رواية وله في ظلامها حياة الفصل الواحد والعشرون 21 بقلم دينا احمد
الفصل الواحد والعشرون
في اليوم الثاني...
استيقظت وعلى ثغرها ابتسامة متسعة لا تستطيع تصديق ما حدث بالأمس فقد كان أشبه بحلم جميل تمنته منذ أمد بعيد، تنهدت بنعومة وهي تزيح خصلاتها المتناثرة على وجهها لتضيق ما بين حاجبيها فأين ذهب الآن طالما ليس في الغرفة؟
خرج هو من المرحاض و قطرات الماء تنساب من شعره على وجهه و صدره العاري بروعة!
اعتدلت نورا في جلستها ليقترب منها ثم أنحني أمامها مقبلاً وجنتها برقة:
- صباح الخير يا نوري...
زفرت ما برئتيها قائلة بأطمئنان:
- فكرتك مشيت و سبتني لوحدي.
هتف غامزاً لها بوقاحة:
- أمشي إيه بس انهارده يومك يا جميل!
ثم أكمل بجدية:
- وبعدين لما أروح الشركة هوديكي القصر و كمان انا جبت دادة لـ عمر عارف أنك كنتي عايزة واحدة.
تحولت ملامحها للتذمر و الغضب قائلاً بعبوس:
- لا طبعاً أنا مبحبش بنت تكون معايا في البيت ... أنا هفضل معاه و ابقي أختار أنا بنفسي.
قهقه عالياً وهو يقرصها من وجنتها قائلاً بمرح:
- بموت في نظراتك دي ... لو تعرفي بحبك أد إيه وأنتي متعصبة! وبعدين يا اذكي أخواتك المربية اللي أنا جبتها كبيرة و أمينة تقدر تاخد بالها من عمر كويس وعندها خمسة و أربعين سنة..
احتدت نبرتها قليلاً دون مبالغة:
- لو كنت جبت واحدة اصغر من كدا كنت قتلتها أنا مش ناقصة سهوكة و دلع.
رفع حاجباه بتعجب هل يعتبر ردود أفعالها الأخيرة غيرة أم ماذا؟ إلي هنا و ابتسم بداخله حتي وإن لم تعترف بحبها له ولكن غيرتها تشعره بطيف من الأمل، ثم هتف بمكر:
- ومالهم الصغار بس يا حبيبتي؟! دول بيبقوا صاروخ أرض جو...
صرخت بغيظ وهي تضربه بالوسادة:
- يا قليل الأدب و كمان بتعاكسهم قدامي.
هتف ببراءة مصتنعة:
- اهدي يا نوري.. فين المشكلة يعني دي حتي عشان عمر.
عقدت ذراعيها أمام صدرها تزم شفتيها بحنق:
- عشان عمر ولا عشانك أنت! على العموم براحتك مش مهم اصلاً.
أنحني نحوها أكثر هامساً بإعجاب و وله:
- أنتي جميلة جداً ... انتي أجمل بنت شفتها في حياتي... هتجنن بسببك ... حقيقي تجنني!
ابتلعت ريقها بخجل ليبدأ بتوزيع العديد من القبلات الناعمة على كامل و جهها و فكها ومن ثم عنقها ... دفعته بيدها الصغيرة قائلة بخفوت وقد احتقن وجهها باللون الأحمر:
- ممكن أتفرج على البيت و الجنينة.
زفر أنفاسه بإحباط:
- هستناكي نفطر تحت يالا انا هنزل دلوقتي أحسن.
هزت رأسها تنظر إلى الأسفل ليذهب نحو الدولاب ثم أخرج قميصاً قطني من اللون الأبيض و خرج من الغرفة تاركاً إياها لتنهض هي إلي المرحاض كي تنعم بحمام دافئ و ترخي جسدها..
وبعد مدة طويلة من استمتاعها بهذا الحمام وجدت طرقات على الباب وقبل أن تجيب تحدث مراد بلهفة و نبرة سيطر عليها القلق:
- نورا أنتي كويسة؟! ردي عليا انتي أتاخرت ليـ...
قاطعته بتلقائية:
- معلشي مش حسيت بنفسي أصل الحمام هنا حلو اوي.
تنهد بارتياح ثم احتدت نبرته قائلاً:
- اخلصي بقا قلقتيني عليكي..
ثم أردف بخبث:
- ولا تحبي أدخل أنا؟ انا مش معترض.
أزدردت لعابها متمتمة بغيظ:
- هه ... مش محترم والله و امشي انا هطلع أهو.
صدح صوت ضحكاته الرجولية الصاخبة لتتمتم بهيام واضعة يدها على موضع قلبها الذي يخفق بجنون:
- حتي ضحكته جميله زيه! هو في كدا؟! لا اتقلي يا نورا مالك كدا...!
بدأت في ارتداء ملابسها المكونة من فستان من اللون البنفسجي ذو حملات عريضة و طويل ويتدرج وسعه من الأعلى إلى الأسفل يظهر ساقيها البيضاء المتناسقة ثم مشطت شعرها على شكل ضفيرة واضعة إياها بجانب كتفها.
خرجت من الغرفة وهي تنظر إلي الممر المؤدي إلى الدرج الزجاجي بذهول كل شيء في هذا البيت يقطن بالفخامة و الجمال أنّي له بأن يجعل تصميم هذا البيت بهذه الاحترافية و السلاسة... كل خطوة تخطوها تتطلع بانبهار حولها فهذا البيت مختلفاً جذرياً عن القصر العائلي هنا التصميم رائع و هادئ، مميز و حديث للغاية...
اتسعت ابتسامتها وهي تنزل إلي الدرج بخفة لتجده يولي ظهره إليها و يدور حول نفسه يتحدث في الهاتف
حمحمت حتي تُصدر صوتاً ليستدير نحوها ثم أبتسم إليها بعذوبة تحمل بين طياتها الكثير من العشق
أخفضت نظرها أرضاً فنظراته إليها تآجج مشاعرها و ابتسامته الجذابة تلك تغرقها في نشوة فريدة من نوعها ثم صاح يستعيد وعيه:
- حضرتلك الأكل بأيدي اي خدمة يا ستي.
قطبت حاجبيها قائلة بتعجب:
- من امتا وأنت بتعرف تعمل حاجة في المطبخ؟ انا طول عمري عارفة أنك مبتعرفش تعمل حاجة في الأكل!.
رفع رأسه بشموخ:
- اتعلمته لما سافرت مكنتش بحب أكل الـdelivery وبعدين يالا بقا عشان أكيد انتي جعانة طبعاً مأكلتيش حاجة من امبارح غير ساعة الغدا.
أومأت له بحرج ليمد يده إليها فوضعتها بيده ثم توجه بها إلي حجرة الطعام ليُفرغ ثغر نورا بدهشة وهي تنظر إلي طاولة الطعام الكبيرة الممتلئة بأشهي أنواع الطعام المحبب إلي قلبها و رائحته النافذة التي هزت كيانها لتفلت يدها من يده و أسرعت مهرولة نحو أحدي المقاعد وبدأت في أكل الطعام بنهم شديد غير عابئة لوجوده ... بينما أبتسم هو بحنو وهو يتابع إياها بشغف جارف يتتغلغل به كل ثانية...
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
في فيلا جاسر رشاد..
دلفت رحمة إلي غرفته حاملة صنية طعامه ترسم على وجهها الجفاء لتجده يستقبلها بابتسامته التي اعتادت عليها طوال هذا الأسبوع، حقاً لا تعلم لما لم تذهب مع مراد و تتركه يذهب للجحيم...عقلها يصرخ بأن تتركه ولا تكترث له ولكن قلبها يقف كالمرصاد يدعوها بأن لا تتركه، تود لو نسيت ما فعله ولكن هيهات هو من تزوجها رغماً عنها و دون معرفتها و أذي من حوله لانتقام اعمي قلبه
افاقها من شرودها وهو يضع يده يتلمس نعومة يدها لتنتفض و سحبت يدها سريعاً ثم وضعت الطعام بجانبه و جلست مقابله فتنهد بخيبة أمل قائلاً:
- هتفضلي ساكتة كدا كتير؟.
رفعت عسليتها لتقابل تلك الثاقبتان ثم هتفت ببرود:
- حاضر هتكلم ... طلقني.
شعر بجفاف حلقه ثم أزاح يدها التي تمسك بالملعقة حتي تطعمه قائلاً بألم:
- حاضر يا رحمة ... و شكراً لأنك وافقتي تقعدي معايا لحد لما اتحسن ... اتفضلي انتي انا مش عايز أكل.
ابتلعت ريقها وشعرت بأنها تمادت كثيراً و بتلقائية وجدت يدها تغوص في خصلاته السوداء تتطلع إليه بحنان و حزن ليتمتم هو بين نفسه:
- هاتي بوسه أو حضن.
رفعت حاجبها في تمرد وقد أستمعت إليه ولا تزال ممسكة بشعره ثم شدته بقوة ليطلق آنة متألمة لتغمض عيناها ببطئ شديد و اقتربت حتي لفحت أنفاسها الناعمة وجهه و اختطفت قُبلة صغيرة على وجنته، بينما جحظت عيني جاسر بصدمة لتخبره بنفاذ صبر تداري خلجات وجهها الذي توهج بالخجل:
- هتاكل ولا لأ.
ابتسم ببلاهة مجيباً إياها سريعاً:
- لا خلاص هاكل ... والله هاكل لحد الصبح كمان.
شعلة نور تبدأ في الإنتشار بقلبه و كيانه رويداً رويداً على يدها هي فقط!
طوال هذا الأسبوع هي المسيطر الأول والأخير على عقله حقاً لم يعد يشغله شيئاً سوا رؤية وجهها مُتيماً بها يحاول قدر استطاعته كلما دلفت إليه بأن يملئ عيناه منها...
طرقات عديدة على الباب جعلته يعقد حاجباه بضيق ثم أذن بالدخول ليقول الحارس:
- المدام علا و جوزها الأستاذ حمزة وصلوا هنا يا باشا.
آخذ شهيقاً طويلاً ثم زفره بمهل و أشار إلى الحارس بالخروج وهو يتحرك حتي وقف على رجل واحدة حاملاً بثقل جسده عليها لأنه لن يستطيع السير بحرية بسبب تلك الجبيرة!
بينما نهضت رحمة واقفة بجانبه ثم وضعت يدها على خصره متسائلة بحيرة:
- مين علا و حمزة دول؟!
استند بيده على العصا "عكاز" قائلاً بإقتضاب:
- علا تبقي خالتي الصغيرة و حمزة طبعاً جوزها وأكيد معاها تالين بنتها و فادي.
تسائلت بعفوية:
- طب هما ليه مكانوش عايشين معاك طول الفترة اللي فاتت دي؟
أبتسم ساخراً يهتف بنبرة هازئة:
- هما جايين عشان أقع في صيد تالين بنتهم و تستولي على أملاكي اللي بتكبر يوم بعد يوم، أما بخصوص مكانوش عايشين معايا ليه...لأني مكنتش أهمهم في حاجة في السنين اللي فاتت دي هما كانوا بيجروا ورا الفلوس و النفوذ وبعد لما اتجوزت حنين بعدوا عن طريقي و قاطعوني..
ثم أردف بضيق:
- علا اتصلت بيا من أسبوع و قالت إنها جاية و عرفت أن جوزها أتعرض للإفلاس عشان كدا هما هنا.
كانت تستمع إلى حديثه باستنكار فكيف يكون بهذا الثبات و البرود و هو يعلم بمخططاتهم؟! و الادهي من ذلك كيف سيقدمها أمامهم؟ بالتأكيد سوف يعاملها كالخادمة فهي ليست من مستواه وليس لديها عائلة حتي يتفاخر بها أمامهم!
دلفت معه إلي غرفة الاستقبال لتجد امرأة في أوائل الأربعينات من عمرها جالسة بغطرسة ترتشف من كوب القهوة الذي بيدها بأناقة، و بجانبها رجل من نفس العمر وقد بدأ عليه الشيب بسبب تلك الشعيرات البيضاء التي اختلطت بلحيته و شعره الاسود يرتدي بدلة من اللون الرصاصي، أما على الأريكة الأخري تجلس فتاة في منتصف العشرينات ملامح وجهها جذابة و ملفتة ببشرتها الخمرية و مكياجها الصارخ من كثرته و ملابسها الفاضحة! جعلتها تشعر بالخجل الشديد، ومن ثم فادي الجالس واضعاً قدم فوق الأخري في أواخر العشرينات انهال من عيناه الخضرواتان الإعجاب و التفحص برحمة...
وجدت جاسر يقدمها إليهم ولم تشعر حقاً متي صافحهم فهي استغرقت مدة طويلة في التمعن بهذه العائلة:
- أحب اقدملكم رحمة خطيبتي و مكتوب كتابي عليها.
تحولت ملامحهم جميعاً من البسمة إلي التهجم و الغضب ولكن علا ابتسمت بإقتضاب معاتبة جاسر:
- كدا برضوا يا جاسر متقوليش أنك اتجوزت ولا ارتبطت!.
حدثها بتهكم:
- معلشي يا خالتي بس أنتي لو كنتي بتكلميني كنت قولتلك...على العموم دا كتب كتاب بس الفرح كمان اسبوعين لما اثار الحادثة دي تخف عندي.
عضت رحمة على شفتيها بغضب فصاحت تالين بإنفعال و غيرة:
- وحتي لو مكتوب كتابكم ازاي تيجي تعيش معاك في بيت واحد ولا انتوا واخدينها تسلية و لعب؟!
حاول تمالك أعصابه أمامها ولكنه لم يستطع فتحدثت بنبرة آمرة يشدد على كل كلمة:
- أولاً صوتك ميعلاش و انتي في بيتي ... ثانياً رحمة مراتي
ثم نظر إليهم باستهزاء مُكملاً:
- مكنش ينفع تسيبني وانا بالحالة دي عشان كلام الناس و قولتلكم وهقول تاني فرحنا في خلال أسبوعين...بعد اذنكم احنا طالعين و اتفضلوا البيت بيتكم و كبيرة الخدم هتوصلكم ألاوض ... يالا يا حبيبتي.
أشار إلى رحمة المتسمرة في مكانها ثم سحبها و اتكئ عليها...
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
على صعيد آخر...
ظهرت شرارة الغضب في عيني علي وهو يتحدث في الهاتف ثم صرخ بعصبية:
- يعني إيه يا ست ديما مش عايزة تعملي اللي انا عايزه؟!
أجابته ببرود لاذع:
= زي ما سمعت ... احنا كان اتفاقنا موت نورا بس أنت لعبت بعقلك مرة و حاولت تقتل مراد و مفكرتش رد فعلي هيكون إيه ... يبقي اقعد أنت على جنب و سيبني انا اتصرف ولو الموضوع وصل إني أخلص عليك مفيش مشكلة ... اهو اريح الناس من شرك.
قهقه علي بسخرية:
- انتي بتهدديني يا حتة عيلة ... عايزة تخلصي من دلوقتي! دا بعينك يا روح امك ... شكلك نسيتي أعمالك السودا و الأدلة اللي انا ماسكها عليكي و غير طبعاً مكالماتك... يا تري رد فعل جوزك قصدي طليقك هيكون إيه لما يعرف أنك تاجرة مخدرات و بتهربي برا البلد؟.
أغمضت ديما عيناها قائلة بهدوء:
= متتغباش يا علي أنت اللي كنت بتقولي أعمل إيه بحجة أنك بتأمن مستقبلك لحد لما تكوش على ثروة مراد.
تحدث علي بخبث:
- أنا قولتلك حاجة يا دودو ؟! انتي عايزة تلبسيني مصيبة ولا ايه على العموم انتي ملكيش لازمة أصلا ... وانا غلطت لما دخلت واحدة غبية زيك في اللعبة ... سلام يا قطة.
اغلق الهاتف ولم يستمع إلى حديثها ثم وضعه جانباً وهو ينظر إلى ذلك الرجل الذي قائلاً:
- تفتكر اعمل ايه في البت دي انا حاسس أنها خطر عليا.
نفث ذلك الرجل سيجارته في الهواء ثم هتف ببرود:
- متخافش منها هي أضعف من انك تديها حجم اكبر من حجمها ... وطالما أنت هددتها هتسكت.
ابتسم علي بجشع:
- أصلك متعرفش أبن عمي غالي عندي إزاي ... دايماً هو الأفضل في العيلة... انا الأكبر منه بس كلهم بيعملوا عشانه ألف حساب، يسافر أروبا و يصنع لنفسه ثروة تكفي بلد بحالها عمليات تجميل ناجحة، صفقات و مناقصات خلته ينافس و يتصدر السوق العالمي ... ليه مبقاش أنا مكانه.
نظر له ذلك الرجل ملياً ثم سأل بخبث يستقطب إياه:
- بس أنت مقولتش كنت بتهرب أنت و ديما المخدرات إزاي؟.
ارتشف علي من الكأس الذي بيده ثم وضعه جانباً وهو يتنفس بعمق وبدأ بسرد كل شيء و طرقه و بالطبع لم ينسب سرد جرائمه البشعة غافلاً عما يدور في خلد ذلك الرجل الذي أمامه...
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
آخذت أنفاسها و دقات قلبها في التسارع بعنف عندما دلف بها إلي هذه الغرفة...!
تطلعت نورا في أرجاء الغرفة بانبهار و ذهول تام! بداية من هذه الرسمة التي رسمها لها و أحاطت الحائط بالكامل ! رأت نفسها، كل شيء و كل تفصيلة صغيرة أو كبيرة بها موجودة، أفضل رسمة رأتها في حياتها حقاً
لقد بدت كأن فنان عالمي رسمها، تناسق الألوان و التفاصيل المدققة بعناية فائقة اذهلتها !
لقد رسم زرقاتيها بإمعان وجعل بها رونق و لمعة خاصة، حاجبها الأنيق و العريض، أنفها الصغير، شفتاها المنتفخة كحبة الكرز، اهدابها الطويلة و الكثيفة، وجهها الدائري، شعرها الكثيف الذي يصل إلي ما بعد كتفيها الممزوج بالخصلات البُنية و السوداء، من مقدمة الفستان الذي ترتديه في هذه الصورة علمت بأنه فستان يوم عقد قرآنهم، وما ادهشها هو باقي الغرفة المتواجد بها العديد من الصور التي جمعتهم سوياً من صغرهم!
نظرت إليه بعين متسعة قائلة بدهشة:
- معقول اللي انا شايفاه ده حقيقي؟! انا كنت عارفه أنك بترسم حلو بس بالطريقة دي متخيلتش!.
رفع مراد كتفيه قائلاً بشجن:
- أنتي كنتي بتحبي الرسم وانا حبيته عشانك و اتعلمته في السفر، بدأت أول رسمة ليكي لحد لما وصلت للرسمة دي ... عارف أنك كنتي بتتمني تدخلي كلية الفنون الجميلة من صغرك بس التنسيق منفعش ... في مرسم تحت في الجنينة ليا و ليكي عشان لو حبيتي ترسمي في أي وقت.
اغدقت عيناها بدموع الفرح والإبتسامة تكاد تشق شفتيها فأسرعت نحوه واقفة على أطراف أصابعها محتضنة إياه بسعادة غمرت حياتها من جديد على يده فقط لا غيره...
رفعها عن مستوي الأرض لتتعلق قدمها في الهواء ليهتف بحب صادق:
- بعشقك يا نوري.
مشاعره الجياشة تجعلها تُحلق في السماء! أغمضت عيناها دافنة وجهها في عنقه وبعد أن طال هذا العناق أنزلها أرضاً قائلاً:
- نوري عارف أنك لسه مش متعودة عليا و مش عارفة مشاعرك دي حب تجاهي ولا أمان ... انا هستني لأخر عمري عشان اسمعك وانتي بتعبري عن مشاعرك بس تكون خارجة من قلبك.
وضع يده على قلبها الذي يكاد يخرج من قفصها الصدري ليتنهد بعمق ثم أردف بمرح:
- تعالي لسه فاضل المطبخ و أماكن تانية كتير.
غمز بمشاكسة ثم حملها بين ذراعيه لتستند برأسها على صدره...
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
بعد مرور ثلاث ايام...
جلس مراد على كرسي مكتبه يحك مؤخرة عنقه بتعب و إرهاق ثم تابع النظر إلي الأوراق التي أمامه باهتمام لتدلف ديما فاتحة الباب بقوة وسط عبارات النهي التي تُلقيها عليها سكرتيرته لتصرخ بها ديما قائلة:
- ما تخرسي بقا وجعتي راسي انا هخليه يطردك من الشغل خالص واضح أنك متعرفيش انا مين.
أشار مراد إلي السكرتيرة فخرجت وأغلقت الباب خلفها بينما صب مراد كامل تركيزه على الأوراق و لم يرفع نظره إليها أو يلقي لها بالاً كأنها ليست موجودة من الأساس !
جلست أمامه واضعة قدماً فوق الأخري رافعة أنفها بجبروت و كبرياء ... رباه هذا الفتاة بالرغم مما فعله بها لا تزال كما هي!
صاح رافعاً نظره إليها لجزء من الثانية ثم نظر أمامه:
- ايه اللي جابك يا رخيصة... قولتلك مش عايز اشوف وشك العكر ده تاني ولا جاية تلبسيني في مصيبة تانية؟.
سيطرت على غضبها بصعوبة ثم ارتسمت ابتسامة مغوية على ثغرها و نهضت فجأة، حتي وقفت أمام مكتبه فجلست عليه....بينما كانت نظرات مراد لها مليئة بالكراهية و الاشمئزاز فأبتسمت إليه بعهر و هي تتلاعب بأزار قميصه:
- كدا برضوا يا مراد تكلمني بالطريقة دي...انا حتي مراتك وليا حق عليك.
قبض على شعرها بقسوة ثم دفعها لتسقط أرضاً فوقف أمامها واضعاً يده في جيبه وقد أصبح وجهها يقابل حذاءه اللامع...
ثم نظر إليها بتمعن ولم تستطيع هي فهم نظراته المُبهمة الخالية من المشاعر ليقول هو بجفاء و قسوة:
- عايزك زي الشاطرة كدا تغوري من هنا والا هقتلك المرة الجاية....وبعدين محموقة كدا ليه أنا قولت السكرتيرة متسمحش للأوساخ اللي زيك يدخلوا ليا.
انفجرت ديما بالبكاء لم تعد تستطيع تحمل كلامته السامة القاسية ثم نهضت من الأرض تهندم ملابسها القصيرة للغاية وشعرها قائلة بأعين ممتلئة دموع:
- دي كانت أخر فرصة ليك عندي وأنت ضيعتها يا مراد.
جلس على مكتبه بلامبالاة تاركاً إياها تغلي بنار غضبها ثم خرجت صافعة الباب خلفها...
ليزفر مراد بضيق فهو يعلم بأنها لم تأتي لهذه الترهات التي تفوهت بها إنما هناك دافع آخر سيستكشفه، رفع هاتفه مُحدثاً نورا بإقتضاب:
- ساعة و هكون عندك اجهزي لأني مش هتأخر.
ردت نورا بقلق:
= مال صوتك يا مراد أنت كويس؟.
- مفيش حاجة ... كنت مشغول بس انهارده.
= طب عاصم جوز يارا هيوصل عندك لما يبقي يخرج خليه يجي ياخد يارا عشان هي قاعدة معانا أنا وماما.
- تمام ... سلام شكله وصل.
اغلق الإتصال سامحاً للطارق بالدخول فدلفت السكرتيرة و تبعها عاصم فصافحه مراد برسمية ثم جلسا سوياً أمام بعضهم ... حك مراد ذقنه قائلاً بجدية:
- نورا كلمتني عنك و قالت أد إيه أنت دكتور شاطر بالرغم اني اصريت تتعامل مع دكتورة بس هي منشفة دماغها و قالت يا إما أنت يا إما بلاش.
أبتسم عاصم بداخله فهو يعلم بشعوره بالغيرة و لكنه اجابه بعملية:
- مفيش فرق بين الدكتور و الدكتورة بس فكرة أن المريض يكون مرتاح و عايز يتعالج على أيد حد معين بتبقي افضل و أسرع في العلاج.
أماء له مراد قائلاً بضيق:
- انت هنا النهارده عشان افهمك أن نورا شخصية ساذجة و طيبة زيادة عن اللزوم أي كلمتين حلوين من أي حد تصدقهم ... غبية شويتين في حكاية الثقة بالناس ... يعني مهما كان الإنسان اذاها لو صالحها او سمعت عنه حاجة تدافع عنه! لو حد قالها أنه بيحبها هتصدق ... مش عايزك تحسسها أنها مريضة، لأن الكلمة دي بتأثر على نفسيتها ... اللي عمله حازم معاها كان صعب جداً و انا عايزك تعرف كل حاجة منها و تحاول تنسيها أو تخليها تتخطي الموضوع ده ... ممكن أدخلها مصحة نفسية لو شخصت حالتها بس المهم انا عايزها إنسانة جديدة ... أنا سألت دكتورة قالتلي أنها ممكن تنتحر أو تأذي نفسها بأي طريقة أو وسيلة ... انا مش هستحمل يحصل معاها حاجة أو أنها تبعد عني.. أظن أنت فاهمني و طبعاً مش هقولك متقولش لمراتك عشان مينفعش تطلع أسرار مرضيتك مهما كان السبب.
أبتسم إليه عاصم قائلاً بتفهم:
- مش من مبادئ الدكتور أنه يطلع أسرار المريضة و الصراحة أنت فجأتني بأنك مطلبتش إني اسجل كلامها أو اقولك اللي حصل...!
هز مراد رأسه قائلاً:
- ماضيها أنا نسيته و عايزها كمان تنساه و عايز نبدأ صفحة جديدة بعيدة عن ذكرياتها ... ضعفها و مسالمتها مضايقاني ... اي حاجة تحصل تعيط ... أنا عايزها تواجه الكل لأني لو موجود انهارده مش هكون موجود بكرة.
عاصم مطمئناً إياه:
- تمام و خليك واثق إني هنجح معاها ومش هتحتاج مصحة نفسية بإذن الله .... المهم أنت تحاول تنسيها و تسعدها معها حصل و انا براهنك أنها هتستجيب للعلاج اكتر...
تنهد مراد بعمق ثم نهض قائلاً:
- يالا نوصل للقصر نورا بتقول أن يارا عندنا وعايزاك تروح تاخدها.
نهض عاصم هو الآخر قائلاً:
- اتفقت معها أول جلسة امتا؟.
أجابه مراد:
- بعد تلات أسابيع ... عشان هنسافر.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
توجهت يارا نحو عاصم الذي وقف منتظراً إياها بسيارته أمام القصر قائلة بإحراج:
- معلشي يا حبيبي اخرتك معايا بس نورا كانت واحشاني.
ثم طوقت عنقه بذراعيها قائلة باغواء:
- مسامحني طبعاً يا عصومي مش كدا.
ضيق عيناه مقرباً إياها إليه ثم هتف بمكر:
- مش مسامح وليكي عقاب جامد انهارده ... يالا امشي قدامي.
أسبلت عيناها بدلال ليزمجر بنفاذ صبر ثم دفعها بخفة داخل السيارة...
بينما دلف مراد إلي الداخل ليتفاجأ بمجيء جدها عبد الحميد ومعه ابنه فصافحه و جلس معه في غرفة الجلوس ليتحدث عبد الحميد بود:
- طبعاً أنت معزوم يا مراد يا ابني.
عقد مراد حاجباه بعدم فهم ليقول عبد الحميد:
- فرح أدهم حفيدي يوم الخميس و طبعاً احنا عاداتنا بنعمل أفراح شباب العيلة في الاقصر لأن دي بلدنا الأصلية... ها يا أبني قولت إيه؟.
فرك مراد يده بحرج:
- بس أنا مشغول.
نظر إلي نورا التي انطفئ الحماس من عيناها وعقدت ذراعيها بعبوس فصاح بقلة حيلة:
- خلاص موافق.
أبتسم عبد الحميد قائلاً:
- يبقي على بركة الله يادوب نسيبكم ترتاحوا و تجهزوا عشان المشوار طويل بكرة.
قطب مراد جبينه:
- بكرة ازاي أنت مش بتقول الفرح يوم الخميس؟! يعني كمان أربع أيام.
نهض عبد الحميد ممسكاً بالعصا:
- ايوا يا أبني بكرة و بعدين تغيروا جو في الأرياف ... بلاش تعترض يا ابن رأفت متبقاش زي أبوك.
أبتسم رأفت قائلاً:
- بس انا مش زيه برضوا ... على العموم روح أنت يا مراد وانا متابع الشغل على الأقل أغير جو بدل القعدة دي.
وجد نورا تنظر إليه برجاء و براءة ليبتسم لها ببلاهة:
- امري لله ... يالا يا نورا.
حمل عمر الصغير بعد أن ودع الجميع ثم خرج هو ونورا متوجهين إلي منزلهم...
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
لا ما فعلوه معها طوال الثلاث ايام قد فاق تحملها !
يلقون عليها الآوامر، يسخرون منها، يتحدثوا إليها بطريقة متكبرة لاذعة!
لن تصمت بعد الآن بل لن تظل هنا ... ها هي عائلته المصونة قد أتت فما فائدتها الآن؟
تنهدت رحمة بحرقة وهي تتذكر كلام تالين لها منذ قليل
"مش سامعة حاجة عن اهلك يعني ... شكلهم فاتحينها ليكي بحري تعملي اللي انتي عايزاه ... طب مش مكسوفة تقعدي مع غريب في بيت واحد ... أي نعم جوزك بس لسه مفيش اشهار بالجواز ... قوليلي بقا عملتم علاقة ولا لسه؟! انا بقول مش معقول تفضلي معاه كدا ... والله شكلك جاية من بيت لمؤاخذة ... أنا هفضل وراكي و أشوف حكايتك إيه! شكلك داخلة على جاسر بدور البت البريئة الشريفة وهو يا عيني صدق! نظرات فادي أخويا ليكي وراها حاجة شكلك واعدة بحاجة ... يالا بقا قومي شوفيلي حاجة أكلها ... مش دا كرم الضيافة ولا إيه يا ست الحسن و الجمال؟".
أزاحت رحمة دموعها بكف يدها و هي تشهق بعنف لتنهض واقفة بحزم ثم خرجت من غرفتها بخطوات سريعة متوجهة إلى غرفته ثم دلفت إليه و وصدت الباب خلفها بقوة وتوجهت إلى شرفته فهو كالعادة يظل جالساً بها مغيباً عن الواقع...
صرخت به بلوم وكأنها تبث له عن حزنها:
- يرضيك اللي هما بيعملوه فيا ده ؟ انا زهقت والله! ازاي تسيبني معاهم لوحدي ... بيقولولي كلام مش كويس وكله بسببك.
كم بدت كالطفلة أمامه الآن وجنتها مشتعلة أحمراراً من الغضب عيناها بدأت تلتمع بالدموع ليهتف بقلق:
- أهدي في ايه ؟ وكلام ايه اللي بيتقال ده كمان؟ اقعدي قوليلي مالك.
جلست على ركبتيها أمامه ممسكة بيده ليعقد حاجبيه بتعجب، لما لم تجلس على الكرسي؟!
آخذ صدرها يعلو و يهبط بعنف قائلة بتوسل:
- أبعد عن حياتي ... انا تعبت أوي، من صغري وانا عايشة في عذاب ... نفسي اتحرر بقا ... ابوس ايدك قدرني أنا مخنوقة أوي، لما تكون موجود معايا بستقوي بيك بس برضوا انا مش من أصلك ولا انفعك ... أنت تستاهل اللي اغني مني ويكون عندها عيلة، معرفش قربك أمان ولا تعود ولا ألم بس أنا تعبت و فاض بيا.
احتبس دموعه داخل ملقتاه يفهم من كلامها بأنها تريد الابتعاد ولكنه لن يستطيع كيف سيفعلها؟!
قبل يدها الممسكة به قائلاً بألم:
- اسيبك إزاي؟ انتي بتأذيني بالكلمة دي أوي يا رحمة ... انا شايفك رحمة دخلت قلبي عشان تنوره ... عشان تشغليني، بلاش فكرة الإنفصال دي ارجوكي ... اديني فرصة أغير نفسي، مينفعش تسيبنيي أنا محتاجك.
هرولت إلي الخارج في كل مرة تواجهه بها تجعلها تندم بأنها تحدثت نبرته المترجية، الألم الذي يكسو عيناه لا يساعدها بتاتاً ... هي تحبه و تحب اسوء ما به، تحبه منذ أول لقاء جمعهم، بالتأكيد لن تسمح لعقلها بأن يقودها و يترك قلبها يصرخ وجعاً و حزناً عليه...
ارتجف جسدها بفزع عندما وجدت يد تتلمسها بطريقة مقززة! لتتسع عيناها عندما وجدت نفسها في المطبخ و فادي يمرر يده على جسدها بوقاحة ... رجعت إلي الوراء حتي ارتطم ظهرها بحافة السفرة فصاحت بوجل:
- أنت بتقرب ليه؟! أبعد لو سمحت هقول لجاسر.
أبتسم فادي بخبث قائلاً بسخرية:
- طب والله عيب ... مش كفاية على جاسر لحد كدا يعني كل يوم داخلة خارجة من الاوضة بتاعته و في أوقات متأخرة ... طب مانا عايز ادوق الحلو انا كمان.
أقترب فادي أكثر وهو يتلمس وجهها ليتسمر جسده عندما أستمع إلى صوت جاسر الصارخ فاستدار نحوه ليجد عيناه تحولت للأحمر القاني و عروق وجهه برزت من غضبه....
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
على صعيد آخر...
أبتسمت ديما بخبث و تشفي وهي تعيد استماع حديث مراد لعاصم أكثر من مرة فهي قد زرعت أحدي أجهزة التصنت الصغيرة والتي تستطيع استماع ما يدور في هذا المكتب...
رفعت حاجبها بمكر ثم أعطت إلي مروان هذا التسجيل قائلة:
- هحدد كلام معين وانت تقص الباقي ... وطبعاً مش محتاج توصية يا مروان عايزة الكلام يبقي مترتب و تلعب في الصوت شوية.
بدأت بتحديد الكلمات ثم أعطتها إلي مروان ليبدأ مروان بعمله حتي أعطاها التسجيل و أرسله على تطبيق الواتس آب
"انت هنا انهارده عشان افهمك أن نورا شخصية ساذجة أي كلمتين حلوين من أي حد تصدقهم ... غبية شويتين في حكاية الثقة بالناس ... مريضة... لو حد قالها انه بيحبها هتصدقه، و انا عايزك تعرف كل حاجة منها ... ممكن أدخلها مصحة نفسية لو شخصت حالتها ... أنا سألت دكتورة قالتلي أنها ممكن تنتحر أو تأذي نفسها بأي طريقة أو وسيلة ... انا مش هستحمل أظن أنت فاهمني"
أبتسمت ديما بانتصار:
- مش بتقول الست نورا بتصدق أي حاجة ... يا عيني لما تسمع كلامك يا سي مراد!
في اليوم الثاني...
استيقظت وعلى ثغرها ابتسامة متسعة لا تستطيع تصديق ما حدث بالأمس فقد كان أشبه بحلم جميل تمنته منذ أمد بعيد، تنهدت بنعومة وهي تزيح خصلاتها المتناثرة على وجهها لتضيق ما بين حاجبيها فأين ذهب الآن طالما ليس في الغرفة؟
خرج هو من المرحاض و قطرات الماء تنساب من شعره على وجهه و صدره العاري بروعة!
اعتدلت نورا في جلستها ليقترب منها ثم أنحني أمامها مقبلاً وجنتها برقة:
- صباح الخير يا نوري...
زفرت ما برئتيها قائلة بأطمئنان:
- فكرتك مشيت و سبتني لوحدي.
هتف غامزاً لها بوقاحة:
- أمشي إيه بس انهارده يومك يا جميل!
ثم أكمل بجدية:
- وبعدين لما أروح الشركة هوديكي القصر و كمان انا جبت دادة لـ عمر عارف أنك كنتي عايزة واحدة.
تحولت ملامحها للتذمر و الغضب قائلاً بعبوس:
- لا طبعاً أنا مبحبش بنت تكون معايا في البيت ... أنا هفضل معاه و ابقي أختار أنا بنفسي.
قهقه عالياً وهو يقرصها من وجنتها قائلاً بمرح:
- بموت في نظراتك دي ... لو تعرفي بحبك أد إيه وأنتي متعصبة! وبعدين يا اذكي أخواتك المربية اللي أنا جبتها كبيرة و أمينة تقدر تاخد بالها من عمر كويس وعندها خمسة و أربعين سنة..
احتدت نبرتها قليلاً دون مبالغة:
- لو كنت جبت واحدة اصغر من كدا كنت قتلتها أنا مش ناقصة سهوكة و دلع.
رفع حاجباه بتعجب هل يعتبر ردود أفعالها الأخيرة غيرة أم ماذا؟ إلي هنا و ابتسم بداخله حتي وإن لم تعترف بحبها له ولكن غيرتها تشعره بطيف من الأمل، ثم هتف بمكر:
- ومالهم الصغار بس يا حبيبتي؟! دول بيبقوا صاروخ أرض جو...
صرخت بغيظ وهي تضربه بالوسادة:
- يا قليل الأدب و كمان بتعاكسهم قدامي.
هتف ببراءة مصتنعة:
- اهدي يا نوري.. فين المشكلة يعني دي حتي عشان عمر.
عقدت ذراعيها أمام صدرها تزم شفتيها بحنق:
- عشان عمر ولا عشانك أنت! على العموم براحتك مش مهم اصلاً.
أنحني نحوها أكثر هامساً بإعجاب و وله:
- أنتي جميلة جداً ... انتي أجمل بنت شفتها في حياتي... هتجنن بسببك ... حقيقي تجنني!
ابتلعت ريقها بخجل ليبدأ بتوزيع العديد من القبلات الناعمة على كامل و جهها و فكها ومن ثم عنقها ... دفعته بيدها الصغيرة قائلة بخفوت وقد احتقن وجهها باللون الأحمر:
- ممكن أتفرج على البيت و الجنينة.
زفر أنفاسه بإحباط:
- هستناكي نفطر تحت يالا انا هنزل دلوقتي أحسن.
هزت رأسها تنظر إلى الأسفل ليذهب نحو الدولاب ثم أخرج قميصاً قطني من اللون الأبيض و خرج من الغرفة تاركاً إياها لتنهض هي إلي المرحاض كي تنعم بحمام دافئ و ترخي جسدها..
وبعد مدة طويلة من استمتاعها بهذا الحمام وجدت طرقات على الباب وقبل أن تجيب تحدث مراد بلهفة و نبرة سيطر عليها القلق:
- نورا أنتي كويسة؟! ردي عليا انتي أتاخرت ليـ...
قاطعته بتلقائية:
- معلشي مش حسيت بنفسي أصل الحمام هنا حلو اوي.
تنهد بارتياح ثم احتدت نبرته قائلاً:
- اخلصي بقا قلقتيني عليكي..
ثم أردف بخبث:
- ولا تحبي أدخل أنا؟ انا مش معترض.
أزدردت لعابها متمتمة بغيظ:
- هه ... مش محترم والله و امشي انا هطلع أهو.
صدح صوت ضحكاته الرجولية الصاخبة لتتمتم بهيام واضعة يدها على موضع قلبها الذي يخفق بجنون:
- حتي ضحكته جميله زيه! هو في كدا؟! لا اتقلي يا نورا مالك كدا...!
بدأت في ارتداء ملابسها المكونة من فستان من اللون البنفسجي ذو حملات عريضة و طويل ويتدرج وسعه من الأعلى إلى الأسفل يظهر ساقيها البيضاء المتناسقة ثم مشطت شعرها على شكل ضفيرة واضعة إياها بجانب كتفها.
خرجت من الغرفة وهي تنظر إلي الممر المؤدي إلى الدرج الزجاجي بذهول كل شيء في هذا البيت يقطن بالفخامة و الجمال أنّي له بأن يجعل تصميم هذا البيت بهذه الاحترافية و السلاسة... كل خطوة تخطوها تتطلع بانبهار حولها فهذا البيت مختلفاً جذرياً عن القصر العائلي هنا التصميم رائع و هادئ، مميز و حديث للغاية...
اتسعت ابتسامتها وهي تنزل إلي الدرج بخفة لتجده يولي ظهره إليها و يدور حول نفسه يتحدث في الهاتف
حمحمت حتي تُصدر صوتاً ليستدير نحوها ثم أبتسم إليها بعذوبة تحمل بين طياتها الكثير من العشق
أخفضت نظرها أرضاً فنظراته إليها تآجج مشاعرها و ابتسامته الجذابة تلك تغرقها في نشوة فريدة من نوعها ثم صاح يستعيد وعيه:
- حضرتلك الأكل بأيدي اي خدمة يا ستي.
قطبت حاجبيها قائلة بتعجب:
- من امتا وأنت بتعرف تعمل حاجة في المطبخ؟ انا طول عمري عارفة أنك مبتعرفش تعمل حاجة في الأكل!.
رفع رأسه بشموخ:
- اتعلمته لما سافرت مكنتش بحب أكل الـdelivery وبعدين يالا بقا عشان أكيد انتي جعانة طبعاً مأكلتيش حاجة من امبارح غير ساعة الغدا.
أومأت له بحرج ليمد يده إليها فوضعتها بيده ثم توجه بها إلي حجرة الطعام ليُفرغ ثغر نورا بدهشة وهي تنظر إلي طاولة الطعام الكبيرة الممتلئة بأشهي أنواع الطعام المحبب إلي قلبها و رائحته النافذة التي هزت كيانها لتفلت يدها من يده و أسرعت مهرولة نحو أحدي المقاعد وبدأت في أكل الطعام بنهم شديد غير عابئة لوجوده ... بينما أبتسم هو بحنو وهو يتابع إياها بشغف جارف يتتغلغل به كل ثانية...
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
في فيلا جاسر رشاد..
دلفت رحمة إلي غرفته حاملة صنية طعامه ترسم على وجهها الجفاء لتجده يستقبلها بابتسامته التي اعتادت عليها طوال هذا الأسبوع، حقاً لا تعلم لما لم تذهب مع مراد و تتركه يذهب للجحيم...عقلها يصرخ بأن تتركه ولا تكترث له ولكن قلبها يقف كالمرصاد يدعوها بأن لا تتركه، تود لو نسيت ما فعله ولكن هيهات هو من تزوجها رغماً عنها و دون معرفتها و أذي من حوله لانتقام اعمي قلبه
افاقها من شرودها وهو يضع يده يتلمس نعومة يدها لتنتفض و سحبت يدها سريعاً ثم وضعت الطعام بجانبه و جلست مقابله فتنهد بخيبة أمل قائلاً:
- هتفضلي ساكتة كدا كتير؟.
رفعت عسليتها لتقابل تلك الثاقبتان ثم هتفت ببرود:
- حاضر هتكلم ... طلقني.
شعر بجفاف حلقه ثم أزاح يدها التي تمسك بالملعقة حتي تطعمه قائلاً بألم:
- حاضر يا رحمة ... و شكراً لأنك وافقتي تقعدي معايا لحد لما اتحسن ... اتفضلي انتي انا مش عايز أكل.
ابتلعت ريقها وشعرت بأنها تمادت كثيراً و بتلقائية وجدت يدها تغوص في خصلاته السوداء تتطلع إليه بحنان و حزن ليتمتم هو بين نفسه:
- هاتي بوسه أو حضن.
رفعت حاجبها في تمرد وقد أستمعت إليه ولا تزال ممسكة بشعره ثم شدته بقوة ليطلق آنة متألمة لتغمض عيناها ببطئ شديد و اقتربت حتي لفحت أنفاسها الناعمة وجهه و اختطفت قُبلة صغيرة على وجنته، بينما جحظت عيني جاسر بصدمة لتخبره بنفاذ صبر تداري خلجات وجهها الذي توهج بالخجل:
- هتاكل ولا لأ.
ابتسم ببلاهة مجيباً إياها سريعاً:
- لا خلاص هاكل ... والله هاكل لحد الصبح كمان.
شعلة نور تبدأ في الإنتشار بقلبه و كيانه رويداً رويداً على يدها هي فقط!
طوال هذا الأسبوع هي المسيطر الأول والأخير على عقله حقاً لم يعد يشغله شيئاً سوا رؤية وجهها مُتيماً بها يحاول قدر استطاعته كلما دلفت إليه بأن يملئ عيناه منها...
طرقات عديدة على الباب جعلته يعقد حاجباه بضيق ثم أذن بالدخول ليقول الحارس:
- المدام علا و جوزها الأستاذ حمزة وصلوا هنا يا باشا.
آخذ شهيقاً طويلاً ثم زفره بمهل و أشار إلى الحارس بالخروج وهو يتحرك حتي وقف على رجل واحدة حاملاً بثقل جسده عليها لأنه لن يستطيع السير بحرية بسبب تلك الجبيرة!
بينما نهضت رحمة واقفة بجانبه ثم وضعت يدها على خصره متسائلة بحيرة:
- مين علا و حمزة دول؟!
استند بيده على العصا "عكاز" قائلاً بإقتضاب:
- علا تبقي خالتي الصغيرة و حمزة طبعاً جوزها وأكيد معاها تالين بنتها و فادي.
تسائلت بعفوية:
- طب هما ليه مكانوش عايشين معاك طول الفترة اللي فاتت دي؟
أبتسم ساخراً يهتف بنبرة هازئة:
- هما جايين عشان أقع في صيد تالين بنتهم و تستولي على أملاكي اللي بتكبر يوم بعد يوم، أما بخصوص مكانوش عايشين معايا ليه...لأني مكنتش أهمهم في حاجة في السنين اللي فاتت دي هما كانوا بيجروا ورا الفلوس و النفوذ وبعد لما اتجوزت حنين بعدوا عن طريقي و قاطعوني..
ثم أردف بضيق:
- علا اتصلت بيا من أسبوع و قالت إنها جاية و عرفت أن جوزها أتعرض للإفلاس عشان كدا هما هنا.
كانت تستمع إلى حديثه باستنكار فكيف يكون بهذا الثبات و البرود و هو يعلم بمخططاتهم؟! و الادهي من ذلك كيف سيقدمها أمامهم؟ بالتأكيد سوف يعاملها كالخادمة فهي ليست من مستواه وليس لديها عائلة حتي يتفاخر بها أمامهم!
دلفت معه إلي غرفة الاستقبال لتجد امرأة في أوائل الأربعينات من عمرها جالسة بغطرسة ترتشف من كوب القهوة الذي بيدها بأناقة، و بجانبها رجل من نفس العمر وقد بدأ عليه الشيب بسبب تلك الشعيرات البيضاء التي اختلطت بلحيته و شعره الاسود يرتدي بدلة من اللون الرصاصي، أما على الأريكة الأخري تجلس فتاة في منتصف العشرينات ملامح وجهها جذابة و ملفتة ببشرتها الخمرية و مكياجها الصارخ من كثرته و ملابسها الفاضحة! جعلتها تشعر بالخجل الشديد، ومن ثم فادي الجالس واضعاً قدم فوق الأخري في أواخر العشرينات انهال من عيناه الخضرواتان الإعجاب و التفحص برحمة...
وجدت جاسر يقدمها إليهم ولم تشعر حقاً متي صافحهم فهي استغرقت مدة طويلة في التمعن بهذه العائلة:
- أحب اقدملكم رحمة خطيبتي و مكتوب كتابي عليها.
تحولت ملامحهم جميعاً من البسمة إلي التهجم و الغضب ولكن علا ابتسمت بإقتضاب معاتبة جاسر:
- كدا برضوا يا جاسر متقوليش أنك اتجوزت ولا ارتبطت!.
حدثها بتهكم:
- معلشي يا خالتي بس أنتي لو كنتي بتكلميني كنت قولتلك...على العموم دا كتب كتاب بس الفرح كمان اسبوعين لما اثار الحادثة دي تخف عندي.
عضت رحمة على شفتيها بغضب فصاحت تالين بإنفعال و غيرة:
- وحتي لو مكتوب كتابكم ازاي تيجي تعيش معاك في بيت واحد ولا انتوا واخدينها تسلية و لعب؟!
حاول تمالك أعصابه أمامها ولكنه لم يستطع فتحدثت بنبرة آمرة يشدد على كل كلمة:
- أولاً صوتك ميعلاش و انتي في بيتي ... ثانياً رحمة مراتي
ثم نظر إليهم باستهزاء مُكملاً:
- مكنش ينفع تسيبني وانا بالحالة دي عشان كلام الناس و قولتلكم وهقول تاني فرحنا في خلال أسبوعين...بعد اذنكم احنا طالعين و اتفضلوا البيت بيتكم و كبيرة الخدم هتوصلكم ألاوض ... يالا يا حبيبتي.
أشار إلى رحمة المتسمرة في مكانها ثم سحبها و اتكئ عليها...
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
على صعيد آخر...
ظهرت شرارة الغضب في عيني علي وهو يتحدث في الهاتف ثم صرخ بعصبية:
- يعني إيه يا ست ديما مش عايزة تعملي اللي انا عايزه؟!
أجابته ببرود لاذع:
= زي ما سمعت ... احنا كان اتفاقنا موت نورا بس أنت لعبت بعقلك مرة و حاولت تقتل مراد و مفكرتش رد فعلي هيكون إيه ... يبقي اقعد أنت على جنب و سيبني انا اتصرف ولو الموضوع وصل إني أخلص عليك مفيش مشكلة ... اهو اريح الناس من شرك.
قهقه علي بسخرية:
- انتي بتهدديني يا حتة عيلة ... عايزة تخلصي من دلوقتي! دا بعينك يا روح امك ... شكلك نسيتي أعمالك السودا و الأدلة اللي انا ماسكها عليكي و غير طبعاً مكالماتك... يا تري رد فعل جوزك قصدي طليقك هيكون إيه لما يعرف أنك تاجرة مخدرات و بتهربي برا البلد؟.
أغمضت ديما عيناها قائلة بهدوء:
= متتغباش يا علي أنت اللي كنت بتقولي أعمل إيه بحجة أنك بتأمن مستقبلك لحد لما تكوش على ثروة مراد.
تحدث علي بخبث:
- أنا قولتلك حاجة يا دودو ؟! انتي عايزة تلبسيني مصيبة ولا ايه على العموم انتي ملكيش لازمة أصلا ... وانا غلطت لما دخلت واحدة غبية زيك في اللعبة ... سلام يا قطة.
اغلق الهاتف ولم يستمع إلى حديثها ثم وضعه جانباً وهو ينظر إلى ذلك الرجل الذي قائلاً:
- تفتكر اعمل ايه في البت دي انا حاسس أنها خطر عليا.
نفث ذلك الرجل سيجارته في الهواء ثم هتف ببرود:
- متخافش منها هي أضعف من انك تديها حجم اكبر من حجمها ... وطالما أنت هددتها هتسكت.
ابتسم علي بجشع:
- أصلك متعرفش أبن عمي غالي عندي إزاي ... دايماً هو الأفضل في العيلة... انا الأكبر منه بس كلهم بيعملوا عشانه ألف حساب، يسافر أروبا و يصنع لنفسه ثروة تكفي بلد بحالها عمليات تجميل ناجحة، صفقات و مناقصات خلته ينافس و يتصدر السوق العالمي ... ليه مبقاش أنا مكانه.
نظر له ذلك الرجل ملياً ثم سأل بخبث يستقطب إياه:
- بس أنت مقولتش كنت بتهرب أنت و ديما المخدرات إزاي؟.
ارتشف علي من الكأس الذي بيده ثم وضعه جانباً وهو يتنفس بعمق وبدأ بسرد كل شيء و طرقه و بالطبع لم ينسب سرد جرائمه البشعة غافلاً عما يدور في خلد ذلك الرجل الذي أمامه...
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
آخذت أنفاسها و دقات قلبها في التسارع بعنف عندما دلف بها إلي هذه الغرفة...!
تطلعت نورا في أرجاء الغرفة بانبهار و ذهول تام! بداية من هذه الرسمة التي رسمها لها و أحاطت الحائط بالكامل ! رأت نفسها، كل شيء و كل تفصيلة صغيرة أو كبيرة بها موجودة، أفضل رسمة رأتها في حياتها حقاً
لقد بدت كأن فنان عالمي رسمها، تناسق الألوان و التفاصيل المدققة بعناية فائقة اذهلتها !
لقد رسم زرقاتيها بإمعان وجعل بها رونق و لمعة خاصة، حاجبها الأنيق و العريض، أنفها الصغير، شفتاها المنتفخة كحبة الكرز، اهدابها الطويلة و الكثيفة، وجهها الدائري، شعرها الكثيف الذي يصل إلي ما بعد كتفيها الممزوج بالخصلات البُنية و السوداء، من مقدمة الفستان الذي ترتديه في هذه الصورة علمت بأنه فستان يوم عقد قرآنهم، وما ادهشها هو باقي الغرفة المتواجد بها العديد من الصور التي جمعتهم سوياً من صغرهم!
نظرت إليه بعين متسعة قائلة بدهشة:
- معقول اللي انا شايفاه ده حقيقي؟! انا كنت عارفه أنك بترسم حلو بس بالطريقة دي متخيلتش!.
رفع مراد كتفيه قائلاً بشجن:
- أنتي كنتي بتحبي الرسم وانا حبيته عشانك و اتعلمته في السفر، بدأت أول رسمة ليكي لحد لما وصلت للرسمة دي ... عارف أنك كنتي بتتمني تدخلي كلية الفنون الجميلة من صغرك بس التنسيق منفعش ... في مرسم تحت في الجنينة ليا و ليكي عشان لو حبيتي ترسمي في أي وقت.
اغدقت عيناها بدموع الفرح والإبتسامة تكاد تشق شفتيها فأسرعت نحوه واقفة على أطراف أصابعها محتضنة إياه بسعادة غمرت حياتها من جديد على يده فقط لا غيره...
رفعها عن مستوي الأرض لتتعلق قدمها في الهواء ليهتف بحب صادق:
- بعشقك يا نوري.
مشاعره الجياشة تجعلها تُحلق في السماء! أغمضت عيناها دافنة وجهها في عنقه وبعد أن طال هذا العناق أنزلها أرضاً قائلاً:
- نوري عارف أنك لسه مش متعودة عليا و مش عارفة مشاعرك دي حب تجاهي ولا أمان ... انا هستني لأخر عمري عشان اسمعك وانتي بتعبري عن مشاعرك بس تكون خارجة من قلبك.
وضع يده على قلبها الذي يكاد يخرج من قفصها الصدري ليتنهد بعمق ثم أردف بمرح:
- تعالي لسه فاضل المطبخ و أماكن تانية كتير.
غمز بمشاكسة ثم حملها بين ذراعيه لتستند برأسها على صدره...
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
بعد مرور ثلاث ايام...
جلس مراد على كرسي مكتبه يحك مؤخرة عنقه بتعب و إرهاق ثم تابع النظر إلي الأوراق التي أمامه باهتمام لتدلف ديما فاتحة الباب بقوة وسط عبارات النهي التي تُلقيها عليها سكرتيرته لتصرخ بها ديما قائلة:
- ما تخرسي بقا وجعتي راسي انا هخليه يطردك من الشغل خالص واضح أنك متعرفيش انا مين.
أشار مراد إلي السكرتيرة فخرجت وأغلقت الباب خلفها بينما صب مراد كامل تركيزه على الأوراق و لم يرفع نظره إليها أو يلقي لها بالاً كأنها ليست موجودة من الأساس !
جلست أمامه واضعة قدماً فوق الأخري رافعة أنفها بجبروت و كبرياء ... رباه هذا الفتاة بالرغم مما فعله بها لا تزال كما هي!
صاح رافعاً نظره إليها لجزء من الثانية ثم نظر أمامه:
- ايه اللي جابك يا رخيصة... قولتلك مش عايز اشوف وشك العكر ده تاني ولا جاية تلبسيني في مصيبة تانية؟.
سيطرت على غضبها بصعوبة ثم ارتسمت ابتسامة مغوية على ثغرها و نهضت فجأة، حتي وقفت أمام مكتبه فجلست عليه....بينما كانت نظرات مراد لها مليئة بالكراهية و الاشمئزاز فأبتسمت إليه بعهر و هي تتلاعب بأزار قميصه:
- كدا برضوا يا مراد تكلمني بالطريقة دي...انا حتي مراتك وليا حق عليك.
قبض على شعرها بقسوة ثم دفعها لتسقط أرضاً فوقف أمامها واضعاً يده في جيبه وقد أصبح وجهها يقابل حذاءه اللامع...
ثم نظر إليها بتمعن ولم تستطيع هي فهم نظراته المُبهمة الخالية من المشاعر ليقول هو بجفاء و قسوة:
- عايزك زي الشاطرة كدا تغوري من هنا والا هقتلك المرة الجاية....وبعدين محموقة كدا ليه أنا قولت السكرتيرة متسمحش للأوساخ اللي زيك يدخلوا ليا.
انفجرت ديما بالبكاء لم تعد تستطيع تحمل كلامته السامة القاسية ثم نهضت من الأرض تهندم ملابسها القصيرة للغاية وشعرها قائلة بأعين ممتلئة دموع:
- دي كانت أخر فرصة ليك عندي وأنت ضيعتها يا مراد.
جلس على مكتبه بلامبالاة تاركاً إياها تغلي بنار غضبها ثم خرجت صافعة الباب خلفها...
ليزفر مراد بضيق فهو يعلم بأنها لم تأتي لهذه الترهات التي تفوهت بها إنما هناك دافع آخر سيستكشفه، رفع هاتفه مُحدثاً نورا بإقتضاب:
- ساعة و هكون عندك اجهزي لأني مش هتأخر.
ردت نورا بقلق:
= مال صوتك يا مراد أنت كويس؟.
- مفيش حاجة ... كنت مشغول بس انهارده.
= طب عاصم جوز يارا هيوصل عندك لما يبقي يخرج خليه يجي ياخد يارا عشان هي قاعدة معانا أنا وماما.
- تمام ... سلام شكله وصل.
اغلق الإتصال سامحاً للطارق بالدخول فدلفت السكرتيرة و تبعها عاصم فصافحه مراد برسمية ثم جلسا سوياً أمام بعضهم ... حك مراد ذقنه قائلاً بجدية:
- نورا كلمتني عنك و قالت أد إيه أنت دكتور شاطر بالرغم اني اصريت تتعامل مع دكتورة بس هي منشفة دماغها و قالت يا إما أنت يا إما بلاش.
أبتسم عاصم بداخله فهو يعلم بشعوره بالغيرة و لكنه اجابه بعملية:
- مفيش فرق بين الدكتور و الدكتورة بس فكرة أن المريض يكون مرتاح و عايز يتعالج على أيد حد معين بتبقي افضل و أسرع في العلاج.
أماء له مراد قائلاً بضيق:
- انت هنا النهارده عشان افهمك أن نورا شخصية ساذجة و طيبة زيادة عن اللزوم أي كلمتين حلوين من أي حد تصدقهم ... غبية شويتين في حكاية الثقة بالناس ... يعني مهما كان الإنسان اذاها لو صالحها او سمعت عنه حاجة تدافع عنه! لو حد قالها أنه بيحبها هتصدق ... مش عايزك تحسسها أنها مريضة، لأن الكلمة دي بتأثر على نفسيتها ... اللي عمله حازم معاها كان صعب جداً و انا عايزك تعرف كل حاجة منها و تحاول تنسيها أو تخليها تتخطي الموضوع ده ... ممكن أدخلها مصحة نفسية لو شخصت حالتها بس المهم انا عايزها إنسانة جديدة ... أنا سألت دكتورة قالتلي أنها ممكن تنتحر أو تأذي نفسها بأي طريقة أو وسيلة ... انا مش هستحمل يحصل معاها حاجة أو أنها تبعد عني.. أظن أنت فاهمني و طبعاً مش هقولك متقولش لمراتك عشان مينفعش تطلع أسرار مرضيتك مهما كان السبب.
أبتسم إليه عاصم قائلاً بتفهم:
- مش من مبادئ الدكتور أنه يطلع أسرار المريضة و الصراحة أنت فجأتني بأنك مطلبتش إني اسجل كلامها أو اقولك اللي حصل...!
هز مراد رأسه قائلاً:
- ماضيها أنا نسيته و عايزها كمان تنساه و عايز نبدأ صفحة جديدة بعيدة عن ذكرياتها ... ضعفها و مسالمتها مضايقاني ... اي حاجة تحصل تعيط ... أنا عايزها تواجه الكل لأني لو موجود انهارده مش هكون موجود بكرة.
عاصم مطمئناً إياه:
- تمام و خليك واثق إني هنجح معاها ومش هتحتاج مصحة نفسية بإذن الله .... المهم أنت تحاول تنسيها و تسعدها معها حصل و انا براهنك أنها هتستجيب للعلاج اكتر...
تنهد مراد بعمق ثم نهض قائلاً:
- يالا نوصل للقصر نورا بتقول أن يارا عندنا وعايزاك تروح تاخدها.
نهض عاصم هو الآخر قائلاً:
- اتفقت معها أول جلسة امتا؟.
أجابه مراد:
- بعد تلات أسابيع ... عشان هنسافر.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
توجهت يارا نحو عاصم الذي وقف منتظراً إياها بسيارته أمام القصر قائلة بإحراج:
- معلشي يا حبيبي اخرتك معايا بس نورا كانت واحشاني.
ثم طوقت عنقه بذراعيها قائلة باغواء:
- مسامحني طبعاً يا عصومي مش كدا.
ضيق عيناه مقرباً إياها إليه ثم هتف بمكر:
- مش مسامح وليكي عقاب جامد انهارده ... يالا امشي قدامي.
أسبلت عيناها بدلال ليزمجر بنفاذ صبر ثم دفعها بخفة داخل السيارة...
بينما دلف مراد إلي الداخل ليتفاجأ بمجيء جدها عبد الحميد ومعه ابنه فصافحه و جلس معه في غرفة الجلوس ليتحدث عبد الحميد بود:
- طبعاً أنت معزوم يا مراد يا ابني.
عقد مراد حاجباه بعدم فهم ليقول عبد الحميد:
- فرح أدهم حفيدي يوم الخميس و طبعاً احنا عاداتنا بنعمل أفراح شباب العيلة في الاقصر لأن دي بلدنا الأصلية... ها يا أبني قولت إيه؟.
فرك مراد يده بحرج:
- بس أنا مشغول.
نظر إلي نورا التي انطفئ الحماس من عيناها وعقدت ذراعيها بعبوس فصاح بقلة حيلة:
- خلاص موافق.
أبتسم عبد الحميد قائلاً:
- يبقي على بركة الله يادوب نسيبكم ترتاحوا و تجهزوا عشان المشوار طويل بكرة.
قطب مراد جبينه:
- بكرة ازاي أنت مش بتقول الفرح يوم الخميس؟! يعني كمان أربع أيام.
نهض عبد الحميد ممسكاً بالعصا:
- ايوا يا أبني بكرة و بعدين تغيروا جو في الأرياف ... بلاش تعترض يا ابن رأفت متبقاش زي أبوك.
أبتسم رأفت قائلاً:
- بس انا مش زيه برضوا ... على العموم روح أنت يا مراد وانا متابع الشغل على الأقل أغير جو بدل القعدة دي.
وجد نورا تنظر إليه برجاء و براءة ليبتسم لها ببلاهة:
- امري لله ... يالا يا نورا.
حمل عمر الصغير بعد أن ودع الجميع ثم خرج هو ونورا متوجهين إلي منزلهم...
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
لا ما فعلوه معها طوال الثلاث ايام قد فاق تحملها !
يلقون عليها الآوامر، يسخرون منها، يتحدثوا إليها بطريقة متكبرة لاذعة!
لن تصمت بعد الآن بل لن تظل هنا ... ها هي عائلته المصونة قد أتت فما فائدتها الآن؟
تنهدت رحمة بحرقة وهي تتذكر كلام تالين لها منذ قليل
"مش سامعة حاجة عن اهلك يعني ... شكلهم فاتحينها ليكي بحري تعملي اللي انتي عايزاه ... طب مش مكسوفة تقعدي مع غريب في بيت واحد ... أي نعم جوزك بس لسه مفيش اشهار بالجواز ... قوليلي بقا عملتم علاقة ولا لسه؟! انا بقول مش معقول تفضلي معاه كدا ... والله شكلك جاية من بيت لمؤاخذة ... أنا هفضل وراكي و أشوف حكايتك إيه! شكلك داخلة على جاسر بدور البت البريئة الشريفة وهو يا عيني صدق! نظرات فادي أخويا ليكي وراها حاجة شكلك واعدة بحاجة ... يالا بقا قومي شوفيلي حاجة أكلها ... مش دا كرم الضيافة ولا إيه يا ست الحسن و الجمال؟".
أزاحت رحمة دموعها بكف يدها و هي تشهق بعنف لتنهض واقفة بحزم ثم خرجت من غرفتها بخطوات سريعة متوجهة إلى غرفته ثم دلفت إليه و وصدت الباب خلفها بقوة وتوجهت إلى شرفته فهو كالعادة يظل جالساً بها مغيباً عن الواقع...
صرخت به بلوم وكأنها تبث له عن حزنها:
- يرضيك اللي هما بيعملوه فيا ده ؟ انا زهقت والله! ازاي تسيبني معاهم لوحدي ... بيقولولي كلام مش كويس وكله بسببك.
كم بدت كالطفلة أمامه الآن وجنتها مشتعلة أحمراراً من الغضب عيناها بدأت تلتمع بالدموع ليهتف بقلق:
- أهدي في ايه ؟ وكلام ايه اللي بيتقال ده كمان؟ اقعدي قوليلي مالك.
جلست على ركبتيها أمامه ممسكة بيده ليعقد حاجبيه بتعجب، لما لم تجلس على الكرسي؟!
آخذ صدرها يعلو و يهبط بعنف قائلة بتوسل:
- أبعد عن حياتي ... انا تعبت أوي، من صغري وانا عايشة في عذاب ... نفسي اتحرر بقا ... ابوس ايدك قدرني أنا مخنوقة أوي، لما تكون موجود معايا بستقوي بيك بس برضوا انا مش من أصلك ولا انفعك ... أنت تستاهل اللي اغني مني ويكون عندها عيلة، معرفش قربك أمان ولا تعود ولا ألم بس أنا تعبت و فاض بيا.
احتبس دموعه داخل ملقتاه يفهم من كلامها بأنها تريد الابتعاد ولكنه لن يستطيع كيف سيفعلها؟!
قبل يدها الممسكة به قائلاً بألم:
- اسيبك إزاي؟ انتي بتأذيني بالكلمة دي أوي يا رحمة ... انا شايفك رحمة دخلت قلبي عشان تنوره ... عشان تشغليني، بلاش فكرة الإنفصال دي ارجوكي ... اديني فرصة أغير نفسي، مينفعش تسيبنيي أنا محتاجك.
هرولت إلي الخارج في كل مرة تواجهه بها تجعلها تندم بأنها تحدثت نبرته المترجية، الألم الذي يكسو عيناه لا يساعدها بتاتاً ... هي تحبه و تحب اسوء ما به، تحبه منذ أول لقاء جمعهم، بالتأكيد لن تسمح لعقلها بأن يقودها و يترك قلبها يصرخ وجعاً و حزناً عليه...
ارتجف جسدها بفزع عندما وجدت يد تتلمسها بطريقة مقززة! لتتسع عيناها عندما وجدت نفسها في المطبخ و فادي يمرر يده على جسدها بوقاحة ... رجعت إلي الوراء حتي ارتطم ظهرها بحافة السفرة فصاحت بوجل:
- أنت بتقرب ليه؟! أبعد لو سمحت هقول لجاسر.
أبتسم فادي بخبث قائلاً بسخرية:
- طب والله عيب ... مش كفاية على جاسر لحد كدا يعني كل يوم داخلة خارجة من الاوضة بتاعته و في أوقات متأخرة ... طب مانا عايز ادوق الحلو انا كمان.
أقترب فادي أكثر وهو يتلمس وجهها ليتسمر جسده عندما أستمع إلى صوت جاسر الصارخ فاستدار نحوه ليجد عيناه تحولت للأحمر القاني و عروق وجهه برزت من غضبه....
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
على صعيد آخر...
أبتسمت ديما بخبث و تشفي وهي تعيد استماع حديث مراد لعاصم أكثر من مرة فهي قد زرعت أحدي أجهزة التصنت الصغيرة والتي تستطيع استماع ما يدور في هذا المكتب...
رفعت حاجبها بمكر ثم أعطت إلي مروان هذا التسجيل قائلة:
- هحدد كلام معين وانت تقص الباقي ... وطبعاً مش محتاج توصية يا مروان عايزة الكلام يبقي مترتب و تلعب في الصوت شوية.
بدأت بتحديد الكلمات ثم أعطتها إلي مروان ليبدأ مروان بعمله حتي أعطاها التسجيل و أرسله على تطبيق الواتس آب
"انت هنا انهارده عشان افهمك أن نورا شخصية ساذجة أي كلمتين حلوين من أي حد تصدقهم ... غبية شويتين في حكاية الثقة بالناس ... مريضة... لو حد قالها انه بيحبها هتصدقه، و انا عايزك تعرف كل حاجة منها ... ممكن أدخلها مصحة نفسية لو شخصت حالتها ... أنا سألت دكتورة قالتلي أنها ممكن تنتحر أو تأذي نفسها بأي طريقة أو وسيلة ... انا مش هستحمل أظن أنت فاهمني"
أبتسمت ديما بانتصار:
- مش بتقول الست نورا بتصدق أي حاجة ... يا عيني لما تسمع كلامك يا سي مراد!