رواية وبقي منها حطام انثي الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم منال سالم
الفصل الحادي والعشرون :
ترقب مالك وصول إيثار إلى فيلته بفارغ الصبر بعد أن قضى ليلته يكافح للنوم ..
لم يذهب إلى عمله اليوم ، وتعمد التأنق بصورة زائدة عن المعتاد ليوضح لها مدى ثرائه ..
جلست صغيرته أسفل قدميه تلعب بألعابها المنوعة و الجميلة ببراءة جلية ..
حدق هو بها بنظرات مطولة دارسة لتفاصيل وجهها بدقة ، متأملاً ضحكتها وعفويتها الساحرة ..
تحولت نظراته للحزن .. وتنهد بيأس ..
بالفعل هي تشبه والدتها كثيرا ، هي نسخة مصغرة منها .. تمتلك عيناها الزرقاوتين وبشرتها البيضاء الناعمة ، وشعرها الأشقر الذهبي..
شرد في ذكريات بعيدة جمعتهما سوا...
في لقاءات مميزة مع زوجته لانا ..
في حب قدمته له دون انتظار مقابل منه ..
في دعمها له في أصعب أوقاته ..
في دعمه والوقوف في ظهره حتى يقف على قدميه ..
في إخلاصها له حتى .......
قطع شروده الحزين صوت الخادمة راوية وهي تقول بهدوء :
-مدام إيثار موجودة برا
تصلبت تعابير وجهه .. وقست نظراته وتحولت للجدية بعد أن كانت شبه دامعة .
أخذ نفساً عميقاً ، وانتصب بكتفيه ، ثم استطرد حديثه بصوت صارم :
-خليها تدخل
أومــأت راوية برأسها وهي تقول بصوت خفيض :
-حاضر يا مالك باشا
في نفس التوقيت كانت إيثار تحاول الحفاظ على هدوئها وثباتها .. فهي مقبلة على أخطر تحدياتها ..
التفتت حولها بنظرات متوترة .. وتمسكت بحقيبتها بقوة وكأنها تحتمي بها ..
ضغطت على شفتيها بإرتباك ، وحاولت ضبطت أنفاسها المتلاحقة ، فوجودها هنا يثير أعصابها ، ويرهق قلبها بشدة ..
كانت دقات قلبها متسارعة بدرجة كادت تصم أذنيها ..
أغمضت عيناها لوهلة لتسيطر على توترها الرهيب ..
اقتربت منها الخادمة ولاحظت حالتها المرتبكة فإنتابها الفضول لمعرفة سبب اضطرابها والتوتر المشحون بينها وبين رب عملها ..
فكلاً منهما تتبدل أحواله بدرجة مزعجة فور رؤيتهما لبعضهما البعض..
تنحنحت راوية بصوت خافت لتنتبه لها إيثار ، وأردفت قائلة بابتسامة ناعمة :
-اتفضلي يا مدام ايثار ، مالك باشا في انتظار حضرتك في مكتبه
ثم أشارت لها بيدها لتتحرك هي ناحيته ...
استجمعت شجاعتها وحافظت على رباطة جأشها ، وخطت بثبات ناحية غرفته ..
استعد هو لمقابلتها بثبات عجيب أرعبها نوعاً ما حينما رأته بطلته المثيرة للإعجاب ..
ازدردت ريقها ، ورسمت إبتسامة ودودة مصطنعة على ثغرها ، وهمست بصوت خرج متحشرجاً رغم وضوحه :
-السلام عليكم !
-وعليكم السلام .. تعالي يا مدام
قالها مالك بصوت آجش متعمداً الضغط على حروف كل كلمة منها
تحركت بخطوات متعثرة للداخل ، وتحاشت النظر إليه ، وفضلت التركيز على الصغيرة والتي ما إن رأتها حتى نهضت من مكانها ، وركضت نحوها وهي تهتف بتلهف بنبرة غير واضحة :
-مـ..ما ... ما.. ماما ...ممم..
فهمتها إيثار على الفور رغم تقطعها ، فهزت كيانها بالكامل ، ولا إرادياً فتحت ذراعيها لتستقبلها ،فإرتمت الصغيرة في أحضانها ، ثم ضمتها إلى صدرها ورفعتها عن اﻷرضية ..
تابع مالك المشهد بإستغراب ومع ذلك حافظ على جمود تعابير وجهه ..
مسحت إيثار برفق على ظهر الصغيرة وظلت تهدهدها بحركات خفيفة ..
نهض مالك فجأة عن مقعده ، فجفلت إيثار من حركته المباغتة .. وجاهدت لتبدو طبيعية أمامه ..
تحرك ببطء نحوها وهو يقول بصرامة :
-من النهاردة إنتي ملزمة تتابعي بنتي ، مسئولة عن كل حاجة تخصها !
وقف في مقابلتها ، وطالعها بنظرات قوية أربكتها وهو يكمل مهدداً :
-أي شكوى ، أي تقصير هيبقى في حساب عسير !!
ابتلعت إيثار ريقها بصعوبة وردت عليه بصوت خافت وهي تتحاشى النظر إليه :
-حاضر .. يا .. يا مالك بيه
أرادت هي أن تشير بوضوح إلى الفارق بينهما حتى لا تترك لنفسها المجال للتفكير فيه بصورة أخرى .. هو أرادها مربية لابنته وهي ستلبي رغبته .. وستلتزم بكل ما يخص عملها ..
ما أثار فضولها حقا وشغل تفكيرها طوال ليلة الأمس هو رغبتها في رؤية زوجته .. تلك التي شاركته حياته وانجب منها هذه القطعة الملائكية ...
لم تشعر هي باقتراب مالك منها بدرجة خطيرة ، ارتجف جسدها حينما رأته يميل برأسه نحوها ، جحظت بعينيها مصدومة ، وشهقت بصوت مكتوم ، وتوردت وجنتيها بحمرة ملتهبة .. لكنها تفاجئت به ينحني ليقبل ابنته من رأسها ..
تقلصت المسافات بينهما ، وشعر هو بحرارة أنفاسها المنبعثة منها دون وعي .. فأغمض عينيه مقاوماً تأثيرها ..
وبلا قصد لمس كف يدها وهو يمسح على ظهر صغيرته ، فشعرت هي بإرتعاشة رهيبة تسري في جسدها ..
كذلك لم يختلف شعوره عنها ، فقد أثرت لمسته الغير متعمدة فيه ، وخفق قلبه بصورة مزعجة ..
زاد من جمود تعابيره ، وتراجع للخلف ، وتابع بصوت غليظ :
-لو في حاجة حصلت خلي راوية تكلمني ، سامعة
أومــأت برأسها دون أن تنبس ببنت شفة .. وتمسكت بالصغيرة بقوة ..
تحرك مبتعداً ليخرج من دائرة سحرها الذي مازال يؤثر فيه إلى الآن ..
عاتب نفسه بقسوة لإنهياره الوشيك من قربها المهلك ، وتممت مع نفسه بخواطره الشعرية ..
(( أَلَا تَترُكِيني لِحَالِي قَاتِلَتِي ؟
فَفِي قُربِكِ اِحتْرَاقِي ، وَفِي إِبْتَعَادِكِ عَنِي هَلَاكِي ))
...............................
عــــادت ســــارة من عملها وهي تطلق سباب متواصل ولاذع لاعنة فيه كل شيء ، فها هو يوم أخر يمر عليها وهي تُهان ويُساء إليها خلال عملها ، وعليها ألا تشتكي أو تتذمر ..
رمقت رامز النائم على الأريكة بنظرات نارية ، ثم هدرت فيه بصوت غاضب :
-قوم يا رامز ، اصحى كده وكلمني
تثاءب بصوت مرتفع ، ونظر لها بنصف عين ، ثم رد عليها بصوت متحشرج :
-يادي القرف ! هو انتي جيتي
صاحت فيه بصوت منفعل وقد تحول وجهها لكتلة من اللهب :
-قرف ! أما أنا قرف اتجوزتني ليه ؟ ضحكت عليا واستغفلتني وجبتني في الهم ده ليه ؟
أجابها ببرود مستفز وهو يوليها ظهره
-كنت عاوز فلوس ، ومكونتش هاعرف أخدها من أبويا غير لما أتجوز
صرخت فيه بجنون وهي تلوح بذراعها في الهواء :
-إنت أوطى حد عرفته
رد عليها بجمود :
-الحال من بعضه ، إنتي نفسك ريلتي عليا أول ما شوفتيني ، مصدقتي أني طلبتك للجواز ، وطمعتي فيا ، اشربي بقى
ثم قهقه عالياً ليثير حنقها أكثر ، وبالفعل نجح في هذا فأصابها حالة من الإنفعال الشديد وهدرت صارخة :
-أنا بأكره نفسي وبألعن اليوم اللي شوفتك فيه ، واليوم اللي وافقت فيه اتجوزك!
تثاءب بتثاقل ، وتمتم بصوت ناعس غير مكترث بها :
-العني براحتك ، وسيبني أنام !
بصقت عليه وصرت على أسنانها لتقول بشراسة :
-ربنا ياخدك يا شيخ
رد عليها بنبرة باردة متهكمة :
-هياخدني وانتي معايا ! ماتتعشميش كتير
ركلت الأرضية اللامعة بقدمها ، ثم اندفعت للداخل وهي تكمل سبابها ...
........................................
قضت إيثار معظم نهار عملها وهي ترعى الصغيرة ريفــان بإهتمام كبير ..
شاركتها اللعب ، وعلمتها مهارات الحياة الأساسية بمودة ، وأطعمتها غذائها بحب .. وجلست تسرد لها القصص الطرفية وهي تمشط شعرها بنعومة ..
راقبتها راوية من على بعد بناءاً على تعليمات مالك ، فرأت فيها الأم الحنون ..
اقتربت منها وهي تحمل صينية مليئة بالمشروبات الباردة ، ثم أسندتها أمامها ، وهتفت بحماس :
-أكيد انتي عطشانة يا مدام إيثار ، أنا عملتلك آآ..
قاطعتها إيثار قائلة بصوت رقيق :
-قوليلي إيثار على طول ، مافيش داعي لمدام
ردت عليها راوية بحرج :
-ودي تيجي بردك
ابتسمت لها إيثار قائلة بود :
-معلش عشان خاطري !
هزت راوية رأسها ممتثلة لطلبها وهي تقول :
-حاضر !
ثم بدأت في ترتيب الكؤوس في الصينية لتصب المشروب ..
نظرت لها إيثار بحذر ، وتردد في سؤالها عن أمر ما ، فهي منذ تواجدها بالفيلا لم تلتقِ بزوجة مالك ..
اعتقدت هي في وجود خلاف ما بينهما ، أو ربما هي لم تعد بعد من الخارج ، أو مريضة .. دار في رأسها عشرات الأسئلة عنها .. وفي النهاية عقدت العزم على سؤال راوية عنها ، لذا ابتسمت بهدوء وهي تسألها بتردد قليل :
-هو .. هو أنا ممكن أســأل سؤال ؟
ردت عليها راوية بمرح :
-اه اتفضلي
تساءلت إيثار بحذر وهي ترمش بعينيها
-فين مامت ريفان ؟ أنا مش شوفتها خالص هنا ! هي آآ.. مسافرة ؟
عبس وجه راوية قليلاً ، وتمتمت بحزن :
-مدام لانا
ارتسم على تعابير وجه إيثار علامات الضيق بعد معرفتها لإسم زوجة مالك ، وهمست بنبرة شبه منزعجة :
-هي اسمها لانا ؟
تنهدت راوية بعمق وهي تجيبها :
-اه ، الله يرحمها ، كانت انسانة رقيقة وجميلة
شهقت إيثار مصدومة، ووضعت يدها على فمها وهي تهتف بذهول :
-هي .. هي ماتت ؟؟!!!!!
هزت راوية رأسها في حزن وهي توضح قائلة :
-أيوه ، أصل آآ...
قضمت عبارتها بسبب رنين هاتفها ، فأشارت بيدها لها وهي تقول بجدية :
-لحظة ، هاشوف التليفون
ردت عليها إيثار بتفهم :
-اتفضلي
وضعت راوية الهاتف على أذنها بعد أن ضغطت على زر الإيجاب ، وأدرفت قائلة بهدوء :
-ايوه يا مالك باشا ، اطمن كل حاجة بخير
صمتت للحظة قبل أن تتابع :
-حضرتك جاي كمان شوية ؟
أومــأت برأسها بإيماءة خفيفة وهي تكمل :
-تمام ، الأكل هايكون جاهز
أنهت معه المكالمة ، ثم أشارت بكلتا يديها وهي تقول بإضطراب :
-عن اذنك يا مـدام ..آآ.. قصدي يا إيثار ، هاروح أجهز الأكل قبل ما الباشا يرجع
ابتسمت لها إيثار بود وهي تردد :
-خدي راحتك
عاودت إيثار التحديق في الفراغ بشرود بعد تلك المعلومات المقتضبة عن حياة مالك طوال الفترة الماضية ..
......................................
لاحقاً نامت الصغيرة ريفان بعد يوم حافل ، فحملتها إيثار برفق لتضعها في فراشها ..
ظلت واقفة أمامها تطالعها بنظرات اشفاق ... فهي طفلة يتيمة حُرمت من حنان الأم وحضنها في هذا السن المبكر ..
ورغم الآلم الذي شعرت به تجاهها إلا أنه لا يقــارن بإحساسها تجاه مالك ..
أشفقت عليه هو الأخــر ، ففقدان عزيز يؤثر بنا بأي حال ، فماذا عمن شاطرنا جزءاً من حياتنا
لم تشعر بوجود مالك معها في الغرفة ، فقد عـــاد من عمله ليطمئن على صغيرته ..
فجذبه رؤيته لإيثار تداعب طفلته النائمة بحنو ، وراقبها في صمت ..
تنهد بعمق ليقاوم إحساسه نحوها ، أراد أن يظل حانقاً عليها ، كارهاً لها ، لكن مشاعرة مضطربة ، مذبذبة نحوها ...
تنحنح بخشونة وهو يلج للداخل بخطوات بطيئة وثابتة ، فانتبهت هي لوجوده ، واعتدلت في وقفتها ..
لم ينظر نحوها ، وسلط أنظاره على صغيرته ، وأردف متساءلاً بصوت خفيض :
-أخبارها ايه ؟
ردت عليه بصوت رقيق رغم خفوته :
-بخير الحمدلله
دس يده في جيبه ليخرج حفنة من الأموال ، ثم مد كفه بها نحوه وتابع قائلاً ببرود :
-خدي
نظرت لما في يده بإستغراب ، ثم رفعت رأسها لتنظر نحوه والإندهاش لم يفارق نظراتها ، وسألته قائلة :
-دول ايه ؟
رد عليها ببرود موجز وهو يرمقها بنظرات شبه إحتقارية :
-أجرتك
اتسعت حدقتيها مصدومة وهي تردد :
-نعم
تابع قائلاً بإبتسامة متهكمة :
-هو انتي بتشتغلي ببلاش ؟
ردت عليه بكرامة وهي ترفع رأسها للأعلى في كبرياء :
-لأ .. بس اللي أعرفه اني الواحد بيقبض مرتبه في أخر الشهر ، أو لما يخلص شغله مش باليومية
برر لها قائلاً بإستهزاء :
-اعتبريه تحت حساب ، اهو حاجة تصرفي بيها على نفسك بدل ما تستني تمدي ايدك لجوزك وآآ...
قاطعته قائلة بحنق :
-خلي فلوسك في جيبك يا مالك بيه ، لما يجي ميعاد قبضي حضرتك تقدر تسلمه للمكتب ، وانا هاخده من هناك ، غير كده مافيش فلوس هاخدها من حضرتك مباشرة ، عن اذنك ميعاد انصرافي جه !
ثم تركته وانصرفت وهي تحاول منع نفسها من ذرف العبرات ، فكلماته الجارحة أهانتها بشدة ، وزادت من وخزات قلبها ....
شعر مالك بالضيق من ردة فعلها المعتزة بنفسها والتي تناقض ذلك التصور المادي الحقير الذي وصمه بها ، وحاول إقناع نفسه أنها تدعي كل هذا للإيقاع به مجدداً ..
وظل يردد لنفسه بقوة أنها مجرد كاذبة مخادعة تضع قناع البراءة على وجهها ، وعليه بالحذر منها كي لا يقع في فخها مجدداً ..
....................................
انزوت إيثار في غرفتها ، ورفضت تناول الطعام مع عائلتها ، وأخذت ترثي حالها ..
أمسكت بصندوق ذكرياتها الخشبي ، والذي جمعت فيه كل ما ربطها بمالك ، وفتحته لتنظر في القصاصات الموضوعة به ، وتنهدت بآسى وهي تعاتبه قائلة :
-ليه انت كمان جيت عليا ؟ ليه ؟
أغلقت الصندوق وعبراتها تنهمر بغزارة على وجنتيها ، ثم أسندت رأسها على الوسادة لتدفن نفسها فيها وتكمل بكائها المكتوم ....
.......................................
مرت عدة أيـــــام على مالك وهو يتابع بدقة عمل إيثار مع ابنته التي اندمجت معها كثيراً ..
كان يتعمد عدم التواجد في الفيلا قدر الإمكان طوال فترة وجودها حتى لا يؤثر عليه حضورها ..
ولكن أسعده حقاً هو حالة الود والألفة بينهما .. فقد ملأت هي وجود الفراغ في حياة ابنته اليتيمة ..
-مالك بيه ، حضرتك متابع معايا
قالها أحد الأشخاص بصوت جاد لينتبه له ويفق من شروده ، فابتسم قائلاً بهدوء :
-اه معاك ، اتفضل كمل عرضك !
.............................
استقلت روان الحافلة لتذهب إلى أخيها بعد أن تعذر عليها استئجار سيارة أجرة ، ولكنها لم تتوقع أن تجد فيها من يحاول التحرش بها أثناء جلوسها ..
في البداية ظنت أنها تتوهم وجود من يتلمس جسدها من الجانب ، فإرتعشت قليلاً ، ثم تحركت مبتعدة ، وانكمشت في مقعدها ، لكن تكرر الأمر مجدداً ، فجحظت بعينيها بذعــر ، والتفتت برأسها للجانب لتنظر إلى ذلك الحقير الذي يتطاول عليها ..
كان ذلك الدنيء محدقاً أمامه ، ومسنداً ليده على طرف المقعد الأمامي ، بينما يده الأخــرى تمتد خلسة لتلمسها ، فإستشاطت غضباً ، وصرخت فيه فجأة :
-ما تحترم نفسك يا قليل الأدب
نظر لها الرجل شزراً ، وصاح ببرود وكأنه لم يفعل شيئاً :
-جرى ايه يا بت انتي ؟ هو في حد جه جمبك ، ولا ده رمي بلى ؟!
دهشت مما قالته ، وفغرت شفتيها مصدومة ، ثم سريعاً استجمعت شجاعتها ، وصرخت فيه بإنفعال :
-أنا بأرمي بلايا واللي انت اللي مش قاعد محترم وعمال تلزق فيا !
انتبه عمرو –والذي كان يجلس في الخلفية – للمشاجرة الكلامية الدائرة في المقدمة ، وصدم حينما رأى جارته روان هي من تصرخ في ذلك الغريب .. فنهض عن مقعده فوراً ، وتحرك في اتجاهها ..
تابع الرجل قائلاً بحدة :
-نعم ، انتي هتتبلي عليا ولا ايه
صاحت فيه روان بغيظ وقد احتقن وجهها بشدة :
-أنا هاتبلى عليك !!!!!!
أكمل الرجل قائلاً بفظاظة :
-الأشكال بتوعكم دي أنا عارفها كويس
وقف عمرو أمام مقعد ذلك الرجل ، وحدق فيه بنظرات نارية ، ثم تساءل بصوت قاتم :
-في ايه يا آنسة روان ؟
تفاجئت هي من رؤيته أمامها ، ورددت بذهول :
-هاه ، عمرو !
وجه عمرو حديثه للحقير الجالس إلى جوارها ، وأمسك به من تلابيبه ليجبره على النهوض وهو يصيح به بصوت غاضب :
-انت بتكلمها كده ليه ؟
حاول الرجل تخليص نفسه من قبضتيه ، وهتف محتجاً بوقاحة :
-هو أنا جيت جمبها أصلاً
سلط عمرو أنظاره على روان ، وسألها بصوت قوي :
-هو عملك حاجة ؟
ابتلعت ريقها بتوجس ، ورغم شعورها بالإرتياح لوجود من يساعدها ، إلا أنها كانت محرجة من كونه جارها الذي تكرهه ، ومع ذلك أجابته بحدة بعد أن رأت نظرات الاتهام واضحة في عيني الدنيء لها :
-الحيوان ده كان بيلمس جسمي وآآ...
لم تكمل جملتها للنهاية حيث تفاجئت بعمرو يلكم ذلك الحقير بشراسة في وجهه وهو يصرخ فيه بغضب :
-بتحط ايدك على بنات الناس يا **** ، يا ابن ****
تأوه الرجل من الآلم ، ودافع عن نفسه بخوف :
-والله هي اللي بتكدب !
اغتاظ عمرو من كذبه الصريح ، ولكمه بعنف أشد وهو يهدر بإنفعال :
-بتحلف بالله كدب !
صاح الرجل مستغيثاً ، وهو يتآلم :
-آآآآه ، آآآي !
أضاف رجل ما جالساً على مقربة :
-معدتش في خشى ، ولاد ناقصين تربية
توعده عمرو قائلاً وهو يكمل ضربه :
-أنا هاربي اللي جابوك !
وبعد أن أفرغ عمرو شحنة غضبه فيه ، أردف قائلاً بصوت متشنج :
-انزلي يا آنسة روان هنا
أومــأت برأسها موافقة ، وتحركت بإستحياء للأمام ، ثم ترجلت من الحافلة ..
لحق بها عمرو ، وأخذ يعدل من هندامه ، ثم تساءل بجدية وهو ينظر لها بتفحص :
-انتي كويسة ؟
هزت رأسها بإيماءة خفيفة :
-ايوه !
ترددت هي في شكره على مساعدتها إياها ، ولكنه كان يستحق هذا ، لذا بلا تفكير طويل ، هتفت قائلة بحذر :
-أنا .. أنا متشكرة على اللي عملته معايا
-أنا معملتش حاجة ده واجبي ، إنتي زي إيثار وأنا مقبلش إن حد قذر يمد ايده عليها
خجلت منه ، وابتسمت قائلة بإيجاز :
-ميرسي
سألها عمرو بهدوء :
-تحبي أوصلك في حتة ؟
حركت رأسها نافية وهي تقول :
-لأ شكراً ، أنا ..آآ
أخفضت بصرها لتحدق في كنزتها فوجدتها ممزقة من الجانب ، فصرخت بفزع :
-يا لهوي !
سألها بتوجس وهو مسلط أنظاره عليها :
-في ايه ؟
ردت بإرتباك وهي تحاول تغطية جسدها :
-دي بلوزتي مقطوعة !
صدم مما قالته ، وهتف بذهول :
-ايه ؟
همست روان بخجل كبير وهي تتلفت حولها :
-يادي الفضايح
أشـــار لها بيده وهو يقول بهدوء جاد :
-طب اهدي !
ثم نزع عنه سترته ومد يده بها نحوها وهو يتابع بصوت آمر :
-خدي البسي ده عليكي !
اعترضت بشدة وهي تقول :
-لالالا ، ماينفعش
قطب جبينه بتعجب ، وهتف بصوت شبه منزعج :
-هو ايه اللي ماينفعش ، استري نفسك بيه ، وأنا هاوصلك البيت ، تعالي معايا !
أخذت سترته منه على استحياء ، ووضعتها على كتفيها ، ثم نفخت بضيق وهي تتمتم بصوت خافت :
-أوف ، يا ربي ، هو كان لازم يحصل كل ده !
.................................
أعدت إيثار ملابس ريفان ووضعتها على فراشها الصغير ، ثم اقتربت منها لتقول بمرح :
-يالا يا روفي ، وقت الشاور بتاعك، وبعدها هنلعب كتير ، وهاحكيلك على حاجات حلوة
لم تجبها الصغيرة كالمعتاد بكلماتها المبهمة ، بل كانت شاحبة الوجه قليلاً ، ساكنة على غير عادتها ..
نظرت لها إيثار بريبة ، واقتربت منها لتحملها لكنها تفاجئت بإرتفاع حرارة جسدها ، فشهقت مذعورة :
-انتي سخنة أوي يا قلبي !
ضمتها إلى صدرها ، ثم ركضت بها مسرعة خارج غرفتها وهي تصرخ بهلع :
-راوية ، يا راوية ، الحقيني بسرعة ريفان سخنة جدا
ثم نزلت سريعاً على الدرج وهي تكمل صراخها المرعوب ..
أتت الخادمة على إثر صوتها ، وهتفت متوجسة و بنبرة عالية :
-يا ساتر يا رب ، أنا هاكلم مالك باشا أبلغه
تابعت إيثار ركضها نحو باب الفيلا وهي تقول بقلق بالغ :
-كلميه ، أنا مش هاستنى، هاوديها على المستشفى ، السخونية خطر جداً عليها
-استني طيب
حاولت راوية اللحاق بها لتوقفها وهي تهاتف مالك ، ولكنها لم تتمكن من هذا ..
....................................
استقلت إيثار سيارة الأجرة ، وطلبت من السائق التوجه بها إلى أقرب مشفى لإنقاذ الصغيرة ..
في نفس التوقيت أبلغت راوية مالك بما حدث فجن جنونه لتركها إياها تأخذ ابنته بمفردها دون الذهاب معها ومعرفة إلى أين ذهبت بها ، وصاح مهتاجاً فيها ، وترك عمله وهو يتوعد إيثار بشراسة ...
...............................
لعن مالك نفسه لأنه لم يكلف نفسه العناء لأخذ رقم هاتف إيثار ليطلبها ، وتعذر على راوية الوصول إليها بسبب تركها لهاتفها في فيلته ..
بدى كالمجنون وهو يبحث عن اسم ابنته في المستشفيات الخاصة والعامة ، وكلف موظفيه بالتواصل مع جميعهم وإبلاغه بمكانها إن توصل إليها أحدهم ، وبالفعل عرف موظف منهم مكانها ، وأبلغ رب عمله بهذا ، فقاد سيارته بسرعة رهيبة نحو مكانها ...
.....................................
تنفست إيثار الصعداء بعد إسعاف الطبيب للصغيرة راوية ، وإخفاضه لحرارتها المرتفعة ، فاحتضنتها بقوة في صدرها ، وظلت تقبلها بشغف .. وأدمعت عيناها وهي تقول بإمتنان :
-كتر خيرك يا دكتور ، إنت مش متخيل أنا كنت مرعوبة عليها ازاي
ابتسم الطبيب لها ، ورد بنبرة هادئة :
-اطمني يا مدام ، بنتك زي الفل ، دي حاجة عادية للأطفال اللي في سنها
نظرت له مدهوشة من كلمته ، فقد اعتقد من لهفتها عليها وخوفها الطبيعي أنها والدتها بالفطرة ..
لم ترد أن تخيب ظنه ، واكتفت بالإبتسام له بكل تهذيب ، لكن سريعاً ما تلاشت ابتسامتها ، وزاغت نظراتها ، وحل الوجوم والخوف عليها حينما رأت مالك مقبلاً عليها وعلى وجهه علامات نذير شـــــر جلي ............................
......................