي ارتدى السوار بها وجاهدت لتفك الخيط ناطقة بإصرار:
هات بقى لما أصلح غلطتي.
أبعد ذراعه عنها كي لا تحصل عليها، وحاولت هي الاقتراب أكثر كي تأخذها حتى أصابها اليأس فصاحت بانفعال:
ما تجيبها، أرجعهالك زي ما كانت.
ضحك على ما تفعل وقرب كفه قائلا:
لو تعرفي تاخديها خديها.
كان كفه أمامها ولكن قبل أن تنتشلها أبعده مجددا، اعتدلت في مقعدها متأففة بضجر، فقال:
هروحك دلوقتي، بس متاخديش على كده.
طالعته بغضب فعلت ضحكاته وهو يعود إلى القيادة مجددا، واستدارت هي تنظر جوارها تبتسم بهدوء ظنت أنه لم يلحظ ولكنها وأدت ابتسامته وهي تسمعه يقول:
أيوة اضحكي اضحكي.
تصنعت عدم السماع، وهي تلتقط هاتفها متصنعة العبث به، هو حيلتها الأخيرة الآن لتلاشي التعامل معه حتى يكملا طريقهما بسلام.
★***★***★***★***★***★***★***★
وكأن الغرفة تهتز بها، هي لم تتوهم أبدا، سمعت "رفيدة" صوت والدتها العالي، اخترق أذنها نبرة والدتها وهي تنادي على والدها... فتركت الغرفة مهرولة إلى الأسفل
كانت "سهام" تنادي بكل قوتها على زوجها... حتى ظهر أمامها "نصران" أخيرا والذي سأل بحدة:
بتنادي كده ليه يا "سهام".
غادرت " تيسير" مسرعة إلى المطبخ ولم يتبق بالردهة سوى "سهام" و"نصران"، فقطعت "سهام" الخطوات الفاصلة بينهما لتصبح أمامه، كانت عيونها دامعة، انهيار عاصف حل بها ولكنها حاولت التماسك وهي توجه سؤالها:
أنا هسألك سؤال واحد بس وعايزاله إجابة يا حاج "نصران"، وبيني وبينك ربنا اللي أنت حاجج بيته وحافظ كتابه.
_وأنا من امتى بكدب ولا اخبي يا " سهام" ؟
سألها غاضبا فأجابت على سؤاله بسؤال آخر:
"شاكر" ابن عم "ملك" هو اللي قتل "فريد"؟
وصلت " رفيدة" عند هذا السؤال إلى الدرج فوقفت مصدومة من أعلى تتابع حديث والدها ووالدتها... انتظرت هي الاخرى إجابة على أحر من الجمر ولكنها سمعت والدها يقول:
أنتِ يهمك حقه زي ما يهمني ويهم اخواته، وأنا مش هسيب حقه، ولو ربنا استرد أمانته اخواته مش هيسيبوه.
حركت يدها معترضة وقاطعته تقول بنفي:
لا لا لا، أنا مش عايزة كلام من ده... مش عايزة كلام تسكتني بيه، أنا عايزة اه أو لا... هو "شاكر"؟
قبل أن يجيب تابعت وهي تصرخ بألم:
أنا ازاي كنت غبية كده، " ملك" وأمها جم هنا ليه يا "نصران" جم علشان ابن عمها بيتعرضلها، "فريد" كان بيحب "ملك" و"فريد" اتقتل في بلد زفتة يبقى كان لازم اعرف ان ورا موت "فريد" لازم يبقى في سيرة "ملك".
كانت دموع " رفيدة" في سباق، وضعت يدها على مسند الدرج حتى لا تسقط في حين تابعت والدتها صائحة:
خليت ابنك حط ايده في ايد أبو اللي قتل "فريد"، سيبته يتجوز بنتهم، هتجيبها تعيش هنا في خيرك وأنت عارف إن ابنك مات بسببها.
استندت برأسها على صدره تردف بشهقات مكتومة:
بتعمل فيا كده ليه يا " نصران"، "فريد" ده أنا ضيعت عمري عليه، وأنت سايب ابنك يحط ايده في ايد اللي خدوا عمري.
رفع "نصران" رأسها، يطالعها بثبات وهو يقول:
"عيسى" اللي أنتِ اتهمتيه دلوقتي ده، هو أكتر واحد بيجري على حق أخوه، ومستعد يفدي أي حد في البيت ده بروحه، "ملك" مقتلتش "فريد"، كفاية حبها وقهرتها عليه، الحسرة اللي في عينيها كفاية أوي إنها تدافع عنها، و" عيسى" لما حط ايده في ايد عمها كان بيلاعبه، "عيسى" رضي يعيش حياته مع "ملك" حبيبة أخوه علشان يعرف يجيب "شاكر"، ولما قولتله لو اتجوزتها مش هتطلقها وافق ورضي ومقالش لا... أخر حد تتكلمي عنه يا " سهام" هو "عيسى"، أخر حد تتهميه بأي اتهام هيكون هو، علشان طول ما أنا عايش وفي نفس فيا محدش في البيت ده هيعاتب " عيسى" ولا يرمي عليه لوم غيري أنا.
سألته بعدم تصديق:
يعني بقيت أنا اللي ظالمة يا "نصران"... بقيت ظالمة وبظلمه، من يوم ما رجع وأنت اتغيرت، من يوم ما رجع وحياتنا بقت كلها....
قاطعها صائحا بغضب:
اخرسي يا " سهام "، كلمة كمان وهتشوفي مني معاملة غير أي معاملة.... بتتكلمي عن مين كده يا "سهام"، عن "عيسى" ...اياك تكون عيشته البعيدة نستك انه ابني زي ما "طاهر" برضو ابني .
أدركت ما كانت على وشك قوله فدافعت قائلة:
وانا مقولتش حاجة غير كده، أنت عارف إن غلاوة "عيسى" عندي مش محتاجة أتكلم عليها، لكن أنا مش هشوف ابني بيغلط واسكتله على الغلط، جوازه من البت دي أكبر غلط، ولو أنت شايفها يا "نصران" ملهاش ذنب في موت "فريد" فأنا مش قادرة أشوف ده.
أشار لها على الدرج منهيا النقاش بقوله:
اطلعي على فوق يا "سهام"، وحكاية تقدري ولا متقدريش دي، أنا عارف إنك هتقدري تشوفي اللي انا شايفه زي ما بتعملي ده علطول .
استدارت تصعد الدرج بنار دفينة تحرق بها، حتى أنها لم تر ابنتها التي كادت أن تسقط بسبب صعود والدتها المنفعل، والتي دفعتها ولم تلحظ ...لم يلحظ وقوفها سوى والدها، والذي ناداها برفق ما إن رأى دموعها:
تعالي يا "رفيدة"
هرولت تنزل لوالدها الذي فتح ذراعيه يحتضنها، احتواها متحدثا بحنان:
متعيطيش يا "رفيدة"، سيبك من الكلام الأهبل اللي اتقال ده ...أمك مكانتش عارفة هي بتقول ايه..."عيسى" من يوم ما جه زعلك يا حبيبتي ولا داسلك على طرف ؟
هزت رأسها نافية وهي تتحدث بصدق:
أنا بحب "عيسى" أوي، "عيسى" حنين زي "طاهر" و"حسن"...بس هو فعلا ابن عم "ملك" هو اللي قتل "فريد" ؟
مسح "نصران" على خصلاتها وهو يسألها لو أنا أعرف هانم دلوقتي اسمها "رفيدة" وعارف إنها بتحب ابني أوي بس عم "رفيدة" دي عنده كلب مسعور في يوم شاف "رفيدة" واقفة مع ابني وجري على ابني عضه ...كده "رفيدة" ليها ذنب ؟
أدركت مقصد والدها، فابتسمت برقة وهزت رأسها نافية:
لا ملهاش ذنب يا بابا.
احتضنته مجددا وهي تصرح:
أنا بحبك أوي يا بابا، ياريت كل الناس تكون زيك كده .
مسد على ظهرها يبثها الطمأنينة بعد أن نجح أن ينتزع أفكار والدتها الخاطئة من رأسها قبل أن تُزرع ويصبح التخلص منها أمر مستحيل .
﷼﷼﷼****﷼﷼﷼****﷼﷼﷼****﷼﷼﷼
يقود سيارته ويجاوره ابنه في طريقهما إلى مطعم _البيتزا_ حيث ألح "يزيد" عليه حينما ذهب يأخذه من محل السيدة "هادية" ألا يعودا بل يأخذه إلى تناول وجبته المفضلة في الخارج .
شرد "طاهر" حين ذهب لأخذ ابنه، فوجد "شهد" وقد تغيرت حالتها من البهجة إلى الضيق فسألها باهتمام:
مالك يا "شهد" ؟
هربت بعينيها وهي تعدل ملابس الصغير مردفه:
مفيش حاجة يا "طاهر".
تحرك "يزيد" ومسك ذراع والده طالبا:
بابا تعالى نروح ناكل بيتزا .
كانت ستغادر المحل لتقوم بالنداء على والدتها من أعلى فاعترض "طاهر" طريقها مكررا بإصرار:
مش همشي من هنا غير لما تقولي فيه ايه .
ذكرته وكان الحزن ظاهر على وجهها، حزن امتزج بغضبها:
فاكر البنت اللي جيت خدتني من الحفلة بتاعتها يوم ما كنت شاربة ؟
_فاكر يوم الحفلة اه.
انخرطت في نوبة بكاء فاقترب منها الصغير مردفا بحزن:
مالك يا "شهد"؟
حاول "طاهر" هو الآخر تهدئتها حين قال:
اهدي متعيطيش...تابع حديثه سائلا:
أنتِ رايحة الكلية بكرا ؟
مسحت دموعها وهي تعطيه إجابة:
أه راحة بكرا، بس ماما قالتلي مركبش معاك تاني، لكن أنا عندي مشكلة.
أعطاها الحل بقوله:
خلاص يا "شهد" أنا هجيلك الكلية بكرا ولو عندك مشكلة نحلها، وابقي ارجعي لوحدك متركبيش معايا .
هزت رأسها موافقة على اقتراحه، فجذب أحد الأكياس كبيرة الحجم من البطاطس لصغيره ثم أخذ كيس آخر ووضع ثمنهما... أعطى "يزيد" أحدهم، ووضع لها الاخر فوق الطاولة مما جعلها تسأل:
ايه ده؟
_ده ليكي.
قالها فابتسمت ابتسامة محت أثار الحزن من وجهها، مما جعله يقول ضاحكا:
كده أنا اتطمنت عليكي... مع السلامة.
فاق من شروده على صوت ابنه الذي سأل:
هو فاضل كتير يا بابا؟
تابع الطريق وهو يخبره:
لا يا حبيبي وصلنا خلاص اهو.
مرت دقائق قليلة أصبحا بعدها داخل المطعم على طاولتهما وطلب "طاهر" الطعام... بادر "طاهر" بالقول:
أنا عايز أطلب منك طلب، وأنا عارف إنك صاحبي وجدع وهتعمله.
انتبه له "يزيد" فتابع "طاهر" حديثه:
أنا مش عايزك تروح عند طنط هادية لوحدك تاني، لما تحب تشتري حاجة روح مع "تيسير" أو "حسن" اشتروا من عندها، لكن تروح تقعد تاني لا... أنت كبرت دلوقتي ومينفعش اخدك للناس واقولهم قعدوا "يزيد" عندكم.
اعترض "يزيد" قائلا:
بس انا بحبهم.
فأجاب والده على اعتراضه بقوله اللين:
وهما كمان بيحبوك، وروح يا سيدي كل يوم اشتري حاجات من عندهم، وكمان معاك رقم "شهد" ابقى كلمها، لكن مينفعش نروح نزعجهم كده... اتفقنا؟
طالع الصغير والده بغير رضا ولكنه في النهاية وافق مبتسما:
اتفقنا يا بابا.
قبل أن يأتي النادل بالطعام وجدها تقتحم جلستهم وهي تحتضن الصغير ناطقة:
"يزيد" حبيبي وحشتني أوي.
طالع "طاهر" زوجته السابقة باندهاش، بالتأكيد هي متواجدة هنا من قبلهما، رحب بها الصغير فسألت "طاهر":
ممكن اقعد ولا هتضايق من وجودي... امشي؟
نطق بهدوء مشيرا على المقعد:
أكيد مش هتضايق يا " فريدة" اتفضلي.
اتخذت مكانها على الطاولة وسألها "طاهر":
تاكلي ايه؟
_هو أنا موحشتكش بقى؟
سألته وهي تمد كفها تحتضن به كفه... تابعت وهي تطالع " يزيد":
"يزيد" حبيبي اختك موحشتكش؟
سحب "طاهر" كفه بينما قال "يزيد":
وحشتني، ابقى هاتيها نروح نجيب حاجات حلوة سوا من عند شوشو.
أتى النادل بالطعام بينما احتدت نظراتها وهي تسأل " يزيد":
شوشو مين؟
أجابها ببراءة:
"شهد".
طالعت " طاهر" بغضب تبعه قولها المنفعل:
هو انت كمان بتقرب ابنك منها؟... ده أنت بايع بقى يا "طاهر"، وعلى كده بقى كنت تعرفها واحنا لسه متجوزين ولا لما طلقتني؟
نطق بحدة بعد انصراف النادل:
هو أنتِ اتجننتي ولا حصل ايه في دماغك بالظبط؟
_بتسيبني علشان دي؟
سألته بدموع فأعطاها الجواب بغضب:
أنا مسبتيكيش علشان حد، أنتِ عارفة كويس أوي أنا سيبتك ليه.
قال كلماته وجذب " يزيد" من يده قائلا بانفعال:
قوم يلا يا "يزيد" هنمشي.
قالت بنبرة عالية سمعها كل رواد المكان:
حتة العيلة دي هتعمل اللي انا معملتهوش، هتبعدك عن ابنك زي ما بعدتك عني يا "طاهر".
صرف " طاهر" ابنه قائلا:
اخرج يا "يزيد" استناني عند العربية.
نفذ الصغير ما طلبه والده، في حين استدار لها "طاهر" يرمقها باشمئزاز:
أنا قرفان منك، لا حقيقي، أنتِ عمالة تبوظي في كل الحاجات الحلوة، مخلتيش حاجة واحدة بس عندك اعرف ارجعلك علشانها... مش هنعيد ونزيد في اللي عملتيه... خلينا بقى في اللي بتعمليه.
طالعته بغضب بينما تابع هو بما جعل الصدمة ترافقها:
أيوة بحبها، اللي انتِ بتقولي عليها حتة عيلة دي هتجوزها وهعملها فرح البلد كلها هتحضره، ماهي عيلة بقى ولازم تفرح، بس عارفة ايه الغلط في كلامك... حوار إنها هتبعدني عن ابني ده، كان غيرها أشطر... عيبة في حقك أوي أنتِ متقدريش تعمليها والعيلة تعملها.
سألته برجاء أن يعطيها إجابة تريحها:
أنت بتعمل كده علشان تغيظني صح؟
_ أنتِ متصورة إني ممكن أتجوز علشان أغيظك؟... أنا هتجوزها علشان حياتي ناقصة من غيرها كتير.
قالها بنبرة أثارت غيظها وجعلتها تندفع قائلة:
لا أنت هتتجوزها علشان تجيب خدامة تقعد تشوف مصالح ابنك، وتخاويه بالمرة.
سألها غامزا:
وأنتِ بقى عجبتك الخدمة علشان كده عايزة نرجع تاني؟
لم تجد ما تجيب به أما هو فوضع حساب الطعام على الطاولة وتحرك مغادرا وهو يقول:
سوري يا "فريدة"... أنا استغنيت عن خدماتك.
كانت تبكي، دموعها صادقة حقا وهي تتابعه يخرج من المطعم، هي تحبه ولكنها تجزم الآن أنه لم يحبها أبدا... تقسم أنه لم يكن سوى كاذب وصدقته هي.
★***★***★***★***★***★***★***★
كانت تتابع مذاكرة دروسها حين دخلت والدتها الغرفة بالحامل المعدني عليه أكواب الشاي الساخنة وجلست في مقابلها على الفراش تسأل باهتمام:
ايه أخبار المذاكرة يا " مريم" ؟
هزت "مريم" رأسها برضا وهي تخبرها:
الحمد لله كويسة جدا يا ماما.
_وأخبار "حسن"؟
داهمتها "هادية" بالسؤال فشعرت "مريم" بالارتباك وهي تسألها:
"حسن" مين؟
تناولت "هادية" كوبها وهي تخبرها:
"حسن" ابن "نصران" يا بنت "هادية".
حاولت أن تقول أي شيء تدافع به عن نفسها:
ماما أنا...
قاطعتها والدتها تطلب منها بهدوء:
اسمعيني يا " مريم"، مستقبلك و"حسن" مع بعض مش هينفع، أنتِ دلوقتي يا حبيبتي المفروض تهتمي بدراستك، علشان أخر السنة نبقى عملنا اللي علينا... أنتِ لسه صغيرة يا مريم واللي هتشوفيه النهاردة حبيب وجوز كمان سنة ممكن متشوفيهوش أصلا.
_بس هو بيحبني.
قالتها "مريم" فتابعت والدتها:
أنا مش هعاتبك على إنك كلمتيه من ورايا وهعتبرها غلطة مش مقصودة ومش هتتكرر تاني، بيحبك هيهتم بمستقبله، وهيسيبك تهتمي بمستقبلك ويجي يتقدملك بعدين.... على فكرة هو جالي وقالي إنه بيحبك وأنا قولتله الكلمتين اللي قولتهم ليكي دول.
لم تكن تعلم بشيء من هذا القبيل، ولكنها وافقت كلام والدتها وهي تقول:
أنا أسفه يا ماما.
مسحت "هادية" على خصلاتها قائلة برفق:
ركزي في حياتك يا "مريم" لو بيحبك هيبقى عليكي، وهيسعى إنه يبقى إنسان كويس علشانك، ولو بيتسلى يبقى خسارة فيه ضفرك.
ضحكت "مريم" وهي تقول بمزاح:
مش لدرجة الضوافر يعني... بلاش أوفر.
دفعتها والدتها بغيظ وأخذت كوبها وهي تقول أثناء مغادرتها الغرفة:
أنا اللي غلطانة إني بتكلم معاكي.
علت ضحكات ابنتها وهي ترمق والدتها أثناء المغادرة، في نفس التوقيت كان "طاهر" قد توقف بسيارته أمام ورشة "عز" الذي استوقفه بعد أن عاد للتو من المطعم... خرج "طاهر" من النافذة يسأله:
في ايه يا "عز"؟
نطق " عز" بقلق:
في قلق يا أستاذ "طاهر"، كام واحد جم سألوا على مكان الحاج " نصران" وراحوا يسألوا تاني على القهوة، وشكلهم ميريحش.
وصلت "ملك" إلى المنزل أخيرا بينما تابع "عيسى" طريقه ناحية منزله فاستوقفه "طاهر" الذي يقف أمام الورشة الخاصة ب "عز"... نزل له " عيسى" وسأل باستغراب:
واقف هنا ليه؟
قص له "طاهر" باختصار ما أخبره به "عز" فقال "عيسى":
طب بقولك ايه يا " عز" خد العربية روح "يزيد" وابقى تعالى على القهوة.
حث "عيسى" شقيقه قائلا:
يلا يا "طاهر" خلينا نروح القهوة نشوف عايزين ايه.
ركبا معا في سيارة "عيسى" وقد توجها ناحية المقهى، لم يأخذا وقت كبير حتى وصلا إليها، نزلا من السيارة فهرول ناحيتهما صاحب المقهى مستغيثا:
الناس اللي هناك دول بيسألوا على الحاج "نصران".
تأملهم " طاهر" ... ثلاثة شباب من عمره تقريبا ولكن غطى الغضب تقاسيمهم، انتبه وهو يجد "عيسى" متوجها ناحيتهم وهو يسأل:
في ايه يا شباب؟
استدار له من يقودهم ناطقا بتبجح:
أنا عايز أعرف فين بيت الراجل اللي اسمه "نصران"؟
ربت " عيسى" على كتف الواقف أمامه وهو يقول:
لا يا باشا اسمه الحاج "نصران" وتتقال باحترام علشان البلد اللي أنت واقف فيها دي هو كبيرها.
أبعد الشاب كف "عيسى" وهو يصيح:
ايدك بس كده ... وأنت مين بقى علشان محموقله أوي كده.
حضر "عز" إلى المقهى ورأى "طاهر" وهو يتقدم قائلا:
احنا ولاده، والنمرة اللي أنت واقف تعملها دي مش هتجيب همها.
_ لا أنا مش جاي أعمل نمر... أنا جاي اخد حق بنت عمي من أخوكم اللي معرفتوش تربوه، ومفكر إن "مروة" مفيش وراها رجالة يقفوا ليها.
تبادل "طاهر" و "عيسى" النظرات بينما قال "عز" محاولا فض هذا الشباك:
أي حاجة تتحل بالهدوء... روح اشتكي للحاج "نصران"... ولو ليك حق هيرجعلك.
لم يعجب الكلام هذا الواقف بل صاح غاضبا وهو يركل المقعد:
أنا مبشتكيش لحد، وحقي هاخده من عين كبيركم ده اللي معرفش يربي ابنه.
بعد حديثه اقترب "طاهر" بانفعال، وتلقى "عيسى" المقعد الذي ركله الشاب وهو يقول بشراسة مقتربا مع "طاهر" من ذلك الغاضب:
طب تعالى بقى يا روح أمك علشان ولاد "نصران" يفرجوك قلة التربية عاملة ازاي.
سأل "طاهر" الواقفين بنبرة عالية:
حق ده ولا مش حق؟... اللي الكلام بالأدب مينفعش معاه يبقى قلة الأدب تربيه ولا لا؟
اقترب الجميع فأصبح الثلاث شباب محاوطين من كل ناحية، شعروا أنهم في مأزق حقيقي وخاصة و"عيسى" يلقي بالمقعد قائلا:
شوفتوا بقى إن كلامه صح وإن النمرة دي مش هتاكل هنا... هتروحوا تشتكوا بالأدب ولا ناخد الحل التاني؟
أدرك أحدهم أنهم لن يستطيعوا فعل شيء هنا، فالجميع في صفهم لذا نطق:
عايزين نروح نشتكي للحاج "نصران".
★***★***★***★***★***★***★***★
جلست " بيريهان" في الحديقة الواقعة خارج منزل "منصور" كانت تحادث ابنة عمها قائلة:
أنا زهقت بقى يا "ندى"... ماما وبابا وحشوني بصراحة، ما تقولي لجابر انك هتيجي معايا القاهرة.
أعطتها ندى الجواب بغيظ:
يعني أنا اللي مش زهقانة، أنا قربت أطق من الخنقة بس مضطرة استحمل اليومين دول علشان ميقولش اني بتلكك.
صمتت حين سمعت صوت هاتف " بيريهان" فحستها قائلة:
تليفونك بيرن شوفي مين.
نظرت "بيريهان" للرقم باستغراب وهي تقول:
مش عارفة مين ده... رقم غريب.
علا الصوت مجددا لذا أجابت:
ألو مين معايا؟
_"بيريهان" أنا "شاكر" فاكراني؟
بدا على وجهها الفرحة وهي تقول بعدم تصديق:
مش ممكن "شاكر"... وحشتني جدا.
ابتسم بارتياح فقد وصل لمبتغاه وهو يقول بنبرة ملتوية:
مش أكتر مني يا روحي.
★***★***★***★***★***★***★***★
لم تكد " ملك" تأخذ أنفاسها حتى اكتشفت أن هاتفه معها، لا تدري كيف ولكنه في حقيبتها، استأذنت من والدتها أن تنزل لتعيده له، وبالفعل ذهبت ولكن استوقفها قبل أن تتابع طريقها نحو منزل "نصران" ذلك الصوت الآتي من المرسم... صوت منخفض ولكنها لم تخطئ... أحدهم يستغيث، اقتربت بخطوات مترددة، ولا رفيق لها سوى الترقب، وقفت تنظر من الفتحة التي تم تركها حيث لم يُغلق الباب كليا... فشاهدت "عيسى"، لا ليس " عيسى" إنه بركان ثائر يقذف حمم غضبه على هذا المسكين الواقع أمامه، يضربه بعنف وبلا هوادة.... فتحت الباب وهرولت ناحيته تحاول إبعاده:
كفاية يا "عيسى" خلاص... كفاية هتموته.
استدار لها ولكن حمم غضبه هذه المرة كانت من نصيبها هي حيث صاح وهو يدفعها نحو الخارج:
هو أنتِ مبتفهميش... بتدخلي في اللي ملكيش فيه ليه؟
راقبت الواقع على الأرضية ناطقة بخوف:
أنت هتموته.
أخرجها تماما وهو ينطق بغضب:
ملكيش دعوة، غوري في ستين داهية بدل ما اموتك بداله.
هزت رأسها بنفي غير مصدقة، هي متيقنة الآن تماما أنه ليس شخص واحد... ماذا يفعل!
هرولت مبتعدة عن هنا، قطعت خطوات عديدة حتى اصطدمت ب "سهام" التي ظهر واضحا أنها عائدة إلى المنزل... توقفت "سهام" وهي تسألها:
مالك يا "ملك" يا حبيبتي؟
قبل أن تجيبها جذبتها "سهام" من ذراعها قائلة:
أنتِ وشك مخطوف كده ليه؟...لا ده أنتِ شكلك أعصابك تعبانة خالص ... تعالي معايا أنا رايحة مشوار، واحكيلي في الطريق فيه ايه.
لم تحك شيء، هي خائفة من كل شيء الآن ولكنها تحركت معها، ورغم ابتعادها عن "عيسى" ولكنها لم تشعر بالأمان أبدا وهي تسير مع "سهام" وصدق حدسها وهي ترى أنهما وصلا إلى منطقة شبه خالية من البشر لا يوجد سوى البحر والأشجار التي تتحرك وكأنها تساندها معلنة خوفها معها... تركت "سهام" ذراعها بعنف فتراجعت "ملك" للخلف بصدمة وهي تسمعها تقول:
قتلتوه ليه بقى؟
سألتها "ملك" وقد استعادت بعض من ذاتها وهي تشعر بالخطر الحقيقي يداهمها:
في ايه؟... وقتلت مين؟
_فريد ...أنتِ وابن عمك اللي قتلتوه.
قالتها "سهام" بحقد دفين، شر نواياها ظهر في نبرة صوتها.
نظرت "ملك" حولها بقلب وجل، لا أحد هنا، وكل إنش في هذه السيدة يقول أنها ستفتك بها توا، هزت "ملك" رأسها نافية ودموعها في سباق:
أنتِ بتقولي ايه؟...أنا أقتل "فريد" .
دفعتها "سهام" للخلف بعنف صائحة:
متنطقيش اسمه، متنطقيش اسم ابني...
حل الغروب، وشعرت "ملك" بالشمس ترحل مودعة، فداهمها الخوف، كل شيء يتخلى عنها ومن الواضح أن "سهام" أوقعتها في الفخ...نطقت والبرودة تغزو جسدها:
أنتِ جيباني هنا ليه؟... قولتلك أنا عمري ما اقتل نملة مش "فريد" اللي حياتي كلها ضاعت من بعده.
دفعتها "سهام" بذراعيها بكل ما تمتلك من قوة وهي تقول بحقد لمع في عينيها:
وأنتِ تستاهلي اللي باقي من حياتك يضيع.
لم تشعر "ملك" بنفسها إلا وهي تتعرقل بتلك القوالب الحجرية على الأرضية من خلفها، في هذه اللحظة خصيصا تذكرت أول مرة رأت فيها "عيسى" حين ظنته "فريد" ولكن خابت ظنونها وصاحت روحها:
حين التقت روحي بك...صار الوجع ضعفا
لم يعد بينها وبين الماء أي فاصل سوى هذه الأحجار... انعدمت الرغبة في الحياة وفي كل شيء، من سينقذها هذه المرة رحل "فريد" و"عيسى" ليس هنا ولكن قلبها يستغيث طالبا من ينتشله من كل هذا :
حين انتظرتك يا وتينِ...كنت بلا مأوى.
ولم يجد المأوى لذا وبدون تردد استدارت وصعدت على الأحجار لتقفز إلى المياه، التفاتة صغيرة فعلتها لمحت بها "عيسى" من بعيد ولكن نطق كل إنش بها متألما:
قد ظن قلبي أن مأواه أتى ...لكنه بعد لقاك
قفزت في المياه بلا تردد وتابعت روحها الحديث:
لكنه بعد لقاك لم يعد يحيا..
شهقت "سهام" بصدمة... بينما "ملك" فهي ترى احتضان الماء بالنسبة لها أهون من غرق في عالم لم يرحمها... عالم يتفنن في أن يجعلها لا تنساه أبدا.
أما عنه فهو يرى الكارثة، منتصف الشتاء وهي في المياه التي بالتأكيد لجأت لها خلاصا من كل شيء،
لقد عاد الآن طفل صغير، طفل يحاول حماية والدته مما يُدبر لذا هرول سريعا وبسبب ذلك اندفعت "سهام" بعيدا، وهي تراه يقفز خلفها!
يُتبع
حين التقت روحي بك... صار الوجع ضعفا
حين انتظرتك يا وتينِ... كنت بلا مأوى
قد ظن قلبي أن مأواه أتى...
لكنه بعد لقاك لم يعد يحيا
وطريقي صاح:
الظن صاحبنا لكنه وهم ... لفراقنا استدعى
لنعود كما كنا...
قلب بلا مأوى.
تلك النسمات الباردة في منتصف النهار تنعش الروح، فعلت ذلك مع "طاهر" الذي جلس في ورشة إصلاح السيارات الواقعة في منتصف القرية، وترك كوب الشاي الساخن بعد أن رشف منه وهو يسأل:
بقولك ايه يا "عز" عايزك في مصلحة.
"عز" ذلك الشاب الذي استحوذ على مكانة كبيرة لدى "نصران" بسبب مروءته وحسن أخلاقه، وكان صديق ل "فريد" وكذلك "طاهر" أيضا.
خرج "عز" من أسفل السيارة التي يعمل بها وهو يقول:
اؤمرني يا أستاذ "طاهر".
_ أنت سمعت الكلام اللي داير في البلد؟
سأله " طاهر" بينما كان "عز" يخرج لفافة تبغه ثم أجاب على السؤال بآخر:
كلام ايه لا مؤاخذة؟
ابتسم "طاهر" بسخرية وقد رفع حاجبه الأيسر وهو يحدثه:
بقى مش عارف كلام ايه برضو؟... مش هتصيع عليا يا "عز" ده أنا اللي بدعت الصياعة.
بادله "عز" الضحك وجذب مقعد له أمام "طاهر" أثناء إخباره له:
سمعته، بس أنا معرفش اتكلم في حاجة الناس كلها بتتكلم عليها من غير دليل... كلام اتقال في البلد وماشيين ينقلوه... لكن لو أنت متأكد فعلا إن "شاكر" هو اللي غدر ب "فريد" فمش انتوا لوحدكم اللي هتجيبوا حقه... كل نفر عايش في البلد دي هيجيب حقه معاكم، كل بيت من البيوت دي عليه دين للحاج "نصران" والأصيل منهم لو طلبت منه السداد هتشوف أفعال مش كلام.
أكمل "طاهر" الحديث بدلا عنه:
لكن الخسيس لا يتلام ولا هنستنى منه حاجة...
الغدر هو الحاجة الوحيدة اللي ممكن تستناها من الخسيس.
هز "عز" رأسه بموافقة على حديث الجالس أمامه وتابع "طاهر":
أنا عايز أعرف مين اللي نشر الكلام ده في البلد... أنا عارف انه اتنقل من القرية اللي جنبنا لهنا، بس أنا عايز أعرف الأصل... أول واحد ذاع الكلام ده.
ضرب " عز" على الطاولة أمامه بتفكير تبعه قوله:
هو صعب... بس بيتهيألي القهوة ممكن نلاقي فيها إجابة، نسأل حد من اللي بيقعدوا على القهوة، وأنت عارف السوق والقهوة أكتر مكانين الكلام بيروحلهم هوا.
لمح "عز" أحدهم يسير في الخارج، فوقف وهو يقول منبها:
بقولك ايه عبد الصمد برا اهو، وده بقى ليل نهار قاعد على القهوة... أنا هنده عليه وأحاول أعرف أي حاجة.
أخذ "طاهر" جانبا حتى لا ينتبه له أحد من الخارج، واسترق السمع وهو يرى "عز" قد خرج وبدأ في النداء... توقف "عبد الصمد" عن إكمال طريقه، وتوجه ليصبح أمام الورشة الخاصة ب "عز" وهو يسأل باستغراب:
خير يا "عز"؟
_واحشني يا راجل ... ايه الغيبة الطويلة دي؟
قالها " عز" بتودد في حين بدا على الرجل الاستغراب وهو يسأل:
واحشك! ، ده أنت فاضحني على باقي حساب تصليح المكنة.
مسح "عز" على وجهه سائلا باستنكار:
يعني تاكل عليا شقايا، واقف اضربلك تعظيم سلام ولا اعمل ايه بالظبط؟
كان الرجل سيرحل بوجوم مما جعل "عز" يتراجع وهو ينطق بضجر:
خلاص استنى...حقي عند ربنا يا عم مش عايز من وشك حاجة، قولي بقى ايه حكاية الكلام اللي بيدور في البلد اليومين دول ده؟
_ابن الحاج "نصران" ؟
سأل "عبد الصمد" باستفسار فهز "عز" رأسه مؤكدا فأجابه الرجل بضيق:
والله ما انا عارف اهو كلام بيتقال على كل لسان، بس انا شاكك ان العمايل اللي حصلت في البلد دي مش من فراغ بدايتها البيت اللي ولع جنب الأرض اللي مات فيها أستاذ "فريد" و نهايته محل الراجل اللي اتكسر هنا.... دي حاجة تثبت ان الكلام اللي بيدور صح وكل والحاج "نصران" يضرب مهدي ضربة، ومهدي يضرب ضربة وفي الآخر يجي "نصران" يتشطر علينا احنا ويقول محدش يخرج من بيته من بعد الساعة ٧ .
لم يكد يكمل حديثه حتى وجد "طاهر" أمام وجهه وقد خرج من الداخل قائلا بانفعال:
اسمه الحاج "نصران" ولو متعرفش ازاي تحترم كبيرك... قولي علشان اعلمك تحترمه ازاي.
بهت وجه "عبد الصمد" ورمق "عز" بنظرات غاضبة على أنه لم يخبره فرفع "عز" كفيه ببراءة في حين تابع "طاهر":
الحاج " نصران" لما قال كل واحد يقعد في بيته، كان علشان نعرف مين اللي ماشي يدور الخراب في البلد، وعلشان محدش فيكم يتكسرله محل ولا مكنة وترجعوا تعيطوا... لكن كبيرك مش فاضي يقف يلعب عسكر وحرامية مع واحد... ده يحرقله بيت، وده يكسرله محل.
تحدث "عبد الصمد" بحرج:
حقك عليا يا أستاذ "طاهر" مكنش قصدي.
حثه "طاهر" على السير قائلا:
روح اقعد على القهوة اللي مبتقومش من عليها، وابقى روح بيتكوا قبل ٧ علشان ٧ ودقيقة لو لمحتك في الشارع هخليك تزعل.
بمجرد أن انتهى "طاهر" من حديثه، غادر "عبد الصمد" بانزعاج في حين نطق "عز" برضا ضاحكا:
أنا كان ليا فلوس عنده، بس بعد ترويقك ليه ده أنا خدتها خلاص.
في نفس التوقيت كانت سيارة "عيسى" ما زالت في مكانها، حيث توقف بها وقدم اعتذاره عما بدر منه... أما عنها فأحست وكأن العالم توقف وهي تشعر بملمس كفه على وجنتها حيث أزال دموعها معتذرا:
أنا أسف.
لم تدرك ماذا حدث بعد ذلك سوى أنها أزالت كفه، وتركها هو بالسيارة ونزل منها، لا تعلم أين ذهب هي فقط تجلس منتظرة.
دقائق آخري مرت عليها لتجده يعود بكوبين من القهوة، قدم لها الكوب البلاستيكي الخاص بها، لم تأخذه في البداية حتى قال:
ايدي وجعتني خلصي.
تناولته على مضض بضيق، وفتح هو الخاص به ولكن منعه عن استكمال ما يفعل صوت هاتفه، نظر للمتصل فوجده والدتها، ناولها الهاتف ناطقا:
خدي ردي والدتك.
نظرت في هاتفها فوجدت أن والدتها اتصلت مرات عديدة ولكنها لم تنتبه له، بالتأكيد لجأت له بعد عدم ردها، أجابت لتسمع صوت والدتها القلق فطمأنتها:
ألو يا ماما أنا "ملك".
أتتها نبرة والدتها منفعلة غاضبة وهي تقول:
مبترديش على تليفونك ليه.
_معلش يا ماما أنا لسه واخدة بالي منه والله.
هدأت نبرة والدتها وهي تسألها باهتمام:
طب انتِ فين دلوقتي؟
أعطتها الجواب مطمئنة:
احنا راجعين اهو.
أنهت معها المكالمة بعدما هدأتها، ومدت يدها له بالهاتف ولكنه تغافل عن كفها الممدود قائلا:
أنا مقولتش إننا راجعين.
أجابته بتحد صريح:
وأنا عايزة أروح... وقولت لماما خلاص إني مروحة.
استدار يطالعها وهو يردف بهدوء:
وأنا مش مسئول عن حاجة أنتِ قولتيها، وأنا مقولتهاش.
أنا اعتذرتلك مع إني مغلطتش فيكي.
كررت كلماته باستنكار:
مغلطتش فيا؟... أنت سامع نفسك؟
هز رأسه مؤكدا:
اه سامعها، أنا مليش دخل بنيتك الطيبة... أنا ليا دخل انك مسكتي حاجة من غير ما تعرفي صاحبها هيبقى راضي ولا لا... أنا كنت أقدر أعملها لكن سايبها ومش عايز أعملها.
سألته بغضب واضح:
ولبستها ليه لما أنت مش عايز.
جاوبها ببساطة:
علشان عملتيها.
تركت كوب القهوة على المسند أمامها، وتركت هاتفه على حقيبتها، وهي تقول:
لا وأنا ميرضينيش.
اقتربت من يده التي ارتدى السوار بها وجاهدت لتفك الخيط ناطقة بإصرار:
هات بقى لما أصلح غلطتي.
أبعد ذراعه عنها كي لا تحصل عليها، وحاولت هي الاقتراب أكثر كي تأخذها حتى أصابها اليأس فصاحت بانفعال:
ما تجيبها، أرجعهالك زي ما كانت.
ضحك على ما تفعل وقرب كفه قائلا:
لو تعرفي تاخديها خديها.
كان كفه أمامها ولكن قبل أن تنتشلها أبعده مجددا، اعتدلت في مقعدها متأففة بضجر، فقال:
هروحك دلوقتي، بس متاخديش على كده.
طالعته بغضب فعلت ضحكاته وهو يعود إلى القيادة مجددا، واستدارت هي تنظر جوارها تبتسم بهدوء ظنت أنه لم يلحظ ولكنها وأدت ابتسامته وهي تسمعه يقول:
أيوة اضحكي اضحكي.
تصنعت عدم السماع، وهي تلتقط هاتفها متصنعة العبث به، هو حيلتها الأخيرة الآن لتلاشي التعامل معه حتى يكملا طريقهما بسلام.
★***★***★***★***★***★***★***★
وكأن الغرفة تهتز بها، هي لم تتوهم أبدا، سمعت "رفيدة" صوت والدتها العالي، اخترق أذنها نبرة والدتها وهي تنادي على والدها... فتركت الغرفة مهرولة إلى الأسفل
كانت "سهام" تنادي بكل قوتها على زوجها... حتى ظهر أمامها "نصران" أخيرا والذي سأل بحدة:
بتنادي كده ليه يا "سهام".
غادرت " تيسير" مسرعة إلى المطبخ ولم يتبق بالردهة سوى "سهام" و"نصران"، فقطعت "سهام" الخطوات الفاصلة بينهما لتصبح أمامه، كانت عيونها دامعة، انهيار عاصف حل بها ولكنها حاولت التماسك وهي توجه سؤالها:
أنا هسألك سؤال واحد بس وعايزاله إجابة يا حاج "نصران"، وبيني وبينك ربنا اللي أنت حاجج بيته وحافظ كتابه.
_وأنا من امتى بكدب ولا اخبي يا " سهام" ؟
سألها غاضبا فأجابت على سؤاله بسؤال آخر:
"شاكر" ابن عم "ملك" هو اللي قتل "فريد"؟
وصلت " رفيدة" عند هذا السؤال إلى الدرج فوقفت مصدومة من أعلى تتابع حديث والدها ووالدتها... انتظرت هي الاخرى إجابة على أحر من الجمر ولكنها سمعت والدها يقول:
أنتِ يهمك حقه زي ما يهمني ويهم اخواته، وأنا مش هسيب حقه، ولو ربنا استرد أمانته اخواته مش هيسيبوه.
حركت يدها معترضة وقاطعته تقول بنفي:
لا لا لا، أنا مش عايزة كلام من ده... مش عايزة كلام تسكتني بيه، أنا عايزة اه أو لا... هو "شاكر"؟
قبل أن يجيب تابعت وهي تصرخ بألم:
أنا ازاي كنت غبية كده، " ملك" وأمها جم هنا ليه يا "نصران" جم علشان ابن عمها بيتعرضلها، "فريد" كان بيحب "ملك" و"فريد" اتقتل في بلد زفتة يبقى كان لازم اعرف ان ورا موت "فريد" لازم يبقى في سيرة "ملك".
كانت دموع " رفيدة" في سباق، وضعت يدها على مسند الدرج حتى لا تسقط في حين تابعت والدتها صائحة:
خليت ابنك حط ايده في ايد أبو اللي قتل "فريد"، سيبته يتجوز بنتهم، هتجيبها تعيش هنا في خيرك وأنت عارف إن ابنك مات بسببها.
استندت برأسها على صدره تردف بشهقات مكتومة:
بتعمل فيا كده ليه يا " نصران"، "فريد" ده أنا ضيعت عمري عليه، وأنت سايب ابنك يحط ايده في ايد اللي خدوا عمري.
رفع "نصران" رأسها، يطالعها بثبات وهو يقول:
"عيسى" اللي أنتِ اتهمتيه دلوقتي ده، هو أكتر واحد بيجري على حق أخوه، ومستعد يفدي أي حد في البيت ده بروحه، "ملك" مقتلتش "فريد"، كفاية حبها وقهرتها عليه، الحسرة اللي في عينيها كفاية أوي إنها تدافع عنها، و" عيسى" لما حط ايده في ايد عمها كان بيلاعبه، "عيسى" رضي يعيش حياته مع "ملك" حبيبة أخوه علشان يعرف يجيب "شاكر"، ولما قولتله لو اتجوزتها مش هتطلقها وافق ورضي ومقالش لا... أخر حد تتكلمي عنه يا " سهام" هو "عيسى"، أخر حد تتهميه بأي اتهام هيكون هو، علشان طول ما أنا عايش وفي نفس فيا محدش في البيت ده هيعاتب " عيسى" ولا يرمي عليه لوم غيري أنا.
سألته بعدم تصديق:
يعني بقيت أنا اللي ظالمة يا "نصران"... بقيت ظالمة وبظلمه، من يوم ما رجع وأنت اتغيرت، من يوم ما رجع وحياتنا بقت كلها....
قاطعها صائحا بغضب:
اخرسي يا " سهام "، كلمة كمان وهتشوفي مني معاملة غير أي معاملة.... بتتكلمي عن مين كده يا "سهام"، عن "عيسى" ...اياك تكون عيشته البعيدة نستك انه ابني زي ما "طاهر" برضو ابني .
أدركت ما كانت على وشك قوله فدافعت قائلة:
وانا مقولتش حاجة غير كده، أنت عارف إن غلاوة "عيسى" عندي مش محتاجة أتكلم عليها، لكن أنا مش هشوف ابني بيغلط واسكتله على الغلط، جوازه من البت دي أكبر غلط، ولو أنت شايفها يا "نصران" ملهاش ذنب في موت "فريد" فأنا مش قادرة أشوف ده.
أشار لها على الدرج منهيا النقاش بقوله:
اطلعي على فوق يا "سهام"، وحكاية تقدري ولا متقدريش دي، أنا عارف إنك هتقدري تشوفي اللي انا شايفه زي ما بتعملي ده علطول .
استدارت تصعد الدرج بنار دفينة تحرق بها، حتى أنها لم تر ابنتها التي كادت أن تسقط بسبب صعود والدتها المنفعل، والتي دفعتها ولم تلحظ ...لم يلحظ وقوفها سوى والدها، والذي ناداها برفق ما إن رأى دموعها:
تعالي يا "رفيدة"
هرولت تنزل لوالدها الذي فتح ذراعيه يحتضنها، احتواها متحدثا بحنان:
متعيطيش يا "رفيدة"، سيبك من الكلام الأهبل اللي اتقال ده ...أمك مكانتش عارفة هي بتقول ايه..."عيسى" من يوم ما جه زعلك يا حبيبتي ولا داسلك على طرف ؟
هزت رأسها نافية وهي تتحدث بصدق:
أنا بحب "عيسى" أوي، "عيسى" حنين زي "طاهر" و"حسن"...بس هو فعلا ابن عم "ملك" هو اللي قتل "فريد" ؟
مسح "نصران" على خصلاتها وهو يسألها لو أنا أعرف هانم دلوقتي اسمها "رفيدة" وعارف إنها بتحب ابني أوي بس عم "رفيدة" دي عنده كلب مسعور في يوم شاف "رفيدة" واقفة مع ابني وجري على ابني عضه ...كده "رفيدة" ليها ذنب ؟
أدركت مقصد والدها، فابتسمت برقة وهزت رأسها نافية:
لا ملهاش ذنب يا بابا.
احتضنته مجددا وهي تصرح:
أنا بحبك أوي يا بابا، ياريت كل الناس تكون زيك كده .
مسد على ظهرها يبثها الطمأنينة بعد أن نجح أن ينتزع أفكار والدتها الخاطئة من رأسها قبل أن تُزرع ويصبح التخلص منها أمر مستحيل .
﷼﷼﷼****﷼﷼﷼****﷼﷼﷼****﷼﷼﷼
يقود سيارته ويجاوره ابنه في طريقهما إلى مطعم _البيتزا_ حيث ألح "يزيد" عليه حينما ذهب يأخذه من محل السيدة "هادية" ألا يعودا بل يأخذه إلى تناول وجبته المفضلة في الخارج .
شرد "طاهر" حين ذهب لأخذ ابنه، فوجد "شهد" وقد تغيرت حالتها من البهجة إلى الضيق فسألها باهتمام:
مالك يا "شهد" ؟
هربت بعينيها وهي تعدل ملابس الصغير مردفه:
مفيش حاجة يا "طاهر".
تحرك "يزيد" ومسك ذراع والده طالبا:
بابا تعالى نروح ناكل بيتزا .
كانت ستغادر المحل لتقوم بالنداء على والدتها من أعلى فاعترض "طاهر" طريقها مكررا بإصرار:
مش همشي من هنا غير لما تقولي فيه ايه .
ذكرته وكان الحزن ظاهر على وجهها، حزن امتزج بغضبها:
فاكر البنت اللي جيت خدتني من الحفلة بتاعتها يوم ما كنت شاربة ؟
_فاكر يوم الحفلة اه.
انخرطت في نوبة بكاء فاقترب منها الصغير مردفا بحزن:
مالك يا "شهد"؟
حاول "طاهر" هو الآخر تهدئتها حين قال:
اهدي متعيطيش...تابع حديثه سائلا:
أنتِ رايحة الكلية بكرا ؟
مسحت دموعها وهي تعطيه إجابة:
أه راحة بكرا، بس ماما قالتلي مركبش معاك تاني، لكن أنا عندي مشكلة.
أعطاها الحل بقوله:
خلاص يا "شهد" أنا هجيلك الكلية بكرا ولو عندك مشكلة نحلها، وابقي ارجعي لوحدك متركبيش معايا .
هزت رأسها موافقة على اقتراحه، فجذب أحد الأكياس كبيرة الحجم من البطاطس لصغيره ثم أخذ كيس آخر ووضع ثمنهما... أعطى "يزيد" أحدهم، ووضع لها الاخر فوق الطاولة مما جعلها تسأل:
ايه ده؟
_ده ليكي.
قالها فابتسمت ابتسامة محت أثار الحزن من وجهها، مما جعله يقول ضاحكا:
كده أنا اتطمنت عليكي... مع السلامة.
فاق من شروده على صوت ابنه الذي سأل:
هو فاضل كتير يا بابا؟
تابع الطريق وهو يخبره:
لا يا حبيبي وصلنا خلاص اهو.
مرت دقائق قليلة أصبحا بعدها داخل المطعم على طاولتهما وطلب "طاهر" الطعام... بادر "طاهر" بالقول:
أنا عايز أطلب منك طلب، وأنا عارف إنك صاحبي وجدع وهتعمله.
انتبه له "يزيد" فتابع "طاهر" حديثه:
أنا مش عايزك تروح عند طنط هادية لوحدك تاني، لما تحب تشتري حاجة روح مع "تيسير" أو "حسن" اشتروا من عندها، لكن تروح تقعد تاني لا... أنت كبرت دلوقتي ومينفعش اخدك للناس واقولهم قعدوا "يزيد" عندكم.
اعترض "يزيد" قائلا:
بس انا بحبهم.
فأجاب والده على اعتراضه بقوله اللين:
وهما كمان بيحبوك، وروح يا سيدي كل يوم اشتري حاجات من عندهم، وكمان معاك رقم "شهد" ابقى كلمها، لكن مينفعش نروح نزعجهم كده... اتفقنا؟
طالع الصغير والده بغير رضا ولكنه في النهاية وافق مبتسما:
اتفقنا يا بابا.
قبل أن يأتي النادل بالطعام وجدها تقتحم جلستهم وهي تحتضن الصغير ناطقة:
"يزيد" حبيبي وحشتني أوي.
طالع "طاهر" زوجته السابقة باندهاش، بالتأكيد هي متواجدة هنا من قبلهما، رحب بها الصغير فسألت "طاهر":
ممكن اقعد ولا هتضايق من وجودي... امشي؟
نطق بهدوء مشيرا على المقعد:
أكيد مش هتضايق يا " فريدة" اتفضلي.
اتخذت مكانها على الطاولة وسألها "طاهر":
تاكلي ايه؟
_هو أنا موحشتكش بقى؟
سألته وهي تمد كفها تحتضن به كفه... تابعت وهي تطالع " يزيد":
"يزيد" حبيبي اختك موحشتكش؟
سحب "طاهر" كفه بينما قال "يزيد":
وحشتني، ابقى هاتيها نروح نجيب حاجات حلوة سوا من عند شوشو.
أتى النادل بالطعام بينما احتدت نظراتها وهي تسأل " يزيد":
شوشو مين؟
أجابها ببراءة:
"شهد".
طالعت " طاهر" بغضب تبعه قولها المنفعل:
هو انت كمان بتقرب ابنك منها؟... ده أنت بايع بقى يا "طاهر"، وعلى كده بقى كنت تعرفها واحنا لسه متجوزين ولا لما طلقتني؟
نطق بحدة بعد انصراف النادل:
هو أنتِ اتجننتي ولا حصل ايه في دماغك بالظبط؟
_بتسيبني علشان دي؟
سألته بدموع فأعطاها الجواب بغضب:
أنا مسبتيكيش علشان حد، أنتِ عارفة كويس أوي أنا سيبتك ليه.
قال كلماته وجذب " يزيد" من يده قائلا بانفعال:
قوم يلا يا "يزيد" هنمشي.
قالت بنبرة عالية سمعها كل رواد المكان:
حتة العيلة دي هتعمل اللي انا معملتهوش، هتبعدك عن ابنك زي ما بعدتك عني يا "طاهر".
صرف " طاهر" ابنه قائلا:
اخرج يا "يزيد" استناني عند العربية.
نفذ الصغير ما طلبه والده، في حين استدار لها "طاهر" يرمقها باشمئزاز:
أنا قرفان منك، لا حقيقي، أنتِ عمالة تبوظي في كل الحاجات الحلوة، مخلتيش حاجة واحدة بس عندك اعرف ارجعلك علشانها... مش هنعيد ونزيد في اللي عملتيه... خلينا بقى في اللي بتعمليه.
طالعته بغضب بينما تابع هو بما جعل الصدمة ترافقها:
أيوة بحبها، اللي انتِ بتقولي عليها حتة عيلة دي هتجوزها وهعملها فرح البلد كلها هتحضره، ماهي عيلة بقى ولازم تفرح، بس عارفة ايه الغلط في كلامك... حوار إنها هتبعدني عن ابني ده، كان غيرها أشطر... عيبة في حقك أوي أنتِ متقدريش تعمليها والعيلة تعملها.
سألته برجاء أن يعطيها إجابة تريحها:
أنت بتعمل كده علشان تغيظني صح؟
_ أنتِ متصورة إني ممكن أتجوز علشان أغيظك؟... أنا هتجوزها علشان حياتي ناقصة من غيرها كتير.
قالها بنبرة أثارت غيظها وجعلتها تندفع قائلة:
لا أنت هتتجوزها علشان تجيب خدامة تقعد تشوف مصالح ابنك، وتخاويه بالمرة.
سألها غامزا:
وأنتِ بقى عجبتك الخدمة علشان كده عايزة نرجع تاني؟
لم تجد ما تجيب به أما هو فوضع حساب الطعام على الطاولة وتحرك مغادرا وهو يقول:
سوري يا "فريدة"... أنا استغنيت عن خدماتك.
كانت تبكي، دموعها صادقة حقا وهي تتابعه يخرج من المطعم، هي تحبه ولكنها تجزم الآن أنه لم يحبها أبدا... تقسم أنه لم يكن سوى كاذب وصدقته هي.
★***★***★***★***★***★***★***★
كانت تتابع مذاكرة دروسها حين دخلت والدتها الغرفة بالحامل المعدني عليه أكواب الشاي الساخنة وجلست في مقابلها على الفراش تسأل باهتمام:
ايه أخبار المذاكرة يا " مريم" ؟
هزت "مريم" رأسها برضا وهي تخبرها:
الحمد لله كويسة جدا يا ماما.
_وأخبار "حسن"؟
داهمتها "هادية" بالسؤال فشعرت "مريم" بالارتباك وهي تسألها:
"حسن" مين؟
تناولت "هادية" كوبها وهي تخبرها:
"حسن" ابن "نصران" يا بنت "هادية".
حاولت أن تقول أي شيء تدافع به عن نفسها:
ماما أنا...
قاطعتها والدتها تطلب منها بهدوء:
اسمعيني يا " مريم"، مستقبلك و"حسن" مع بعض مش هينفع، أنتِ دلوقتي يا حبيبتي المفروض تهتمي بدراستك، علشان أخر السنة نبقى عملنا اللي علينا... أنتِ لسه صغيرة يا مريم واللي هتشوفيه النهاردة حبيب وجوز كمان سنة ممكن متشوفيهوش أصلا.
_بس هو بيحبني.
قالتها "مريم" فتابعت والدتها:
أنا مش هعاتبك على إنك كلمتيه من ورايا وهعتبرها غلطة مش مقصودة ومش هتتكرر تاني، بيحبك هيهتم بمستقبله، وهيسيبك تهتمي بمستقبلك ويجي يتقدملك بعدين.... على فكرة هو جالي وقالي إنه بيحبك وأنا قولتله الكلمتين اللي قولتهم ليكي دول.
لم تكن تعلم بشيء من هذا القبيل، ولكنها وافقت كلام والدتها وهي تقول:
أنا أسفه يا ماما.
مسحت "هادية" على خصلاتها قائلة برفق:
ركزي في حياتك يا "مريم" لو بيحبك هيبقى عليكي، وهيسعى إنه يبقى إنسان كويس علشانك، ولو بيتسلى يبقى خسارة فيه ضفرك.
ضحكت "مريم" وهي تقول بمزاح:
مش لدرجة الضوافر يعني... بلاش أوفر.
دفعتها والدتها بغيظ وأخذت كوبها وهي تقول أثناء مغادرتها الغرفة:
أنا اللي غلطانة إني بتكلم معاكي.
علت ضحكات ابنتها وهي ترمق والدتها أثناء المغادرة، في نفس التوقيت كان "طاهر" قد توقف بسيارته أمام ورشة "عز" الذي استوقفه بعد أن عاد للتو من المطعم... خرج "طاهر" من النافذة يسأله:
في ايه يا "عز"؟
نطق " عز" بقلق:
في قلق يا أستاذ "طاهر"، كام واحد جم سألوا على مكان الحاج " نصران" وراحوا يسألوا تاني على القهوة، وشكلهم ميريحش.
وصلت "ملك" إلى المنزل أخيرا بينما تابع "عيسى" طريقه ناحية منزله فاستوقفه "طاهر" الذي يقف أمام الورشة الخاصة ب "عز"... نزل له " عيسى" وسأل باستغراب:
واقف هنا ليه؟
قص له "طاهر" باختصار ما أخبره به "عز" فقال "عيسى":
طب بقولك ايه يا " عز" خد العربية روح "يزيد" وابقى تعالى على القهوة.
حث "عيسى" شقيقه قائلا:
يلا يا "طاهر" خلينا نروح القهوة نشوف عايزين ايه.
ركبا معا في سيارة "عيسى" وقد توجها ناحية المقهى، لم يأخذا وقت كبير حتى وصلا إليها، نزلا من السيارة فهرول ناحيتهما صاحب المقهى مستغيثا:
الناس اللي هناك دول بيسألوا على الحاج "نصران".
تأملهم " طاهر" ... ثلاثة شباب من عمره تقريبا ولكن غطى الغضب تقاسيمهم، انتبه وهو يجد "عيسى" متوجها ناحيتهم وهو يسأل:
في ايه يا شباب؟
استدار له من يقودهم ناطقا بتبجح:
أنا عايز أعرف فين بيت الراجل اللي اسمه "نصران"؟
ربت " عيسى" على كتف الواقف أمامه وهو يقول:
لا يا باشا اسمه الحاج "نصران" وتتقال باحترام علشان البلد اللي أنت واقف فيها دي هو كبيرها.
أبعد الشاب كف "عيسى" وهو يصيح:
ايدك بس كده ... وأنت مين بقى علشان محموقله أوي كده.
حضر "عز" إلى المقهى ورأى "طاهر" وهو يتقدم قائلا:
احنا ولاده، والنمرة اللي أنت واقف تعملها دي مش هتجيب همها.
_ لا أنا مش جاي أعمل نمر... أنا جاي اخد حق بنت عمي من أخوكم اللي معرفتوش تربوه، ومفكر إن "مروة" مفيش وراها رجالة يقفوا ليها.
تبادل "طاهر" و "عيسى" النظرات بينما قال "عز" محاولا فض هذا الشباك:
أي حاجة تتحل بالهدوء... روح اشتكي للحاج "نصران"... ولو ليك حق هيرجعلك.
لم يعجب الكلام هذا الواقف بل صاح غاضبا وهو يركل المقعد:
أنا مبشتكيش لحد، وحقي هاخده من عين كبيركم ده اللي معرفش يربي ابنه.
بعد حديثه اقترب "طاهر" بانفعال، وتلقى "عيسى" المقعد الذي ركله الشاب وهو يقول بشراسة مقتربا مع "طاهر" من ذلك الغاضب:
طب تعالى بقى يا روح أمك علشان ولاد "نصران" يفرجوك قلة التربية عاملة ازاي.
سأل "طاهر" الواقفين بنبرة عالية:
حق ده ولا مش حق؟... اللي الكلام بالأدب مينفعش معاه يبقى قلة الأدب تربيه ولا لا؟
اقترب الجميع فأصبح الثلاث شباب محاوطين من كل ناحية، شعروا أنهم في مأزق حقيقي وخاصة و"عيسى" يلقي بالمقعد قائلا:
شوفتوا بقى إن كلامه صح وإن النمرة دي مش هتاكل هنا... هتروحوا تشتكوا بالأدب ولا ناخد الحل التاني؟
أدرك أحدهم أنهم لن يستطيعوا فعل شيء هنا، فالجميع في صفهم لذا نطق:
عايزين نروح نشتكي للحاج "نصران".
★***★***★***★***★***★***★***★
جلست " بيريهان" في الحديقة الواقعة خارج منزل "منصور" كانت تحادث ابنة عمها قائلة:
أنا زهقت بقى يا "ندى"... ماما وبابا وحشوني بصراحة، ما تقولي لجابر انك هتيجي معايا القاهرة.
أعطتها ندى الجواب بغيظ:
يعني أنا اللي مش زهقانة، أنا قربت أطق من الخنقة بس مضطرة استحمل اليومين دول علشان ميقولش اني بتلكك.
صمتت حين سمعت صوت هاتف " بيريهان" فحستها قائلة:
تليفونك بيرن شوفي مين.
نظرت "بيريهان" للرقم باستغراب وهي تقول:
مش عارفة مين ده... رقم غريب.
علا الصوت مجددا لذا أجابت:
ألو مين معايا؟
_"بيريهان" أنا "شاكر" فاكراني؟
بدا على وجهها الفرحة وهي تقول بعدم تصديق:
مش ممكن "شاكر"... وحشتني جدا.
ابتسم بارتياح فقد وصل لمبتغاه وهو يقول بنبرة ملتوية:
مش أكتر مني يا روحي.
★***★***★***★***★***★***★***★
لم تكد " ملك" تأخذ أنفاسها حتى اكتشفت أن هاتفه معها، لا تدري كيف ولكنه في حقيبتها، استأذنت من والدتها أن تنزل لتعيده له، وبالفعل ذهبت ولكن استوقفها قبل أن تتابع طريقها نحو منزل "نصران" ذلك الصوت الآتي من المرسم... صوت منخفض ولكنها لم تخطئ... أحدهم يستغيث، اقتربت بخطوات مترددة، ولا رفيق لها سوى الترقب، وقفت تنظر من الفتحة التي تم تركها حيث لم يُغلق الباب كليا... فشاهدت "عيسى"، لا ليس " عيسى" إنه بركان ثائر يقذف حمم غضبه على هذا المسكين الواقع أمامه، يضربه بعنف وبلا هوادة.... فتحت الباب وهرولت ناحيته تحاول إبعاده:
كفاية يا "عيسى" خلاص... كفاية هتموته.
استدار لها ولكن حمم غضبه هذه المرة كانت من نصيبها هي حيث صاح وهو يدفعها نحو الخارج:
هو أنتِ مبتفهميش... بتدخلي في اللي ملكيش فيه ليه؟
راقبت الواقع على الأرضية ناطقة بخوف:
أنت هتموته.
أخرجها تماما وهو ينطق بغضب:
ملكيش دعوة، غوري في ستين داهية بدل ما اموتك بداله.
هزت رأسها بنفي غير مصدقة، هي متيقنة الآن تماما أنه ليس شخص واحد... ماذا يفعل!
هرولت مبتعدة عن هنا، قطعت خطوات عديدة حتى اصطدمت ب "سهام" التي ظهر واضحا أنها عائدة إلى المنزل... توقفت "سهام" وهي تسألها:
مالك يا "ملك" يا حبيبتي؟
قبل أن تجيبها جذبتها "سهام" من ذراعها قائلة:
أنتِ وشك مخطوف كده ليه؟...لا ده أنتِ شكلك أعصابك تعبانة خالص ... تعالي معايا أنا رايحة مشوار، واحكيلي في الطريق فيه ايه.
لم تحك شيء، هي خائفة من كل شيء الآن ولكنها تحركت معها، ورغم ابتعادها عن "عيسى" ولكنها لم تشعر بالأمان أبدا وهي تسير مع "سهام" وصدق حدسها وهي ترى أنهما وصلا إلى منطقة شبه خالية من البشر لا يوجد سوى البحر والأشجار التي تتحرك وكأنها تساندها معلنة خوفها معها... تركت "سهام" ذراعها بعنف فتراجعت "ملك" للخلف بصدمة وهي تسمعها تقول:
قتلتوه ليه بقى؟
سألتها "ملك" وقد استعادت بعض من ذاتها وهي تشعر بالخطر الحقيقي يداهمها:
في ايه؟... وقتلت مين؟
_فريد ...أنتِ وابن عمك اللي قتلتوه.
قالتها "سهام" بحقد دفين، شر نواياها ظهر في نبرة صوتها.
نظرت "ملك" حولها بقلب وجل، لا أحد هنا، وكل إنش في هذه السيدة يقول أنها ستفتك بها توا، هزت "ملك" رأسها نافية ودموعها في سباق:
أنتِ بتقولي ايه؟...أنا أقتل "فريد" .
دفعتها "سهام" للخلف بعنف صائحة:
متنطقيش اسمه، متنطقيش اسم ابني...
حل الغروب، وشعرت "ملك" بالشمس ترحل مودعة، فداهمها الخوف، كل شيء يتخلى عنها ومن الواضح أن "سهام" أوقعتها في الفخ...نطقت والبرودة تغزو جسدها:
أنتِ جيباني هنا ليه؟... قولتلك أنا عمري ما اقتل نملة مش "فريد" اللي حياتي كلها ضاعت من بعده.
دفعتها "سهام" بذراعيها بكل ما تمتلك من قوة وهي تقول بحقد لمع في عينيها:
وأنتِ تستاهلي اللي باقي من حياتك يضيع.
لم تشعر "ملك" بنفسها إلا وهي تتعرقل بتلك القوالب الحجرية على الأرضية من خلفها، في هذه اللحظة خصيصا تذكرت أول مرة رأت فيها "عيسى" حين ظنته "فريد" ولكن خابت ظنونها وصاحت روحها:
حين التقت روحي بك...صار الوجع ضعفا
لم يعد بينها وبين الماء أي فاصل سوى هذه الأحجار... انعدمت الرغبة في الحياة وفي كل شيء، من سينقذها هذه المرة رحل "فريد" و"عيسى" ليس هنا ولكن قلبها يستغيث طالبا من ينتشله من كل هذا :
حين انتظرتك يا وتينِ...كنت بلا مأوى.
ولم يجد المأوى لذا وبدون تردد استدارت وصعدت على الأحجار لتقفز إلى المياه، التفاتة صغيرة فعلتها لمحت بها "عيسى" من بعيد ولكن نطق كل إنش بها متألما:
قد ظن قلبي أن مأواه أتى ...لكنه بعد لقاك
قفزت في المياه بلا تردد وتابعت روحها الحديث:
لكنه بعد لقاك لم يعد يحيا..
شهقت "سهام" بصدمة... بينما "ملك" فهي ترى احتضان الماء بالنسبة لها أهون من غرق في عالم لم يرحمها... عالم يتفنن في أن يجعلها لا تنساه أبدا.
أما عنه فهو يرى الكارثة، منتصف الشتاء وهي في المياه التي بالتأكيد لجأت لها خلاصا من كل شيء،
لقد عاد الآن طفل صغير، طفل يحاول حماية والدته مما يُدبر لذا هرول سريعا وبسبب ذلك اندفعت "سهام" بعيدا، وهي تراه يقفز خلفها!
يُتبع