رواية غوي بعصيانه قلبي الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم نهال مصطفي
خرجت " حياة " من المرحاض وهي تلملم في فُستانها الطويل الذي كاد أن يهوى بطولها حتى سقطت بين يدي رجل أحست بأنها تعرفه جيدًا ، ذو ملامح مألوفة لها ولكن كان قلبها يحمل النفور منه ، حتى تفوه مصدومًا :
-سيــلا !
#اقتباس
تتنهدت كثيراً كأن شيءٌ ما داخِل صدرهِا يحاولُ الهُروب ولكنها تجهل حقيقة هذا الشيء تمامًا ، طالعت تلك العيون السوداء التي تحمل ظُلمة أعوامها والتي كانت سببًا لبُكائها ليالٍ طويلة ، تدلت جفونها أخيرًا إلى كفها الرقيق المستند على ذراعه الشائك بأسلاك الأنانية ، ثم تفوهت بنبرة خافتة وسألته :
-أنت تعرفني !
تبسم بفرحة ممزوجة بالذهول من رؤيتها وقال بكلماته المتقطعة التي تُغلفها السعادة :
-كُنت متأكد أنه هيجي اليوم اللي نتقابل فيه !
ثم تاه ناشدًا بسحرها :
-كل حاجة فيكي بقيت أحلى ، كُنت فاكر أن الحُزن هيهزمك ، بس الواضح أنك هزمتيه كعادتك ، وهزمتي قلبي للمرة المليون !
مسح على رأسه مُتنهدًا بعدم تصديق لرؤيتها :
-أحنا لازم نتكلم ، ونصفي بحور القسوة اللي ما بينا ! لازم تفهمي أنا عملت كده ليه ؟! أنا كنت عايزك ليـا وبس مهما كانت الوسيلة .
تراجعت مبتعدة عنه مُستمعة إلى صوت دقات قلبها التي تحسها على الهرب ، على الفرار من ذلك الصعلوك البشري الذي أيقظ شهية الحزن بروحها ، عبثت في شعرها بخجل يُحاوطه الجموح وسألته :
-أنت مين !
-بلاش طريقتك دي يا رسيل ، أحنا خلاص القدر جمعنا وجيه الوقت اللي أصلح فيه غلطي !
هل للعودَة معنى بعدَ أن ملّ الفؤاد من الانتظار ؟! بعد أن تجرع عاقبة حُبه وثقته دماء القهر والكسرة !
حاول " قاسم " أن يقترب منها ليلمس ذراعيها ويُذكرها بقصتهم المُولمة التي خدمها البحر كي تنساها للأبد ولكن كان صوت "عاصي" الحاد مانعًا له كالسيف القوي وهو يطوق خصرها بذراعه بغضب دفين وعيناه الثابتة على ذلك الشخص الذي حرك مشاعر تملكه إليها وقال بفظاظة :
-في حاجة معاكِ !
أجابته بـ تيهٍ وهي تبعد عيونها عن ذلك الرجل الغريب وقالت برجفة تعتريها :
-يلا نمشي !
وقف " قاسم " مشدوهًا من تلك الصدمة التي رأها بعد ما غادرها عاد ووجدها بين ذرعي رجل غيره ، اشتعلت نيران الغيرة بجوفه ، وتشعب دُخان الحيرة وهو يتسأل " كيف أصلح الزمان قلبها الذي افسدته عمدًا ! " ، دخل المرحاض وهو يطالع ملامحه الخميرية بالمرآة ويمسح على ذقنه متوسط الطول وهو ينتويها حربًا كي يُعيدها إليه مهما كان السبيل وعرًا ! طاحت يده بكل ما يقابلها عندما تذكر إنكارها له ، وتعمدها بنسيانه ، هتف صارخًا :
-مش أنا الرجل اللي يتنسي يا بنت قنديل المصري !
على حِدة تقدم عاصي ناحية الطاولة ولا زال ذراعه يطوقها برفق رغم ملامحه الفظة التي كست وجهه وهو يكرر سؤاله :
-كان عايز منك أيه !
نفذ صبرها من تكرار سؤاله الذي لا تمتلك ردًا عليه ، و لا حلًا لتلك الثورة الناشبة بصدرها ، زفرت بحدة وقالت :
-قُلت لك معرفش ! وتقدر نروح نسأله لو مش مصدقني !
تبسم مُجاملة بوجه النادل الذي رمقه إثر علو صوتها و هتف من وراء فكيه المُنطبقين :
-هنشوف الموضوع ده بعدين !
أزاحت يده من فوق خصرها بجزعٍ من تحكمه بها وقالت مُهددة وهي تقف أمامه :
-موضوع وخلص ! ولما أقول لك مفيش حاجة يبقى تصدقني !
رفع حاجبه بعدم تصديق :
-وايه اللي يخليني أصدقك !
طالعت عيونه متعمدة وقالت بتحدٍ :
-عشان أنا مش الأشكال اللي تعرفها !
مط شفته السُفلية كأنه تعمد إثارة غضبها أكثر وقال ببرود :
-وأنا أضمن منين !
غزت الجُملة غرورها الشامخ وتفوهت بعصبية زائدة وهي تناطحه بعنف :
-وأنا مش هبذل مجهود عشان أخليك تصدقني ! عارف ليه ؟
ثم دنت منه خطوة سُحلفية وقالت بتمرد :
-عشان أنت بالنسبة لي ولا حاجة !
رفع كفيه إلى وجهها وأخذ يهندل في خُصلات شعرها المُنسدلة وقال بهدوءٍ أشعل بداخلها ألف حرب :
-كده أحلى كتير !
ثم تبسم كأن شيئا لم يحدث وقال برسمية :
-يلا ، عشان الضيوف وصلوا .
أمسك كفها وسحبها خلفه بتعالٍ وهو يتقدم نحو الطاولة الكبيرة التي يحاوطها الوفد الأيطالي ، وعند وقف امام مُقدمة الطاولة وقف الجميع لاستقباله ، حتى ختم تعارفهم بـ تقديمها لهم وهو يقول بالإيطالي الذي لم يتقنه :
-حياة مراتي !
رسمت ضحكة مصطنعة مُرحبة بهم ثم همست بآذانه :
-كل ما اسمعك تقول الكلمة دي بتجنن !
فتح زر سترته الفخمة وهو يجلس بخيلاءٍ ويجيبها بصوت لا يسمعه غيرها :
- لازم تتجنني ! أنك تبقي مراة عاصي دويدار دي ولا في أحلامك !
لم يمنحها الفُرصة للرد بعد قذف قنبلته الموقوتة برأسه ومال جهة اليسار ناحية يسري مُتسائلًا :
-المُترجم فين !
اضطرب يسري بحيرة :
-معاليك عربيته عطلت وبعتت حد يجيبه بس مش عارف !
كور قبضة يده بغضبٍ عارم وهو يتهامس له بحذر:
-اتصرف ، شوف أي حد غيره ! مش هنقعد زي الأطرش في الزفة كده .
تقدم قاسم في تلك اللحظة إلى الطاولة ليجلس على يمين " كارين " ابنة" آندرو " والمسئول الأول عن تلك الشراكة ، قُذفت أعين " حياة " و " عاصي " في آنٍ واحد نحو هدفٍ واحد وهو قاسم ، مال عاصي على يسري مُتسائلًا :
-مين ده كمان !
تهامس يسري قائلًا :
-ده " قاسم صفوان " المدير التنفيذي لكل شركات آندرو ، وهو اللي هيمسك المشروع الجديد هنا ، ويبقى خطيب كارين ..
ما زالت أعين عاصي ثابت كالصقر عليه خاصة عندما لاحظ تركيزه الشديد مع حياة ، شرع كلا من قاسم وكارين بالتحاور حتى سألها عن هوية الرجل الفظ الذي يقابلهم وعن تلك الفتاة التي أخبرته بأنها زوجته ، تبدلت معالم وجهه بجمر الغضب فـ تحمحم بجدية :
-جاهزين نبتدي !
أطرق يسري بحرجٍ :
-في شخص بس على وصول لووو ..
انكمشت ملامح قاسم برسمية :
-الدقيقة عندنا بفلوس ، وكارين عندها طيارة كمان ساعتين ..
كاد يسري أن يجادله ، فألجمه عاصي بحدة :
-اتفضلوا ، قولوا خطتكم للمشروع الجديد ..
شرعت " كارين " بالتحدث باللغة الأيطالية عن أهداف المشروع وأبعاده وكل ما يشمله ، ثم سمحت لقاسم بعرض التصميم الأولي لتلك القرية السياحية الجديدة والتي سَتُبني على يدي مهندسي أجانب مع احتفاظهم بشرط عدم تدخل العنصر المصري إلا بالدعم المعنوي فقط .. حاول عاصي التركيز قدر الإمكان لفهم ما يُقال رغم معرفته الشحيحة بتلك اللغة ، أكمل قاسم التحدث بنفس اللغة وهو يضع قيوده الصارمة نحو المشروع ونسبة الأرباح حتى ختم حديثه متسائلا بالايطالي عن رأيه .
تهامست حياة إليه بحذرٍ شديد ثم سألته :
-هي نسبتك كام في المشروع ده !
رد عليها بعدم اهتمام :
-51% ..
ثم زفر بضيق ليسري :
-ما تنجز تشوف لنا الجدع ده فين !
فكرت حياة في ذلك الحوار الذي انفرد به الوفد الأجنبي وشروطهم المقيدة وترجمتها الدقيقة لحديثهم ثم قالت له بتحيرٍ :
-انت هتوافق على الكلام اللي اتقال ده !
أحس عاصي أنه بمأزقٍ ثم قال بالانجليزية وهو يسحب الملف :
-هنعرضه على مجلس الإدارة والرد هيوصلكم كمان يومين !
تناولت حياة الملف واطلعت على البنود به سريعًا تحت دهشة من عاصي بسبب تصرفها الغامض ، و تحت أعين قاسم الثاقبة الذي يدرك جيدًا اتقانها لتلك اللغة التي تعلمتها معه ، وعنادها وأنها حتما سترفض تلك القيود ، زفرت بضيق ثم قالت ناصحة :
-في حاجة غلط !
-أنت بتعرفي إيطالي !
رأي حيرتها تخيم على أهدابها لا تعرف ماذا تُجيبه ، أطرقت بخجل مبطن بالعجز وتمتمت :
-أنا فهمت كل اللي اتقال ، وشروطهم كـ الآتي ..
شرعت حياة في سرد اللائحة المُقيدة وشروط اذعانهم الذي لا يمتلك إلا الرضوخ عليها ، ظلت تسرد ما بها بفصاحة لغوية ابهرت عاصي وكل من معهم ، وأغضبت قاسم الذي يعرفها ، رباها علي يده حتى أخذت منه ما يلزمها لمواجهة الحياة من قوة و رمت بالبحر ما يزيدها قسوة ، من شدة غضبه كُسر القلم بين قبضة يده خاصة بعد ما رأه يحوي كفها برفق ويقول بشموخ :
-طيب عايزك تترجمي كُل كلمة هقولها لـ كارين هانم ، وتوصل لآندرو باشا .
مد يده إلى يسري كي يخرج نصيب حصته التي يحق له به إدارة المشروع ، وأخذ يلقن " حياة " ما تترجمه حتى ختم الاجتماع بـ :
-يعني أنا الوحيد اللي من حقي أقول شروطي ، وحضراتكم يا تقبلوها يا ترفضوها !
انفعل قاسم بغضب أعمى وهو يضرب على الطاولة بجنون خاسرٍ :
-ده اسمه تهريج !
أمسكت "كارين" بكفه كي يهدأ وأن الأمور لا تنحل كهذا ، ولكن ما كان يحرقه أشد من خسارته لمشروع عمره ، وسعيه لخمس سنوات حتى وصل لتلك المكانة ، فض عاصي الاجتماع وهو ينصب قامته ويمد لها كفه كي تنهض ، راقبته في توجس حتى لامست كفه ووثبت بتردد حتى وقفت بجواره مُشتتة بسبب كل ما اقتحم رأسها ولم تجد له حلًا ، كاد أن بنصرف برفقتها ثم توقف كمن تذكر شيء ما وهو يقول :
-ما أنت بتتكلم مصري أهو !، عشان كده هقلع توب البهوات وهكلمك بلغة ولاد البلد ، قائمة شروطي مع يسري ، وابقي اشرحها للحلوة بطريقتك ، والشرط الأول فيها أن 75٪ من المشروع هيتم علي يد المصريين والتنفيذ هيكون بطراز فرعوني أصيل .. ااه وابقى الاجتماع الجاي تحاول تاخد مُهدئات لان ده مش اسلوب للشغل مع عاصي دويدار !
••••••••••
يجلس مُراد على طرف مخدعه أمام شاشة الحاسوب ، يقوم بتصميم ورسم أحد المنشآت المعمارية ووضع لمساته المميزة على كل تصميم ، ذلك الذي جعل له اسمًا مُميزًا في سوق الهندسة المعمارية ، وقف حائرًا أمام أحد الفراغات بالبناية محاولًا ابتكار وخلق ميزة تخصه ، ظل حائرًا حتى ألتفت إلى ملامحها النائمة فاستدل منها على طريق للجنة ، تلك الملامح الملائكية المُشرقة التي تحمل رائحة الورد وقال لنفسه :
-يبقى مشتل ورد متدرج ..
ومن الجهة الأخرى للممر رسم أرجوحة وطاولة وعدد قليل من المقاعد ، راق له التصميم وطالعه بسعادة لانتهائه في وقت قليل ، لاحظ يقظتها وهي تململ فوق الأريكة حتى تفوهت بصوتها النائم وهي تنهض :
-صباح الخير !
لم ير أحدًا مُشرقًا يحمل كل هذا البهاء بإبتسامة واحدة مثلها ، قفل شاشة الحاسوب و دار إليه بوجهه الباسم :
-صباح الورد ..
ثم تمالك أهوائه سريعًا و انكمشت ملامحه وقال :
-بعد كدا أنتِ تنامي على السرير وأنا اللي هنام على الكنبة !
أطرقت بخجلٍ :
-ليه ! قصدي أنا مرتاحة كده !
رد بتلقائية :
-بس أنا مش مرتاح ..!
أصرت على موقفها وهي تتجاهل النظر بعيونه :
-أنا كويسة كده ! أنا مش هعرف أنام وأنت على الكنبة !
نهض من مكانه ليجلس بجوارها وكأنه يريد قص المسافة بينهم وهو يقول بجدية :
-خلاص يبقى تنامي جمبي وو
رأي حُمرة من الخجل على وجهها لم يراها على إمراة من قبل ، تأهبت كي تهرب منه ولكنه أمسك بها ضاحكًا :
-استني بس ، رايحة فين !
ثم أسبل عيونه بتخابث :
-أنا بحاول بس ألقى حل وكده عشان نكون مرتاحين إحنا الاتنين .
هزت رأسها بخفوت ثم قالت:
-لا عادي ، أنا تمام والله متشغلش بالك !
طالعها بشكٍ وبعيون خبيثة النوايا وسألها متعمدًا هدم الجسر الفاصل بينهم :
-أنتِ مصلتيش الفجر النهاردة ليه !
برقت عيونها بدهشة وتصلبت معالم وجهها بجفاف الخجل :
-هااه ..!
ظل مُحافظًا على صرامة ملامحه التي تخفي ورائها مُداعبتها وكرر سؤاله :
-مصلتيش ليه !
غمغمت بحياء وبصوت منخفض جدًا :
-منا صليت .
-لا ، أنا صاحي من الفجر ، وأنت مصحتيش !
تسارعت ضربات قلبها و طافت عيونها في جميع أرجاء الغُرفة بخجل وهي تفرك كفيها ببعضهم حتى تفوهت :
-اه ، يمكن نمت ، قصدي راحت عليـا نومة ! أنا هقوم أعمل قهوة ، أعمل لك معايا ؟!
وثبت هاربة من أمامه كي تنجو من الإجابة على سؤاله المُحرج ، لم يتحكم في نفسه من الضحك ، لمعت عيونه وهو يسألها بمكر :
-طيب يعني لو محتاجة أودية تاني من الصيدلية زي أمبارح !
وقفت في منتصف الغرفة وكأن دلو من الماء المُثلج سُكب عليها ، دارت ببراءة وهي تتحاشى النظر إليه حتى هتفت بدون تفكير قبل أن تقع فريسة لخُبثهِ :
-خليك في حالك ..
ختمت جُملتها بصوت قفل الباب والهروب منه إلى المطبخ وهي تضع يدها على قلبها الذي أوشك على الإنخلاع ، أخذت تمسح وجهها بالماء البارد حتى تناولت منديلًا وأخذت تنشف ملامحها المرتجفة ثم ألقته باعتراض مغمغمة :
-وهو ماله صليت ولا لا !
•••••••••
بإشاحة باهتة تتفادى النظر إلى كل شيء يؤدي إليه ، تقف على أعتاب الشُرفة منتظرة أن ينتهي من فطاره ، تُجاهد نفسها تحاول أن تغرس بجوفها شيئًا من الطمأنينة حتى ولو كان وهمًا .. اقترب منها بمقعده المُتحرك وقال :
-تاني مرة مش هفطر لوحدي ، لو حابة تفطري ما نوران هاتيها تفطر معانا .
أحست بالخجل من فعلها الغير لائق وقالت باستحياء :
-أنا بعتذر بس …
-متعتذريش ، وأنا مش زعلان ، بس أنا حابب نكون عيلة ، عايز أقتـٰل شعور الوحدة من جوايا .
تفهمت وجهة نظره وتقبلتها بطاعة ، ثم قالت متحججة :
-هجيب لك الدوا !
-استني يا شمس ، عايز اتكلم معاكِ .
توقفت إثر ندائه بتردد ثم قالت :
-في حاجة ؟!
-أقعدي لو سمحتي ..
جلست على أقرب مقعد بجواره منتظرة ما سيعترف به ، ولكن كانت الصدمة عندما سألها :
-مالك !
-أنا ؟! أبدًا ، أنا كويسة .
عارض جملتها بيقين ثم قال بنبرة حادة بعض الشيء :
-لا يا شمس ، أنت طول الوقت هربانة ، وسرحانة ، حتى حجابك مفكرتيش تشيليه ! أنا آه وافقت على طلبك بس دا كان بناءً على شرط ، وهو نعرف بعض ونتعود على بعض ، لكن أنتِ مش مديانا الفرصة أصلا نتكلم ! وبصراحة مفيش راجل عنده كرامة هيتحمل المعاملة دي !
طالعته بنظرات حزينة وكأنها تود أن تعتذر له عن الشخص الذي تحولت إليه ، تعتذر عن عجزها في منحه شيئًا أو أخذ منه شيء ، أغلقت جفونها بدموع غزيرة كأنها تُريد هدم الجسر الطويل الذي شيدته بينهم ، ظلت دقائق طويلة تجهش بالبكاء الذي جعله يبتلع الكثير والكثير من كلمات العتاب بحلقهِ ، رق قلبه إثر سيول الحزن الحارقة المندفعة من عيونها ، شيء ما بدخله جعله يمد يده ليضع رأسها بحضنه وأخذ يُربت على ظهرها هامسًا :
-آشش .. أهدي أهدي ، أنا اسف والله ..
أحس بالمسئولية نحوها ، أنها شيء خُلق من ضلعه ، جزء يحتاج إلى قُربه لصدره أكثر منها ، مد ذراعه الآخر وأخذ يمسح على رأسها بتأنيب ضمير ، باتت تحت يده كحمامة ذبيحة تتلطخ في أوجاع الماضي والحاضر ، مرت دقائق مسلوبة من الإرادة حتى أدركت أنها بين يديه ، وأنا قلبها يتنفس عطره ويستمع لضربات قلبه النادمة ، انفصلت عن حضنه بحرج وهي تمسح دموعها بسرعة عاجزة عن النظر بعينيه ، فتحججت قائلة :
-هقوم اغسل وشي ..
•••••••••••
-القهوة دي مفيش فطار معاها !
استدارت مفزوعة إثر صوته الرخيم الذي قطع شرودها وبيدها فنجان القهوة ، أخذت تتنهد بصعوبة حتى جلس على مقعد البار أمامها وأتبع مُداعبًا :
-هنفطر أيه جعان أوي !
أربكتها جملته أكثر ، تركت ما بيدها وفتحت باب الثلاجة تبحث عن أي تصبير له ، ثم قالت بتوتر :
-في جبنه اعمل لك ساندوتش بسرعة .
راقت له اللعُبة ، فأصر قائلًا :
-لا جبنة أيه ! جعان اتصرفي !
قفلت باب الثلاجة بسرعة ثم قدمت له كوب القهوة وقالت بمرج :
-لو شربت القهوة هتحس بالشبع ، ووو ممكن كيك ! كُنت شايفة كيك هنا استنى أدورلك عليه .
تحركت أعينه بخبث وهو يُردف متعمدًا إثارة قلقـها :
-لالا متنفعش ، مش بحب السكريات ماليش فيها ! بقول لك جعان حاسس هقع من طولي !
شعرت بحجم الأزمة التي تورطت بها ، فتحت الثلاجة مرة أخرى وهي تفتش بعشوائية حتى أخرجت صحن " اللانشون " وحبات البيض ، وجميع أنواع الخضراوات الموجودة أمامها وأخذت تصبره وهي تتجول كالمجنونة بالمطبخ :
-طيب والله نص ساعة بس ، لو اتفرجت على التليفزيون هكون خلصت !
وثب قائمًا بلهفة غير قادرًا على تحمل الجوع وقال بحدة :
-لا كتير نص ساعة ، مش بستحمل الجوع ! وبهبط ، الحقيني بأي حاجة من عندك !
أحست بالعجز الشديد والحيرة وقلة تصرفها في موقف مثل هذا ، ضربت الأرض بقدميها كطفلة صغيرة لا تمتلك إلا البكاء ظنًا منها بأنه سيُغير شيء ، ترقرقت العبرات من طرف عينها وهي تقول بصوت مبحوح :
-أنت مفيش حاجة عجباك وانا مش عارفة أعمل أيه ، وحاسة بالذنب وانك في مشكلة وأنا مش عارفة أحلها .
لم يتوقع أنها بذلك اللين الذي يتغلب عليه القلق فيبكيها ، اقترب منها بعدم تصديق ردها الطفولي وأخذ يربت على ذراعيها بحنان بالغ ثم مال على آذانها قائلًا بحنو :
-خدي وقتك ، ساعة اتنين أنا هستناكي !
انتفضت مبتعدة عنه بارتياب وهي تكفكف عبراتها وتسأله بجزل طفولي :
-يعني مش جعان !
ضحك بصوت مسموع على صِغر عقلها وصل إلى مسامع أمه فأشعلت غضب حارق بجوفها أقسمت أن تحرقها به ، مسحت بإبهامه أخر قطرة من عيونها وقال بمزاح :
-جعان بس مش هموت من الجوع يعني ! وبعدين أنا كنت مستني منك تزعقلي ولا تضربيني بحاجة ولا تقوليلي قوم أكل نفسك ، مش تعيطي !
بللت حلقها ثم قالت بصوت خفيض رافضة قطعًا اقتراحاته التي لا تليق بها وقالت مجهشة بالبكاء :
-لا ما يصحش أعمل كده !
-ليه ؟!
-عشان حرام !
وقف مبهورًا من تلك الكلمة التي ردت في قبله بنور لم يعهد من قبل ، فـ إلي أي القبائل تنتمين ! حتى نفي عقله تلك الحقيقة أنها لم تكن من جنس بني البشر ! أنثى مثلها لا يليق بها إلا فصيلة الورد ..
لم تمنحه جيهان الفرصة للاستمتاع بتلك اللحظة المسروقة من الزمن واقتحمت المكان ممسكة بقلبها وتتمايل بوجع مصطنع :
-الحقني ، الحقني يا مراد يابني مش قادرة أخد نفسي .. بمــٰوت .
•••••••••
" مع غروب الشمس "
دق عاصي باب غُرفتها التي اختبأت بها من تحقيقاته المُريبة ، فتحت له الباب بعد تردد وقالت باختناق :
-نعم ! مش أنا قولتلك متحاولش تكلمني تاني !
هز رأسه بالموافقة وبملامحه المُتحجرة رد :
-افتكر إنك قُلتي كده .
-طيب كويس أنك فاكر .. عايز مني أيه بقى ! بتحاول تكلمني ليه ؟! وبعدين مش أنا كلامي مستفز ومش راقي !
شبك كفيه ببعضهم أمام بجحود وقال :
-قدامك عشر دقايق وتكوني جاهزة !
-هنرجع القاهرة !
-أنتِ بتحبي تسألي كتير ليه ! متعرفيش حاجة اسمها حاضر !
عقدت ذراعيها أمام صدرها بعندٍ :
-أنا مش شغالة عندك ولا جارية من سوق العبيد عشان تقول حاضر وبس !
-أول ما تخلصي خبطي عليـا ! ولا أقول لك أنا ليه بضيع وقتي فـ الكلام معاكِ !
قال جُملته وهو ينحني كي يحملها فتراجعت صارخة مستسلمة :
-تمام تمام ، هلبس !
نصب قامته مرة أخرى دون إبداء ابتسامة انتصر على الأقل ، اكتفى بمُطالعة ساعة يده ثم قال آمرًا :
-استعجلي !
زفرت باختناق ثم قفلت الباب بوجهه متمردة على عرش غروره وهي تسب في سرها وتلعن تلك الحرب الطاحنة التي تتقاتل برأسها ، تحمحم بخفوت وهو يتفقد الممر يمينًا ويسارًا ليطمئن بألا هناك أحد ليراه ثم عدل سترته وسار برأس مرفوعة نحو غرفته وهو يتوعد لها سرًا :
-أه يا بنت الـ ***
•••••••••••
وقف أمامها بسيارته كي يعوق طريقها ، مثلما هدت طريقه في الوصول إليه ، نزل " فريد " من سيارته بعد ما دهس سيجارته تحت حذائه واقترب من سارة التي أوقفها مُرغمة ، استند على سقف سيارتها بكوعه وقال بجفاء :
-فاكرة إني مش هعرف اوصل لك يا حلوة !
طالعته بتعالٍ :
-أنت فاكر أن بالفيلم الأهبل ده هخاف وأكش ! ممكن أعرف أنت عايز مني أيه !
-عايز أعرف أيه القفلة المُفاجأة دي !
ضحكت ساخرة وهي تهبط من سيارتها وتقف أمامه بتفاخر :
-يا ابني فوق واعرف انت بتكلم مين !
ثم أخرجت عُلبة السجائر من جيبها وأشعلت واحدة تعمدت نفث دُخانها الاول بوجهه وأكملت :
-وبعدين اللي كان بينا ليلة وانا مش عايزة افتكرها ، يعني متعشش جو المجروحين ده ! فوق بقى ..
شد السيجارة من يدها وأخذ منها نفسًا طويلًا ثم عادها بين أصبعيها وقال بنية خبيثة :
-كُل ده عشان اللي اسمه عاصي بتاعك جيه !
ضحكت بإعجاب مُتراجعة عن أخذ نفسًا آخر من لفافة تبغها وقالت :
-أنت متعرفش مين عاصي دويدار ! ده اللي تتساب الدنيا كلها عشانه ..
ثم شردت به بانبهار :
-تركيبة تجننك ، جنتيلمان أوي ، باشا وله هيبته ، يخلص أي حاجة مكلكعة بمكالمة تليفون ، رجل سوبر سوبر رومانتك ، قادر يوصل الست اللي بيحبها لسابع سما ..
ثم برقت بوجهه وأكملت محذرة :
-وقادر يخسف باللي يقف قدامه الأرض ..
وضعت السيجارة بين شفتي فريد وأكملت مترنحة :
-أنا رسيتك على الحوار وأنت حُر ، اسيبك بقى لانه مستنيني مش عايزة أتأخر .. ووعد مني لو وحشتني هابقى اكلمك فورًا.
•••••••••••
" علي اليخت الخاص به "
ذابت الشمس في حضن السماء فـ حل الليل ، ولمعت نجومه احتفالًا بمراسم اللقاء العظيم بينهما ، تقف " حياة " على متن المركبة شاردة بـ الالفة الرهيبة بينها وبين البحر الذي يُغازل هوائه ملامحها ويملأ فؤادها بتناهيد الاعتذار عن قسوة ما فعله بها ..
اقترب منها وبيده كأسًا من النبيذ قليل الكُحل ووقف أمامها :
-يعني ولا اكلتي ولا شربتي ومن وقت ما اليخت اتحرك وانت واقفه هنا !
تنهدت بانتشاء ثم قالت بارتياح :
-حاسة حاجات غريبة كُلها عكس بعضها !
تجرع آخر رشفة من الكأس وقال باهتمام :
-جاهز اسمعك .. ده لو حابة يعني تتكلمي ..
حدجته بإستهانة ثم قالت مُجبرة :
-للاسف مفيش قُدامي غيرك ، بس هل لو حكيت هتفهمني !
مط شفته السُفلية بتحير و قال :
-جربي ، مش هتخسري حاجة !
مدت نظراتها الاستكشافية إلى البحر والسماء والطبيعة ثم قالت ببهجة :
-من وقت ما فتحت عيني لقيتك قُدامي وأنا حاسة إني متغربة ، تايهة ، لكن أول ما شميت هوا البحر اطمنت ، حسيت إني رجعت لمكاني ..حاسة إن حياتي هنا ، وبيني وبينه أسرار كتير !
أصابت كلماتها فؤاده خاصة بعد علمه بحقيقتها وانتمائها للبحر ، استمتع بالحديث معها ثم سألها محاولًا تشتيت أحاسيسها :
-ده شعور طبيعي أول ما نشم هو البحر ، بيرمي علي قلوبنا ريحة الأمان عشان نثق فيه ونحكي له أسرارنا ، بحيث نرجع للبر خُفاف من جبال الهم والحزن ..
أشادت بإعجابها لرأيه ولكنها أصرت مُعبرة :
-وجهة نظر بردو ، بس اللي حساه غير كده ، أحساس مش عارفة أوصفه لدرجة إني طايرة ، اااه حاسة إني طايرة عايزة أحضن النجوم ..
تدبر بخشوع ملامحها المُتحمسة ، ثم أدلى مُقترحًا :
-هخليكِ تحضني النجوم !
خلع قميصه الأبيض واقتربت ببطء من منزل اليخت حتى رمي جسده بالماء ، اقتربت منه وأخذت تراقبه بإعجاب حتى أشار لها أن تلحق به ، بدون تفكير نزعت ما بقدمها وتركت الشال الذي يُغطي كتفيها العارية ولحقت به جذبها إليه حتى وقفا الثنائي وجهًا لوجه وقال لها :
-لما تحبي تحضني النجوم انزلي البحر بالليل ، واسرحي بخيالك معاه وهو هيساعدك في كده !
تمسكت بكفيه ثم قالت بعفوية :
-عرش أبليس بيطلع على وش الميه بالليل ..
انفجر ضاحكًا بطريقة لم تعهدها من قبل ، أول مرة ترى تلك الملامح المنكمشة تضحك وبهذا الصوت الصاخب ، ظلت ترمقه بإعجاب شديد وحيرة حول تلك الشخصية التي تتقلب كالطقس ، ما زال تحت تأثير ضحكاته قائلًا :
-أنتِ مصدقة الهبل ده !
لمست السُخرية في كلامه ، ابتعدت عنه متعمدة كي تستمتع بالعوم والبحر وتلك الحرية التي ذاقتها بين أمواجه ، ظل يُتابعها بعناية وهي تمارس السباحة بمهارة لا توصف تكاد تنافسه ، اتبعت نصيحته وأغمضت عيونها شاردة بخيالها تاركة للماء مهمة ذوبان ما عاشته وعاناته ..
عادت إلى اليخت بعد وقت طويل قضته بالماء ، تتراقص مع أمواجه ، وتسبح في خيالها بلمسها للنجوم التي تتلألأ فوق سطح الماء .. تناولت الشال وغطت ذراعيها ، مُتجاهله فستانها الأصفر الذي يصل لركبتها وتتقطر منه المياه ، اقتربت منه وقالت بامتنان :
-شُكرًا .. بجد نفسيتي بقيت أحسن كتير !
فرغ مُحتوى الزجاجة بالكأس ثم ألقاها بالبحر وقال بهدوء :
-كده نبقى خالصين ، حبيت أرد جميل الصبح ..
اقتربت من بار اليخت ثم قالت بتردد :
-بالمناسبة ، ممكن اطلب طلب !
توقف عن ارتشاف المزيد ثم قال باهتمام :
-طلب أيه !
-عايزة اشتغل ، يعني اشتغل معاك وكده ، أنا مش هعيش عالة على حد ! يعني لحد ما ارجع لأهلي وكده .
رفع حاجبه ساخرًا :
-هابقى افكر ..
ثم وثب قائمًا ناحية السائق وآمره :
-يلا نرجع عشان الهانم متاخدتش برد ..
في تلك اللحظة ضاءت شاشة هاتفه برسالة نصيه ، ألتفت " حياة " إليها وقرأت أول سطر بها :
-اسمها رسيل قنديل المصري …