رواية وريث آل نصران الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم فاطمة عبدالمنعم
بسم الله الرحمن الرحيم
عصفور وتركت العش، و ظننت الجنة بستان
لكن ظنوني قد خابت، ووجدت العالم بُهتان
ضللتني الطرق ولم ترحم حتى صار الحلم هباء
فصرخت أطالب بالنجدة.. أين العش لقلب تاه؟
وكأن انفجار حدث للتو، وهو هذا الانفجار... قامت "سهام" لتغادر وهي تسمع عبارته التي أمرتها بالخروج ولكن قطع ذلك دخول "طاهر" الغرفة وهو يقول:
في ايه يا ماما؟
تنهد "عيسى" بانزعاج وحاولت "سهام" معالجة الموقف وهي تقول مبررة:
مفيش حاجة أنا كنت بتطمن على "عيسى"... وهو بس متعصب شوية ومحتاج يرتاح.
رفع " طاهر" حاجبه باستنكار وهو يسأل:
متعصب؟... متعصب على مين بالظبط.. في إيه يا "عيسى" أنا سامعك بتزعق من وأنا داخل.
ضرب "عيسى" على الطاولة وهو يصيح:
محدش ليه زفت دعوة... اخرج برا يلا.
دفعه "طاهر" بيده وشهقت والدته بصدمة وهي تسمعه يقول بغضب:
أنت مالك بتتكلم كده ليه... أنت اتجننت.
لكمه "عيسى" في وجهه ولم ينتظر فصرخت "سهام" وهي ترى تشابكهما ولا تستطيع فضه، أتى "نصران" إلى الغرفة وقد استيقظ الجميع وهرول إلى مصدر الصوت... لم يتوقفا عن التشابك حتى نطق "نصران":
بس أنت وهو.
ابتعدا بصعوبة فسأل " نصران" وعيناه تحاوطهما:
ايه اللي حصل؟
تدخلت "سهام" قبل أن يتورط ابنها:
أنا و "عيسى" كنا بنتكلم مع بعض وشدينا شوية، "طاهر" دخل يشوف في ايه "عيسى" ضربه واتخانقوا.
اعترض "طاهر" على ما تقوله والدته:
لا يا بابا محصلش كده "عيسى" مضربنيش ...
أنا و "عيسى" شدينا مع بعض زي أي اتنين.
تحرك "نصران" حتى أصبح أمام "عيسى"، والجميع ينظر بترقب حتى سأله:
ضربته يا " عيسى" ؟
هز رأسه قائلا بعينين لمع فيهما انفعاله:
اه.
صفعة قوية هوت على وجهه، جعلت "رفيدة" تنتفض بصدمة، و "حسن" وشقيقه يحاولان الإبعاد بينهما... فجذب "عيسى" سترته وغادر الغرفة بأكملها،
وقد تركهم خلفه ولا سائد غير الفوضى .
★***★***★***★***★***★***★***★
في غرفتهما وقد تمددا على الفراش، واحتضنت "مريم" والدتها قائلة:
مالك بس يا ماما زعلانة ليه؟
كان هدوئها مماثل لسكون الليل حتى قطعه سؤال ابنتها فأجابت:
هو أنا زعلانة بس؟... ده أنا مقهورة.
حاولت "مريم" المزاح وإخراجها من حالتها هذه:
مقهورة علشان مزغرطناش في كتب الكتاب؟..
طب ما أنا قولتلك أزغرط قولتيلي اسكتي.
استطاع حديثها إضحاك والدتها فتابعت برضا:
أيوة اضحكي كده، مفيش حاجة تستاهل التكشيرة دي... وبعدين "عيسى" ده أنا حساه شخص راسي كده ومش حد يتخاف منه على "ملك".
تبع حديثها انقطاع الكهرباء فنطقت بقلق:
يا نهار أبيض " شهد" .
تركت "هادية" فراشها وأسرعت في سيرها ناحية غرفة ابنتيها قبل أن تستيقظ "شهد" ويتملك الفزع منها... وصلت ومعها "مريم" إلى الغرفة وفتحت الباب فوجدت ما توقعت ابنتها "شهد" تبكي بعنف و"ملك" تحاول جاهدة:
طب قومي معايا يا "شهد" هنروح لماما خلاص.
أضاءت "مريم" هاتفها، ووضعته على الطاولة... في حين جلست "هادية" على الفراش وجذبت "شهد" محتضنة تقول بغيظ:
هو أنتِ يا بت مش هتكبري بقى على العمايل دي.
عادت لها الأنفاس من جديد بعد أن أضاء الهاتف الغرفة، وقالت "ملك" بضجر:
فزعتيني، وأنا كنت ما صدقت عيني غمضت يا شيخة.
تابعت وهي تقول ل "مريم" :
تعالي معايا قومي نشوف شمعة ولا كشاف بدل التليفون ده.
غادرا معا، فسألتها "هادية":
بقيتي كويسة؟
هزت رأسها تخبرها أنها أصبحت بخير، فتركتها
" هادية" واتجهت إلى خزانة الملابس الخاصة بها وبشقيقتها، فتحتها وأخرجت علبة من مخبأة بعناية في الأعلى بين الملابس وعادت لها تقول بضحكة واسعة:
امسكي.... هو مش نفس اللي كان معاكِ قبل كده بس هيمشي.
هبت "شهد" تجذبه منها وهي تقول بفرحة غير مصدقة:
لا ما تقوليش... التليفون.
هو كذلك بالفعل، صفقت بحماس وهي تفتح العلبة مخرجة الهاتف منها، تأملته بسعادة ثم قفزت تحتضن والدتها مرددة:
يا أحلى "هادية" في الدنيا كلها.
تحركت "هادية" ناحية الخزانة مرة ثانية تجذب الهاتف الآخر وعندما دخلت "ملك" ناولته لها قائلة:
خدي بتاعك أنتِ كمان.
نظرت له "ملك" بغير رضا وهي تخبرها:
ليه يا ماما كده بس، أنا قولتلك مش عايزة تليفون.
كانت تعلم التزامتهم وإيجار المنزل، والمحل أيضا ولكن قالت والدتها:
متشيليش هم... أنا معايا فلوس، والشغل في المحل كويس الحمد لله، وبعدين أنا بقالي شوية بشيل من الفلوس علشان الموضوع ده فمقصرش معايا في المصروف ولا حاجة.
احتضنتها "ملك" وقد ابتسمت بحنان، ثم رفعت كفها تقبله ناطقة:
ربنا يخليكي لينا.
اعترضت "مريم" حيث نطقت بغيظ:
إلا ما حد افتكرني حتى بشاحن حتى.
جذبتها "هادية" قائلة:
شاحن!... أقصى طموحك شاحن.
تابعت ضاحكة:
خلاص متزعليش...أنتِ المرة الجاية.
احتضنتهم وقد أغمضت عينيها بارتياح حامدة الله على أنها مجتمعة معهن، والأهم هو أنهن بخير.
★***★***★***★***★***★***★***★
إن الفراق صعب، ولكن اللحظة التي نحتاج فيها أحبتنا ونكتشف حينها عدم وجودهم هي الأصعب... جلس "عيسى" جوار قبر شقيقه ووالدته، يحاوطه الظلام، ودموعه تتسابق على وجهه... الاثنان رحلا ولكن روحه تمزقت برحيلهما، أتت به قدمه إلى هنا... فجلس والهدوء رفيقه...لم يعلم إلى متى، ولكن طال جلوسه حتى أتي الفجر وانتشر ذلك الضوء الذي يبعث الراحة في النفوس، تبع ذلك الشروق ومر الوقت ولا يدري كم مر ولكنه استيقظ على صوت جواره ينادي بهدوء:
"عيسى".
فتح عينيه ليجد " طاهر" أمامه، مسح على وجهه بتعب، وجاوره "طاهر" في جلسته قائلا:
يعني ضاربني، وكمان مدوخني عليك؟
نظر "عيسى" إلى وجه "طاهر" فلم يجد أثر فقال:
ما أنت سليم أهو ومحصلكش حاجة.
ضحك "طاهر" في حين استدار "عيسى" يخبره:
أنت فهمت غلط، وأنا كنت متعصب وقت ما أنت دخلت... متزعلش هي أول مرة نتخانق بس مش هتبقى الأخيرة... أنا و"فريد" كنا بنتخانق كتير على فكرة.
ربت "طاهر" على كتفه ناطقا بصدق:
أنا مش زعلان منك يا "عيسى"، ولا كنت عايز الموضوع يوصل لكده أصلا... أنا بس عايز أعرف ليه واخد جنب من ماما كده... ماما يمكن ساعات بتتصرف تصرفات تضايق لكن هي طيبة جدا دي كانت بتحب " فريد" أكتر مني يمكن.
_ "طاهر" افهمني... أنا معنديش مشكلة مع والدتك، أنا بس في حاجة حصلت في الشغل عصبتني وأنا لما بتعصب مش بقدر أسيطر على أعصابي، وهي دخلت... مش عايزك تكون زعلان، ولو فاكر اني واخد موقف منها فمتقلقش ده مش موجود.
طمأنه "عيسى" بحديثه فطلب منه "طاهر":
طب قوم روح معايا... أنا خرجت أدور عليك وفي الطريق بابا اتصل وقالي أشوفك روحت فين متزعلش منه هو كمان.
ابتسم " عيسى" ثم استقام واقفا وهو يقول:
اقرأ الفاتحة ل "فريد" و ماما... ويلا نمشي.
ترك "طاهر" مكانه، وجاور "عيسى" في وقفته، رفع كل منهما كفيه للدعاء ثم ألقيا السلام قبل أن يرحلا من جوار أحبتهما.
★***★***★***★***★***★***★***★
تركت "شهد" المنزل، وهي تستعد إلى يومها الشاق في الجامعة، ولكن توقفت على الدرج وأخرجت هاتفها الجديد تلتقط الصور بالكاميرا الأمامية، ثم نظرت إلى صورتها ناطقة بفرح:
يا عيوني على القمر.
وضعته في حقيبتها وتابعت النزول، لم تكن والدتها قد فتحت المحل، ولكنها وجدت أحد تعرفه جيدا... إنه "يزيد" قد أتى وحينما وجده مغلق رحل بيأس.
نادت عليه فعاد لها مسرعا وهي تسأله:
ايه يا "يزيد" أنت كنت فين كده؟
أخبرها ببراءته التي عهدتها:
أنا كنت جاي اقعد معاكِ شوية، وأشتري شيبسي بس لقيت المحل مقفول.
هي تعلم أن والده لا يتركه يخرج بمفرده لذا سألته:
طب أنت بابا عارف إنك جاي؟
هز رأسه بالنفي وهي يقول:
لا محدش يعرف، أنا صحيت ملقتش بابا... وكله نايم فخرجت اجيلكم.
مسحت على خصلاته وهي تقول بحنان:
طب بص ماما بتفتح المحل كمان ساعة، تعالى أروحك دلوقتي وابقى خلي بابا يجيبك.
أخبرها بفخر:
لا أنا بعرف أروح لوحدي... بس بابا مش بيرضى يخليني أخرج لوحدي.
التقطت كفه الصغير، وسارت جواره متحدثة بضحك:
أنت أشطر واحد في الدنيا، بس أنا عايزة أروحك... ممكن؟
هز رأسه بحماس، وأكملا السير معا يتبادلان أطراف الحديث الذي كان له منها النصيب الأكبر، حيث قص عليها كل شيء عن دراسته، ومعلميه... وصلا أخيرا إلى المنزل فوجدت "سهام" تقف في الخارج وعلى وجهها القلق، ولكن بمجرد أن رأته جذبته من يدها بعنف وهي تقول:
أنت كنت فين؟
أرسلت "تيسير" للبحث عنه، والآن يعود في يد "شهد" لذا تابعت تعنيفها:
أنا قولت كام مرة، متعديش برا البيت لوحدك.
حاولت "شهد" تهدئة الوضع بقولها:
اهدي عليه شوية محصلش حاجة لكل ده.
أمرته "سهام" وكأنها لم تسمعها:
امشي اطلع على فوق.
تركها الصغير ورحل إلى أعلى، وبمجرد رحيله التفتت إلى "شهد" تسألها:
أنتِ عايزة ايه بالظبط؟
رفعت "شهد" حاجبيها بدهشة وهي تسألها:
عايزة ايه؟... هعوز منك ايه مثلا، أنا لقيت "يزيد" وقولت أجيبه بدل ما يرجع لوحده.
ابتسمت "سهام" بتصنع الرضا عن الحديث وتبعت ذلك بقولها وهي ترمق "شهد" من أعلى لأسفل:
طب اسمعي بقى يا "شهد"... أنا عارفة إنك لسه صغيرة والواحد وهو صغير بيبقى عنده طموح وأماني كده بس للأسف بتوقعه على جدور رقبته.
بادلتها " شهد" الابتسامة سائلة:
وايه كمان؟
_هقولك... أنتِ بقى يا حرام جيتي مع مامتك بعد ما معرفتوش تقلبوا عمك الغلبان في حاجة... فقولتي تبتدي اللعب بدري، تشدي "طاهر" ليكِ من ناحية، وتعلقي الولد الصغير بيكِ من الناحية التانية... لكن أنا عايزة أنصحك نصيحة، طاهر ده ابني ويوم ما هيتجوز لازم أبقى موافقة على اللي هيتجوزها، أنتِ أخرك يا "شهد" البيت والمحل اللي عند الست هادية والدتك، تفكري تكبريهم شوية... لكن "طاهر" خط أحمر وأنتِ مش قدي.
ضحكت "شهد" عاليا، ضحكت حتى أصابها السعال من فرط الضحك لتتبع ذلك بقولها:
أنتِ اللي متعرفيش مين هي "شهد"... أنا مش أختي اللي أنتِ دوستي عليها بكلامك وخلتيها تطلع تجري... أنا حد تاني خالص تربية " كوثر" و"مهدي" ، عمي ومرات عمي... اسألي كده الحاج "نصران" أول مرة جه يزورنا في بيت عمي قولتله ايه.... قولتله دي الحرباية وده جوز الحرباية، بس مكنتش أعرف أنه الحاج "نصران" متجوز حرباية زي اللي عندنا في البيت
اقتربت "شهد" منها خطوتين متابعة:
أنتِ اللي مش قدي، ومن ناحية ابنك أنا مكانش في حاجة بيني وبينه بس طالما هو خط أحمر بقى فأنا بموت في تعدية الخطوط الحمرا...
أخبرتها "سهام" وهي ترمقها بسخرية:
ده أنتِ طلعتي غير ما كنت مفكرة خالص.
هزت "شهد" رأسها تجيبها بعينين كساهما التحدي:
أيوه أنا كده فعلا... صحيح أنا أمي مربياني برضو... بس أنا سودا أوي من جوا على اللي يفكر يجي عليا.
عدلت من حقيبتها وتحركت لتغادر وهي تقول أخر حديثها بضحكة واسعة أثارت استفزاز "سهام":
بوسيلي " يزيد" وبلغي أبوه السلام لحد ما اقابله.
تركتها وغادرت بينما وقفت "سهام" تتأملها من الخلف بحقد برز في عينيها وهي تهمس:
ماشي يا بنت "هادية" هنشوف أنا ولا أنتِ.
★***★***★***★***★***★***★***★
أظلمت "علا" الغرفة تماما وجلست تبكي، تداري عن عينيها ذلك الرداء الذي لطالما تمنت ارتدائه ولكن ليس مع "محسن"... فستان زفاف والضحية لأفعال شقيقها هي... فتحت والدتها باب الغرفة، وانتفضت عند رؤيتها على حالتها هذه ناطقة:
بسم الله الرحمن الرحيم... أنتِ قاعدة كده ليه؟
تركت " علا" الفراش وأخذت كف والدتها ومالت مقبلة تقول بترجي:
بالله عليكِ يا ماما لا... هعملك أي حاجة أنتِ عاوزاها لكن أنا مش قابلة "محسن".
_وأنا اديته كلمة يا حيلة أمك.
قالتها " كوثر" بجفاء جعل "علا" تسألها بدموع:
طول عمرك بتقفي في صفي، ليه مع أول مطب بتبيعيني وتختاري "شاكر"... أنا بنتك زي ما هو ابنك، أنا مش مسئولة عن حاجة هو عملها، مش ذنبي افضل ادفع التمن.
ربتت " كوثر" على كتفها وهي تقول:
علشان أنتِ مش هتموتي لما تتجوزي "محسن"،
لكن " شاكر" كان ممكن يموت لو "محسن" مخباهوش... اعقلي يا "علا" أمك مختارالك الصح، اللي عند "محسن" مش شوية وأنا بجوزك لواحد هيبقى مداس في رجليكي.
_مش عايزة
صاحت بها "علا" باكية فقالت والدتها وكأنها لم تسمعها:
أنا هسيبك تنامي شوية، لما تصحي انزليلي تجهيزات الفرح كتير انتي عارفة.
بمجرد خروج والدتها، جذبت ذلك صورتها مع شقيقها الموضوعة على الطاولة جوار الفراش وألقتها على الأرضية بقهر مزقها حتى أفناها.
★***★***★***★***★***★***★***★
المرحاض... هي الآن في الداخل تلقي حبوب منع الحمل الخاصة بها وهي تقول بنبرة منخفضة ولكن تملك الفرح منها:
مليخلفش يا "بيريهان" مبيخلفش، أنا كان أكبر كابوس في حياتي إني أخلف منه، كده بابا مش هيبقى له حجة لو جيت بعد كام شهر قولت عايزة أتطلق.
سألتها ابنة عمها بغير رضا:
يعني أنتِ يا "ندى" كنتِ لسه بتاخدي الحبوب مع إن "جابر" قايلك من أكتر من شهر وقفيها.
_مطلعش الحبوب... العيب عنده هو وكان عمال بس يعايرني ده انا هطلعهم عليه.
قالتها "ندى" بغيظ شديد بينما في نفس التوقيت كان في الأسفل يتناول الإفطار مع والده الذي سأله مجددا:
مالك يا "جابر" النهاردة؟
هرب "جابر" من السؤال قائلا:
ولا حاجة، دماغي مشغولة شوية بس... قولي يا حاج هو احنا بعد اللي هنعمله في فرح "علا" هنعمل ايه؟
ابتسم والده برضا وهو يسرد له مخططه:
هنبعت رجالة بالسلاح على قرية "نصران"... هنسهي الكام عيل اللي بيبقوا واقفين على مدخل القرية، والرجالة تدخل، وبيت " نصران" هينضرب عليه نار في الفجر ويا سلام بقى لو حد راح فيها وبالذات الواد اللي اسمه "عيسى" ده... وساعتها "نصران" هيبقى طيشة في وسط البلد، إذا كان معرفش يحمي نفسه هيحمي أهل البلد؟.... رفع "جابر" كفيه يقول بتصنع البراءة:
وطبعا احنا ملناش دعوة، ابن "مهدي" قتل ابن "نصران"... ف " نصران" خد حقه من بنت "مهدي" علشان مش طايل أخوها، فقام "مهدي" باعت رجالة يضربوا على "نصران".
ترك " منصور" مقعده وأخذ هاتفه الذي علا صوته وهو يقول لابنه برضا:
عليك نور.
خرج "منصور" إلى الحديقة، وترك ابنه يكمل إفطاره، أجاب على الهاتف وهو يسأل باهتمام:
ألو يا دكتور... عملت اللي قولتلك عليه امبارح؟
أخبره الطبيب بفخر:
عملت اللي قولتلي عليه بالظبط... خلتهم يعملوا كل اللازم هما الاتنين، ولما جم ليا امبارح قولت لأستاذ "جابر" إنه مبيخلفش قدام المدام بتاعته.
ابتسم "منصور" برضا، بل توسعت الابتسامة إلى ضحكة وهو يقول:
عليك نور.
★***★***★***★***★***★***★***★
مكتب والده هو أول واجهة ذهب إليها بعد عودته إلى المنزل، دخل بعد أن دق الباب، ثم اقترب وجلس على مقعده أمام والده قائلا:
قالولي ان حضرتك عايزني... في قلم تاني نسيت تضربه؟
قابل "نصران" سؤال ابنه بإجابة صارمة:
وأكسر عضمك وعضمه، لما أشوفكم واقفين بتاكلوا في بعض بدل ما تبقوا سند لبعض...شوف أنت زعلان ازاي علشان اتضربت بالقلم أنا بقى أبويا طردني أنا وأخويا من البيت أسبوع لما اتخانقنا كده...افرض موتت دلوقتي هتقفوا في دفنتي في ضهر بعض ولا هتتخانقو؟
ترك مقعده واقترب من والده متحدثا:
أنا عايزك تعرف حاجة، أنا بعمل كل اللي أقدر عليه علشان أخواتي دول، علشان دايما أبقى سندهم، أنا شيلت كتير أوي بس أنا عمري ما هحكي شيلت ايه وعارف علشان مين؟... علشان اخواتي برضو.
مال على رأس والده مقبلا وهو يتابع:
متزعلش من اللي حصل، أنا أسف على اللي عملته، ومش هعاتبك على القلم اللي ضربتهولي علشان أنا مهما كبرت مش هكبر عليك، مش هكبر على البيت ولا القرية اللي روحي متعلقة بيهم مهما بعدت عنهم علشان أنت فيهم وبتحبهم.
استقام "نصران" واقفا وطالع ابنه وهو يقول بعد ابتسامته:
أسمع كلامك أصدقك، أشوف أفعالك استعجب يا "عيسى".
ختم جملته باحتضانه له، فلقد ذهبت روحه معه حين ترك المنزل بعد أن ضربه، ولم تعد إلا حينما عاد فقط.
في نفس التوقيت
ذهبت " رفيدة" إلى والدتها تسألها:
ماما هو بابا و "عيسى" اتكلموا؟
_معاه في المكتب.
قالتها "سهام" ونظرها لا يفارق الهاتف فسألت ابنتها مجددا:
ماما طب هو ايه اللي حصل وصل الأمور لكده؟
وكأنها أشعلت فتيل غضبها فانفجرت قائلة:
بقولك ايه يا "رفيدة" أنا مش فايقة للأسئلة دي روحي شوفيلك حاجة تعمليها يلا.
تركت الغرفة وخرجت متوجهة إلى عرفتها، جلست أمام ما صنعته ترمقه بحب، لقد عادت إلى التطريز مجددا... هدية "سعد" لها كانت أدوات تساعدها على العودة إلى هوايتها التي بالتأكيد عرف عنها من "جيهان" .... جذبت هاتفها تلتقط الصور لمشغولاتها لتريها له أولا...لأنه أصبح أول من يهتم في حياتها.
★***★***★***★***★***★***★***★
لا تعلم لماذا ولكنها وجدته يتصل ويطلب من والدتها أن يأخذها معه في زيارة إلى قريبته بالقاهرة، سألت والدتها كثيرا، حتى طمأنتها جميع الإجابات فوافقت وهي الآن تجاوره في السيارة وقد أوشكا على الوصول إلى القاهرة ، انشغلت "ملك" حزام جاكتها الذي تلون بلون السماء على شكل أنشوطة، ثم أزاحت حجابها الأبيض على كتفها وهي تسأله:
احنا رايحين هناك ليه؟... معزمتهاش في كتب الكتاب ليه طيب ؟
انتظرت إجابة ولكن جوابه كان سؤال آخر:
فين الخاتم؟
أدركت أن يدها خالية من خاتمه فحاولت التبرير:
أنا بس قلعته امبارح قبل ما أنام، ونسيت ألبسه لسه مش متعودة.
استدار لها يطالعها بنظرة أخبرتها أنه يعلم أن الصدق ليس حديثها وهو يقول:
متقلعيهوش تاني.
هزت رأسها موافقة، ثم عادت تنظر للطريق من النافذة المجاورة فسأل هو هذه المرة:
والدتك قالتلي انك عايزة تكملي دراسة...شوفي عايزة تحضري الرسالة بتاعتك في ايه وابتدي، ولو عايزة أي مساعدة أنا ممكن أقدمهالك تمام.
_شكرا... لو احتجت حاجة هقولك.
قالت هذا ثم تبعته بسؤالها:
هو أنت درست ايه؟
ضحك عند السؤال وأجابها:
درست أخر حاجة ممكن تتوقعي إني درستها
هي تعلم بمعرض سياراته فخمنت قائلة:
هندسة قسم ميكانيكا؟
هز رأسه نافيا وهو يصحح لها:
درست اقتصاد وعلوم سياسية.
رفعت حاجبيها بدهشة وهي تقول:
مكنتش هفكر في حاجة زي كده أصلا.
قطع ذلك قوله وهو يتأمل المكان فقد وصلا إلى القاهرة:
احنا كده قربنا على البيت، انزلي ناكل أي حاجة هنا قبل ما نروح.
_أنا مش جعانة
قالتها باعتراض، فنزل هو من سيارته قائلا:
أنا جعان انزلي.
نزلت من السيارة، وتبعته حيث ذلك المقهى الشبابي والذي بان عليه أن رواده من الطبقة الأولى... دخلا معا وبمجرد دخولهما سمعا صوت من الخلف يقول بترحيب:
"عيسى نصران" ومعاه "ملك" كمان.
هي تعلم صاحب هذا الصوت جيدا، إنه هو ذلك الذي أغاثها منه "عيسى" في الملهى الليلي، استدارا له فوجد "عيسى" أن محدثه "باسم" ومعه "رزان"... لم يمد يده للسلام على يد " باسم" الممدودة بل صحح له:
اسمها مدام "ملك".
شعرت بالتوتر، أما " باسم" و "رزان" فحلت عليهما الدهشة خاصة و"رزان" تسأل:
أنت اتجوزت؟
ضحك "باسم" وأشار ل "ملك" قائلا:
طب مش طالما اتجوزتوا بقى يبقى يعرفك...
أشار على "رزان" متابعا بسخرية:
رزان من أكبر fans "عيسى" في النايت اللي جيتيه قبل كده.
_ أنا عايزة امشي.
قالتها "ملك" حيث شعرت بالإهانة الشديدة، وأيضا نظرات "رزان" التي تتفحصها من أعلى لأسفل ولكن قوله غير كل شيء حيث ابتسم قائلا:
عادي انك تبقى اختيار مفضل لناس كتير، المهم أنت هتختار مين
حاوطها بذراعه مما يبس جسدها وهو يتابع:
وأنا اختارت خلاص.
تحرك بها ليغادرا المكان بأكمله وحين اقترب من "باسم" أخبره بنبرة ماكرة:
اللي مش عادي بقى هو إن كل اللي تختارهم، متبقاش ال favourite choise عندهم.
اقترب "باسم" من أذنه هامسا باستهزاء:
ال favourite choice عندها أخوك مش أنت...
حتى لو اتجوزتها.
قال أخر كلماته بلا مبالاة:
ركز في شغلك يا باسم، وركز في اللي طلبته منك لو عايز تشاركني، بدل ما تيجي تعيط بعد كده وتقول إني بنجح بشغل تحت الترابيزة.
خرجا ولم يجلسا في الداخل، وامتنعت هي عن الحديث تماما باقي الطريق حتى منزل خالته تلك السيدة التي أخبر والدتها أنه تربى في منزلها.
صعدا معا وتقدم هو يدق على الباب فسمعها تسأل:
أنت متعود بقى تسهر في أماكن زي اللي خدتني منه ده مره؟
كانت تقصد ذلك الملهى الليلي فقال ضاحكا بسخرية:
والله هو لو اتضايقتي، وحابة أضحك عليكِ ف لا مكنتش بسهر، أما لو عايزة الحقيقة بقى فأنا كنت بروح هناك فعلا فترة.
فتحت لهما سيدة كبيرة يبدو عليها الوقار وقد ارتدت تنورة واسعة علاها سترة من الصوف وحجاب رأسها.... بمجرد أن وقعت عيناها على وجهه احتضنته هاتفة باشتياق:
وحشتني يا واد.
_أنتِ كمان وحشتيني أوي يا "ميري".
قالها بضحك ثم قدمها ل " ملك" قائلا:
دي "ميرفت" خالتي.
ابتسمت "ملك" برقة قائلة:
ازيك يا طنط.
أبدت "ميرفت" اعتراضها بقولها:
الحق دي بتقولي يا طنط.
فصحح لها "عيسى" مازحا:
لا دي قوليلها ميري علطول كده.
هزت "ملك" رأسها موافقة وهي تقول:
خلاص يا "ميري".
أدخلتها وهي تقول باعتذار:
أنا صحيح معرفتش أحضر كتب كتابكم، بس كنت متأكدة إن الواد " عيسى" ده مش هياخد أي حد...
زي القمر يا "ملك".
شكرتها بحرج، هي هنا للمرة الأولى ولكنه طمأنها بهمسه:
خدي راحتك... متتوتريش كده.
ذهبت لتحضر لهما شيء فسألته " ملك":
هي ليه عايشة لوحدها؟
_لا متجوزة.
عند إجابته هذه تجهمت تعابيره كليا، خالته لم تحضر بسبب مرض زوجها فسألها "عيسى":
هو " كارم" فين يا "ميري" مش قولتيلي تعبان؟
استطاع كشف التوتر الذي أصاب نبرتها وهي تقول من الداخل:
بيشتري حاجة من تحت جنبنا هنا يا حبيبي... زمانه طالع.
ترك "عيسى" مكانه فسألت "ملك" بقلق:
أنت رايح فين؟
شعرت بالتوتر حين تركها وقام، وأدرك هو ذلك لذا ربت على كفها:
متخافيش محدش هياكلك هنا... أنا دقايق نازل وراجعلك تاني.
للمرة الثالثة تسحب كفها بعيدا فرفع حاجبه الأيسر وقالت وهي تهرب بنظراتها إلى المكان من حولها:
طب متتأخرش.
ابتسم وتحرك مغادرا، ولكن تلاشت ابتسامته بمجرد خروجه من الباب، تلاشت فهو الآن يستعد لمقابلة ماضيه، تلمع الآن في ذهنه تلك الأشياء التي لا ينساها أبدا، صوت "كارم" يقول:
هو الزفت ابن اختك ده هيفضل اخرس كده لحد امتى؟
صوته مجددا وهو ينطق بانزعاج:
عارف لولا القرشين اللي أبوك بيبعتهم، كان زماني راميك برا أنت وخالتك دي.
أغمض "عيسى" عينيه وهو يستمع مجددا:
فرحانة يا ختي انه فالح في الدراسة، لما أشوف أخرة تربيتك ليه ايه!
صراخ خالته وهي تقول برجاء:
ابعد عنه يا "كارم"
امتزج بصوت في سن المراهقة يخبر ببغض:
أنا عمري ما هبقى فاشل.
ليسمع صوت زوج خالته يقول بتبجح:
لا فاشل، وهتفضل فاشل.
ثم يدفعه بعيدا بكل عنف.
عاد "عيسى" للواقع، فتح عينيه وأتى ليكمل النزول، ولكنه وجده أمامه... بل إنه توقف عن طلوع الدرج حين وقعت عيناه على "عيسى"...طالعه بغير تصديق، فضحك "عيسى" مرددا بنبرة بان فيها البغض...نبرة جعلت "كارم" يشعر بما تنطوي عليه خاصة وهو يقول وعيناه لا تفارقه:
"كارم"... ليك وحشة يا راجل.
غمز له مختتما:
" عيسى نصران" بنفسه جاي يشوفك.
ربما ننسى الكثير من الماضي، ولكن ماضي كماضيه لا يُنسى أبدا.
يُتبع
عصفور وتركت العش، و ظننت الجنة بستان
لكن ظنوني قد خابت، ووجدت العالم بُهتان
ضللتني الطرق ولم ترحم حتى صار الحلم هباء
فصرخت أطالب بالنجدة.. أين العش لقلب تاه؟
وكأن انفجار حدث للتو، وهو هذا الانفجار... قامت "سهام" لتغادر وهي تسمع عبارته التي أمرتها بالخروج ولكن قطع ذلك دخول "طاهر" الغرفة وهو يقول:
في ايه يا ماما؟
تنهد "عيسى" بانزعاج وحاولت "سهام" معالجة الموقف وهي تقول مبررة:
مفيش حاجة أنا كنت بتطمن على "عيسى"... وهو بس متعصب شوية ومحتاج يرتاح.
رفع " طاهر" حاجبه باستنكار وهو يسأل:
متعصب؟... متعصب على مين بالظبط.. في إيه يا "عيسى" أنا سامعك بتزعق من وأنا داخل.
ضرب "عيسى" على الطاولة وهو يصيح:
محدش ليه زفت دعوة... اخرج برا يلا.
دفعه "طاهر" بيده وشهقت والدته بصدمة وهي تسمعه يقول بغضب:
أنت مالك بتتكلم كده ليه... أنت اتجننت.
لكمه "عيسى" في وجهه ولم ينتظر فصرخت "سهام" وهي ترى تشابكهما ولا تستطيع فضه، أتى "نصران" إلى الغرفة وقد استيقظ الجميع وهرول إلى مصدر الصوت... لم يتوقفا عن التشابك حتى نطق "نصران":
بس أنت وهو.
ابتعدا بصعوبة فسأل " نصران" وعيناه تحاوطهما:
ايه اللي حصل؟
تدخلت "سهام" قبل أن يتورط ابنها:
أنا و "عيسى" كنا بنتكلم مع بعض وشدينا شوية، "طاهر" دخل يشوف في ايه "عيسى" ضربه واتخانقوا.
اعترض "طاهر" على ما تقوله والدته:
لا يا بابا محصلش كده "عيسى" مضربنيش ...
أنا و "عيسى" شدينا مع بعض زي أي اتنين.
تحرك "نصران" حتى أصبح أمام "عيسى"، والجميع ينظر بترقب حتى سأله:
ضربته يا " عيسى" ؟
هز رأسه قائلا بعينين لمع فيهما انفعاله:
اه.
صفعة قوية هوت على وجهه، جعلت "رفيدة" تنتفض بصدمة، و "حسن" وشقيقه يحاولان الإبعاد بينهما... فجذب "عيسى" سترته وغادر الغرفة بأكملها،
وقد تركهم خلفه ولا سائد غير الفوضى .
★***★***★***★***★***★***★***★
في غرفتهما وقد تمددا على الفراش، واحتضنت "مريم" والدتها قائلة:
مالك بس يا ماما زعلانة ليه؟
كان هدوئها مماثل لسكون الليل حتى قطعه سؤال ابنتها فأجابت:
هو أنا زعلانة بس؟... ده أنا مقهورة.
حاولت "مريم" المزاح وإخراجها من حالتها هذه:
مقهورة علشان مزغرطناش في كتب الكتاب؟..
طب ما أنا قولتلك أزغرط قولتيلي اسكتي.
استطاع حديثها إضحاك والدتها فتابعت برضا:
أيوة اضحكي كده، مفيش حاجة تستاهل التكشيرة دي... وبعدين "عيسى" ده أنا حساه شخص راسي كده ومش حد يتخاف منه على "ملك".
تبع حديثها انقطاع الكهرباء فنطقت بقلق:
يا نهار أبيض " شهد" .
تركت "هادية" فراشها وأسرعت في سيرها ناحية غرفة ابنتيها قبل أن تستيقظ "شهد" ويتملك الفزع منها... وصلت ومعها "مريم" إلى الغرفة وفتحت الباب فوجدت ما توقعت ابنتها "شهد" تبكي بعنف و"ملك" تحاول جاهدة:
طب قومي معايا يا "شهد" هنروح لماما خلاص.
أضاءت "مريم" هاتفها، ووضعته على الطاولة... في حين جلست "هادية" على الفراش وجذبت "شهد" محتضنة تقول بغيظ:
هو أنتِ يا بت مش هتكبري بقى على العمايل دي.
عادت لها الأنفاس من جديد بعد أن أضاء الهاتف الغرفة، وقالت "ملك" بضجر:
فزعتيني، وأنا كنت ما صدقت عيني غمضت يا شيخة.
تابعت وهي تقول ل "مريم" :
تعالي معايا قومي نشوف شمعة ولا كشاف بدل التليفون ده.
غادرا معا، فسألتها "هادية":
بقيتي كويسة؟
هزت رأسها تخبرها أنها أصبحت بخير، فتركتها
" هادية" واتجهت إلى خزانة الملابس الخاصة بها وبشقيقتها، فتحتها وأخرجت علبة من مخبأة بعناية في الأعلى بين الملابس وعادت لها تقول بضحكة واسعة:
امسكي.... هو مش نفس اللي كان معاكِ قبل كده بس هيمشي.
هبت "شهد" تجذبه منها وهي تقول بفرحة غير مصدقة:
لا ما تقوليش... التليفون.
هو كذلك بالفعل، صفقت بحماس وهي تفتح العلبة مخرجة الهاتف منها، تأملته بسعادة ثم قفزت تحتضن والدتها مرددة:
يا أحلى "هادية" في الدنيا كلها.
تحركت "هادية" ناحية الخزانة مرة ثانية تجذب الهاتف الآخر وعندما دخلت "ملك" ناولته لها قائلة:
خدي بتاعك أنتِ كمان.
نظرت له "ملك" بغير رضا وهي تخبرها:
ليه يا ماما كده بس، أنا قولتلك مش عايزة تليفون.
كانت تعلم التزامتهم وإيجار المنزل، والمحل أيضا ولكن قالت والدتها:
متشيليش هم... أنا معايا فلوس، والشغل في المحل كويس الحمد لله، وبعدين أنا بقالي شوية بشيل من الفلوس علشان الموضوع ده فمقصرش معايا في المصروف ولا حاجة.
احتضنتها "ملك" وقد ابتسمت بحنان، ثم رفعت كفها تقبله ناطقة:
ربنا يخليكي لينا.
اعترضت "مريم" حيث نطقت بغيظ:
إلا ما حد افتكرني حتى بشاحن حتى.
جذبتها "هادية" قائلة:
شاحن!... أقصى طموحك شاحن.
تابعت ضاحكة:
خلاص متزعليش...أنتِ المرة الجاية.
احتضنتهم وقد أغمضت عينيها بارتياح حامدة الله على أنها مجتمعة معهن، والأهم هو أنهن بخير.
★***★***★***★***★***★***★***★
إن الفراق صعب، ولكن اللحظة التي نحتاج فيها أحبتنا ونكتشف حينها عدم وجودهم هي الأصعب... جلس "عيسى" جوار قبر شقيقه ووالدته، يحاوطه الظلام، ودموعه تتسابق على وجهه... الاثنان رحلا ولكن روحه تمزقت برحيلهما، أتت به قدمه إلى هنا... فجلس والهدوء رفيقه...لم يعلم إلى متى، ولكن طال جلوسه حتى أتي الفجر وانتشر ذلك الضوء الذي يبعث الراحة في النفوس، تبع ذلك الشروق ومر الوقت ولا يدري كم مر ولكنه استيقظ على صوت جواره ينادي بهدوء:
"عيسى".
فتح عينيه ليجد " طاهر" أمامه، مسح على وجهه بتعب، وجاوره "طاهر" في جلسته قائلا:
يعني ضاربني، وكمان مدوخني عليك؟
نظر "عيسى" إلى وجه "طاهر" فلم يجد أثر فقال:
ما أنت سليم أهو ومحصلكش حاجة.
ضحك "طاهر" في حين استدار "عيسى" يخبره:
أنت فهمت غلط، وأنا كنت متعصب وقت ما أنت دخلت... متزعلش هي أول مرة نتخانق بس مش هتبقى الأخيرة... أنا و"فريد" كنا بنتخانق كتير على فكرة.
ربت "طاهر" على كتفه ناطقا بصدق:
أنا مش زعلان منك يا "عيسى"، ولا كنت عايز الموضوع يوصل لكده أصلا... أنا بس عايز أعرف ليه واخد جنب من ماما كده... ماما يمكن ساعات بتتصرف تصرفات تضايق لكن هي طيبة جدا دي كانت بتحب " فريد" أكتر مني يمكن.
_ "طاهر" افهمني... أنا معنديش مشكلة مع والدتك، أنا بس في حاجة حصلت في الشغل عصبتني وأنا لما بتعصب مش بقدر أسيطر على أعصابي، وهي دخلت... مش عايزك تكون زعلان، ولو فاكر اني واخد موقف منها فمتقلقش ده مش موجود.
طمأنه "عيسى" بحديثه فطلب منه "طاهر":
طب قوم روح معايا... أنا خرجت أدور عليك وفي الطريق بابا اتصل وقالي أشوفك روحت فين متزعلش منه هو كمان.
ابتسم " عيسى" ثم استقام واقفا وهو يقول:
اقرأ الفاتحة ل "فريد" و ماما... ويلا نمشي.
ترك "طاهر" مكانه، وجاور "عيسى" في وقفته، رفع كل منهما كفيه للدعاء ثم ألقيا السلام قبل أن يرحلا من جوار أحبتهما.
★***★***★***★***★***★***★***★
تركت "شهد" المنزل، وهي تستعد إلى يومها الشاق في الجامعة، ولكن توقفت على الدرج وأخرجت هاتفها الجديد تلتقط الصور بالكاميرا الأمامية، ثم نظرت إلى صورتها ناطقة بفرح:
يا عيوني على القمر.
وضعته في حقيبتها وتابعت النزول، لم تكن والدتها قد فتحت المحل، ولكنها وجدت أحد تعرفه جيدا... إنه "يزيد" قد أتى وحينما وجده مغلق رحل بيأس.
نادت عليه فعاد لها مسرعا وهي تسأله:
ايه يا "يزيد" أنت كنت فين كده؟
أخبرها ببراءته التي عهدتها:
أنا كنت جاي اقعد معاكِ شوية، وأشتري شيبسي بس لقيت المحل مقفول.
هي تعلم أن والده لا يتركه يخرج بمفرده لذا سألته:
طب أنت بابا عارف إنك جاي؟
هز رأسه بالنفي وهي يقول:
لا محدش يعرف، أنا صحيت ملقتش بابا... وكله نايم فخرجت اجيلكم.
مسحت على خصلاته وهي تقول بحنان:
طب بص ماما بتفتح المحل كمان ساعة، تعالى أروحك دلوقتي وابقى خلي بابا يجيبك.
أخبرها بفخر:
لا أنا بعرف أروح لوحدي... بس بابا مش بيرضى يخليني أخرج لوحدي.
التقطت كفه الصغير، وسارت جواره متحدثة بضحك:
أنت أشطر واحد في الدنيا، بس أنا عايزة أروحك... ممكن؟
هز رأسه بحماس، وأكملا السير معا يتبادلان أطراف الحديث الذي كان له منها النصيب الأكبر، حيث قص عليها كل شيء عن دراسته، ومعلميه... وصلا أخيرا إلى المنزل فوجدت "سهام" تقف في الخارج وعلى وجهها القلق، ولكن بمجرد أن رأته جذبته من يدها بعنف وهي تقول:
أنت كنت فين؟
أرسلت "تيسير" للبحث عنه، والآن يعود في يد "شهد" لذا تابعت تعنيفها:
أنا قولت كام مرة، متعديش برا البيت لوحدك.
حاولت "شهد" تهدئة الوضع بقولها:
اهدي عليه شوية محصلش حاجة لكل ده.
أمرته "سهام" وكأنها لم تسمعها:
امشي اطلع على فوق.
تركها الصغير ورحل إلى أعلى، وبمجرد رحيله التفتت إلى "شهد" تسألها:
أنتِ عايزة ايه بالظبط؟
رفعت "شهد" حاجبيها بدهشة وهي تسألها:
عايزة ايه؟... هعوز منك ايه مثلا، أنا لقيت "يزيد" وقولت أجيبه بدل ما يرجع لوحده.
ابتسمت "سهام" بتصنع الرضا عن الحديث وتبعت ذلك بقولها وهي ترمق "شهد" من أعلى لأسفل:
طب اسمعي بقى يا "شهد"... أنا عارفة إنك لسه صغيرة والواحد وهو صغير بيبقى عنده طموح وأماني كده بس للأسف بتوقعه على جدور رقبته.
بادلتها " شهد" الابتسامة سائلة:
وايه كمان؟
_هقولك... أنتِ بقى يا حرام جيتي مع مامتك بعد ما معرفتوش تقلبوا عمك الغلبان في حاجة... فقولتي تبتدي اللعب بدري، تشدي "طاهر" ليكِ من ناحية، وتعلقي الولد الصغير بيكِ من الناحية التانية... لكن أنا عايزة أنصحك نصيحة، طاهر ده ابني ويوم ما هيتجوز لازم أبقى موافقة على اللي هيتجوزها، أنتِ أخرك يا "شهد" البيت والمحل اللي عند الست هادية والدتك، تفكري تكبريهم شوية... لكن "طاهر" خط أحمر وأنتِ مش قدي.
ضحكت "شهد" عاليا، ضحكت حتى أصابها السعال من فرط الضحك لتتبع ذلك بقولها:
أنتِ اللي متعرفيش مين هي "شهد"... أنا مش أختي اللي أنتِ دوستي عليها بكلامك وخلتيها تطلع تجري... أنا حد تاني خالص تربية " كوثر" و"مهدي" ، عمي ومرات عمي... اسألي كده الحاج "نصران" أول مرة جه يزورنا في بيت عمي قولتله ايه.... قولتله دي الحرباية وده جوز الحرباية، بس مكنتش أعرف أنه الحاج "نصران" متجوز حرباية زي اللي عندنا في البيت
اقتربت "شهد" منها خطوتين متابعة:
أنتِ اللي مش قدي، ومن ناحية ابنك أنا مكانش في حاجة بيني وبينه بس طالما هو خط أحمر بقى فأنا بموت في تعدية الخطوط الحمرا...
أخبرتها "سهام" وهي ترمقها بسخرية:
ده أنتِ طلعتي غير ما كنت مفكرة خالص.
هزت "شهد" رأسها تجيبها بعينين كساهما التحدي:
أيوه أنا كده فعلا... صحيح أنا أمي مربياني برضو... بس أنا سودا أوي من جوا على اللي يفكر يجي عليا.
عدلت من حقيبتها وتحركت لتغادر وهي تقول أخر حديثها بضحكة واسعة أثارت استفزاز "سهام":
بوسيلي " يزيد" وبلغي أبوه السلام لحد ما اقابله.
تركتها وغادرت بينما وقفت "سهام" تتأملها من الخلف بحقد برز في عينيها وهي تهمس:
ماشي يا بنت "هادية" هنشوف أنا ولا أنتِ.
★***★***★***★***★***★***★***★
أظلمت "علا" الغرفة تماما وجلست تبكي، تداري عن عينيها ذلك الرداء الذي لطالما تمنت ارتدائه ولكن ليس مع "محسن"... فستان زفاف والضحية لأفعال شقيقها هي... فتحت والدتها باب الغرفة، وانتفضت عند رؤيتها على حالتها هذه ناطقة:
بسم الله الرحمن الرحيم... أنتِ قاعدة كده ليه؟
تركت " علا" الفراش وأخذت كف والدتها ومالت مقبلة تقول بترجي:
بالله عليكِ يا ماما لا... هعملك أي حاجة أنتِ عاوزاها لكن أنا مش قابلة "محسن".
_وأنا اديته كلمة يا حيلة أمك.
قالتها " كوثر" بجفاء جعل "علا" تسألها بدموع:
طول عمرك بتقفي في صفي، ليه مع أول مطب بتبيعيني وتختاري "شاكر"... أنا بنتك زي ما هو ابنك، أنا مش مسئولة عن حاجة هو عملها، مش ذنبي افضل ادفع التمن.
ربتت " كوثر" على كتفها وهي تقول:
علشان أنتِ مش هتموتي لما تتجوزي "محسن"،
لكن " شاكر" كان ممكن يموت لو "محسن" مخباهوش... اعقلي يا "علا" أمك مختارالك الصح، اللي عند "محسن" مش شوية وأنا بجوزك لواحد هيبقى مداس في رجليكي.
_مش عايزة
صاحت بها "علا" باكية فقالت والدتها وكأنها لم تسمعها:
أنا هسيبك تنامي شوية، لما تصحي انزليلي تجهيزات الفرح كتير انتي عارفة.
بمجرد خروج والدتها، جذبت ذلك صورتها مع شقيقها الموضوعة على الطاولة جوار الفراش وألقتها على الأرضية بقهر مزقها حتى أفناها.
★***★***★***★***★***★***★***★
المرحاض... هي الآن في الداخل تلقي حبوب منع الحمل الخاصة بها وهي تقول بنبرة منخفضة ولكن تملك الفرح منها:
مليخلفش يا "بيريهان" مبيخلفش، أنا كان أكبر كابوس في حياتي إني أخلف منه، كده بابا مش هيبقى له حجة لو جيت بعد كام شهر قولت عايزة أتطلق.
سألتها ابنة عمها بغير رضا:
يعني أنتِ يا "ندى" كنتِ لسه بتاخدي الحبوب مع إن "جابر" قايلك من أكتر من شهر وقفيها.
_مطلعش الحبوب... العيب عنده هو وكان عمال بس يعايرني ده انا هطلعهم عليه.
قالتها "ندى" بغيظ شديد بينما في نفس التوقيت كان في الأسفل يتناول الإفطار مع والده الذي سأله مجددا:
مالك يا "جابر" النهاردة؟
هرب "جابر" من السؤال قائلا:
ولا حاجة، دماغي مشغولة شوية بس... قولي يا حاج هو احنا بعد اللي هنعمله في فرح "علا" هنعمل ايه؟
ابتسم والده برضا وهو يسرد له مخططه:
هنبعت رجالة بالسلاح على قرية "نصران"... هنسهي الكام عيل اللي بيبقوا واقفين على مدخل القرية، والرجالة تدخل، وبيت " نصران" هينضرب عليه نار في الفجر ويا سلام بقى لو حد راح فيها وبالذات الواد اللي اسمه "عيسى" ده... وساعتها "نصران" هيبقى طيشة في وسط البلد، إذا كان معرفش يحمي نفسه هيحمي أهل البلد؟.... رفع "جابر" كفيه يقول بتصنع البراءة:
وطبعا احنا ملناش دعوة، ابن "مهدي" قتل ابن "نصران"... ف " نصران" خد حقه من بنت "مهدي" علشان مش طايل أخوها، فقام "مهدي" باعت رجالة يضربوا على "نصران".
ترك " منصور" مقعده وأخذ هاتفه الذي علا صوته وهو يقول لابنه برضا:
عليك نور.
خرج "منصور" إلى الحديقة، وترك ابنه يكمل إفطاره، أجاب على الهاتف وهو يسأل باهتمام:
ألو يا دكتور... عملت اللي قولتلك عليه امبارح؟
أخبره الطبيب بفخر:
عملت اللي قولتلي عليه بالظبط... خلتهم يعملوا كل اللازم هما الاتنين، ولما جم ليا امبارح قولت لأستاذ "جابر" إنه مبيخلفش قدام المدام بتاعته.
ابتسم "منصور" برضا، بل توسعت الابتسامة إلى ضحكة وهو يقول:
عليك نور.
★***★***★***★***★***★***★***★
مكتب والده هو أول واجهة ذهب إليها بعد عودته إلى المنزل، دخل بعد أن دق الباب، ثم اقترب وجلس على مقعده أمام والده قائلا:
قالولي ان حضرتك عايزني... في قلم تاني نسيت تضربه؟
قابل "نصران" سؤال ابنه بإجابة صارمة:
وأكسر عضمك وعضمه، لما أشوفكم واقفين بتاكلوا في بعض بدل ما تبقوا سند لبعض...شوف أنت زعلان ازاي علشان اتضربت بالقلم أنا بقى أبويا طردني أنا وأخويا من البيت أسبوع لما اتخانقنا كده...افرض موتت دلوقتي هتقفوا في دفنتي في ضهر بعض ولا هتتخانقو؟
ترك مقعده واقترب من والده متحدثا:
أنا عايزك تعرف حاجة، أنا بعمل كل اللي أقدر عليه علشان أخواتي دول، علشان دايما أبقى سندهم، أنا شيلت كتير أوي بس أنا عمري ما هحكي شيلت ايه وعارف علشان مين؟... علشان اخواتي برضو.
مال على رأس والده مقبلا وهو يتابع:
متزعلش من اللي حصل، أنا أسف على اللي عملته، ومش هعاتبك على القلم اللي ضربتهولي علشان أنا مهما كبرت مش هكبر عليك، مش هكبر على البيت ولا القرية اللي روحي متعلقة بيهم مهما بعدت عنهم علشان أنت فيهم وبتحبهم.
استقام "نصران" واقفا وطالع ابنه وهو يقول بعد ابتسامته:
أسمع كلامك أصدقك، أشوف أفعالك استعجب يا "عيسى".
ختم جملته باحتضانه له، فلقد ذهبت روحه معه حين ترك المنزل بعد أن ضربه، ولم تعد إلا حينما عاد فقط.
في نفس التوقيت
ذهبت " رفيدة" إلى والدتها تسألها:
ماما هو بابا و "عيسى" اتكلموا؟
_معاه في المكتب.
قالتها "سهام" ونظرها لا يفارق الهاتف فسألت ابنتها مجددا:
ماما طب هو ايه اللي حصل وصل الأمور لكده؟
وكأنها أشعلت فتيل غضبها فانفجرت قائلة:
بقولك ايه يا "رفيدة" أنا مش فايقة للأسئلة دي روحي شوفيلك حاجة تعمليها يلا.
تركت الغرفة وخرجت متوجهة إلى عرفتها، جلست أمام ما صنعته ترمقه بحب، لقد عادت إلى التطريز مجددا... هدية "سعد" لها كانت أدوات تساعدها على العودة إلى هوايتها التي بالتأكيد عرف عنها من "جيهان" .... جذبت هاتفها تلتقط الصور لمشغولاتها لتريها له أولا...لأنه أصبح أول من يهتم في حياتها.
★***★***★***★***★***★***★***★
لا تعلم لماذا ولكنها وجدته يتصل ويطلب من والدتها أن يأخذها معه في زيارة إلى قريبته بالقاهرة، سألت والدتها كثيرا، حتى طمأنتها جميع الإجابات فوافقت وهي الآن تجاوره في السيارة وقد أوشكا على الوصول إلى القاهرة ، انشغلت "ملك" حزام جاكتها الذي تلون بلون السماء على شكل أنشوطة، ثم أزاحت حجابها الأبيض على كتفها وهي تسأله:
احنا رايحين هناك ليه؟... معزمتهاش في كتب الكتاب ليه طيب ؟
انتظرت إجابة ولكن جوابه كان سؤال آخر:
فين الخاتم؟
أدركت أن يدها خالية من خاتمه فحاولت التبرير:
أنا بس قلعته امبارح قبل ما أنام، ونسيت ألبسه لسه مش متعودة.
استدار لها يطالعها بنظرة أخبرتها أنه يعلم أن الصدق ليس حديثها وهو يقول:
متقلعيهوش تاني.
هزت رأسها موافقة، ثم عادت تنظر للطريق من النافذة المجاورة فسأل هو هذه المرة:
والدتك قالتلي انك عايزة تكملي دراسة...شوفي عايزة تحضري الرسالة بتاعتك في ايه وابتدي، ولو عايزة أي مساعدة أنا ممكن أقدمهالك تمام.
_شكرا... لو احتجت حاجة هقولك.
قالت هذا ثم تبعته بسؤالها:
هو أنت درست ايه؟
ضحك عند السؤال وأجابها:
درست أخر حاجة ممكن تتوقعي إني درستها
هي تعلم بمعرض سياراته فخمنت قائلة:
هندسة قسم ميكانيكا؟
هز رأسه نافيا وهو يصحح لها:
درست اقتصاد وعلوم سياسية.
رفعت حاجبيها بدهشة وهي تقول:
مكنتش هفكر في حاجة زي كده أصلا.
قطع ذلك قوله وهو يتأمل المكان فقد وصلا إلى القاهرة:
احنا كده قربنا على البيت، انزلي ناكل أي حاجة هنا قبل ما نروح.
_أنا مش جعانة
قالتها باعتراض، فنزل هو من سيارته قائلا:
أنا جعان انزلي.
نزلت من السيارة، وتبعته حيث ذلك المقهى الشبابي والذي بان عليه أن رواده من الطبقة الأولى... دخلا معا وبمجرد دخولهما سمعا صوت من الخلف يقول بترحيب:
"عيسى نصران" ومعاه "ملك" كمان.
هي تعلم صاحب هذا الصوت جيدا، إنه هو ذلك الذي أغاثها منه "عيسى" في الملهى الليلي، استدارا له فوجد "عيسى" أن محدثه "باسم" ومعه "رزان"... لم يمد يده للسلام على يد " باسم" الممدودة بل صحح له:
اسمها مدام "ملك".
شعرت بالتوتر، أما " باسم" و "رزان" فحلت عليهما الدهشة خاصة و"رزان" تسأل:
أنت اتجوزت؟
ضحك "باسم" وأشار ل "ملك" قائلا:
طب مش طالما اتجوزتوا بقى يبقى يعرفك...
أشار على "رزان" متابعا بسخرية:
رزان من أكبر fans "عيسى" في النايت اللي جيتيه قبل كده.
_ أنا عايزة امشي.
قالتها "ملك" حيث شعرت بالإهانة الشديدة، وأيضا نظرات "رزان" التي تتفحصها من أعلى لأسفل ولكن قوله غير كل شيء حيث ابتسم قائلا:
عادي انك تبقى اختيار مفضل لناس كتير، المهم أنت هتختار مين
حاوطها بذراعه مما يبس جسدها وهو يتابع:
وأنا اختارت خلاص.
تحرك بها ليغادرا المكان بأكمله وحين اقترب من "باسم" أخبره بنبرة ماكرة:
اللي مش عادي بقى هو إن كل اللي تختارهم، متبقاش ال favourite choise عندهم.
اقترب "باسم" من أذنه هامسا باستهزاء:
ال favourite choice عندها أخوك مش أنت...
حتى لو اتجوزتها.
قال أخر كلماته بلا مبالاة:
ركز في شغلك يا باسم، وركز في اللي طلبته منك لو عايز تشاركني، بدل ما تيجي تعيط بعد كده وتقول إني بنجح بشغل تحت الترابيزة.
خرجا ولم يجلسا في الداخل، وامتنعت هي عن الحديث تماما باقي الطريق حتى منزل خالته تلك السيدة التي أخبر والدتها أنه تربى في منزلها.
صعدا معا وتقدم هو يدق على الباب فسمعها تسأل:
أنت متعود بقى تسهر في أماكن زي اللي خدتني منه ده مره؟
كانت تقصد ذلك الملهى الليلي فقال ضاحكا بسخرية:
والله هو لو اتضايقتي، وحابة أضحك عليكِ ف لا مكنتش بسهر، أما لو عايزة الحقيقة بقى فأنا كنت بروح هناك فعلا فترة.
فتحت لهما سيدة كبيرة يبدو عليها الوقار وقد ارتدت تنورة واسعة علاها سترة من الصوف وحجاب رأسها.... بمجرد أن وقعت عيناها على وجهه احتضنته هاتفة باشتياق:
وحشتني يا واد.
_أنتِ كمان وحشتيني أوي يا "ميري".
قالها بضحك ثم قدمها ل " ملك" قائلا:
دي "ميرفت" خالتي.
ابتسمت "ملك" برقة قائلة:
ازيك يا طنط.
أبدت "ميرفت" اعتراضها بقولها:
الحق دي بتقولي يا طنط.
فصحح لها "عيسى" مازحا:
لا دي قوليلها ميري علطول كده.
هزت "ملك" رأسها موافقة وهي تقول:
خلاص يا "ميري".
أدخلتها وهي تقول باعتذار:
أنا صحيح معرفتش أحضر كتب كتابكم، بس كنت متأكدة إن الواد " عيسى" ده مش هياخد أي حد...
زي القمر يا "ملك".
شكرتها بحرج، هي هنا للمرة الأولى ولكنه طمأنها بهمسه:
خدي راحتك... متتوتريش كده.
ذهبت لتحضر لهما شيء فسألته " ملك":
هي ليه عايشة لوحدها؟
_لا متجوزة.
عند إجابته هذه تجهمت تعابيره كليا، خالته لم تحضر بسبب مرض زوجها فسألها "عيسى":
هو " كارم" فين يا "ميري" مش قولتيلي تعبان؟
استطاع كشف التوتر الذي أصاب نبرتها وهي تقول من الداخل:
بيشتري حاجة من تحت جنبنا هنا يا حبيبي... زمانه طالع.
ترك "عيسى" مكانه فسألت "ملك" بقلق:
أنت رايح فين؟
شعرت بالتوتر حين تركها وقام، وأدرك هو ذلك لذا ربت على كفها:
متخافيش محدش هياكلك هنا... أنا دقايق نازل وراجعلك تاني.
للمرة الثالثة تسحب كفها بعيدا فرفع حاجبه الأيسر وقالت وهي تهرب بنظراتها إلى المكان من حولها:
طب متتأخرش.
ابتسم وتحرك مغادرا، ولكن تلاشت ابتسامته بمجرد خروجه من الباب، تلاشت فهو الآن يستعد لمقابلة ماضيه، تلمع الآن في ذهنه تلك الأشياء التي لا ينساها أبدا، صوت "كارم" يقول:
هو الزفت ابن اختك ده هيفضل اخرس كده لحد امتى؟
صوته مجددا وهو ينطق بانزعاج:
عارف لولا القرشين اللي أبوك بيبعتهم، كان زماني راميك برا أنت وخالتك دي.
أغمض "عيسى" عينيه وهو يستمع مجددا:
فرحانة يا ختي انه فالح في الدراسة، لما أشوف أخرة تربيتك ليه ايه!
صراخ خالته وهي تقول برجاء:
ابعد عنه يا "كارم"
امتزج بصوت في سن المراهقة يخبر ببغض:
أنا عمري ما هبقى فاشل.
ليسمع صوت زوج خالته يقول بتبجح:
لا فاشل، وهتفضل فاشل.
ثم يدفعه بعيدا بكل عنف.
عاد "عيسى" للواقع، فتح عينيه وأتى ليكمل النزول، ولكنه وجده أمامه... بل إنه توقف عن طلوع الدرج حين وقعت عيناه على "عيسى"...طالعه بغير تصديق، فضحك "عيسى" مرددا بنبرة بان فيها البغض...نبرة جعلت "كارم" يشعر بما تنطوي عليه خاصة وهو يقول وعيناه لا تفارقه:
"كارم"... ليك وحشة يا راجل.
غمز له مختتما:
" عيسى نصران" بنفسه جاي يشوفك.
ربما ننسى الكثير من الماضي، ولكن ماضي كماضيه لا يُنسى أبدا.
يُتبع