رواية رحلة الآثام الفصل السابع والعشرون 27 بقلم منال سالم
الفصل السابع والعشرون
(العوض)
ما يفرضه على الجميع لم يكن مجرد رأي عابر، أو اقتراح ضمني قابل للمناقشة، بل حقائق إجبارية واجبة التنفيذ، لهذا بدا من العسير عليها تقبل هذه النقلة المفاجئة والغريبة، وما زاد من غرابة هذا الأمر عليها هو انصياع زوجها له، وترحيبه بالسفر والرحيل. استنكرت ما أخبرها به، وهتفت في استهجانٍ أشد، وقد تشنج كامل وجهها:
-إزاي توافق على الهبل ده يا "ممدوح"؟
أجابها في صوتٍ هادئ وهو يسترخي أكثر على الأريكة:
-طالما المصلحة معاه، ليه لأ؟
جلست إلى جواره بتعصبٍ، وراحت تلوم رضوخه في انفعالٍ متزايد:
-ده بيتحكم في حياتنا، في الهوا اللي بنتنفسه، مش ممكن أسمحلك توافق على ده.
مد ذراعه ليمسك بكتفها، ضغط عليه برفقٍ، وقال:
-صعب نواجهه مع نفوذه التقيل.
اشتعلت نظراتها غيظًا، وهدرت في إصرار:
-خلاص نسيبه يغور، ونفضل أحرار في حياتنا، وهو أكيد هينسانا.
هز رأسه محتجًا على كلامها الذي أعده ساذجًا، قبل أن يوضح لها بتعقلٍ:
-مش مع "مهاب" يا "تهاني"، ده لازم ناخده بالسياسة مش بالعافية.
ثم ابتسم لها، وأضــاف:
-وبعدين فترة وتعدي يا حبيبتي، احنا مش خسرانين حاجة، يبقى إيه الضرر علينا؟
احتدت نظرتها المليئة بالإنكار تجاهه، ونفضت ذراعه عنها، لتقوم واقفة، لم تحد بعينيها الحانقتين عنه، وانفجرت فيه بعاصفة كلامية متحيزة وهي تشير بإصبعها له:
-وسمعتنا؟ ومجهود السنين اللي عملناه هنا؟!!
نهض بدوره ليواجهها، وأمسك بها مجددًا من رسغها ليعلق عليها:
-شوفي لو "مهاب" فيه كل العبر بس حاجة مهمة بتميزه، إنه دايمًا مابيقعش إلا واقف.
حاولت تحرير يدها من قبضته وهي تسأله في تخبطٍ:
-مش فاهماك! إنت كده بتحيرني بزيادة!!!
استرخت قبضته على معصمها، لتنخفض في بطءٍ، وتتخلل أصابعه أناملها، ليتشابكا معًا في اتحادٍ، وصوته يخاطب أذنها بلهجة العاقل:
-يعني "مهاب" مش هياخد الخطوة دي، ولا هيجبرنا نروح معاه إلا لما يكون مظبط أموره كويس جدًا، وماتنسيش إنه يعتبر من صفوة المجتمع.
كان يعرف جيدًا من أين تؤكل الكتف، لهذا استطاع أن يلين رأسها المتيبس بقدرته الفائقة على الإقناع، فاسترسل مستفيضًا في توضيح مخاطر معارضته:
-كمان إنتي لو رفضتي مش هيفرق معاه، بس هيحرمك من ابنك الغالي، ها .. إنتي تقدري تستغني عنه؟
في التو قالت وبلا تفكير، وكأنها قد استطاعت رؤية الجانب الآخر –والمظلم- من الأمر:
-لأ طبعًا.
حافظ على ثبات بسمته الماكرة، وطلب منها:
-خلاص، اعتبريه تكليف، وخديه بالرضا.
نكست رأسها قليلًا، وهمهمت معترفة في نبرة مضطربة:
-أنا حقيقي بقيت أخاف من "مهاب" أكتر من الأول، مش مطمنة.
لم يحرر أناملها، وطوقها من خصرها، ليضمها إلى صدره، راح بعدئذ يمسح على ظهرها بنعومة وهو يؤكد لها:
-اهدي يا حبيبتي، مش هيقدر يعملك حاجة وأنا موجود، أومال أنا جاي على نفسي ليه عشانك؟
حينئذ رفعت عينيها لتنظر إليها، تبسمت عندما أخبرها:
-ده أنا كلي فداكي.
ثم أتبع ذلك قبلة ناعمة على شفتيها، لتتنهد بعدها قائلة:
-حبيبي، وده اللي يمكن مريحني شوية...
ما لبث أن غلف صوتها التوتر حينما أتمت جملتها:
-بس برضوه لازم ناخد بالنا.
حرك رأسه مؤكدًا وهو يعاود ضمها إليه:
-طبعًا.
من طرف عينه، لمح "ممدوح" صغيرها قادمًا، فتعمد التودد إلى والدته بحميمية متجاوزة، كما لو كان يشتهي قربها كثيرًا، مما قد يسيء عقل الصغير تفسير ما يدور، لوجود بعض الجموح بتصرفاته، وذلك فقط ليستثير حنقه، كأنما يريد الانتقــــام منه بطريقته الخبيثة، ونجح في ذلك. سرعان ما تنبهت "تهاني" لوجوده، وهتفت بتحرجٍ شديد وهي تتراجع عن زوجها؛ لكن وجهها ظل مضرجًا بحمرة ساخنة:
-حبيبي، إنت رجعت من النادي إمتى؟
استطرد "ممدوح" كذلك بأسلوبه الوقح المغيظ، ونظراته الشامتة مرتكزة عليه:
-"أوس"، إنت دايمًا تيجي كده في الأوقات الصح!
تجاهله الصغير مُباعدًا عينيه القاسيتين عنه ليخاطب والدته في صوت متجهم:
-ماما عاوزك.
استمر "ممدوح" على ملاطفته المستفزة لزوجته أمام ناظريه، رغم محاولتها لصده بتهذيبٍ، قبل أن يغيظه أكثر بقوله السمج:
-هي مشغولة معايا، لما تخلص هتجيلك.
في صوتٍ صارم، ووجه غائم أمرها الصغير:
-تعالي دلوقتي.
هزت رأسها مرددة بعد نظرة سريعة ألقتها نحو زوجها:
-طب روح يا "أوس" وأنا هحصلك.
حدج كلاهما بنظرة نارية قبل أن يغادر، لتعقب "تهاني" في تحرجٍ خجل:
-لازم ناخد بالنا واحنا مع بعض، "أوس" بيضايق.
رد عليها بعبوسٍ:
-مش إنتي دايمًا تقولي عنه عيل؟ ماتكبريش الحكاية.
صممت على رأيها في اتخاذ الحذر التام في ممارسة طقوس الهوى:
-برضوه، أنا مش عايزاه يزعل.
لحظتها وجدت منه جفاءً عجيبًا، وكأنه خاصمها، أولاها ظهره قائلًا:
-براحتك.
انتابها شعور الندم، فلحقت به تسأله في جزعٍ:
-إنت اتضايقت ولا إيه؟
رد باقتضابٍ:
-عادي.
وكأن ضميرها يؤنبها على تسرعها، هتفت تناديه في نبرة آسفة:
-"ممدوح"!
لم يكلف نفسه عناء الرد عليها، زاد من قلقها رؤيتها إياه وهو يرتدي سترته استعدادًا لذهابه، سألته في توترٍ ممزوج بالخوف:
-إنت خارج؟
وضع مفاتيح سيارته في جيب سترته، وكذلك علبة سجائره، ليقول بإيجازٍ مماثل لباقي ردوده السابقة:
-أيوه.
حلت دهشة مرتاعة على وجهها، وهتفت:
-دلوقتي؟
ظنت أن خروجه الآن ما هو إلا ردة فعل لمطلبها، اعترضت طريقه، واستوقفته من ذراعيه بكلتا يديها، لتتوسل إليه وهي تشد عليهما بأناملها:
-عشان خاطري ماتمشيش وإنت مضايق مني.
انتشى داخله لقدرته الفائقة على تطييعها وإخضاعها بأقل مجهودٍ، وضع ابتسامة صغيرة على محياه قائلًا، ويده ترتفع لتمسح على وجنتها بنعومةٍ:
-حبيبتي، أنا ورايا كام مشوار عاوز أعملهم...
تخللها شعور الارتياح، وبادلته الابتسام، لكن تبدد حالها سريعًا عندما اختتم جملته بما أرعبها:
-وهعدي على "مهاب"!
عكس تعبير وجهها، وأيضًا نظراتها، هذا الفزع الكبير، فاستجدته بأنفاس متقطعة:
-بلاش تروحله، هيأذيك!
قال مطمئنًا إياها:
-مايقدرش، وبعدين أنا هشوف دماغه فيها إيه.
استردت أنفاسها بصعوبةٍ، ومع ذلك أوصته:
-طب خد بالك يا "ممدوح"، مش عاوزة أي حاجة تحصلك.
أكد لها بثقة واضحة:
-ماتخافيش عليا.
انصرف بعدما منحها قبلة مقتضبة على جبينها، لتظل ماكثة في موضعها والخوف يتسلل إليها من تخيل حدوث الصدام بينهما، إن أبدى زوجها تحيزه لموقفها المعارض للذهاب، هكذا ظنت بحماقةٍ!
......................................
حياته منذ الميلاد كانت ناعمة، مخملية، مملوءة بكل الترف والرفاهية، لذا ادعاء حرمانه من السلطة والنفوذ كان غريبًا، ومريبًا. جلس "ممدوح" مواجهًا لرفيقه في بيته شبه الخالي من الأثاث، والخدم. سأله في دهشة متعاظمة بعدما قص عليه بإيجاز ما أراد أن يعرفه فقط:
-معقولة الباشا يعمل معاك إنت كده؟
هز "مهاب" رأسه إيجابًا، فتابع الأول مستنكرًا، وبشيء من الشماتة كذلك:
-ده إنت كنت فرخة بكشك عنده، إزاي يسلم الإدارة لـ "سامي"؟
بعد زفرة سريعة أخبره:
-مش فارق معايا، أنا محتاج أظبط حاجات تانية أهم.
سأله في استهجانٍ ساخر:
-هو في أهم من الثروة والفلوس والعز والجاه؟!
رمقه بهذه النظرة المحذرة قبل أن يرد:
-بلاش تتدخل في اللي ملكش فيه.
اكتفى "ممدوح" بتحريك رأسه بإيماءة صغيرة، ومع ذلك ظل داخله يردد بسخطٍ ناقم، وكأنه يحسده فيما لم يملك منذ نعومة أظافره:
-طبعًا، لازم تتنى وتتفرد عليا، هتحس بالغلب إزاي وإنت مولود وفي بؤك معلقة دهب؟!!
انتشله "مهاب" من شروده الحاقد بسؤاله:
-خلاص جهزت نفسك؟
أجابه وهو يمرر يده أعلى رأسه:
-فاضل كام حاجة كده هظبطها، وبعدين نحصلك أنا والمدام.
أشار له "مهاب" بيده هاتفًا في لهجة جادة، تحمل في طياتها الإنذار:
-و"أوس" قبلكم .. فاهمني!
ألصق "ممدوح" بثغره ابتسامة سخيفة قبل أن يعقب:
-طبعًا.
مرة ثانية حذره "مهاب" مشيرًا بإصبعه:
-ويا ريت تبطل تضايقه، لأن زعلي وحش.
تنحنح مبررًا بالكذب:
-هو بيتعب أمه، فبتضطر تطلب مساعدتي عشان تعرف تسيطر عليه.
لم يقتنع بزيف ادعائه، وأمره بتسلطٍ متكبرٍ:
-سيبه يعمل اللي عاوزه، محدش ليه كلمة عليه، وهي بالنسباله مجرد خدامة وبس!
وقتها بدا تعبير وجه "ممدوح" غير مقروءٍ، فاتر، فقط ابتسامته اللزجة ذبلت قليلًا، خاصة عندما واصل إملاء أوامره عليه:
-ويا ريت تحاول تخلص منها في أقرب وقت.
عاد ليبتسم بقوة وهو يؤكد له بمكر الثعالب:
-هيحصل، ما إنت عارفني، بحب التجديد .. زيك!
.........................................
بعد مرور شهر، اضطر للعودة للعاصمة المصرية عندما علم بتدهور حالة والده الصحية، لم يكن ليتركه وحيدًا في أيامه الأخيرة، ظل ملازمًا له، وساعيًا بكل ما يستطيع لمداواته؛ لكن فارقت الروح الجسد، وانتقلت للرفيق الأعلى، ليقوم مع شقيقه بتشييع جثمانه في جنازة مهيبة تليق به كرجل أعمال معروف في الأوساط المجتمعية، ثم تواجد كلاهما في دار المناسبات المرموقة بعد يومين، حيث أقيمت مراسم تلقي العزاء فيه. جلس الاثنان متجاورين، فبادر "سامي" بالحديث في نبرة غبطة، شبه سعيدة، وكأنه عاجز عن إخفاء سروره لتهميش دور شقيقه المفضل لدى أبيه:
-مش عاوزك تزعل يا "مهاب" إن الباشا اختارني أمسك كل حاجة، رغم إنك المفضل عنده.
لم ينظر ناحيته، وتركه يكمل وصلة إغاظته بترديده الفارغ:
-بس ده الصح، هو بيثق فيا، وأكيد شاف فيا حاجة مش موجودة فيك.
شعر بيده تربت على فخذه، فرفع بصره إليه، ليجده يقول بعينين ضاحكتين، وكأن في مـــوت والديهما سعادة لا توصف له:
-اطمن، لو احتاجت حاجة أنا جمبك.
مط فمه، ثم أوجز قائلًا:
-أكيد.
انتصب "سامي" في جلسته على مقعد العزاء، واستطرد في لهجة المتحكم، وكأن ما ظفر به بعد مماته هو التعويض الملائم الذي يستحقه بعد إقصائه لسنواتٍ:
-أرباحك السنوية هحطهالك في حسابك، ده غير مبلغ شهري محترم هيوصلك أول كل شهر.
كان من السخيف التطرق لهذه الأمور في مثل هذا الظرف، لهذا لم يدع "مهاب" الأمر يمر، واستعتبه بضيقٍ:
-بيتهيألي الكلام ده مش وقته، احنا في عزا الباشا، وده مش أي حد، الناس كلها جاية عشان عارفة قيمته كويس، فيا ريت نحترم ده.
تلونت بشرته بحمرة طفيفة جراء إحراجه الصريح له، وقال حفظًا لماء وجهه المراق:
-أه طبعًا، بس عشان الأمور تبقى واضحة من الأول بينا.
التزم الصمت بعدها، ورغم ذلك لم يستطع التغطية على ابتهاجه الملحوظ للجميع.
............................................
لا شك أن الخروج في هذا النهار الحار كان غير موفق بالمرة، خاصة مع اقتراب الوقت من الظهيرة، وعدم وجود ما يحجب أشعة الشمس القاســـية. تجولت "فردوس" مع جارتها في منطقتهما الشعبية وهما تحملان من الأكياس ما يكفي لسد احتياجاتهما لأسبوع أو أكثر. توقفت كلتاهما عند إحدى البائعات، مالت "إجلال" على رفيقتها لتهمس لها بشيءٍ في أذنها، ثم ابتعدتا عنها، وهما غير راضيتان عن بضاعتها الذابلة. مصمصت "فردوس" شفتيها، وأردفت قائلة في تبرمٍ:
-ما كنا جربنا نجيب حاجتنا من السوق التاني، أسعاره أرخص، والخضار فيه طازة.
تذمرت رفيقتها على اقتراحها هاتفة:
-بس مشوار يهد الحيل يا "دوسة"، وأنا مش قادرة ألف.
ردت عليها بتأففٍ:
-ما هو البياعين مطلعين عينا.
ضحكت لوهلة، وعلقت:
-هو إنتي يعني بتسكتيلهم؟ ده إنتي أستاذة في الفصال!
ابتسمت لما اعتبرته مدحًا، وتابعت مشيها معها إلى أن شعرت برأسها يدور، توقفت فجأة، واعترتها ربكة غريبة، كأنما تخشى فقدان اتزانها، لاحظت "إجلال" ما أصابها فسألتها بتوجسٍ شبه قلق:
-مالك يا "فردوس"؟ إنتي بخير؟
أخبرتها في صوتٍ أظهر إجهادًا غريبًا:
-مش عارفة، زي ما يكون دايخة كده والأرض عمالة تلف بيا.
في التو جمعت ما تحمله كلتيهما في يدٍ، وحاولت إسنادها من ذراعها بيدها الأخرى، لتحول دون وقوعها، وطلبت منها في تعجلٍ:
-طب تعالي هنا عند البقال ترتاحي شوية.
كانتا قريبتان من المحل، فسارتا بضعة خطوات ناحيته، وصوت "إجلال" ينادي بتخوفٍ:
-كرسي أوام الله يكرمك يا عم "زهير"!
نهض ذلك الكهل من على مقعده فور أن وجدهما يقتربان منه، وسحبه تجاههما مرددًا دون تأخيرٍ:
-اتفضلي يا ست البنات.
عاونت "إجلال" رفيقتها على الجلوس، ثم تركت الأكياس جانبًا، وراحت تجفف بطرف حجابها العرق المتجمع عند جبينها وهي تفسر ما أصابها:
-أكيد دي ضربة شمس!
شعرت "فردوس" وكأن رأسها يصبح أكثر ثقلًا، وجسدها أكثر تراخيًا، بدا من الصعب عليها التنفس بسهولة، فحاولت حل طرفي حجابها لتسحب أنفاسًا عميقة إلى رئتيها، كانت قادرة على تمييز صوت "زهير" وهو يخاطب رفيقتها:
-ما الجو بصراحة النهاردة مش طبيعي.
ثم سمعته يكلمها بوديةٍ:
-ألف سلامة يا ست "فردوس"، نجيبلك عصير ولا حاجة باردة تروقي بيها دمك؟
ردت عليه معتذرة وهي ترفع يدها ببطءٍ لتشير له:
-مالوش لازمة، دلوقتي هبقى كويسة.
تساءلت "إجلال" في جزعٍ:
-إيه اللي جرالك بس ياختي؟ ده إنتي كنتي كويسة وزي الفل.
بصوت واهن أجابت:
-مش عارفة، بس آ...
وقتئذ حلت غيمة من الظلام على مدارك "فردوس"، فشدتها قسرًا إليها، لتغرق فيها، وتفقد وعيها. صرخت "إجلال" بفزعٍ وهي تحتضن وجهها بيديها لتهزها منه:
-يا نصيبتي، "فردوس" ردي عليا!
ضرب "زهير" كفًا بالآخر، واقترح في الحال:
-أنا هجيبلها كولونيا من عندي تفوقها:
سارع في خطاه عائدًا لداخل بقالته؛ لكن "إجلال" طلبت منه في صوت مرتاع وهي لا تزال تحاول إعادة رفيقتها لوعيها:
-الله يكرمك يا عم "زهير" شوفلنا كده سي "عوض" إن كان موجود في الجامع اللي على الناصية ولا لأ.
رد عليها بصوته المرتفع:
-على طول أهوو.
ناولها زجاجة العطر، ثم انطلق باحثًا عن زوجها في المسجد القريب، على أمل إيجاده لإطلاعه على ما أصاب زوجته فجــأة.
.........................................
بمعاونة بعض أهل المنطقة، قام بنقلها إلى المستوصف الطبي المتواضع، خاصة حينما عجزوا عن إفاقتها. ظل "عوض" منكفئًا برأسه على المقعد المعدني المتأرجح، يدعو الله في نفسه بتضرعٍ ألا يصيبها مكروه، كان مهمومًا، وواجمًا، فإن امتلك من المال ما يكفيه، لأرسالها إلى مشفى آخر لديه من الإمكانيات الطبية ما يسعفها. لم تتركه "إجلال" بمفرده، وعادت إليه لاحقًا بعدما وضعت أكياس الطعام في بيتها، جلست مقابلته، واستطردت تكلمه:
-ربنا يطمنا عليها.
هز رأسه معلقًا دون أن ينظر تجاهها:
-إن شاءالله خير، ويطلع الموضوع بسيط...
تذكر عزوفها عن تناول الطعام مؤخرًا، فندم على عدم اكتراثه بهذه المسألة، وقال في ضيقٍ:
-هي بردك لازم تاخد بالها من صحتها، بقالها كذا يوم مابتكلش كويس.
عاتبته "إجلال" باستنكارٍ جلي:
-وإنت ساكت يا سي "عوض"؟
أخبرها بشيء من التبرم:
-ما إنتي عارفة هي بأحوال، وأنا مابرضاش أغصب عليها في حاجة.
ظلت على لومها، فاستطردت:
-أهوو جت على دماغها في الآخر.
توقف كلاهما عن النقاش عندما جاءت إحدى الطبيبات من الداخل وهي توجه سؤالها إليهما:
-إنتو اللي جايين مع المريضة اللي جوا؟
في التو انتفض "عوض" واقفًا، وسألها بلوعةٍ، وعيناه تتحركان في توترٍ:
-أيوه يا ست الدكتورة، خير؟ هي كويسة؟
نهضت "إجلال" هي الأخرى، واستطردت تقول من تلقاء نفسها:
-أنا قولتلها بلاش نلف كتير في السوق بس هي صممت.
وزعت الطبيبة نظراتها بينهما، وقالت بابتسامة لطيفة:
-اطمنوا، هي بقت أحسن...
تنفس "عوض" الصعداء، وشعر بالارتياح لكونها بخير؛ لكن يبدو أن ذلك الشعور كان لحظيًا، حيث حل محله الارتياب التام عندما حذرتهما الطبيبة:
-بس لازمًا يبقى في راحة تامة الفترة الجاية.
تساءلت "إجلال" من فورها باستغرابٍ:
-ليه؟
بوجه بشوش، ونظرات متحمسة، جاء رد الطبيبة بسيطًا ومباشرًا؛ لكنه احتوى في طياته على أسمى معاني التعويض، والإرضاء:
-عشان المدام حامل ...........