اخر الروايات

رواية رحلة الآثام الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم منال سالم


الفصل التاسع والعشرون
(كُتب عليها الفراق)
أزاحت برقةٍ طرف الستارة البيضاء المنسدلة على زجاج الشرفة، لتتأمل الحديقة المورقة أمامها، لفت أنظارها ذلك الصغير الذي كان يركض بتعجلٍ في الأنحاء، وعلى وجهه تكشيرة عظيمة، تعلقت عيناها به إلى أن اختفى عن مدى بصرها، أصاب بدنها نفضة صغيرة عندما سمعت صوتًا مألوفًا يأتي من خلفها ليخاطبها بترحيبٍ حار:
-شرفتي بيتي المتواضع يا "ناريمان" هانم، ولو إني زعلان إن "شوقي" بيه مجاش بنفسه.
استدارت لتنظر إليه، وخاطبته في لطافةٍ مماثلة لها:
-كلك ذوق، هو بابي مشغول، وإلا مكانش بعتني!
ابتسم في تهذيبٍ، وعلق بتغزلٍ عفيف وهو يدنو من موضع وقوفها:
-ده عشان حظي الحلو.
تجاوزت عن تلميحه المتواري، معتبرة إياه مجرد إطراء تقليدي، وسألته في قدرٍ من الاهتمام بعدما تحركت مبتعدة لتجلس على الأريكة الجلدية:
-إنت ناوي تستقر هنا خلاص؟
لم يعطها ردًا قاطعًا حينما أجابها، وهو يجلس مجاورًا لها:
-على حسب الوضع والظروف.
استرعى ذلك فضولها، فانتقلت لسؤالها التالي:
-وأملاك العيلة؟
جاء رده بسيطًا ومباشرًا:
-"سامي" هيتولى المسئولية، وأنا واثق إنه هينجح.
مطت فمها للحظةٍ، ثم أخبرته بهدوءٍ، وهذه النظرة المتشككة تطل من عينيها:
-مع إن في كلام تاني كنت سمعاه بيقول العكس.
تغاضى عن التورية الخفية في كلامها عن وجود خلافات سابقة بين الشقيقين، ورد بدبلوماسية جيدة:
-الناس مابتبطلش كلام، المهم الأفعال في النهاية.
أعجبها رده الاحترافي، ووافقته قائلة:
-معاك حق.
في نعومة ظاهرة على تصرفاتها، أخرجت من حقيبة يدها الصغيرة علبة سجائرها الذهبية، التقطت واحدة، ووضعتها بين شفتيها، فراح "مهاب" يميل ناحيتها بعدما أخرج ولاعته من سترته ليشعلها لها. أخذت "ناريمان" نفسًا سريعًا، وحررته مثلما استنشقته، لتسأله:
-صحيح، ده ابنك اللي شوفته في الجنينة؟
لاحت ابتسامة لبقة على محياه وهو يرد:
-أيوه، "أوس".
رفعت حاجبها للأعلى، وتابعت:
-فيه شبه منك.
صحح لها بتفاخرٍ:
-هو واخد أكتر من الباشا "فؤاد" الله يرحمه.
هزت رأسها قليلًا، واكتفت بما قامت بتدخينه من سيجارته، لتطفئ طرفها في منفضة السجائر المصنوعة من الكريستال. تساءل بعدها "مهاب" في نبرة مهتمة:
-تحبي تشربي إيه عقبال ما الغدا يجهز؟
أعادت وضع علبة السجائر بداخل حقيبتها، ثم نهضت من موضعها هاتفة في اعتذارٍ منمق:
-ميرسي، مش عاوزة، أنا عاملة ريجيم.
بعبوسٍ زائف ردد وهو ينهض بدوره:
-معقولة تبقي عندي وترفضي أقوم معاكي بالواجب؟ كده هزعل بجد!
مدت يدها لمصافحته تمهيدًا لانصرافها وهي تقول:
-مرة تانية، عن إذنك.
لم يترك يدها، بل رفع أصابعها الناعمة والمضمومة معًا إلى فمه ليطبع قبلة صغيرة عليهم، واستأذن منها:
-اسمحيلي أوصلك.
الرقي الذي كان عليه معها أشعرها باهتمامًا كبيرًا نحوها، وتقديرًا غير عادي لشخصها، رغم كونه يملك أضعاف ما تستحوذ عليه عائلتها، ومع ذلك عاملته بأسلوبها المتعالي، وخاطبته في رسمية:
-السواق منتظرني برا.
استعادت يدها، وسارت نحو الخارج، وهو إلى جوارها يسير على خطاها المتمهلة، نظر إليها متسائلًا:
-هتفضلي هنا؟
أجابته بعد زفير خاطف:
-لأ، هرجع الفندق، وبعدين على المطار.
في تلك الأثناء، كان الصغير يتجول بالبهو المتسع، فناداه والده بصوتٍ مرتفع:
-"أوس"! تعالى!
التفت الصغير إليه، واتجه ناحيته مركزًا كامل نظراته الحادة على الضيفة الغريبة، أشار إليه أبيه ليرحب بها وهو يأمره:
-سلم على "ناريمان" هانم.
استجاب لأمره، وصافحها، فداعبت بيدها الأخرى الطليقة خصلات شعره، وسألته في لطافةٍ:
-هاي، إزيك؟
اكتفى بالإيماء برأسه، وانصرف في هدوءٍ دون أن ينطق بشيء، فاندهشت لطريقته المتجافية معها على عكس بقية الأطفال الفضوليين، ممن يتسببون في إزعاج من حولهم بضجيجهم غير المنقطع، واستحثها ذلك على سؤال "مهاب":
-على كده مين بيهتم بيه؟
ادعى استغراقه في التفكير، ليجيبها بتريثٍ:
-طول ما أنا موجود باخد بالي منه، لكن لو مسافر، بيكون مع مامته، والمربية، يعني بحاول محسسوش إن انفصالنا أثر عليه.
سألته في تسرعٍ ندمت عليه لاحقًا:
-وإنت انفصلت ليه؟
تلك اللمحة من التطفل استغلها ببراعة ليحيك شباكه من جديد، فأخبرها بوجهٍ مال للحزن، وبتعبير مؤثر:
-مامته اللي كانت عاوزة ده!
حلت بها دهشة أكبر، وانعكس ذلك على نظراتها إليه عندما تابع في صوت به رنة شجن:
-وأنا مقدرش أفرض نفسي على حد مش حابب أكون في حياته.
لم تعرف بماذا تعلق، فمارس أكثر ما يجيده وهو اللعب على الأحاسيس المرهفة، استنشق الهواء بعمقٍ ليدعي خنقه لنوبة بكاء تداعب صدره، وأبدى اعتذاره الحرج:
-أسف، ضايقتك من غير ما أقصد.
قالت في تفهمٍ:
-لأ، عادي، يدوب ألحق أمشي.
أكمل سيره معها للخارج حتى بلغ سيارتها، عندئذ ودعها بنفس الحرارة التي استقبلها بها:
-هنتظر زيارة تانية تكون أطول.
ردت باسمة في رقة:
-أكيد.
لوح بيده لها بعدما انصرفت بسيارتها، ليدندن بصافرة مغترة وقد استشعر نجاح أول خطوة في الإيقاع بفريسة جديدة، تستحق المثابرة والقـــــــــتال لأجلها!
..............................................
أكاذيب، ومراوغات، وألاعيب، وخدع مقنعة، كانت وسائل المعيشة والحياة مع كليهما، وكأنهم كالماء والهواء، لا يستطيع أيًا منهما العيش بدون اللجوء إلى واحدة من هؤلاء. كان "أوس" موجودًا بالمصادفة عندما استرق السمع إلى أبيه وهو يدعي بالكذب على والدته بأنها المتسببة في الانفصـــال، وأنه لم يعاملها يومًا إلا بالحُسنى والمحبة الغالية، أحس بشيء يخنقه، بالدماء تغلي في عروقه، فقد شهد بأم عينيه كيف قاست، وعانت الويلات لتهرب من جحيمه، ومع ذلك لم يتركها تنعم بالسكينة والسلام، ما زال حضوره طاغيًا على حياتها، وما زاد الطين بلة أنها تزوجت بشبيهه، لا يختلف عنه كثيرًا سوى في حلاوة لسانه التي ساقتها بإرادتها إلى جنته الزائفة، فمن خلفها تقبع جهنم أخرى، لا نجاة منها!
كان يخشى أن تلاقي نفس المصير مع ذلك البغيض الذي تذوب عشقًا فيه، وخلافاتهما الأخيرة أعطته هذا الانطباع الكبير. انزوى "أوس" بنفسه في غرفته، وحاول سد هذه الأصوات المتداخلة التي تصرخ في عقله ليردد في هسيس متشنج:
-كفاية، مش عاوز أسمع حاجة، كفاية!
على ما يبدو تحولت نبرته لصيحة عالية دون أن يدري، ليأتي والده مقتحمًا الغرفة على إثر هديره الغريب، نظر إليه مدهوشًا، وسأله:
-في إيه يا "أوس"؟
وكأنه لم يبصر قدومه، ظل جالسًا على فراشه، يوليه ظهره، ويهزه في تتابع متوتر، مما أجبر "مهاب" على التحرك صوبه، وإيقاف حركته المريبة تلك وهو يعيد تكرار سؤاله عليه بصيغة أخرى:
-حصل إيه؟
نفض قبضته عنه، وطالعه بهذه النظرة الغريبة الفارغة من الحياة، ليتكلم بعد صمتٍ:
-مافيش، عاوز أنام.
جلس والده على طرف الفراش، وخاطبه في صوتٍ هادئ؛ لكنه جاد كذلك:
-لو كنت شوفت كابوس فماتخافش، ده مش حقيقة.
ظل الصغير يطالعه مليًا، إلى أن قال في الأخير، كأنما يردد ما سمعه دون أن يعيه جيدًا:
-أه، كابوس.
ربت "مهاب" على كتفه في محبةٍ، وأكد عليه:
-اطمن، محدش يقدر يأذيك، إنت ابن "مهاب الجندي"، وريث العيلة، واللي يفكر في ده همحيه من الوجود.
بدت ردة فعل "أوس" جامدة، غير مفهومة لأبيه، فما يمر به يؤلمه نفسيًا لا جسديًا! حينما وجده ساكنًا استحثه على الاستلقاء قائلًا:
-ارجع نام تاني وماتقلقش.
استجاب له، وتمدد على السرير، تاركًا لوالده مهمة تغطية جسده، فأخبره الأخير كأنما يعلمه:
-أنا مسافر بكرة، فهسيبك مع الناني بتاعتك، وهكلم أمك لو عاوزة تاخدك عندها اليومين دول، ولو إنها مابتصدق تبقى مع "ممدوح"!
وكأن في سيرة هذا البغيض شيئًا محفزًا لاستثارة الأعصاب، لم يستطع كبت مشاعره الكارهة لزوج أمه، وهتف رافضًا الأمر:
-مش عاوز أروح عندها.
عارضه "مهاب" بإصرارٍ، غير مكترث للتحول الغريب الذي ظهر على ملامحه:
-ماينفعش تفضل لواحدك، هما يومين وهرجع تاني!
ظن أن ما يقوم به طفله مجرد تدللًا فارغًا، فأمره في صوت صارم:
-غمض عينك، ونام، وأنا هبص عليك كمان شوية!
كان على وشك الاحتجاج عليه بعنادٍ طفولي؛ لكن قدوم المربية أسكته، فقد وقفت عند عتبة الغرفة ترتدي ثيابًا كاشفة، فاضحة، لا تستر جسدها، لتتحدث في ميوعة وإغراء:
-سيدي، أنا مستعدة لـ...
أخرسها "مهاب" بصوته الآمر والمصحوب أيضًا بإشارة من يده ليصرفها:
-اذهبي من هنا، وانتظريني بغرفتي.
ابتسمت بطريقة مليئة بالإغواء قبل أن ترد:
-سمعًا وطاعة.
عاود النظر إلى طفله، ومسح على جبينه قائلًا:
-أنا هسيبلك نور الأباجورة.
بقيت نظرات الصغير معلقة بأثر طيف المربية التي رحلت، وصوت أبيه لا يزال يرن في أذنه:
-وافتكر إن ابن "مهاب الجندي" ما بيخافش، اتفقنا؟
وقتئذ باعد نظراته عن فرجة الباب ليتطلع إليه، فاكتفى والده بتشجيعه وهو يتأهب للانصراف:
-برافو عليك.
ذهب هو الآخر ليلحق بما يسر نفسه ويبهج جسده، تاركًا إياه يتخبط من جديد في زمرة مشحونة من الخواطر والأفكار المؤرقة.
.................................................
جلس مكللًا بحزنه، وهمومه، وخوفه، وارتياعه، فما أصاب زوجته من إعياء مفاجئ جعله يضطر لأخذها للمشفى الحكومي، خاصة أنها تحمل في أحشائها طفله الغالي. ارتكن بظهره على الحائط رافضًا الجلوس، وثبت عينيه على باب الطوارئ منتظرًا خروج أحدهم من الداخل لطمأنته، لم يتوقف لسانه عن التضرع والدعاء للمولى عزوجل، اغرورقت حدقتاه بالدموع، وكفكف ما انسال على وجنتيه بظهر كفه ليستقيم واقفًا عندما لمح أحدهم قادمًا في اتجاهه، تساءل في لوعةٍ، وبصوت شبه باكٍ:
-أخبارها إيه؟
أجابه الطبيب موضحًا الدور الذي قام به:
-احنا عملنا غسيل معدة للمدام، بس هنسيبها تحت الملاحظة يومين، وخصوصًا إننا مش عارفين تأثير السم إيه على الجنين.
ذعر كليًا حينما علم بالحقيقة القاسية، وردد في ذهول مصدوم:
-سم؟!
أكد له ما سمعه:
-أيوه، العينة الأولية اللي اتفحصت وضحت وجود سم.
لم يجد الطبيب بدًا من حثه على الاستعداد لمواجهة المزيد من المصائب، فأوصاه بكلماتٍ منتقاة بعنايةٍ:
-عاوزك تشد حيلك، وتتوقع أي حاجة.
تهدل كتفاه، وأطرق رأسه في حزنٍ شديد، لم يطرأ بباله مطلقًا أن تلجأ والدته لارتكاب جريمة كتلك لمجرد أنها لا تطيق زوجته، راح لسانه يهمهم في تحسرٍ عظيم:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، طب ليه كده؟!!
بقدمين متخاذلتين، سار كأنما يجرجر جسده وهو لا يزال تحت تأثير الصدمة القوية، ويردد لنفسه في غير تصديقٍ:
-ليه يامه؟ إنتي تقــــتـلي روح؟ لأ ومش بس واحدة، اتنين!!!!
.......................................
مدفوعًا بغضبه، وحزنه العميق، قرر الذهاب إلى والدته ومحاسبتها على جريمتها الشنعاء، لكنه لم يذهب خالي الوفاض، بل أحضر معه وعاء الملفوف ليكون دليلًا ملموسًا على فعلتها الدنيئة. تنقل "عوض" بين وسائل المواصلات المختلفة، وتحامل على نفسه الإرهاق، وتأثير الوجع حتى وصل إليها في وقتٍ متأخر من الليل. تفاجأت أمه من حضوره، وسألته في جزعٍ عندما وجدته واقفًا بوجهه الغائم، ونظراته القاتمة عند عتبة باب بيتها:
-"عوض"؟ إيه اللي جابك السعادي؟
أجابها في وجومٍ:
-اتخانقت مع "فردوس" وسبتلها الدنيا، وجتلك.
أفسحت له ليمر وهي تخاطبه في نبرة أمومية متحيزة ضدها:
-تعالى يا ضنايا، إلهي تتشك في معاميعها.
ظلت يداه قبضتان على الوعاء المغلف بملاءة قديمة، أجلسه في حجره بعدما جلس، وأصغى إليها بتعبيره المكفهر وهي تكلمه:
-قولتلك من الأول دي ما يطمرش فيها أي معروف، وإنت برضوه مصمم عليها.
نظر لها بعينيه المحتقنتين، وقال في صوتٍ جاف أجش:
-ما أنا فوقت لنفسي وعرفت غلطتي.
امتدحت تصرفه قائلة:
-أخيرًا سمعت كلامي.
سلط عليها نظراته المحتدة، وتابع في ازدراءٍ:
-ده خسارة فيها اللقمة اللي تعبتي نفسك عشانها.
وقتئذ اسودت ملامحها، وسألته بعينين متسعتين:
-هي مكالتش من المحشي؟
أزاح الملاءة القديمة عن الوعاء وهو يجيبها:
-لأ، خدته منها، ما تستاهلش، وقولت ناكله سوا.
ازداد اتساع نظراتها المصدومة، فأكمل حديثه معها وهي ينزع الغطاء ليمسك بقطعة من الملفوف، استعدادًا لقضمها:
-أصل أنا واحشني طبيخك يامه.
في رعب جلي استوقفته قبل أن يدس القطعة في جوفه:
-ماتكلش منه يا "عوض"؟
غامت نظراته، وامتلأت بعلامات الاستنكار وهو يسألها:
-ليه يامه؟
ترددت، وارتبكت، وأصبحت في حالة من التوتر الشديد وهي تبحث عن الأكذوبة المناسبة لتخبره بها، ما إن وجدت واحدة حتى قالت في الحال بصوتٍ مرتعش:
-آ.. هتلاقي عينها فيه، تحسدك، وإنت مش ناقص.
ادعى عدم مبالاته، ولامس القطعة بشفتيه مرددًا بإصرار صريح على تناولها:
-ولا يهمني، هو في زي عمايل إيدك الغالية.
انتفضت قائمة لتمسك بيده، ثم دفعتها بعيدًا عن فمه وهي تصيح به في صوتٍ مذعور:
-استنى يا "عوض"، ارميه!
حينئذ حدجها بنظرة نارية مميتة، قبل أن يقف ويترك الوعاء جانبًا لتندفع الكلمات خارجة من بين شفتيه كعاصفة هوجاء:
-يعني عارفة اللي فيه؟
انتفض بدنها مع صراخه، فاستأنف صياحه بنبرته اللائمة:
-سم، مظبوط؟
أطرقت رأسها في خزيٍ، فعنفها بلا هوادةٍ:
-جالك قلب يامه تعملي كده فيها؟
منعت نفسها من الرد عليه، فاغتاظ أكثر لصمتها، وواصل هجومه المُدين عليها:
-طب اللي في بطنها ذنبه إيه؟ ما خوفتيش من ربنا؟
لم تستطع النظر في وجهه، وأولته ظهرها مبدية خوفها من عصبيته، وليس لأنها مُدانة من رأسها لأخمص قدميها وتشعر بالذنب أو الندم لاقترافها ذلك في حق الأبرياء، بينما استمر "عوض" في تعنيفها:
-ولا قولتي ده سبحانه غفور رحيم، فعادي لما أخلص منهم سوا.
تحرك ليقف في مواجهتها، وأردف في استهجانٍ أشد:
-ربنا حرم قـــــتــل النفس، تقومي إنتي تعملي أكبر معصية بالبساطة دي؟
بررت له بفجاجةٍ، وكأنها تستعيد بلسانها السليط شجاعتها الهاربة:
-هي خدتك مني، ومن قبلك أخوك، عاوزني أستنى يجي نسلها الشيطاني يقضي على كل حاجة لسه باقية.
خرجت أنفاسه مع صوته المنفعل ليلومها بقسوةٍ:
-ربنا واحده هو اللي بياخد الروح، ولولا ستره كان زمانك بتقري الفاتحة علينا كلنا.
وجلت من نبرته الغاضبة، وانكمشت على نفسها، مجددًا سدد "عوض" نظرة عدائية لوالدته قبل أن يخبرها بقراره الحاسم:
-إنتي خسرتيني يامه، وأنا مش مسامحك على أذيتك لمراتي واللي في بطنها.
شهقت مصدومة، وحاولت الدفاع عن نفسها، فلم يمنحها أي فرصة، وقال وهو يتجه بخطواتٍ شبه راكضة نحو الباب:
-ادعي ربنا إنه يسامحك، لأنه زي ما بيعفو، فعقابه شديد ومُهلك!
فتحه، وأولاها ظهره لينهي كلامه بقوله الفيصل:
-دي هتبقى آخر مرة تشوفيني فيها.
هرولت خلفه لتستوقفه، فلم تتمكن من اللحاق به، ورغم هذا رفعت من نبرتها ليسمعها وهي تخاطبه:
-بكرة تعرف يا "عوض" عملت كل ده عشان مصلحتك.
انتفخت عروقه، واحمر وجهه بغضبه المستعر؛ لكنه لم يتطلع خلفه أبدًا، بقي لسانه فقط يردد:
-لله الأمر من قبل ومن بعد!
.....................................
الوحدة، القـــــاتل الصــامت الذي يسلب الروح رويدًا رويدًا، إلى أن تغادر الجسد وتتركه بقايا محطمة، منكسرة، لا يمكن مداواة جراحها بسهولة. لم تستطع "تهاني" استجماع نفسها بعد قرار "ممدوح" بهجرها، كانت تفتقد وجوده، تشتاق إلى قربه، أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار الكلي، كذلك عزز بُعد صغيرها عنها ذلك الشعور الموحش بداخلها، فصارت محاصرة بين أشد الأوجـــاع وطأة ومرارة.
أفرغت علبة المناديل الورقية من محتوياتها، وعيناها لا تكفان عن البكاء، تغلغلت فيها مشاعر الاستياء، وشعرت بالسوء من حالها، ظلت تؤنب نفسها على ما اعتبرته عطائها اللا محدود:
-أنا عملت كل حاجة عشان أرضي اللي حواليا، وأنا فين من ده كله؟ ليه بيحصلي كده؟
واصلت معاتبة نفسها بغير رحمةٍ:
-رضيت بالأسوأ، وجيت على كرامتي عشان ابني، وسكت، وفضلت صابرة ...
تجددت نوبة بكائها، وأصبحت أكثر ألمًا عليها وهي تسترسل:
-ولما الحياة ضحكتلي تاني، وعوضتني براجل بيحبني بجد، دلوقتي عاوز يسيبني.
اتقدت نظراتها بحممٍ من الغضب حينما محورت الدافع الرئيسي وراء انتكاساتها المتعاقبة:
-وكل ده بسببك يا "مهاب"!!
انتفض كل ما فيها، وكأن صحوة عجيبة قد أصابتها، لتهتف في وعيد مشوب بالتصميم:
-أنا مش هستسلم وأسيبك تدمرلي حياتي، لازم أحمي عيلتي منك مهما حصل!
......................................................
سيطرت عليها انفعالاتها، وتحولت لعاصفة من الجنون، فاتجهت إلى مكتب زوجها بالمشفى الجديد لتتواجه معه، لن تترك الأمور معلقة، ولن تسمح بتخريب مسار حياتها. أباحت لنفسها استخدام كافة الوسائل والسبل لاستعادة ما يتم سلبه منها. اقتحمت "تهاني" الغرفة ليتفاجأ بها "ممدوح" وهو جالس على مقعده، نهض قائمًا لينظر إلى حالتها الفوضوية التي جاءت بها متعجبًا منها، لم تكفكف دمعها، وتركت آثار كحلها المسال تشوه وجهها، تقدمت ناحيته لتضرب بكفيها في عصبيةٍ على السطح الزجاجي قبل أن تصيح في تشنجٍ:
-كنت دايمًا بتقولي إنك غيره، وعلى أساس بتحبني، وهتعمل كل اللي يسعدني.
همَّ بقولٍ شيءٍ ما؛ لكنه ابتلع الحروف في جوفه عندما اتهمته:
-بس الحقيقة إنك مفرقتش حاجة عنه.
نظر لها مبهوتًا، فأكملت في حرقةٍ وألم:
-كل واحد فيكم استغلني بطريقته، وأنا اللي اتحطمت ما بينكم.
خوفًا من الفضيحة التي يمكن أن تتسبب فيها برعونتها، وهياج مشاعرها، تحرك من مكانه ناحيتها، وأمسك بها من منبتي كتفيها ليحادثها بتعقلٍ:
-"تهاني"، اهدي، الموظفين هيسمعونا.
نفضت يديه عنها، وصرخت في اهتياج:
-يا ريت يسمعوا ويعرفوا ..
انخرطت في نوبة بكاءٍ أشد وهي تكمل جملتها:
-جايز حد يكون عنده رحمة ويحس بيا.
أحضر سترته، ولف جسدها بها، ثم طوقها من كتفيها، واستحثها على السير معه وهو يخاطبها في هدوءٍ:
-تعالي هنتكلم بعيد عن هنا.
اشتياقها لأحضانه دفعها للتجاوب معه، فمشت وهي تبكي، وصوته يهمس بالقرب من أذنها:
-إنتي أعصابك تعبانة ومحتاجة ترتاحي، وأنا مش هسيبك في الحالة دي.
ردت عليه بشجنٍ:
-محدش حاسس بالنار اللي جوايا.
لم تخجل من رؤية موظفي الفترة المسائية لحالها البائس، وظلت تردد في تحسرٍ متألم:
-كل واحد بيدور على نفسه، وأنا فين من ده كله؟
النظرات الصارمة التي كان يرسلها "ممدوح" لكل من يقابله –بحكم صلته المباشرة وعلاقته الوطيدة بمدير المشفى- كانت كفيلة بإبعادهم عن طريقه، وأيضًا عدم التجرؤ على اقتحام خصوصية الزوجين، اصطحبها للخارج، وأجلسها في سيارته، ليعود بها إلى البيت.
................................................
ما احتاجت إليه حقًا لتنسى حجم المعاناة القابعة بداخل أعمق أعماقها هو الشعور بالأمان والاحتواء، وليس ذلك المشروب المركز الذي أعده لها، على أمل أن يُذهب تأثيره المُسكر إحساسها بألم الفقد والهجر. ملأ "ممدوح" كأسها مجددًا بجرعة أخرى، وناولها إياه لتشربه على فمٍ واحد وهو يطلب منها بخبثه الماكر بعدما استقر كلاهما بالبيت:
-اشربي يا حبيبتي.
المقاومة والرفض كانا ممنوعين عنها، فامتثلت بيأس محبط لكل ما يفرضه عليها، ثقلت رأسها؛ لكن انفتحت مشاعرها أكثر، استمعت إليه وهو يخاطبها في أسلوبٍ ودود:
-"تهاني"، إنتي واحدة جميلة، محدش يقدر ينكر ده.
ابتسمت في مرارة لتغزله بها، ما لبث أن تبخر شبح هذه الابتسامة الباهتة عندما اعترف لها في صدقٍ غريب:
-كنتي صيدة حلوة بالنسبالنا، ورهان احنا الاتنين صممنا نكسبه، بس بعد فترة بتلاقي الواحد زهق، وبيدور على حاجة جديدة.
بدا لحظتها وكأن صورته تهتز، وجهه يتشوش، وصوته يتباعد وهو يستفيض في اعترافه:
-حظك رماكي في طريق اتنين ما بيعرفوش يحبوا إلا نفسهم وبس، ومش فارق معانا إن كان في حد هيتأذى مننا ولا لأ.
عادت ابتسامتها المريرة تتشكل على زاوية فمها، خاصة عندما صارحها:
-مانكرش إني انجذبت ليكي شوية، بس ده لأني بغير من "مهاب"، اشمعنى هو ياخد كل حاجة وأنا البواقي؟
وقتها ردت عليه في صوتٍ ثقيل مغلف بالحزن:
-أنا حبيتك يا "ممدوح"، سلمتك قلبي وجسمي وكل حاجة.
آنئذ التصق بها، وحاوط وجنتها براحة يده، لتشعر بملمس أصابعه على بشرتها الساخنة، وبصوته يهمس في حرارة عند شحمة أذنها:
-وأنا للأسف .. ماحبتكيش!
سالت الدموع من عينيها مع طلبه المفطر لقلبها:
-أفتكر فراقنا أحسن الفترة دي.
احتضنت يده بكفيها، وكأنها تتشبث به، لتتوسله بعدها في استجداءٍ:
-ماتسبنيش يا "ممدوح"، أنا بحبك.
حاول استعادة يده برفقٍ؛ لكنها استمرت تستعطفه باستماتةٍ:
-أرجوك، ما تعبدش عني، أنا من غيرك ولا حاجة.
لن ينكر أن شيئًا بداخله تحرك تجاهها رغم جهده لإقصائها عن حياته، وكان مصحوبًا بتأثير غرائزه، فمال عليها متلمسًا جانب شفتيها بخاصته، ليخفق قلبها بقوةٍ. تنهيدة عميقة تحررت من فمها، وراحت رعشات جسدها المتواترة تستثيره ليصبح على أعتاب الاستسلام لدعوتها المُلحة بإخماد لهيب الأشواق المتأجج في جسديهما. استجاب لندائها المحمل بكل ما يرجوه، وهمهم في صوت بالكاد التقطته أذنيها:
-ده هيكون وداعي ليكي ...............

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close