رواية مملكة سفيد الفصل الثاني 2 بقلم رحمة نبيل
عانق أمانيكَ مهما ذُقت من تعبٍ
مَن ذا الذي نالَ ما يهوى بلا تعبِ؟"
_________________
تجلس منذ ساعات تنتظر عودته لا تدري ما تفعل، أو إن كان ما تفعل صحيحًا أم لا هي فقط تريد التخلص من ذلك الشعور المقيت داخلها والذي يهمس لها بصوت خبيث أنها قد مُست بجني سيحيل حياتها لجحيم.
ارتجف جسدها تحاول الخروج من تلك الأفكار السوداء تنظر حولها لذلك المنزل الفسيح المريح للنفس، حيث يسكن أحد رجال الحارة الصالحين، تتنفس بصوت مرتفع وهي تسمع صوت القرآن يعلو في المكان بأكمله، حتى وصل لها صوت أنثوي يقول :
" تشربي ايه يا بنتي ؟؟"
ابتلعت تبارك ريقها تنظر لها بأعين ضبابية تجيب بصوت ضعيف :
" أنا ...أنا بس محتاجة كوباية مايه لو مش هتعبك معايا يا خالة "
" لا ابدا يا حبيبتي مفيش تعب، استني هنا وانا هجيبلك كوباية المايه، والشيخ عبدالعزيز زمانه جاي، خلصوا الصلاة من شوية وتلاقيه خرج من المسجد وجاي "
هزت تبارك رأسها مبتسمة تراقب رحيل تلك المرأة وهي تتذكر صوته وهمسه لها، ما تزال نبرته الدافئة تصدح داخل عقلها وهو يعصف بكلمات زلزلتها ( أنا الملك ... زوجك)
أي زوج هذا، هل يحاول دفعها للجنون ؟؟
عند تلك الفكرة شعرت بغضب شديد يتلبسها ونظرت حولها، وكأنها تبحث عنه بين طرقات المنزل حتى تتخلص منه، تهمس له من بين أنفاسها بالويل :
" بس لما اشوفك يا بتاع (تنگ شده) أنت، قاعد تبرطم من غير دبلجة، وفي آخر دقيقة من الحلم ربنا فك عقدة لسانك ونطقت عربي"
صمتت تقول بتهكم شديد :
" ده كان ناقص ينزل تتر النهاية لأجل التشويق، ويقول انتظروني في الحلقة القادمة "
زفرت بضيق تضع وجهها بين قبضتيها، تهمس بصوت خافت :
" أنا لو لمحته ههينه، بس .."
فجأة انتفضت على صوت السيدة تعود لها بكوب ماء وهي تقول بفضول وقلق من شحوب وجهها :
" مالك يا تبارك يا بنتي ؟؟ وشك كده مخطوف من وقت ما دخلتي "
نظرت لها تبارك تجاول أن تعتدل في جلستها وتبتسم، فخرجت بسمتها مرتجفة خائفة :
" أصل أنا كنت جاية للشيخ عبدالعزيز في موضوع مهم وخايفة يأكد ظني "
اقتربت منها السيدة وقد استبد بها الفضول حتى كاد يحرق جميع احطاب صبرها، تهتف بنبرة متحمسة لا تلائم الموقف أو شحوب وجه تبارك، لكن تبارك لم تنتبه لذلك :
" ظن ايه ده يابنتي ؟! هو حصل ايه ؟؟"
نظرت لها تبارك تود الحديث، لكن قاطع كل ذلك صوت اقدام تخطو للمنزل وصوت رجولي يتنحنح وهو يقول بصوت مرتفع بعدما رأى حذاء غريب عن منزله :
" السلام عليكم "
تحركت السيدة من مكانها والتي كانت شقيقة الشيخ الصغيرة، تركض صوب باب المنزل تستقبله بالبسمات قائلة :
" تبارك جوا يا شيخ مستنياك من بدري "
نظر لها بتعجب لتوضح أكثر :
" تبارك الممرضة اللي في الشارع اللي ورانا يا عبدالعزيز "
هز عبدالعزيز رأسه يشير لها أن تسبقه لتعلمها بمجيئه، وحينما أشارت له بالدخول، تقدم عبدالعزيز للداخل يتنحنح بصوت واضح :
" السلام عليكم يا بنتي "
ابتسمت تبارك بسمة رقيقة وهي تستقيم ترحب به برأسها :
" عليكم السلام يا شيخ عبدالعزيز، بعتذر لو جيت في وقت مش مناسب، بس كنت محتاجة حضرتك في استشارة "
هز عبدالعزيز رأسه يستقر على أحد المقاعد مشيرًا لها بالجلوس لتفعل وهي تنظر صوب شقيقته التي نظرت لها بفضول شديد، ليرمقها عبدالعزيز بحنق قائلًا :
" هاتي عصير لضيفتنا يا حسنية "
نظرت له حسنية تقول :
" ايه ..اه اه يا خويا وماله، تشربي ايه يا حبيبتي ؟؟"
نفت تبارك لا تنتبه لنظراتها:
" لا ابدا متتعبيش نفسك "
ابتسمت لها حسنية بسعادة وقد عفتها تبارك من التحرك وترك الحوار الشيق، لكن شقيقها والذي كان يعلم جيدًا ما ترنو إليه قال بتحذير :
" لا معلش قومي يا حسنية هاتي عصير للبنت شكلها تعبان"
زفرت حسنية بغضب مكبوت تتحرك صوب المطبخ الذي يقبع جوار البهو، تتمتم بكلمات غاضبة، وبمجرد أن رحلت تحدث عبدالعزيز ببسمة هادئة :
" قولي يا بنتي، لعله خير اللي جابك عندي "
رفعت تبارك عيونها له برعب، ثم همست بصوت منخفض لا تدري كيف تخبره الأمر:
" هو أنا يا شيخ عبدالعزيز ازاي اعرف إن... إن فيه ... إن فيه مس من جني عاشق ؟؟"
ضيق عبدالعزيز ما بين حاجبيه بتعجب :
" أنتِ حاسة إن فيه جني مرافق ليكِ "
" أنا ... أنا معرفش أنا ...أنا بس بحلم احلام غريبة كأنها حقيقية، ومش فاهمة ايه اللي بيحصل فخايفة إن يكون ده حصل "
اعتدل الشيخ في جلسته وتنفس بصوت مرتفع يتفهم تلك الهواجس التي قد تصيب النفس كين تعرضها لأمور غير مفهومة، فتبدأ النفس تتخذ من كل شيء إشارة لهلاكها دون أن تعي من الأساس معنى تلك الإشارات :
" اسمعي يا بنتي فيه فرق بين الاحلام العادية أو الاحلام اللي ناتجة عن وجود مس من جني والعياذ بالله، والأحلام لوحدها مش إشارة ابدا لوجود مس، دي واحدة من ضمن علامات كتير:
حرق أصابعه بين حبات مسبحته يراقب انتباه تبارك له ليسترسل في حديثه :
" علامات الجني العاشق واضحة ومعروفة وهي أنك تحسي بأنفاس حد جنبك وأنتِ نايمة، تحسي ببعض اللمسات على أجزاء من جسدك، أو كأن فيه يد تداعب شعرك، وكمان تحسي بحرارة شديدة في بعض اماكن الجسد، دي كلها علامات متعارف عليها، ده غير علامات تانية بس دي أهمهم، أنتِ بقى الاحلام اللي بتيجي ليكِ بتكون عبارة عن ايه ؟؟"
صمتت تبارك تدير الحديث داخل رأسها، تحاول معرفة إذا حدث لها كل ذلك أم لا، والإجابة كانت لا، هي فقط تحلم احلام تشبه الحقيقة، وجدت الشيخ يسبح على حبات مسبحته ينتظر ردها بصبر شديد، الشيخ عبدالعزيز كان من رجال حارتها المعروفين بورعههم ومساعدتهم في مثل تلك الحالات، ابتلعت ريقها تشعر بخجل شديد لوصف ما تراه في احلامها، رغم أنه لم يحدث شيء يدعو للخجل، لكن إن تخبره أنها تحلم برجل ذو ملامح ضبابية يتحدث لها بحب وحنان لهو أمر محرج .
لكنها رغم ذلك تحدثت بما رأته وشعرت به وقد بلغ منها الخجل مبلغه، ترفض رفع عيونها في وجه الشيخ عبدالعزيز والذي بمجرد انتهائها قال ببسمة صغيرة :
" بصي يا بنتي، اللي قولتيه ده مجرد احلام عادية، بعضها من الشيطان والبعض الآخر ربما لتأثرك في حياتك بشيء معين، أو ربما الرجل اللي بتحكي عنه مجرد رمز مش من الضرورة يكون رجل بمعناه الحقيقي، يعني احيانا رؤية رجل في الحلم بيرمز لشيء تاني"
صمت يتنفس يقول بهدوء :
" نصيحتي ليكِ أنك تستغفري ربك وتنامي على وضوء، والتزمي الاذكار دائما ولا تنسي وردك اليومي من القرآن الكريم، والله خير حافظ "
هزت تبارك رأسها وهي تشعر ببعض الراحة تتسرب داخل صدرها، هذا الحديث قد أصابها براحة جعلتها تبتسم له مودعة إياه وهي تحاول أن تطمئن ذاتها، غافلة عن حسنية التي تركت أذنها لديهم قبل مغادرة المكان بأكمله ...
غادرت تبارك المنزل وهي تقول بصوت مرتفع لنفسها :
" الحمدلله يا تبارك عدت على خير و..."
وقبل أن تكمل جملتها تذكرت فجأة أمرًا تهمس لذاتها :
" المفروض كنت احكيله على موضوع المرايا اللي انكسرت؟؟ "
لكنها وبعد تفكير عادت وتجاهلت الأمر باعتبارها حادثة عادية قد تحدث للبعض .
تنهدت تتحرك صوب عملها كي تستكمله بعدما استأذنت دقائق لرؤية الشيخ قبل رحيله للعمل .
__________________
كان العريف ينظر برعب للسيف الموجه على رقبته وجسده المحشور في أحد أركان البهو، والجميع حول الملك مستنفرين حتى بومته العزيزة والتي كانت مستقرة على كتفه تراجعت للخلف بريبة تحدق في سيف إيفان بخوف وكأنه على رقبتها هي .
بينما مرجان تحرك صوب الخارج يتسحب كي لا يشعر به أحد، فبعد نطق العريف لما اكتشفوه سويًا، تجمعت شياطين إيفان حولهم ليصاب بالجنون هادرًا في وجه العريف :
" ما الذي تهزي به أيها العجوز، أي ملكة تلك التي سأحضرها من عالم المفسدين ؟؟"
نظر العريف للسيف الذي كان مستقر أعلى رقبته، ثم رفع إصبعه يشير صوب جسد مرجان الذي كان يستغل حالة الاستنفار للاختفاء:
" مرجان ..مرجان هو من اكتشف الأمر وليس أنا "
في تلك اللحظة كان مرجان يتحرك وهو يردد داخله، يخطط لمستقبله القادم بعيدًا عن القصر والمملكة بأكملها :
" ربما أجلس مع أمي واصنع الفخار واتزوج بابنة جارتنا وانجب منها بعض الأطفال وارعى الأغنام واعيش حياتي في سلام بعيدًا عن هذا القصر الـ "
وقبل أن ينهي قائمة أحلامه انتفض جسده وهو يرى جميع حراس الملك يقفون أمامه موجهين له السيوف وهو رفع يده مستسلمًا يهتف بارتجاف ولهفة :
" أنا فقط ...فقط ظننت أنني اساعد يا مولاي، ظننت أنك ستسعد لمعرفتك مكان الملكة "
صرخ ايفان بجنون ولا يصدق أين ألقاه نصيبه :
" توقف عن هذا الهراء، أي ملكة تلك ؟! ملكتي ليست من ذلك العالم ولن تكن "
أبعد العريف السيف عنه ببطء بطرف إصبعه مبتسمًا بملاطفة :
" اسمع أيها المدلـ.. أيها الملك، صراخك بهذا الشكل لن يغير قدرك، تقبل الأمر أنت هو المنشود بتلك الرؤية القديمة، وملكتك تقبع هناك في عالم المفسدين تنتظرك "
تنفس إيفان بصوت مرتفع وهو ينظر حوله لمستشاريه، يشعر بالجنون من تلك الفكرة، أبعد السيف عن رقبة العريف الذي ابتسم براحة شديدة، يراه يتحرك في المكان بأكمله وكأنه يفكر في أمر ما :
" الخروج والذهاب لإحضار الملكة يعني أن ألقي نفسي في التهلكة، خروجي لعالم هؤلاء المفسدين لهي مخاطرة كبيرة للمملكة "
ابتسم العريف يقول بخبث ونبرة ذكية ماكرة يعلم أن إيفان لا يخشى ما سيقابله، بل يخشى ترك المملكة، لذا لعب بمهارة على تلك النقطة :
" ولا تنس يا مولاي أن خروجك وعودتك سيأخذ منك وقتًا غير معلوم، والمملكة هنا لا تستطيع البقاء دون الملك كل ذلك الوقت "
نظر له إيفان يشعر بالحيرة الشديدة وهدير قوي يضرب صدره، عقله يرفض أن تكون ملكته الحبيبة التي انتظرها كل تلك السنين من هؤلاء المفسدين الذين نفروهم منذ مئات السنين ومازالت تأتيهم اخبار فسادهم وحروبهم، وقلبه يشتاقها حتى ولو كانت من الأعداء وليس مجرد شخص من عالم آخر، ريما هي تختلف، هي لا تشبههم بأي شكل ..
نظر لمستشاريه يحاول التفكير في أمرٍ ما ثم قال بهدوء ورزانة وغموص :
" ارسلوا لإحضار سالار وباقي القادة، وأنت أيها العريف لا تتحرك بعيدًا عن القصر فسوف نحتاجك أنت ومساعدك ."
صمت وهو يغمض عيونه يتمنى، فقط يتمنى إن كان حديث ذلك العجوز صحيحًا، أن تكون ملكته من الحكمة والهدوء ما يؤهلها لتترأس عرش " سفيد "، وتستطيع أن تدير المملكة معه بكل حكمة وعدل...
_____________________________
" لا بقولكم ايه شغل العوق ده مش معايا، قولنا اللي عايز فول يقول واللي عايز طعمية يقول، لكن مش كل شوية واحد يقولي نص فول ونص طعمية مش تورتة عيد ميلادك هي وهتشكلوها، اخلصوا عندي شغل "
زفرت وهي تدون في أحد المذكرات الصغيرة ما يقال لها من زملائها، فلسوء حظها كان اليوم يومها هي للذهاب وإحضار الفطور للجميع، وحينما انتهت وضعت القلم في طيب زيها الطبي تتحرك خارج غرفة الاستراحة :
" شوية همج مينفعش معاكم غير العين الـ ..."
وقبل أن تكمل جملتها شعرت بجسدها يصطدم في جسد صلب بعض الشيء لتتراجع فورًا مرتعبة ولم تكد تفتح فمها لتعتذر حتى هالتها عيونه التي نظرت لها باهتمام فابتسمت تلقي الدفتر الذي دونت به كل شيء جانبًا تعدل من هيئتها :
" اهلا يا دكتور علي، ازي حضرتك ؟؟"
ابتسم لها عليّ بلطف يقول :
" أنا بخير الحمدلله، اخبارك أنتِ ايه يا تبارك ؟؟"
شعرت تبارك بقلبها يتراقص فرحًا من اهتمامه بها، تنظر ارضًا بخجل شديد، تحاول أن تجد كلمات تجيب بها على سؤاله البسيط العادي، رفعت وجهها مجددًا لتجيبه لكن قاطعها صوت من داخل الغرفة يقول بصياح :
" اوعك تنسي الجرجير والمخلل يا تبارك لاحسن والله المرة دي هتبقى بخناق، وبسرعة شوية مش ناقصين عطلة"
عضت تبارك شفتيها بغيظ شديد، ثم رفعت عيونها لعليّ الذي ابتسم لها يقول بهدوء شديد :
" طيب يا تبارك شكلك مشغولة، استأذن أنا "
وقبل أن تعترض وتوقفه رحل بهدوء كما جاء بهدوء تاركًا إياها ترثي ذاتها، وحظها السييء الذي يلاحقها بلا هوادة، حتى أنها أضحت تظن أن هناك طيف خفي شديد الغيرة يلاحقها كي يبعد عنها كل الرجال، وكانت تلك فكرة في غاية الرومانسية للبعض، لكن ليس تبارك التي خرجت من المشفى تهمس وتتوعد بالويل :
" بس لو المح ابن الـخرابة اللي مبهدل حياتي، هديله علقة اسففه سنانه ومخليش دكتور يعرف يجمعه تاني "
__________________________
يتحرك بين الممرات بخطوات مليئة بالهيبة وخلفه جميع مستشاريه وجنوده المخلصين، يتوجه صوب غرفة الاجتماعات التي ما فُتحت يومًا سوى لوجود كارثة، وهل هناك كارثة تنافس ما يمر بها الملك الآن ؟؟
دخل إيفان المكان الذي كان زاخرًا بجميع رجاله الأوفياء ووالدته التي كانت كمن فقدت عزيزًا، أو هُدم معبدها، لا تصدق ما وصل لاذنها، ابنها هي قُدرت له إحدى نساء المفسدين ؟؟
تحرك إيفان بين الجميع بملامح جامدة قدت من صخر، واعينه الخضراء تلتمع بنظرات خطيرة، نظر في جميع الوجوه يبحث عنه هو، الوحيد الذي يثق أنه سيساعده في الأمر :
" أين هو سالار ؟؟"
تحدث دانيار باحترام شديد :
" سيدي لقد أرسلنا له مبعوثًا ليخبره بضرورة الحضور "
هز إيفان رأسه يستقر على مقعده الذي يتقدم جميع المقاعد يحرك عيونه بين كل من يثق بهم، العريف ومرجان، ودانيار ووالدته ومستشاره الملكي والطبيب الملكي مهيار، فقط تبقى قائد جيوشه ويكتمل جميع معاونيه ..
" اعتقد أن الجميع يعلم سبب وجوده هنا "
هز الجميع رؤوسهم وقد علىٰ الصمت وكأن على رؤوسهم الطير، لا أحد حتى الآن يصدق ما وصل لهم من اخبار، الأمر أصبح في غاية التعقيد .
تنفس إيفان بصوت مرتفع يقول :
" لقد إتخذت قراري .."
نظرت له والدته بفضول وداخلها هاجس يخبرها أن ما ستسمعه لن يسرها البتة، وقد كان إذ اعتدل في جلسته يقول بجدية كبيرة :
" أنا سأحضر ملكتي هنا "
انتفض جسد الملكة بفزع من تلك الفكرة تصرخ باعتراض كعادتها التي تستفز كل ذرة من ذرات صبر إيفان، فهي تحب دائمًا حشر نفسها في شئون مملكته، لا تستوعب أنه الملك وتظن أنها تستطيع أن تملى عليه ما يفعل، وهو يومًا لم يعتمد على أحد في إدارة مملكته، وهو من يشهد له الجميع بالذكاء الحاد والعقلية الجبارة رغم عمره الصغير الذي تعدى الثلاثين بأيام قليلة .
وصوت والدته خرج مجددًا تعترض أمام الجميع دون وضع اعتبار أنه الملك :
" ماذا ؟؟ هل تمزح معي ؟؟ أي امرأة تلك التي ستحتفظ بها أسفل سقف غرفتك مولاي ؟؟ ما ادرانا أنها امرأة صالحة وليست كالجميع هناك و..."
ضرب إيفان الطاولة بشكل تسبب في استنفار أجساد الجميع واعتلاء نظرات التحفز وجوههم وصوته خرج هادئ قدر الإمكان احترامًا لمكانة والدته بين الجميع :
" مولاتي، أنتِ الآن تتحدثين عن ملكة سفيد المستقبلية، لذا رجاءً اظهري بعض الاحترام "
" ملكة ؟؟ أي ملكة تلك ؟! هل أنت جاد في رغبتك بالبحث عنها ؟؟ ماذا سيحدث إن تزوجت واحدة من اميرات الممالك المجاورة ؟؟"
نظر لها إيفان ثواني قبل أن يحرك عيونه ويثبتها في نقطة فارغة أمامه :
" لن يحدث شيء أمي لأنها ببساطة ليست ملكتي، لقد إتخذت قراري وحُسم الأمر، سوف أحضر الملكة هنا "
تنحنح دانيار وهو ينظر له بتحفز :
" لكن مولاي الخروج والذهاب لذلك الجانب من العالم، لن يكون سهلًا، وقد يستغرق الكثير من الوقت، ربما شهور لا أحد يدري "
ابتسم إيفان يتراجع بظهره للخلف يقول ببسمة واسعة ماكرة :
" لقد فكرت في هذا أيضًا، أنا لن استطيع الذهاب وإحضار الملكة بنفسي، لذلك فكرت أن أرسل شخص أثق به يستطيع إنهاء تلك المهمة في أقل وقت ممكن "
نظر الجميع له بفضول شديد، يحاولون معرفة من يقصده بكلماته تلك، وايفان ابتسم بخبث شديد وقد التمتت عيونه بقوة يسمع صوت الباب يُفتح خلفه والحارس ينادي بصوت جهوري :
" سيدي قائد الجيوش الأول، وصل يا مولاي "
خطى سالار للداخل بخطوات قوية تكاد تسمع صداها يرن في الأجواء وتشعر بوقعها اسفلك..
وقد أرتجف جسد مرجان يختبأ خلف العريف من مظهر سالار الذي كان يتحرك داخل القاعة بدرعه وسيفه وسهامه التي لم ينزعها عن ظهره بعد، وقد عاد لتوه من معركة أخرى انتصر بها، ابتسم سالار بسمة جانبية وهو يتجاهل الجميع عدا دانيار الذي حياه برأسه تحية صغيرة ردها له دانيار باحترام شديد وقد وقف يستقبل قائده، لكن سالار أشار له بيده حتى يجلس مجددًا ..
وتحرك لمقعد الملك يقف أمامه بكامل هيبته، وملامحه الحادة بشعر بني يميل للأحمر ولحية نفس اللون، واعين خضراء، ابتسم يقول بهدوء وصوت قوي :
" أرسلت لي مولاي ؟؟"
نظر له إيفان ببسمة يجيبه بهدوء شديد :
" نعم سالار، اجلس رجاءً وأخبرني ما فعلت خلال رحلتك لتحرير المدن الغربية ؟!"
اتسعت بسمة سالار يجيب بهدوء شديد وملامح باردة بعض الشيء وبكلمات مقتضبة :
" يمكنك أن تسأل الأسرى في السجون سيدي، اعتقد أن الرواية من جانبهم ستكون أكثر إثارة من خاصتي، فأنا لا أملك سوى أننا ذهبنا وانتهينا منهم بفضل الله "
أطلق إيفان ضحكات عالية يعلم جيدًا أن سالار لم يكن يومًا من محبي الحديث الطويل أو الكلمات الكثيرة، هو رجل أفعال، آلة حرب مخيفة لا يخرجها إلا في حالات نادرة .
اعتلت أعين إيفان نظرات غامضة جعلت سالار يميل برأسه متعجبًا، وهو يحرك نظراته بين الجميع يحاول استنتاج ما يحدث والذي تسبب في شحوب ملامح بعض المستشارين وتشفي العريف وغضب الملكة الأم..
وقد جاءه الرد على ما يفكر به سريعًا، مصحوبًا بنبرة غامضة من الملك :
" جيد سالار، احتاجك لمهمة أخرى يا صديقي "
نظر له سالار بفضول كبير أخفاه بمهارة أسفل نظرات مهتمة مطيعة، وحوله الجميع ينظر بترقب لما سيقال :
" اريدك أن تذهب لإحضار الملكة سالار "
" وهل وجدتموها ؟؟ ولِم تحتاج مساعدتي لاحضارها مولاي ؟؟ "
اعتدل إيفان يضم قبضتيه على الطاولة التي تجمعهم كلهم يقول بنبرة آمرة لا تقبل أي نقاش وكأنه يوصل لسالار أنه الآن لا يتحدث له كصديق، بل كملك، وكلماته ليست طلبًا بل أمرًا واجب التنفيذ :
" هذا لأن الملكة تقبع هناك سالار، في جانب المفسدين، وأنت من ستذهب لتحضرها من اجلي وستأخذ معك مرشدي الجانب الآخر لمساعدتك ..."
اتسعت أعين سالار بقوة وقد شعر الجميع حوله أن غضبه جعل هيئته تزدادت ضخامة ووجهه يزداد تحجرًا.
وهو فقط نظر حوله للجميع، ليشعر مرجان بالرعب الذي دفعه ليلقي بجسده أسفل الطاولة يختفي عن أعينه، فهو لا ينسى ثوارات سالار التي يقيمها على رأس العريف حين غضبه منه .
تنفس سالار بقوة يشعر برغبة عارمة لرفض مهمة للمرة الأولى، لكن وبالنظر لنظرات الملك شديدة التحذير من رفض أمر له، نهض من مقعده يضغط بقبضته على مقبض السيف يقول بهدوء شديد :
" يمكنك تجهيز عرش مولاتي منذ اليوم مولاي "
ختم جملته يحني رأسه بطاعة، ثم تحرك خارج القاعة بأكملها بجسد مشتد كالوتر وملامح مرعبة، وخطوات قوية شعر الجميع أنها تكاد تحرك الطاولة والمقاعد من قوتها، توقف سالار أمام الباب الخاص بالقاعة يأمر بصوت جهوري :
" افتحوا الابواب "
وفي ثواني كان الباب يُفتح بقوة لينطلق كالرصاصة خارج المكان بأكمله والشياطين تلحقه، نهض دانيار يعتذر من الملك، ثم ركض بسرعة كبيرة خلف سالار تاركًا إيفان ينظر أمامه بهدوء شديد وكأنه لم يفعل شيء يشير للعريف :
" تولى أمر إبلاغ سالار بكل ما يحتاجه في ذلك الجانب من العالم أيها العريف، وأخبر ذلك الجبان أسفل الطاولة أن يخرج ويذهب لاخبار مرشدي الجانب الآخر أن يتجهزوا للذهاب في رحلة رفقة القائد سالار، انتهى الاجتماع يا سادة "
بهذه الكلمات ختم إيفان الجلسة يتحرك عن مقعده بقوة خارج المكان بأكمله، يسير بجسده الضخم نسبيًا وهو ينظر أمامه دون أن يهتم بأحد يتنفس بصوت مرتفع متحركًا صوب حجرته للانفراد بنفسه.
وكذلك فعلت الملكة والمستشارين يغادرون المكان وكلٌ يبكي على ليلاه، الجميع يفكر فيما سيحدث في الأيام القادمة، إذ يبدو أن المملكة ستشهد حدثًا سيغير مجرى تاريخها ..
وحينما عمّ الهدوء أخرج مرجان رأسه من أسفل طاولة الاجتماعات يهمس بريبة :
" هل رحل الجميع ؟؟"
نظر له العريف يضرب رأسه بحنق :
" أخرج أيها الجبان "
وكذلك فعلت بومته التي ضربته بجناحها تطلق صوتًا مزعجًا وكأنها توبخه .
نهض العريف عن المقعد يشير لمرجان أن يلحقه :
" يبدو أن المملكة على وشك أن تُغير خارطتها يا فتى، القادم سيكون ممتعًا للغاية ..."
_____________________________
تحركت صوب منزلها بعد يوم عمل مرهق، تبحث داخل حقيبتها عن بعض القروش فقط كي تشتري لنفسها شيئًا حلوًا لما بعد العشاء كمكافأة لها على تحملها العيش في هذه الحياة يومًا اضافيًا، لكن فجأة وأثناء بحثها عن أي أموال انتبهت لنظرات غريبة توجه لها من جميع سكان الحارة، وتقصد هنا بسكان الحارة " النساء" ...
نظرت تبارك خلفها تبحث عن ذلك التعيس الذي وقع ضحية لسان النساء هنا وأعينهم، لكن لصدمتها لم تجد ذلك التعيس لتدرك أنها هي نفسها التعيس ..
عادت بعيونها للنساء تشير صوب صدرها باصبعها تقول بصوت خافت :
" أنا ؟؟ بس أنا لسه معملتش حاجة"
ابتلعت ريقها تنفض عنها ذلك الشعور، بالطبع هي فقط تتخيل، فهي لم ترفض زوجًا " لقطة" كما يخبرونها، أو تنبذ عملًا في إحدى عيادات الأطباء الحمقى هنا، أو حتى تتشاجر مع امرأة، لتكون محط أنظار النساء، هي تتوهم فقط .
لغت فورًا فكرة مكافأة نفسها تدرك أن أكبر مكافأة قد تقدمها لنفسها هي أن تنفرد بها داخل منزلها الدافئ بعيدًا عن كل ذلك، لذا قررت أن تتحرك صوب المنزل قبل أن تثقبها إحدى النظرات من النساء، وما كادت تعبر حدود البناية حتى سمعت صوتًا يهمس :
" اه والله وقال ايه واحد بيجيلها في الحلم ويكلمها كل يوم "
اتسعت عيون تبارك فجأة تقف في مكانها تهمس داخلها :
" يارب مش اللي في بالي، يارب لا "
نظرت صوب النساء لترى أم أنور تحدق بها متسائلة بوقاحة :
" فيه حاجة يا حبيبتي ؟؟ "
" لا أنتم اللي فيه حاجة يا أم أنور ؟؟"
" لا يا حبيبتي وهيكون فيه ايه يعني ؟؟ "
هزت تبارك رأسها ولم تكد تخطو للبناية، حتى توقفت على ضحكة عالية من إحدى فتيات الحارة التي سارعت بحجز مقعدها بين النساء مبكرًا، وكأنها تستعجل تحولها للسان متحرك لا غرض له سوى التحدث بأخبار من حوله .
توقفت تبارك ونظرت للفتاة بتحفز كبير تتساءل بأعين مشتعلة :
" فيه حاجة في وشي بتضحك ؟؟"
ابتسمت الفتاة تتجاهلها وهي تنظر من أعلى لاسفل بتقليل :
" كلك على بعض الصراحة، يا عيني من كتر الوحدة عقلك بدأ يطق منك ويخترع ليه ناس يحبوه "
اقتربت منها تبارك بتحفز وقد بدأ جسدها بأكمله يهتز بغضب وشيك، هي لا تحب العراك وتتجنب المشاكل، لكنها لا تحب أن يتخذ أحدهم سخرية له :
" انتِ بتقولي ايه ؟؟ ما تتكلمي بوضوح وبلاش جو الفوازير ده يا حبيبتي، انطقي باللي عايزاه "
" وأنا هعوز منك ايه يا ختي ؟؟ أنتِ اللي زيك هو اللي عايز شوية حنان وشفقة قبل ما يجن، الحارة كلها عارفة بالحوار بتاع احلامك وأنك عليكِ اللهم احفظنا جن زي اللي كان عند البت احلام "
شعرت تبارك بدمائها تتصاعد بين شرايينها، الغضب تمكن منها حتى أصبحت لا تميز أمامها سوى اللون الاحمر، ودون كلمة تحركت راكضة صوب منزل الشيخ عبدالعزيز تشعر بالقهر، الغضب تمكن منها حتى شعرت بقرب انفجار بكائها، فهذه هي عادتها كلما أزداد غضبها ازداد معه فرص بكائها بشكل مزري، وصلت للمنزل تطرقه بعنف شديد وبمجرد أن ظهرت لها حسنية أطلقت عفاريتها في وجهها صارخة :
" هو أنتِ يا ست أنتِ لو كنتِ حفظتي سر اللي دخل بيتك وامنك على أسراره هيجرالك حاجة ؟؟ لازم لسانك ده يفضل يخوض في سيرة الناس ؟!"
اتسعت عيون حسنية بصدمة من كلماتها وهي تنظر حولها برعب :
" أنتِ بتقولي ايه يا بنتي أنا عملتلك حاجة ؟؟"
" بنتك ؟! يا ست يا أم لسان طويل، بكرة تتسحبي منه، والله العظيم لاوصل للشيخ عبدالعزيز كل كلمة نطقتيها في حقي وهوريكِ ازاي تتكلمي على الناس تاني، حسبي الله فيكِ وفي امثالك "
وما كادت ترحل حتى سمعت صوت حسنية تركض خلفها تحاول إيقافها مرتعبة مما سيحدث لها على يد عبدالعزيز إن علم أنها أخرجت كلمة مما سمعت، لكن تبارك لم تتوقف في سيرها تركض صوب منزلها وبمجرد أن وصلت وجدت جميع النساء يجلسن أمامه ومعهم نفس الفتاة التي أخذت تطلق ضحكات بمجرد أن رأتها تقترب .
وتبارك حين أصبحت أمامها رفعت حقيبتها تضربها في وجه الفتاة بقوة اسقطتها بين أحضان والدتها وصوتهل يعصف بشكل مرعب :
" اياكِ تنطقي كلمة في حقي ؟؟"
نظرت لها الفتاة بخوف من نبرتها تلك، ابتلعت ريقها تحاول الحديث، لكن تبارك اصمتتها ترفع اصبعها في وجهها تقول بصوت خافت مرعب :
" كلمة واحدة في حقي برقبتك "
ختمت حديثها تنظر للنساء بشر ليتبلعن ريقهن ويبتعدن عن عيونها وهي تحركت صوب منزلها تهنئ نفسها على تلك الخطوة التي ستجعلها مستهدفة من جميع نساء الحارة، لكنها ستجعلهم يتجنبونها، فكما يقول المثل " اضرب المربوط يخاف السايب" وهي أوصلت رسالتها واضحة لنساء الحارة من خلال تلك الفتاة ..
دخلت المنزل تغلق الباب خلفها بقوة تتنفس بصوت مرتفع تلقي بالحقيبة على الأريكة، ثم جلست هي كذلك جوارها تحدق أمامها في الفراغ تدفن وجهها بين كفيها، تقول بحنق وغيظ :
" اه لو غاندي اللي كل شوية ينطلي في الحلم يقع تحت ايدي بس ...."
عادت برأسها للخلف على الأريكة تحاول أن ترتاح هامسة بخفوت قبل أن تسقط في نومة عميقة :
" أنا تعبت خلاص . "
___________________
كان يجلس داخل مكتبته حيث مملكته التي يحكم، يعتلي عرشه والذي كان عبارة عن مقعد يتوسط العديد من أرفف الكتب الضخمة، يراقب ذلك العملاق الذي يعيث فسادًا في مملكته، فيحطم هذا ويدمر ذلك دون أن يعطي أي اهتمام لأحد.
زفر العريف يتحسس ريش البومة التي تعلو كتفه تحدق بسالار الذي يحطم ما يسقط امام عيونه بغضب.
ماله هو والنساء ؟! هو رجل حرب لا يفقه سوى في الأسلحة وما يخصها، وهذه امرأة كيف يعاملها ؟؟ هل يتعامل معاها كما يعامل السيف الخاص به أو درعه ؟؟
مال مرجان على العريف يهمس له :
" كل هذا وهو لا يعلم أنك أنت من اقترحت على الملك إرساله هو تحديدًا "
نظر له العريف بشر مبعدًا وجهه عنه :
" وإياك أن يعلم وإلا اضعت مستقبلك مرجان، ألا تراه كالثور الهائج يكاد يحطم جدران القلعة فوق رؤوس قاطنيها "
وحينما انتهى سالار من تفريغ غضبه تحرك صوبهم بخطوات رزينة هادئة تعاكس تمامًا ما كان يفعل منذ ثواني، يجلس على المقعد أمامه يتحدث بملاح في غاية الغضب :
" والآن أخبرني ما يحدث هنا وما عليّ فعله ؟؟"
ابتسم العريف يتنهد براحة مشيرًا صوب مرجان :
" مرجان سيذهب ليحضر لك مرشدي الجانب الآخر، وما عليك سوى حمل كرة العرش والتحرك بها للبحث عن الملكة، هي سترشدك إليها، وحينما تجدها أحضرها، واحرص أن تكون عودتك قبل منتصف الشهر الجاري "
سخر منه سالار بكلمات حانقة :
" لِمَ ؟ هل ستتحول لمستذئب إن لم أفعل ؟!"
هز العريف كتفه يقول ببساطة :
" لا بل ستخفت قوى الكرة وسيصعب عليك إيجادها، هل كل شيء واضح ؟؟"
هز سالار رأسه، ليضيف العريف يلقي ببعض الكتب أمامه وعيونه باردة لا تهتم بشيء حوله، ولا حتى لقائد الجنود الذي يكاد يحيل المكان حولهم لرماد :
" هذا كتاب يصف لك بعضًا مما قد تقابل في الخارج، حيث الملكة، حينما تعبر حافة العالم ستسير حسب مخطوطة سأمنحها لك، وستصل لبلدة صغيرة أين ستجد أحد رجالنا في ذلك الجانب وهو سيساعدك للذهاب حيث تشير الكرة"
" وأين تشير الكرة ؟؟"
" لن نعلم إلا عندما تخرج من هنا، عامة هو سيخبرك أين ستذهب وكيف ستفعل، سيساعدك كما سبق وفعل مع مستكشفي مملكتنا سابقًا، يمكنك أن تثق به "
رمقه سالار بنظرات شديدة مخيفة بعدما مال على مقعده وقد كان صوته أشبه بفحيح حية تستعد للالتفات حول ضحيتها وخنقها قبل أن تبتلعها :
" أنا لا أثق بأحد"
اقتحم دانيار في تلك اللحظة المكتبة يقول براحة شديدة لرؤية الجدران في مكانها المعهود :
" سيدي ..."
أشار سالار عليه يكمل على حديثه السابق :
" عدا دانيار، وتميم والملك وتلك البومة التي تعلو كتفك فقط "
أصدرت البومة صوتًا وكأنها تفهم ما يقول ليبتسم العريف بسخرية :
" اوه، هذا كان جارحًا "
" لطالما كانت الحقيقة هكذا "
ابتسم له العريف ينهض من مكانه يتحرك داخل المكتبة الخاصة به يتجاهل تمامًا وجوده، بينما مرجان والذي يلتزم الصمت منذ لمح وجود سالار قرر أنه حان وقت الهروب من وجهه والذهاب لإحضار المرشدين، لذلك ابتسم بسمة صغيرة وهو يستأذن راكضًا خارج المكتبة تاركًا دانيار يجلس أمام سالار..
" إذن هل ستفعلها سيدي ؟!"
" وهل ترك لي إيفان خيارًا ؟؟"
ابتلع دانيار ريقه ثم نظر حوله يميل قائلًا:
" هل تريد مني مرافقتك ؟؟"
رمقه سالار بحاجب مرفوع :
" ومن سيقود الجيش في غيابي دانيار ؟؟ "
اجابه دانيار بكل بساطة ودون تفكير :
" تميم سيفعل "
أطلق سالار صوتًا حانقًا مغتاظًا من اقتراح دانيار :
" تميم ؟! بالله عليك دانيار إن كنت تطمح لضياع تلك المملكة فلن تقترح هكذا اقتراح "
وقبل أن يكمل كلماته سمع الجميع صوت انفجار قوي يأتي من داخل القصر ليزفر سالار بحنق يشير صوب الخارج :
" أنظر، نحن معه هنا في القصر ويكاد يحطمه أعلى رؤوسنا، ماذا إن تركنا له زمام الأمور ؟؟ أنت ستبقى هنا كي تحمي المملكة من أي معتدي خارجي، ومن تميم ايضًا"
ضحك دانيار بصوت صاخب، يرى أن قائده محق فتميم والذي كان المسؤول عن الأسلحة والمدافع وتطوير كل ذلك يعد كارثة متحركة، لا ينفك يفجر معمله مرتين كل اسبوع.
قال سالار :
" لا تقلق أنا استطيع حماية نفسي وحماية مملكة بمفردي ومعي سيفي العزيز "
سمع صوت العريف يقول من داخل المكتبة :
" لا يمكنك أخذ السيف "
عض سالار شفتيه بغيظ شديد :
" ذلك العجوز، يومًا ما سأتخلص منه وألقيه بيدي في الجانب الآخر من العالم، حيث المفسدين أمثاله "
وصل له صوت العريف يقول بسخرية لاذعة :
" على الأقل لن أكون مضطرًا للتعامل مع ملك متسلط، وقائد جيش متجبر، ورامي سهام مزعج، وصانع أسلحة مختل، وبومة حمقاء "
ختم جملته يضرب البومة بالكتاب لتطلق الأخيرة صوتًا محتدًا وهو تجاهل الأمر، يفكر أنه حقًا يتمنى الانعزال عن هذا العالم بمن فيه، هم مزعجون وبشدة، لا يطيق هؤلاء الأربعة الذين يمثلون تحالفًا، ويتمنى لو يختفون من تلك المملكة ويتركونه ينعم بحياة هادئة وسط كتبه الغالية .
تنهد سالار لا يدري ما يفعل، الأمر سيستلزم منه جهدًا وفيرًا كي يصل، وجهدًا أكبر كي يقنعها بالمجئ معه، حسنًا الجزء الاول ليس بالصعب، لكن أن يتعامل مع امرأة ويقنعها بشيء لهو المستحيل بعينه، لكن ومنذ متى يأس سالار وعجز أمام شيء ما ؟؟
والإجابة كانت أبدًا، إذن سيفعلها وينتهي منها كما يفعل دائمًا ويعود بأسرع وقتٍ ممكن، حيث مملكته الغالية وجيشه العزيز ..
سمع صوت انفجار آخر ليكمل داخل عقله، وليلقن تميم درسًا ..
________________________
كان يجلس في معمله امامه العديد من الأدوات والعديد من المواد التي يصنعها بنفسها أو يوصي عليها من العالم الخارجي، فنعم هم رغم انعزالهم التام عن الحياة في الخارج حيث المفسدين، إلا أنهم في بعض الأحيان يستعينون ببعض موادهم .
ابتسم يقوم بحشو كرة حديدية ببعض المواد المتفجرة، ثم امسكها بين يديه يحركها للأعلى والاسفل وهناك بسمة واسعة ترتسم على فمه، رفع يده في الهواء يبحث عن مكان يلقي به تلك الكرة ليجربها، ليقع الاختيار في النهاية على مدخل المعمل فهو المكان الوحيد الفارغ من أدواته الثمينة .
لوح بالكرة في الهواء ودون تفكير كان يلقي بها بقوة مخيفة تسببت في أحداث صوت عالي مدوي ودخان كثيف، وصاحب صوت الانفجار صوت صرخات أنثوية تصيح بهلع :
" النجدة ...النجدة "
فتح تميم عيونه ينتظر أن ينقشع الدخان حتى ظهر من بينه امرأة طويلة الجسد بعض الشيء، جميع ثيابها تدمرت ببقع حروق وهي تحمل بين يديها بعض أدوات التنظيف تسعل بقوة :
" رحمتك يا الله، ما هذا ؟ أشعر كما لو أن أحدهم القاني بقنبلة فلفل حار "
نظر لها تميم ثواني قبل أن يقول بتفكير وهو ينظر للادوات خلفه :
" عجبًا لم تتسبب القنبلة في قتلها، ربما نسيت إضافة شيء "
نظرت له الفتاة بأعين متسعة :
" ماذا ؟؟ هل أنت حزين لعدم موتي ؟؟"
" عدم موتك يعني فشلي في تلك القنبلة اليدوية، الأمر مخيب للامال"
ابتسمت الفتاة بصدمة كبيرة تترك أدوات التنظيف جانبًا وهي تتحرك صوبه تصرخ بجنون :
" أنت أيها المختل ما الذي تهزي به ؟؟ لقد كدت تفجر جسدي للتو، والآن أنت خائب الامل لأنك لم تر اشلائي تتناثر حولك ؟؟"
نظر لها تميم ثواني يحاول التفكير جيدًا في تلك الافتراضات التي تطرحها على عقله :
" لا، ارجوكِ آنستي لا تأخذين الأمر من هذا المنظور، انظري أنا أعمل على هذه القنبلة منذ اسبوع كامل، تخيلي أن نمتلك قنبلة يمكنها تدمير جيش بأكمله عن بعد ؟؟"
وما قال لم يحسن الوضع بالنسبة لها ولو لجزء صغير :
" أنت يا سيد حانق لأنك ألقيت عليّ قنبلة قادرة على تدمير جيش بأكمله ولم تؤتي ثمارها المرجوة ؟؟"
هز تميم رأسه بنعم، هو حقًا يشعر بخيبة الأمل، لكن فجأة تراجع للخلف على طاولة الادوات برعب وهو يرى الفتاة أمامه تتحول لوحش يزأر في وجهه :
" حسبي الله فيك وفي امثالك أيها الغبي، هل أرواح من بالقصر لعبة في يدك يا مدلل، اقسم أنني لو أصابني خدشٌ واحد لاشكونك عند الملك ولن اتركك إلا عندما ألقي عليك دزرينة قنابل بنفسي "
أنهت حديثها تسحب الادوات صارخة بحنق :
" لن اخطو ذلك المكان العفن مجددًا، سامح الله من اقترح عليّ تنظيفه، لا ينقصني في حياتي البائسة سوى مختل حزين لأنه لم يستطع قتلي بنقبلته اليدوية "
راقب تميم انسحابها من معمله ترغو وتزبد بغضب وهو لا يستطيع الشرح لها، يتحرك خلفها :
" انتظري أنا لا اقصد ما وصل لكِ، اقسم لم اقصد كل ذلك، فقط أنا حزين، قدّري حزني، حسنًا فقط أخبريني ما شعرتي به للعمل على التعديلات، هل كان الأمر مؤلمًا حينما اصطدمت بكِ "
وصل له صوت الفتاة الذي صدح من الاعلى، إذ أن معمله يقبع أسفل القصر بسبب ما يحدث من انفجارات متتالية :
"أقسم أن أهبط أنا واريك كيف يكون الألم حينما يصطدم حذائي بوجهك "
زفر تميم بحنق شديد، هو حتى لم يعلم اسمها او يرى من وجهها شيئًا ليراقبها ويرى تأثير الانفجار عليها، لربما فشل الآن لكن في المستقبل يسبب تشوهات أو ما شابه، أي شيء يشعره أنه لم يضع أيام وليالي لأجل قنبلة دخان وصوت فقط ..
" لِمَ كانت تلك الفتاة تصرخ للتو ؟؟"
لوح تميم بيده وهو يراقب دانيار وسالار يخطوان لمعمله :
" لا ادري اقسم، من المفترض أن اغضب أنا، لقد أصابتها قنبلتي الجديدة، ولم يصيبها سوى بعض اللون الأسود بسب بالدخان الكثيف، ورغم ذلك أصابت رأسي بصداع "
توقف عن الحديث فجأة حينما انتبه لوجه سالار الجامد ليقول بريبة :
" ما به القائد ؟؟"
نظر دانيار له وقال بصوت منخفض :
" لقد أرسله الملك في مهمة للجانب الآخر من العالم "
اتسعت أعين تميم بقوة ينظر لسالار الذي كان شاردًا، ودون مقدمات اتسعت بسمته يقترب من سالار يهمس له :
" إذن هل تحتاج بعضًا من أسلحتي معك ؟! ابتكرت للتو قنبلة بإمكانها تدمير جيشٍ بأكمله"
نظر له سالار يجيب ساخرًا وهناك بسمة ترتسم على وجهه :
" نعم، تلك القنبلة التي تصيب جيشًا كاملًا بالسعال "
أطلق دانيار ضحكات عالية على ملامح تميم الذي تقهقر للخلف يدافع عن أسلحته :
" هي ما تزال بحاجة لبعض التطويرات، لكن صدقني في المستقبل سوف يقف الكون بأسره منبهرًا بما سأفعل "
" وحتى نفعل هذا يا عزيزي، احتاج منك بعض الأسلحة صغيرة الحجم التي ستساعدني لتدبر أمري في ذلك العالم الغريب، أسلحة ليست بالظاهرة، فهمت تميم ؟؟"
نظر له تميم لحظات قبل أن يقول ببسمة :
" فهمت يا قائد ..."
________________________
نظرت تبارك لوجه العم متولي والذي يجلسها أمامه منذ ساعات طويلة يتحدث بكلمات غامضة لا تفهم منها شيئًا، هو فقط أخبرها أنه وصل لشيء هام يخص أحلامها وحالتها ..
كانت تستمع له يضع أمامه ورقة كبيرة ويمسك بقلم بين أنامله يحركه بشكل عشوائي يقول بجدية كبيرة :
" ها فهمتي اللي بيحصل ؟!"
أشارت تبارك لنفسها بغباء شديد :
" يعني قصدك إني أنا عروسة النيل الجديدة واللي بحلم بيه ده نداء المفروض البيه قبل ما اللعنة بتاعة الفراعنة تصيب الحارة كلها ؟؟"
هز متولي رأسه مبتسمًا سعيدًا أن ما أراده وما اكتشفه بعد بحثٍ طويل عن أسباب تلك الأحلام التي تصيبها قد أتى ثماره وفهمت ما يريده .
" بالضبط، المفروض دلوقتي تلبي النداء قبل ما الحارة باللي فيها تولع"
" النداء اللي هلبيه ده، هلبيه بأني..."
تركت جملتها معلقة ليس لجهلها بباقيتها، فهو أعاد على مسامعها كل شيء مرات عديدة، لكنها فقط تود التأكد مرة أخرى أنها لم تخطأ السمع وهو سارع كي يكمل تلك الجملة لها :
" أنك ترمي نفسك في النيل "
صمت ثم أضاف بعدما تذكر :
" من نزلة ابو العِلا اللي في التحرير كده، تتشيكي وتلبسي فستان ابيض بلياقة دهبي وحزام دهبي وتروحي ترمي نفسك "
" والطرحة، دهبي برضو ولا على ذوقك ؟؟"
" لا دي براحتك يعني عادي "
هزت تبارك رأسها تبدي اقتناعًا زائفًا، تتحرك من مقعدها للخلف ببطء شديد وحرص ومتولي يراقبها بعدم فهم، وهي تبتسم له بسمة صغيرة غبية :
" هروح اكوي الفستان وأجهز نفسي، واول ما أقرر إني ارمي نفسي هديك رنة، تمام ؟؟"
كان متولي يتابعها وهي تتحرك صوب باب المكتب الخاصة به، وبمجرد أن لمست أقدامها عتبات المكان حتى هرولت للخارج بسرعة وكأن الاشباح تطاردها، كانت تبارك تركض بأقصى ما تملك، تنظر خلفها برعب، وما اوقف هرولتها سوى جسد ضخم صلب اعترض طريقها .
توقفت برعب تعود للخلف وهي تتنفس بصوت مرتفع :
" أنا بعتذر مكنتش ....هو أنت ؟؟ هو مفيش حد في البلد دي بخبط فيه غيرك !!"
رمقها الطبيب الذي يعمل معها بتعجب، لكنه تجاوز ذلك التعجب متسائلًا حول ملامحها المرتعبة :
" هو فيه ايه ؟؟ حد بيجري وراكِ ولا ايه ؟؟"
نظر خلفها يبحث عن ذلك الذي يركض خلفها، لكنها سارعت للقول من بين انفاسها :
" لا ...لا مفيش أنا ...أنا بس كنت بعمل رياضة مسائية "
نظر لها بشك، لكنه لم يعلق حول الأمر يبتسم لها ويمد يده ببعض الازهار التي أحضرها لأجلها :
" اتفضلي دي جبتها عشانك "
نظرت تبارك للازهار بأعين متسعة وبعدم فهم :
" عشاني أنا ؟؟"
أومأ يؤكد لها صدق ما سمعته، يأكل المسافة بينهما ضاربًا بكل شيء عرض الحائط، لا يهتم بأي شيء يحيطه أو أنه يقف الآن وسط حارة ملغمة بأعين النساء وألسنة بحدة السيوف، يراقبون ما يحدث باهتمام شديد ينقصهم فقط بعض الأوراق وقلم لتسجيل ما يحدث والنقاش به في اليوم التالي .
" أيوة عشانك يا تبارك، أنا اساسا كنت جاي عشانك، كنت عايز اتكلم مع أهلك و اتقدم ليكِ عشان نتعرف على بعض بشكل مناسب "
اتسعت أعين تبارك بقوة تشعر أن الأرض بدأت تدور أسفلها من تلك الكلمات، لكن فجأة ضرب جرس انذار داخل عقلها حينما انتبهت لكلمة " اهلك" التي توسطت جملته بكل خبث تخرجها من تلك الحالة التي ألقاها بها الطبيب .
ابتلعت ريقها تنظر لوجهه تقول بتردد وكأنها تريد أن تبعده عنها :
" دكتور علي، الحقيقة أنا معنديش أهل "
ضيق علي ما بين حاجبيه بعدم فهم، مبتسمًا بسمة صغيرة :
" يعني ايه معندكيش أهل؟؟ يتيمة قصدك ؟؟ أنا كمان والدي متوفي على فكرة بس مش بـ "
قاطعته تبارك فجأة وهي تقول بجدية :
" لا معنديش أهل، مش عارفة إذا كانوا عايشين أو ميتين أنا كنت في ملجأ "
بُهت وجه علي، يعود للخلف مبتلعًا ريقه وقد أصابته تلك المعلومة بصدمة، صدمة جعلته يفتح فمه رغبة في الحديث، لكنه اغلقه كـ سمكة خرجت من الماء تحاول التنفس بصعوبة .
وملامحه تلك كانت أكثر من كافية لتبارك التي ابتسمت تعيد له الورد مرة أخرى تقول بهدوء شديد :
" أنا عارفة إن الموضوع ممكن يكون صدمك، لكن كان لازم تعرف، عامة أنا بشكرك و .."
صمتت تعض شفتيها تشعر بسخافة ما تقول، لا تجد رد تقوله، والأعين من حولها لا تساعد أبدًا على أن تبلور حديثها في جملة مفيدة؛ لذا قررت أن تبتسم وتودعه بكلمات مقتضبة، ثم تحركت صوب منزلها تستأذن منه تتجاهل أعين النساء والهمسات التي وصلت لها .
وعلي يقف مكانه يحاول معرفة ما حدث منذ ثواني، هو فقط، هو فقط تفاجئ، لم يستوعب ما قالته، نظر صوب المنزل يشعر أنها فهمت صمته بشكل خاطئ، هو لم يقصد أن يشعرها بالدونية أو ما شابه، تنفس يطلق سبة حانقة وهو يتحرك صوب سيارته وقد قرر أن يتحدث معها حينما يراها في المشفى وقد شعر بظهره يحترق بسبب النظرات التي يوجهها البعض له .
وتبارك وصلت لمنزلها ولم تحاول أن تضئ الانوار، تشعر أن الظلام الآن وضع جيد لما تشعر به، تنفست بصوت مرتفع تتحرك بتعب شديد صوب الأريكة تلقى نفسها عليها تتنفس بصوت مرتفع وعقلها يعود بها للخلف، حيث سنوات العذاب التي خاضتها لتصل لهذه اللحظة ..
" أنا مشبتعتش، يا دادة أنا مشبعتش "
كانت تتحدث وهي تدور داخل قاعة الطعام بصحنها الفارغ بعدما أنهت جميع اللقيمات به، تتوسل الجميع في المكان أن يتوقفوا ويحضروا لها الطعام، لكن لا أحد يهتم .
ابتلعت ريقها تشعر بطعم مر في حلقها، ربما هو طعم ذلك الحساء غريب اللون، أو كسرة الخبز المتحجرة التي كادت تحطم أسنانها.
اقتربت من إحدى النساء اللواتي كن ينظفن المكان بعد رحيل من به صوب مخاضعهم :
" يا دادة أنا مشبعتش، أنا لسه جعانة، عايزة أكل"
نظرت لها السيدة والتي كان وجهها مسودًا حزينًا مغتمًا، لا تدري تبارك لكنها شعرت في تلك اللحظة أن المرأة على وشك الانفجار في البكاء، لكنها بدلًا من ذلك انفجرت صارخة في وجهها :
" وهو أنا يعني خدامة ابوكِ، روحي شوفي غيري يحطلك أكل، مش فاهمة انا مفيش غيري اللي كله عمال يطلب مني طلبات "
ختمت جملتها تحمل الوعاء الصدأ الذي تعصر به قطعة القماشة التي تمسحها بها الأرضيات ترحل من أمام تبارك التي سقطت دموعها بحزن شديد، تنظر حولها تضم الصحن لصدرها وقد سقطت دموعها بوجع :
" بس أنا لسه جعانة، أنا ما اخدتش اكل كتير زيهم "
أفاقت تبارك من ذكرياتها تتنهد بصوت مرتفع وهي تحدق في السقف فوقها :
" ولا أخدت حنان ولا اهتمام زيهم، ويا عالم هيجي دوري أخدهم ولا لا . "
_______________________
يسير بين طرقات القصر بعدما انتهى للتو من جلسة حكم على بعض السارقين في المملكة والتي قضت أن تُقطع أيديهم جزاءً على فعلتهم، كانت ملامح إيفان شرسة قوية لا تتهاون ولا ينحني لريح، لا ينحني سوى لخالقه .
كان كما يصفه البعض قوي، ومتجبر كذلك الأمر، تنهد بتعب يخطو لممر جناحه، لكن فجأة توقف بسبب سماعه لصوت أنثوي يغني في الممرات، ضيق بين حاجبيه متعجبًا من تلك التي تغني داخل قصره وفي هذا الوقت .
تتبع الصوت متعجبًا تلك اللهجة الغريبة عن أبناء مملكته، لا يتذكر أنه وافق على عمل مغترب عن مملكته داخل قصره .
انتهى به المطاف أمام نافذة كبيرة تقع في نهاية ممر داخل القصر، نظر من النافذة ليرى فتاة أو امرأة لا يعلم تقف داخل حديقة القصر وهي تتحرك حركات غريبة وتغني بصوت قوي وتصفق بيديها في الهواء، وتلك الانشودة التي تغنيها، هو يعلمها جيدًا، نفسها انشودة النصر التي قام بعض القدماء بتألفيها بلغتهم الأم..
انشودة كانت تصدح قديمًا داخل قرى الممالك وقت الحرب لتوديع الجنود، ارتفع حاجبي إيفان، لا يستطيع تبين ملامح تلك المرأة بسبب الظلام وذلك الوشاح الذي تخفي به ملامحها، كانت تتحرك بقوة حركات مليئة بالشموخ وحولها يتطاير ثوبها الفضفاض .
ورغم أنه لم يكن من مشجعي الغناء داخل جدران قصره وخاصة من النساء، إلا أن تلك الانشودة وذلك الصوت وتلك الحركات منعوه عن إطلاق صيحة يوقفها، ابتسم بسمة صغيرة يتجاهلها مكملًا طريقة لجناحه يردد بصوت خافت :
" لدينا محاربة أسفل سقف القصر، مثير للاهتمام "
ويبدو أن الأمر لم يكن مثيرًا لاهتمام إيفان والذي تجاهله بسرعة وعاد لجناحه، ب
لدينا محاربة أسفل سقف القصر، مثير للاهتمام "
ويبدو أن الأمر لم يكن مثيرًا لاهتمام إيفان والذي تجاهله بسرعة وعاد لجناحه، بل كان مثيرًا كذلك لذلك الذي يقف في جزء من الحديقة، يتناول بعض الفاكهة يراقب تلك الفتاة بأعين فضولية ...
" يا امرأة اعدتي لي ذكريات الحرب قديمًا"
تناول قضمة مما يحمل وهو يشير لها :
" من اين تعلمتي هذا ؟؟"
ولولا الظلام حوله لابصر دانيار اشتعال عيون الفتاة التي أخرجت خنجرًا من ثوبها بسرعة مهولة تهجم عليه بغية ضرب ظهره في الجدار خلفه ومحاصرته لتهديده، لكن ما حدث أنها وبمجرد أن هجمت عليه، شعرت كما لو أنها اصطدمت في جبل راسخ، جعلها تطلق تأوهًا وهي تعود للخلف مصدومة ؟؟ كيف لم يتراجع تحت وطأة دفعتها وجسدها ؟؟
ودانيار انتبه لحركتها تلك ليقول بإدراك :
" مهلًا هل يجب عليّ العودة للخلف ؟!"
نظرت له الفتاة بجهل ودون شعور هزت رأسها، هذا ما كان من المفترض أن يحدث، عليه أن يعود صوب ذلك العمود الخرساني بسبب دفعتها ..
ابتلع دانيار ما يأكل واعطاها باقي الثمرة يقول بجدية :
" حسنًا امسكي هذا لأجلي"
وفعلت الفتاة ببساطة، وهو بمجرد أن أمسكت منه الثمرة، حتى ألقى بجسده في قوة كبيرة على العمود خلفه وكأن دفعتها هي ما فعلت يقول بنبرة خائفة مصطنعة :
" ارجوكِ الرحمة، ماذا فعلت لكِ أنا ؟؟ أنا كنت اشجعكِ أقسم"
اتسعت أعين الفتاة لا تفقه شيئًا مما يحدث، هل هو مجنون ؟؟
ابتسم لها دانيار يميل برأسه قليلًا، وهو يرى الانزعاج يظهر على حركات جسدها، نعم هذا هو أثره المعروف على جميع من يتعامل معهم، الأنزعاج ..
وفي غمرة شرودها اندفع دانيار بعيدًا عن العمود الخرساني بقوة شديد يخرج خنجر مسنن يدفع جسدها بقوة مخيفة صوب العمود خلفها يقول بهسيس مرعب، وكأنه ليس من كان يمزح معها منذ ثواني :
" من أنتِ يا هذه ؟؟ تلك اللهجة التي كنتِ ترددنيها ليست تابعة لمملكتنا، من ارسلك هنا ولأي هدف ؟! "
نظرت الفتاة لعيونه دون رد، ولولا أنه استمع لغنائها منذ لحظات، لاعتقدها بكماء، أطالت النظر لعيونه الزرقاء والتي كانت تلتمع أسفل اضواء المصابيح في المكان، تبتلع ريقها بصعوبة بسبب ضغطه لجسدها على العمود خلفها .
وهو شرد في عيونها السوداء المميزة التي تظهر من خلف لثامها، بها نظرات تجبر وقوة، وكأنها تتحداه أن يفعل ما يريد .
في تلك اللحظة وقبل أن تقول كلمة واحدة سمع الإثنان صوت أحد الجنود يقول بصوت مرتفع :
" من هنا ؟؟"
نظر دانيار خلفه صوب الجندي، لتستغل الفتاة ذلك دافعة إياه للخلف تركض بسرعة كبيرة بعيدًا عنه، سرعة أكبر من أن يستوعبها دانيار الذي اتسعت عيونه يقول بسخرية :
" تلك اللصة سرقت فاكهتي ورحلت .."
بينما اللصة ركضت بين الممرات بسرعة كبيرة، تنحرف في ممر ثم الآخر حتى توقفت أمام الغرفة التي تتشاركها مع رفيقتها، تحركت للداخل ببطء شديد تزيح اللثام عن وجهها لتظهر ملامحها واضحة، نظرت لنفسها في مرآة جانبية، تتنفس بصوت مرتفع، وقبل أن تتنهد براحة سمعت صوتًا خلفها يقول :
" زمرد أين كنتِ ؟؟"
استدارت زمرة بسرعة كبيرة تبصر وجه رفيقتها التي اقتربت منها تقول بجدية :
" بحثت عنك في المكان بأكمله، أين رحلتي ؟؟ "
تنفست زمرد تقول بصوت خافت :
" اششش اخفضي صوتك كهرمان وحاولي ألا تتحدثي كثيرًا، يبدو أن الجميع هنا يستطيعون تمييز لهجتنا عن خاصتهم "
هزت لها كهرمان رأسها تتذكر صباح اليوم حينما كانت تسير مع رئيسة العاملات وابصرت مواجهة بين الملك وأحد الجنود لتتحدث معبرة عن انبهارها بالملك لتنظر لها فتاة بتعجب، الآن أدركت أن نظراتها كانت لأجل لهجتها .
" حسنًا حسنًا، لا تقلقي سوف أنتبه، وأنتِ توقفي عن الخروج بهذا الشكل، ماذا إن انتبه لكِ أحدهم "
صمتت زمرد ولم تتحدث بكلمة وقد أبت أن تخبرها أنها فعلت وقد أنتبه لها أحدهم، وذلك الاحدهم كاد ينحر رأسها...
______________________
بعد عدة أيام ...
زفر بحنق يتحرك بين طرقات تلك البلدة الغريبة، لا يفهم ما يحدث حوله، اصوات ضوضاء هي كل ما يستطيع التمييز..
نظر حوله يحاول تبين الطرقات، ثم تحرك بعيونه صوب كرة العرش يرى الخارطة بها تشير باتجاهات فيتبعها ومعه مرشدي هذا الجانب من العالم، رجلين أحدهما طويل القامة، والآخر قصير القامة، يسيران جوار سالار الذي قال حانقًا وبصوتٍ أجش قوي :
" بالله ما هذه الفوضى التي يعيش بها هؤلاء البشر ؟؟ ما كل هذه السيارات التي تملء الطرق، إن كان الجميع لديه سيارات من إذن يسير على قدميه ؟؟"
وقبل أن يكمل كلماته سمع صوت صيحات خلفه وصوت رجل حانق يصرخ :
" أنت يا أعمى ياللي واقف في نص الطريق هسفلتك والله، ايه مش شايف الإشارة يا متخلف ؟؟"
استدار سالار بسرعة كالرصاصة صوب المتحدث وقد اشتعلت عيونه بقوة يردد بريبة شديد :
" هل سبني ذلك الرجل للتو أم أنني اسئت الفهم ؟؟"
أجابه أحد مرشديه، قصير القامة منهم والذي كان يُسمى صامد، يقول بنبرة خفيضة وهو يخشى غضب القائد سالار :
" حسنًا سيدي، حسب معرفتي بهذا الجانب من العالم، فنعم أعتقد أنه سبّك للتو "
امتلئ صدر سالار بالغضب الشديد يتحرك صوب ذلك الرجل واقدامه تضرب الأرض أسفله بشكل مخيف، يرتدي بنطال قماشي عادي وسترة من نفس النوع، أكثر ثياب عادية يمتلكها كي يندمج بينهم حسب أوامر العريف، لكن يبدو أن كل محاولاته تلك بائت بالفشل، توقف أمام السيارة ينظر للسائق يقول من تحت أنفاسه هادرًا :
" هل سمعتك تسبني للتو ؟؟"
نظر السائق حوله بعدم فهم :
" أنت بتتكلم كده ليه يا جدع أنت ؟! ما تكلمني زي ما بكلمك ؟؟"
قاطعته سيدة من الخلف، إذ كان ذلك السائق مالك لسيارة أجرة، يقل في الخلف سيدة مع اولادها الصغار، فتدخلت السيدة تتحدث ببسمة :
" ده شكله اجنبي يا اسطا مش شايف ملامحه ؟؟ الأجانب بيتعلموا فصحى مش لهجات"
كان سالار يستمع لكل ذلك، لكنه لم يهتم وهو يشير للسائق بتحذير وصوت جامد هادئ لا يريد أن يخيف أحد خاصة وأن ملامحه كانت تفي بذلك الغرض دون حديث :
" تعلم أن تحفظ لسانك ولا تسب غيرك أو تتجاوز حدودك مع أحد، فأنت لا تعلم مع من قد تتورط"
أطلق السائق صوتًا حانقًا من حنجرته، وهو يوقف محرك السيارة يهبط منها كي يقف أمام سالار والذي كان يفوقه طولًا بالكثير، لكن الرجل لم يهتم وهو ينظر في عيون سالار بتحدي :
" أنت بتقول ايه يا عسل ؟؟ هو أنت يعني عشان سايح هنخاف منك ؟؟"
أخرج الاطفال رؤوسهم من السيارة بحماس شديد وقد بدأ الطفل يقول بلهفة :
" ده ضخم زي ثور اللي الفيلم "
استدار سالار صوب الصغير يرمقه بشر وقد استاء أن الصبي يشبهه بالثور، ولم يكد يتحدث كلمة واحدة وجد صوت بعض السيارات يعلو بسبب تعطيل الطريق .
زفر السائق يلوح بيديه في الهواء :
" طيب خلصنا، وأنت يا عم دي مش امريكا عشان تتمختر فيها بالشكل ده، أنت هنا في مصر "
مال سالار برأسه وكأنه يفكر في كلماته :
" امريكا ؟؟ ما هذا الاسم ؟! هل هذه دولة مستحدثة ؟؟ "
كان يتحدث بجهل، يفكر في ذلك الاسم الذي قاله الرجل، ففي جميع الكتب التي جمعها أسلافه لم يسبق وذُكرت دولة تسمى امريكا كما يقول ذلك الرجل، ويبدو أن الرجل التقط حيرته تلك فاشفق عليه ليقول :
" شكلك كده طينة ومش فاهم حاجة، بس يا خواجة أنت اقف على جنب شوف أي ظابط مرور واسئله عن المكان اللي حابب تروحه وهو هيساعدك، ربنا معاك "
ختم حديثه يربت على ذراع سالار الذي نظر ليده نظرات جامدة، ثم نظر للرجل بهدوء وملامح منقبضة وقد رأى في عيونه نظرات طيبة وهدوء، لذلك لم يجادله كثيرًا وتحرك بعيدًا مع صامد وصمود ...
فسالار كان من ذلك النوع، وحشًا في المعارك، مرعبًا في الحياة، لين القلب مع من يحب، ومن يرى منه لينًا.
يبحثون في تلك البلاد عن الملكة، يسألون البعض احيانًا ويستقلون السيارات أحيان أخرى وقد بدأ سالار يفقد هدوءه المستحدث ويشعر بالغضب الشديد يملئ صدره ..
مسح وجهه يتحرك صوب أحد المقاعد يستقر عليها وهو يدور بنظراته في المكان حوله تنقبض ملامحه لسماع موسيقى صاخبة احيانًا، وأخرى هادئة بكلمات سيئة بحق البعض تصف مفاتن الحبيبة كما يصفها المغني، والأخرى تتغزل في طريقتها، وكل هذا جعله يغمض عيونه مستغفرًا وقد انتفض جسده يتحرك بعيدًا عن تلك النقطة دون أن يبرر لصامد وصمود شيء ...
واخذ يسير بها يبحث عن ركنٍ لا يصل له الشيطان بمعازفه، ولا تلحقه تلك الكلمات الفاسدة، ولا يدري من أطلق عليهم عالم المفسدين لكنه كان محقًا، بالله ما رأى يومًا مفسدين بقدرهم، ليس هنا في هذه البلاد فقط، على الأقل هنا يسيرون بثياب، لا ينسى تلك البلاد التي رأى الرزائل تُمارس على مرأى ومسمع من الجميع، بل ويتأملها البعض باستحسان ويصفونها عبثًا بالرومانسية .
مشاهد مقززة وحياة فاسدة، على الأقل هنا، يرى البعض بثياب ساترة والبعض الآخر يسير بمسبحة، مشاهد قد تعطيك بعض الأمل بجيلٍ صالح، ربما تفعل .....
فجأة توقفت اقدام سالار حينما تناهى لمسامعه صوتًا جعل قلبه يرتجف، ابتسم يسير خلف ذلك الصوت، وفي لحظة أصبح يهرول، يهرول خلف اصوات القرآن، وكأنه وجد نورًا في نهاية نفق مظلم، هناك صوت للحق يعلو وسط هدير الباطل .
توقفت أقدامه أمام محل صغير ملئ بالعديد من الأجهزة الغريبة له، لكنه لم يهتم يطأ ذلك المكان يتنفس براحة، بالله لم يصدق أن أمرًا كسماع القرآن والذي كان شيئًا معتادًا له، قد يمثل حاجة ملحة الآن.
" السلام عليكم يا عم "
استدار رجل كبير في العمر قد بلغت التجاعيد جسده، لكن على الرغم من ذلك كان مبتسمًا بشوشًا يسر القلب ..
" عليكم السلام يا بني، اتفضل "
ابتسم له سالار بسمة صادقة حنونة يتحرك صوبه يقول بهدوء :
" لقد سمعت صوت القرآن يصدر من محلك أثناء تحركي في الخارج واردت المجئ لارى من أين يأتي"
نظر له الرجل بعدم فهم لثواني لتطرأ في رأسه فكرة أنه لربما كان سائحًا بسبب هيئته ولهجته الغير معتادة بين أبناء شعبه :
" أنت فاهمني ؟!"
" نعم افهمك لا تقلق، افهم الكثير من حديثكم "
ابتسم له الرجل يجذبه صوب أحد المقاعد وقد سعد قلبه لأجل حديث ذلك الرجل ذو الوجه المنير :
" ده المنشاوي، تعرفه ؟! هو قارئ مصري قديم، بس صوته وترتيله جميل اوي، أنت... أنت مسلم ؟؟"
ابتسم له سالار يشير برأسه صوب صامد وصمود أن يجلسا بعدما كانا ينتظران أوامره، ثم نظر للرجل يقول بصوت هادئ مريح للنفس :
" الحمدلله الذي هدانا يا عم، أنا مسلم ابًا عن جد "
شعر الرجل بسعادة كبيرة يطلق من فمه دون شعور ( ماشاء الله ). ..
ربت سالار على كفه، ثم تساءل بفضول شديد :
" أخبرني يا عم، ما الذي يحدث هنا، فمن بين كل تلك المنكرات ما سمعت سوى صوتًا واحدًا للحق، ما بال الجميع في الخارج لا اسمع منهم ذِكرًا "
ابتسم له العجوز يتحرك من المقعد صوب أحد الأجهزة في ركن محله يقول بهدوء شديد :
" تقدر تقول يا بني أن الباطل مغرياته أكثر من الحق، والسييء متزين اكتر من الجيد، هتلاقي كده وكده، هتلاقي برة اللي ماشي يتمتم مع الاغاني، واللي ماشي يردد اذكاره، اللي رايح لعمل خير واللي ماشي ناوي شر، مفيش زمن فيه شر خالص، الفكرة إن الباطل بجح وبيعلن عن نفسه، وصاحب الحق حييّ صامت "
ابتسم سالار لحديث ذلك الرجل الذي أراح صدره وقد أعطاه املًا أن ملكتهم قد تكون من هؤلاء الذين نفروا الباطل، واتبعوا الحق .
فجأة تقدم منه الرجل ومد يده له بمشروب وقال ببسمة وهو يشير لصامد وصمود :
" خد اشرب يا بني، واقعد زي ما تحب هنا المكان مكانك "
ابتسم له سالار يتقبل منه ذلك الكوب وقد تقدم صامد وصمود بلهفة لتجربة ذلك المشروب وجلسا جوار سالار الذي ارتشف منه بتلذذ يسمي الله :
" أخبرني يا عم، ما هذه الآلات الغريبة التي تقوم ببيعها ؟؟"
نظر الرجل حوله ثم قال ببسمة :
" دي انتيكات يا ابني، حاجات قديمة يعني، راديو وأجهزة تليفون قرص وكتب قديمة وغيرهم "
ختم حديثه يتحرك صوب أحد الارفف يحضر شيئًا ما ثم عاد له يمد يده بساعة تبدو قديمة الطراز :
" خد دي تذكار من المحل عشان تبقى ترجع تاني "
رفع سالار نظره للرجل الذي كان مبتسمًا، ليشعر بألفة غريبة جعلته يقول ببسمة :
" لا اعتقد أنني قد اعود يومًا يا عم "
" متقولش كده، اللي جه مصر في يوم، مسيره يرجع ليها يا بني، هيجي اليوم وتحن وترجع ليها "
هز سالار رأسه بتقبل منه تلك الساعة التي كانت غريبة عليه، لكنه لم يقل الكثير يدسها داخل طيب بنطاله :
" ربما ...طالما أن تلك البلاد تمتلك من هم مثلك فربما اعود يا عم، ربما يومًا ما "
ختم حديثه يدس يده في جيبه الآخر يخرج سرة من العملات الذهبية و وضعها على المكتب دون أن ينتبه له الرجل الذي كان يعطيه ظهره وهو يتحدث بخفوت :
" البلد دي يابني والله فيها ناس كتير طيبة وعلى نياتهم، ومن كلمة يبتسموا وكلمة تانية يزعلوا، شعب طيب والله "
ربت سالار على كتفه :
" نعم يا حاج أنتم كذلك، والان استأذنك عليّ الرحيل للبحث عن ضالتي "
" باذن الله تلاقي اللي بتدور عليه "
غادر سالار ومن معه تاركًا الرجل يبتسم، لهم ثم عاد ليحمل اكواب الشاي الفارغة، لكن فجأة توقفت أنظاره حينما أبصر كيس قماشي غريب جعله يحدق فيه بريبة، امسك الكيس بعدم فهم ليشعر باهتزاز شيء فيه، فتحه بفضول ليبصر العديد من العملات الذهبية التي جعلت عيونه تتسع وينظر للباب بصدمة كبيرة فاغر الفاه ...
______________________
وسالار ابتسم ييير في المكان براحة شديدة وقد ذهب عنه الضيق، وكأن سماعه لآيات القرآن أعطاه طاقة أمل كبيرة .
وهكذا قضى نهار آخر يدور وسط البلاد قبل أن يأخذه صامد وصمود صوب أحد الأماكن التي تسمى فنادق وبات ليلته هناك وهو يهمس لنفسه بتعب :
" أين سأجد تلك الملكة، اشتقت لحياتي وجيشي "
________________
وعلى الجانب الآخر..
كانت تبارك تقف في نافذة أحد الممرات في المشفى، إذ كانت تلك الليلة قد حصلت على ساعات عمل إضافية في المساء اضطرتها للمبيت داخل جدران المشفى، ابتلعت ريقها وهي تتذكر أنه من بعد ذلك اليوم الذي تحدثت فيه لعلي لم تره، اختفى وقيل أنه سافر لاقاربه..
حاولت أن تتناسى كل ذلك وتشرد بالسماء علها تهدأ بعض الشيء، لكن فجأة سمعت صوتًا خلفها ينادي باسمها :
" تبارك يلا عشان فيه عمليات والدكتور طالبك معاه"
تحركت من مكانها تتنفس بصوت مرهق وهي تهمس :
" يارب يا معين، الفرج من عندك يا رب "
_________________
صباح اليوم التالي وبعد سير طويل، ارتكن الثلاثة صوب أحد المقاعد التي تقبع في الطريق، صامد وصمود يرتاحان، بينما سالار يفحص الكرة وهو يهمس بصوت هادئ لا حياة فيه فلا تدري أساخطًا كان أم غاضبًا :
" أقسم أن خوض حرب لأيام طوال مع المنبوذين أكثر سهولة مما أفعل الآن، أين سأجد الملكة في هذه البلاد الضخمة؟! اشعر أنني ابحث عن إبرة في كومة قش"
فجأة وأثناء حديثه ذلك سمع صوت صمود يقول مقترحًا بصوت منخفض لصامد :
" لِمَ لا نعود للمملكة ونخبرهم أننا عجزنا عن إيجاد الملكة ؟!"
أجابه صامد بحنق :
" وهل تعتقد أن القائد سيعترف بالهزيمة في مهمة وكّلت له ؟؟ أنت تحلم "
نظر صمود لصامد يميل عليه أكثر فقد كان يفوقه طولًا بشكل مبالغ به :
" إذن نعود وحدنا ونخبرهم أننا فقدنا أثره هنا، أو ربما نخدره ونسحبه بالقوة صوب المملكة "
ابتسم صامد بسمة خبيثة وقد أعجبته تلك الأفكار، فهو مل حقًا كل ذلك، نظر حوله يهمس له بالمقابل :
" ونصبح نحن قائدي الجيوش بعدما يعزله الملك أو يعدمه لمخالفته الأوامر "
اشتعلت أعين صمود بالحماس الشديد، وقد بدأ يبادل رفيقه البسمة الماكرة، لكن فجأة انتفض الاثنان على صوت سالار الذي قال ببسمة وهو ما يزال يحدق أمامه ببرود شديد :
" أو افضل، يمكنني قتلكما وإحضار الملكة والعودة للمملكة، وحينها لن احتاج لتقديم حجج مثلكم، فلن يتساءل أحد عنكما على أية حال "
نظر له الأثنان بصدمة كبيرة وقد على سؤال ملامحهما والتقطه سالار بوضوح يجيب بسخرية :
" اصواتكما كانت عالية "
ابتلع صامد ريقه يسارع بالقول :
" نحن لا نقصد ما فهمته يا قائد، نحن بالطبع لن نتخلى عنك أو عن ملكتنا، صحيح صمود ؟؟"
وضع صمود يده جهة قلبه يظهر له الاحترام والطاعة :
" نفديك بأرواحنا قائد سالار "
نهض سالار عن مقعده يقول بملامح لا تخبرك ما يخفي خلفها :
" ارواحكما تلك سأستخرجها بيدي العارية حينما ننتهي من كل ذلك، الحقوا بي "
تحرك وهم نظروا لاثره بريبة، ونظر الاثنان لبعضهما البعض، وقد قررا خفية أنهم لن يسمحوا لتلك المهمة بالانتهاء إن كانت حياتهما ستنتهي بنهايتها، أو هكذا رسم لهما عقلهما الصغير ..
بعد ساعات أخرى من التحرك هنا وهناك، خلف الكرة توقف الثلاثة واخيرًا أمام مبنى من ثلاثة أدوار في مكان مزدحم وفوق ذلك المبنى لافتة مهترئة الاحرف ( مستشفى الأمل والحياة ) .
أخفض سالار رأسه صوب الكرة لا يصدق أنه وجدها، أسبوعين يتنقل بين البلاد يصعد لالات غريبة غير مريحة تتحرك به، ومن ثم يسير طويلًا بين الطرقات، دون أن تغفل عيونه لحظات أو ينام .
واخيرًا أصدرت القلادة لونها المميز الذي يخبره أنه، وصل حيث تقبع الملكة، وقبل منتصف الشهر بيومٍ واحد
ابتسم سالار بانتصار وهو يرفع رأسه صوب المشفى قائلًا بصوتٍ مخيف :
" ها نحن ذا يا احمقان، استعدا لحصد ارواحكما...."
________________________
بداية الحرب شرارة ...وبداية الحب نظرة .
وحبها كان حربًا لا خيار فيها سوى الانتصار .