رواية رحلة الآثام الفصل العشرون 20 بقلم منال سالم
الفصل العشرون
(وضاع العمر هباءً)
جلست على طرف الفراش حينما انتهت من ارتداء قميصها المنزلي، شدته للأسفل لتضبطه على جسدها، وراحت تزرر فتحة الصدر، قبل أن تمد يدها وتمسك بمنديل رأسها لتلفه حول شعرها الذي ما زال رطبًا من استحمامها. حانت من "فردوس" نظرة جانبية نحو زوجها المستلقي على الجانب الآخر من السرير، ويوليها ظهره مستغرقًا في نومه. لم يكن ما يجمعهما معًا هو الحب، إنما الظروف العصيبة التي فرضت على كليهما، ورغم مُضي ما يزيد عن خمس سنوات على زواجهما إلا أنها لم تنجذب إليه بشدةٍ مثلما أوهمها الجميع، كان ما بينهما روتينيًا، فاترًا، يميل لقضاء الواجب عنه للشغف والوله.
حادثت نفسها في سقمٍ، وتكشيرة كبيرة تجتاح وجهها:
-خليك كده نايم يا "عوض"، ده اللي بقيت باخده منك، تيجي تنام، وطول الوقت برا!
حتى حلمها بالحمل، والإنجاب كان متعذرًا، فكيف يحدث ذلك وقلما يحظيان بليلة حميمية عاصفة تندلع فيها شرارات الرغبة والهيام؟!
تركت خواطرها المؤرقات جانبًا، ونهضت بتكاسلٍ عن الفراش، ثم سارت بخطواتٍ خفيفة حذرة نحو باب الغرفة، ألقت نظرة أخيرة على زوجها، قبل أن تخرج من الحجرة، لتوارب الباب خلفها. واصلت مشيها الحثيث تجاه الغرفة الصغرى الماكثة بها والدتها، كانت الأخيرة تنام على جنبها، لا تتحرك، فمنذ الأخبار المشؤومة التي تلقتها بشأن فصل ابنتها البكرية من عملها، وانقطاع كامل أخبارها عنها أصابها الإعياء والمرض. زهدت الحياة، وأصبحت متعلقة بأملٍ واحد فقط، ربما لن يتحقق؛ لكنها تشبثت به، ألا وهو رؤية الابنة الغائبة!
تأملتها من عند عتبة الباب، وجهها أصبح تعيسًا، ذابلًا، زاره المرض كضيف مقيم لا عابر، وحفر آثاره عليه، حز في قلبها رؤيتها تنزوي يومًا بعد يوم بسبب أوهامها الواهية، حتى الكلام انقطعت عنه، وبات من النادر سماع صوتها. مرة ثانية زفرت "فردوس" الهواء الثقيل من رئتيها قبل أن تتقدم تجاهها لتتفقدها، انحنت عليها لتقبلها من رأسها، ابتسمت لرؤيتها يقظة، وخاطبتها في صوتٍ خفيض:
-عاملة إيه النهاردة يامه؟
ابتسمت "عقيلة" بسمة باهتة، فارتضت بها ابنتها، ثم مسحت بيدها على وجنتها في رفقٍ، وأكملت سؤالها لها وهي تسحب الغطاء عليها لتغطيها:
-محتاجة حاجة أجيبهالك؟
هزت "عقيلة" رأسها بالنفي، فربتت على كتفها في مودةٍ، قبل أن تستقيم واقفة لتنظر بصدمة مذهولة إلى صينية الطعام المتروكة على الطاولة الملاصقة لفراشها القديم، استنكرت عزوفها عن تناوله، وصاحت في ضيقٍ:
-الله! ده الأكل زي ما هو من ليلة إمبارح!!
مجددًا نظرت إلى والدتها تستعتبها بقولها:
-طب ليه كده بس؟
اغتاظت من تصرفها الضار بصحتها، وقامت بتأنيبها لفظيًا في حدة:
-وربنا حرام اللي بتعمليه في نفسك!
اقتربت منها، ورأت كيف تجمعت الدموع في عينيها إيذانًا بالبدء في نوبة بكاءٍ صامتة، مما استفزها، وجعلها تزيد من وتيرة غضبها عليها بترديدها:
-ليه تعــــذبي روحك بالشكل ده؟
ذرفت "عقيلة" العبرات الساخنة، فكزت "فردوس" على أسنانها محتجة على ما تقوم به، فابنتها لا تستحق ذلك التعاطف، وهي الأكثر جحودًا على الإطلاق. جلست على طرف الفراش ملاصقة لها قبل أن تهتف في صيحة استهجانٍ:
-فكرك يعني هي هتحس بيكي وترجع لما ما ترضيش تاكلي وتعيطي عليها؟
ثم ضربت بكفيها معًا وهي تضيف:
-هي خلاص يامه .. شافت حياتها ونسيتنا.
ابتلعت "فردوس" غصة مريرة، واستمرت تقول:
-طول عمرها كده، متمردة على حياتنا، مش عجباها...
انخفضت نبرتها إلى حدٍ ما قائلة بسخطٍ:
-ومين يرضى بعيشة الفقر والغلب؟!!
رمقتها بنظرة مقهورة قبل أن ترجوها بيأسٍ:
-نفسي تحسي بيا وتقدري اللي بعمله عشانك.
بكت "فردوس" هي الأخرى تأثرًا بما جال في نفسها خلال هذه اللحظات الحساسة، وراحت تدمدم:
-خمس سنين يامه بعمل كل حاجة عشان ترجعي زي الأول.
مسحت بظهر كفها ما انسال على وجهها من دمعٍ، وأكملت بنفس الشجن:
-لا اشتكيت من فقر، ولا فتحت بؤي بكلمة، نفسي تكلمي تاني..
توسلتها باستعطافٍ يفطر نياط القلوب:
-يامه .. إنتي آخر حد فاضلي في الدنيا، من بعد ما خالتي ماتت، مش عايزة أخسرك إنتي كمان، عشان خاطري كفاية زعل وحزن على ناس ما تستاهلش!
نهضت بعدئذ من على الفراش، وحملت الصينية، ثم قدمتها لها قائلة:
-كُلي حاجة وريحيني.
نبذت "عقيلة" الصينية بيدها، وأبعدتها عنها، ليتضاعف الحنق في نفس ابنتها. بالكاد تمالكت أعصابها وهسهست:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، طب أعمل إيه بس عشان ترضي؟
ما كان من والدتها إلا أن أولتها ظهرها، وتجاهلتها، ليملأ روحها المزيد من الحقد والغيظ، تحركت "فردوس" مغادرة الغرفة وهي تقول في حرقةٍ:
-منك لله يا "تهاني"، هتجيبي أجل أمك حتى وإنتي بعيدة!
...............................................
لم تنجح كتلة مساحيق التجميل التي لطخت بها تقاطيع وجهها في إخفاء الحزن العميق والراسخ فيها، حتى عيناها كانتا مكسوتان بحمرة ملتهبة جراء بكائها الذي لا ينقطع. بدت "تهاني" وهي جالسة في المطعم بصحبة "ممدوح" واجمة للغاية، شاردة في أغلب الأحيان، انتظرت اللحظة التي ترك لها العنان لتفرغ مكنونات صدرها، فانطلقت في شكواها كعادتها خلال لقائها المنتظم به، حينما يغادر زوجها البلاد، ويذهب لواحدٍ من مؤتمراته الطبية الهامة ويغيب لعدة أيامٍ.
في البداية كان جالسًا في مواجهتها؛ لكنه مع الوقت انتقل ليجاورها، لتشعر به قريبًا منها. اختنق صوتها بشدة للدرجة التي خرج بها متقطعًا وهي تعترف له:
-خلاص مابقتش قادرة.
نظر لها بتعاطفٍ ماكر، ومد يده ليمسك بكفها المفرود على سطح الطاولة، لم تمانع مسكته، واستمرت في استرسالها:
-أنا بموت في اليوم ألف مرة، وهو ولا فارق معاه، بيعمل كل حاجة مُقـــرفة عشان يقهــرني.
شعر بتشنج أصابعها على كفه وهي تضيف بصعوبةٍ:
-خيـــانة، وشُرب، وحاجات ماتخطرش على البال.
فاضت الدموع من عينيها، ولم تكترث برؤية من حولها لها وهي تبكي، تطلعت إليه بعجزٍ قبل أن ترد في شرودٍ مغلف بالندم الكامل:
-يا ريتني قولت لأ من الأول، يا ريتني.
بيده الأخرى احتضن "ممدوح" نفس كفها، بث إليها الدفء، وتوسلها بنبرته الحنون المدسوس بها سم الأفعى:
-اهدي يا "تهاني"، ماينفعش اللي بتعمليه ده، الناس هتاخد بالها.
ردت عليه بمرارةٍ:
-يا ريت حد ياخد باله، على الأقل كنت اترحمت.
شعرت بيده تشتد على راحتها، ورأت نظراته تحتويها، ليخبرها مؤكدًا بلؤمٍ:
-أنا هنا .. موجود جمبك.
سكتت بعدها للحظاتٍ، قبل أن تسحب يدها معتذرة منه:
-أنا أسفة يا "ممدوح"، شغلتك معايا زي تملي، بس ماليش غيرك هنا.
تخليها عن الألقاب الرسمية بينهما جاء بعد توطيد صداقتهما السرية، والتي دامت لفترة ممتدة إلى الآن. راقبها الأخير وهي تبعد يدها في توترٍ معقبًا بهدوءٍ:
-متقوليش كده، بجد هزعل، لو إنتي بس تسمحيلي آ...
كانت تعرف ما يريد قوله قبل أن ينطق به؛ التدخل لإنهاء هذه الزيجة بأقل الخسائر مثلما كان يخبرها، فقاطعته في التو:
-أرجوك، أنا مش عاوزاه يعرف إني وصلت للحالة دي، ما هيصدق يزيد أكثر، كفاية إني لاقية حد بفضفض معاه بدل ما أتخنـــق وأمـــوت.
عاتبها بنظرته الرقيقة وهو يفوه بجزعٍ:
-بعد الشر، خسارة الجمال ده يتدمـــر كده.
استخدمت "تهاني" منديلها القماشي لتمسح بخفة ما بلل وجنتيها، وقالت بعد أخذها لنفسٍ عميق:
-أنا مستحملة ده كله عشان ابني، بس مسيره يكبر ويعرف أنا عملت إيه عشانه.
تصنع الابتسام حين علق:
-أكيد طبعًا...
مجددًا تجرأ واحتضن يدها ليوصيها باهتمامٍ زائد:
-المهم عندي دلوقتي تهدي، وتريحي أعصابك.
بادلته الابتسام الخافت وهي تقول بعد تنهيدة بطيئة، تاركة إياه يداعب أصابعها:
-هحاول.
.........................................
فرغت لتوها من توزيع ما قامت بخبزه من فطائر صغيرة بمساعدة جارتها المقربة، على الفقراء والمعدمين، أثناء تواجدهما بمنطقة المقابر. طوت "فردوس" الكيس البلاستيكي الخالي، ووضعته في آخر تحمل فيه أشيائها الصغيرة، كان النهار حارًا، ونسمات الهواء شبه معدومة، فراح العرق يتصبب من جسدها بغزارة، لذا استخدمت كم عباءتها لتمسح به حبات العرق المتجمعة عند جبينها، أدارت رأسها قليلًا نحو "إجلال" عندما خاطبتها باستحسانٍ:
-القُرص المرادي مخبوزة حلو.
أخبرتها بلا ابتسامٍ:
-عشان حطينا فيها سمنة بلدي.
ظلت جارتها على أسلوبها الودي وهي تتكلم إليها:
-عادة ماتتقطعش يا حبيبتي، وربنا يجعلها بثوابه.
نظرة مهمومة ألقتها الأخيرة على شاهد القبر الذي يضمن بداخله رفات خالتها الراحلة، وكذلك من سبقوها، قبل أن ترد بصوتٍ بائس:
-كله عشان خاطر أمي.
لاحت على ثغر جارتها بسمة راضية حين أضافت:
-مالناش بركة إلا هي.
بدأت "فردوس" بالسير عبر الطرقات الضيقة لتخرج من هذه المنطقة، شردت في وجوم متذكرة كيف تغذى الحزن على صحة والدتها، ونهل من عافيتها، فتركها كالأشبـــاح، بالكاد تصارع للبقاء على قيد الحياة. غص صدرها بالبكاء لهذه الأفكار والخواطر المؤلمة، وراحت تشكو لها في صوتٍ يفيض بالأسى:
-نفسي تسيبها من الهم اللي قضى عليها، والتفكير في "تهاني"، ده اللي راح ما بيرجعش.
لم توافقها الرأي، وحادثتها بصوتٍ مال للجدية:
-غصب عنها، هي أم، والضنا غالي.
ردت عليها بشيء من النقم:
-ده لما يكون يستاهل.
تفهمت موقفها المعادي، وحاولت إظهار بعض التقدير لها بقولها:
-معلش يا "دوسة"، هوني على نفسك، الكل عارف إنتي بتعملي إيه عشان خاطرك الست "عقيلة".
لوت فمها متمتمة:
-ربنا موجود.
وصلت كلتاهما بعد برهة من السير إلى حيث يتواجد موقف الحافلات المزدحم، لم يكن من السهل إيجاد مقاعد شاغرة وسط مئات البشر المتصارعين للحاق بأول حافلة تصل. لتقضي على طول فترة الانتظار، اقترحت فجأة "إجلال" بنزقٍ، وقد ظهرت رنة من الحماس في صوتها:
-بقولك إيه، مفكرتيش تشتغلي يا "دوسة"؟
انعكست الدهشة على ملامح وجهها، وردت باستغراب مشوبٍ بالتعجب:
-إيه؟ أشتغل؟!
أكدت لها حُسن اقتراحها بإيماءة من رأسها لتستحثها على القبول به:
-أيوه، أهوو تجيبي قرش زيادة يساعدك في البيت.
رفضت بعد صمتٍ لحظي، وكأنها قد قامت بعمل تقييم سريع لأوضاعها:
-لأ، "عوض" مش هيرضى، ده غير إني مقدرش أسيب أمي لواحدها وهي في الحالة دي.
لم تستسلم أو تيأس، بل كررت عليها بقدرٍ بسيط من الإلحاح:
-عمومًا فكري، مش هتخسري حاجة.
ضجرت "فردوس" من عدم جدوى انتظارهما، فأشارت بيدها نحو الأمام وهي تخاطب جارتها:
-ربنا يسهل، خلينا نمشي من هنا، ونركب من على أول الشارع.
أيدتها في الرأي، وتبعتها قائلة:
-يكون أحسن برضوه، أهوو بدل وقفتنا اللي مالهاش لازمة.
.....................................
بلطافةٍ مصحوبة بالحذر قامت المربية الأجنبية الجديدة بمسح فم الصغير ذي الخمسة أعوام، عقب انتهائه من تناول الحساء الساخن في غرفته، كانت مسئولة عن رعـايته في غياب والديه، مهام وظيفتها لم تكن مقتصرة على ذلك فقط، بل كُلفت بأمور أخرى كانت تتلهف لها عن أي شيء آخر. ابتسمت له بكل محبة وألفة، ثم أمسكت بعدئذ بصحن الخضار، ووضعته أمامه وهي تطلب منه في صوت رقيق لكنه آمر باللغة الإنجليزية:
-ملاكي، تناول ذلك أيضًا.
عبس الصغير "أوس" بملامحه رافضًا الاقتراب منه، فأصرت عليه بنفس الصوت الحنون:
-إنه شهي.
رفض تناوله بعنادٍ، وقبل أن تضغط عليه انتبهت لصوت أحدهم وهو ينادي:
-حبيبي!
نهض الصغير من موضعه فور أن رأه حاضرًا، واتجه إلى أبيه ليتلقفه الأخير في أحضانه، وينهال عليه بقبلات أبوية دافئة؛ لكن نظرات "مهاب" تعلقت بالمربية الرشيقة التي لمعت عيناها برغبة وانتشاء. نكست الأخيرة رأسها في ارتباكٍ مصطنع، وتمتمت بنعومةٍ:
-عودًا حميدًا سيدي.
اكتفى بهز رأسه، وأبعد ابنه عنه ليخاطبه في جدية:
-عاوزك تسمع الكلام وماتعملش شقاوة، إنت راجل، والراجل لازم يبقى أد كلمته، اتفقنا؟
أظهر طاعته له بتحريك رأسه إيجابًا، فبدا "مهاب" مسرورًا لذلك، وتركه منصرفًا من الغرفة، لتهتف المربية وهي تشير بإصبعها للصغير في تلبك مريب:
-لا تتحرك من مكانك، انتظرني هنا، سأعود سريعًا.
لحقت بـ "مهاب"، وسألته في اهتمام متزايد:
-سيدي، أتريد شيئًا؟
رمقها بهذه النظرة الماجنة التي تفهم مغزاها جيدًا، قبل أن يجاوبها بعبارة موحية كانت مدركة تمامًا لما ورائها:
-نعم، لا تتأخري.
اتسعت ابتسامتها اللاهية، وأخبرته:
-حسنًا، سأترك الصغير مع ألعابه ليلهو، وسأحضر في الحال.
أولاها ظهره، وغمغم بخفوت نازعًا عنه سترته:
-وماله!
.............................................
منذ عودته إلى المنزل وهذا التعبير المريب يكسو كامل ملامحه، بالإضافة لالتزامه بالصمت الطويل، راقبت "فردوس" زوجها بنظرات غريبة متشككة، ودفعة من الأسئلة المحيرة تتدفق في رأسها، لم ترغب في شغل بالها بأمره، فاقتربت منه في جلسته المنعزلة بالشرفة، وسألته بعدما أعدت له كوبًا من الشاي الساخن:
-مالك يا "عوض"؟ من ساعة ما رجعت من برا، وإنت ساكت وواخدلك جمب!!
جاورته في جلسته، وسألته بإلحاحٍ أكبر:
-حصل حاجة؟
لم يجب بشيء، فواصلت ضغطها عليه:
-عرفت خبر عن أهلك طيب؟
تنهد مطولًا قبل أن يجيبها بإيجازٍ مزيحًا ذلك الثقل الجاثم على نفسه:
-لأ.
زوت ما بين حاجبيها متسائلة في تصميمٍ:
-أومال في إيه؟
استمرت في محاصرته بنبرتها المُلحة، وهي تركز كامل بصرها عليه:
-اتكلم يا راجل، مش هتحايل عليك!
نظر لها بعجزٍ، ليتكلم في صوتٍ مُثقل بالهموم:
-استغنوا عن خدماتي في الشغل يا "فردوس"!
في البداية لم تستوعب حقيقة طرده من عمله، فقد أصابت الصدمة المفاجأة تفكيرها بالجمود، فاستفهمت منه بقلقٍ راح ينتشر في تقاسيمها:
-يعني إيه الكلام ده؟
أجابها في صراحة صادمة:
-يعني مابقوش عايزين واحد زيي يخلص ورق الحكومة، وبقيت على باب الله!
جحظت عيناها في ذهولٍ قبل أن تلطم على صدرها منددة بالكارثة التي حطت على رأس عائلتها المنكوبة:
-يا نصيبتي!
ردد في قلة حيلة:
-لله الأمر من قبل ومن بعد.
سألته في تحسرٍ، وقلبها يدق في فزعٍ:
-طب وهتعمل إيه؟
بنفس النظرة العاجزة أخبرها وهو يهز كتفيه:
-لسه مش عارف.
ظلت "فردوس" تنوح وتولول، ويداها تضربان على فخذيها:
-أهي مصيبة لا كانت على البال ولا على الخاطر.
تبادلت مع زوجها نظرات أكثر قلقًا وخوفًا، ولسانها يردد:
-يعني هناكل منين؟ وهنعيش إزاي؟
حاول طمأنتها بكلماته المواسية:
-سبيها على الله، ربنا مابينساش حد.
نظرت له شزرًا، وكأنها غير مقتنعة بعدم مبالاته، واستهانته بالأمر، هل يظن أن أبواب العمل متاحة لمن مثله من محدودي الشهادات والخبرات؟ بالكاد إن وجد واحدة مماثلة فستقيم الأفراح؛ لكنها كانت شبه متيقنة أنه لن يتمكن من الحصول على واحدة بسهولة أبدًا. انقلبت سحنتها على الأخيرة، وأخذت تقول في نقمٍ:
-ونعم بالله، بس احنا ورانا هم ما يتلم، بيت مفتوح، ومصاريف أد كده، ده غير علاج أمي...
وكأن عاصفة من الهم اجتاحتها، فراحت تزيد في تعداد المصائب بإضافتها:
-ده لواحده بالشيء الفلاني، ولا مديونية البقال والجزار، وآ...
قاطعها "عوض" مشيرًا بيده، وبصوته الهادئ:
-أنا هتصرف، وأرض الله واسعة!
اشتاطت غيظًا مما اعتبره برودًا، ونهضت من جواره لتواصل ندبها البائس:
-كل الناس خيبتها السبت والأحد، وأنا خيبتي ما وردت على حد!!!
.....................................................
كان بحاجةٍ للذهاب إلى الحمام، وتلبية نداء الطبيعة، حاول قدر المستطاع تمالك نفسه؛ لكنه ضجر من الانتظار غير المجدى بداخل غرفته، فنفخ في مللٍ، وناداها لأكثر من مرة:
-ناني .. ناني!
لم يجد منها أي استجابة، لذا تأهب للخروج من غرفته للبحث عنها بداخل المطبخ معتقدًا أنها منهمكة في إعداد وجبة غذائية صحية له. توقف في منتصف الطريق عندما سمع هذه الأنات الغريبة تأتي من جهة غرفة والده. وقتئذ نال منه التردد، وخشي من الذهاب إلى هناك، جمده الخوف في مكانه، وأرهف السمع محاولًا تبين ماهية ما يصدر. سرعان ما غالب فضوله الطفولي رهبته المؤقتة، واستحثه على التحرك.
سار الصغير "أوس" على مهلٍ، واقترب من غرفته، لم يكن الباب مغلقًا بشكلٍ تام، بل كانت هناك فُرجة صغيرة، تسمح بانبعاث الضوء من الداخل، والمصحوب بخيالات غريبة لأطياف غير محددة المعالم تنعكس كالظلال على الأرضية اللامعة. ركز الصغير بصره على هذه الانعكاسات المتحركة بإمعانٍ مشوبٍ بالحيرة، توهم أنها تخيلات مجسدة لأشباح مخيفة، ربما قد تطارده إن رأته واقفًا هكذا كالصنم. عقله لم يفهم بعد طبيعة ما يدور، ورغم ذلك لم يشعر بالارتياح، ولم تكن كذلك لديه الرغبة لاكتشاف حقيقتها لهذا انسحب على الفور دون أن يصدر صوتًا، محاولًا نسيان ما قد يسبب له الأحلام والكوابيس المفزعة ليلًا حين ينام بمفرده.
.................................................
حينما عادت من الخارج، مكثت في غرفة صغيرها تستمع بإنصات لما فعله خلال يومه، استمتعت "تهاني" بنعيم أحضانه، وبحلاوة قبلاته البريئة. كاد كل شيء يسير على ما يرام لولا أن حكى لها في عفوية تامة ما شاهده مصادفةً على مقربة من غرفة والده، وعن اختفاء المربية الأجنبية لمدة استطالها قبل أن تعود إليه بشكل غير مرتب. آنئذ احمر وجهها فجأة، وأحست بانفجارات تحدث داخلها، حيث تفقه ذهنها لما جرى في غيابها مجددًا من أفعال مشينة. ظهرت على قسماتها علامات الاستنكار، والحنق، والاستهجان العظيم، استحقرت فعلته الدنيئة والمتكررة، والأسوأ من ذلك أنها تحدث على مرأى ومسمع من طفلها البريء.
مدفوعة بغضبها المستعر، انطلقت "تهاني" تجاه غرفة مكتبه، والمتواجد بها حاليًا، اقتحمتها دون استئذان وهاجمته باندفاعٍ متعصبٍ:
-إنت إزاي يجي في بالك تعمل القــــذارة دي هنا؟ لأ وقصاد ابنك كمان!!!
نظر لها "مهاب" باستعلاءٍ وبكل برود، وكأن تشنجها الواضح أمامه لا يهمه أو يعنيه. تابعت زوجته هجومها المليء بالإدانة وهي تدنو من مكتبه:
-إيه مش خايف يشوف نجــــاستك ويعرف حقيقتك بدري بدري؟
عندما تمادت في إهانته بهذا الشكل الفج، لم يتحمل "مهاب"، فانتفض واقفًا، وهدر بها بغضبٍ جم:
-إنتي نسيتي نفسك؟!!!
ردت عليه "تهاني" بشيء من الكرامة وعزة النفس، وهذه النظرة المزدرية تطل من عينيها إليه:
-لأ عارفة كويس أنا مين وأصلي إيه...
ثم لوت ثغرها في نفور وهي تستكمل بنفس الوجه المشمئز:
-الدور والباقي على الدكتور المحترم اللي ما بقاش عارف يفرق بين الصح والغلط، واللي المفروض يتعمل وما يتعملش في بيته وقصاد ابنه!!
هذه المرة كانت المشاحنة حامية والصدام بينهما عنيفًا، لم يتوقع "مهاب" أن تتحداه هكذا، بل ويتطاول عليه لسانها بهذا الشكل السافر، فما كان منه إلا أن قال بلا ندمٍ، وبما جعل قلبها ينخلع في موضعه:
-إنتي طــالق!
صدمها ما فاه به، وحملقت فيه بعينين متسعتين بشدة، فأكمل بصوتٍ أقرب للصياح المهدد بعدما تأكد من تأثير قساوة قراره النزق عليها:
-اطلعي برا بيتي، وابني مش هتشوفيه تاني.
لم يمهلها الفرصة لاستيعاب ما جرى في التو، كانت مذهولة كليًا من التطور المخيف الذي دار بينهما في لمح البصر. بنوعٍ من العنف والخشونة، اتجه "مهاب" إليها ليقبض على ذراعها، دفعها منه دفعًا إلى الخارج وهو ينعتها بكلمات نابية يندى لها الجبين، غير مكترثٍ بالجلبة أو الفضيحة الحادثة أمام الخدم الذين تابعوا ما يدور بين الزوجين باندهاشٍ ممزوج بالتحير.
وقف الصغير "أوس" يتأمل المعاملة المهينة التي تتلقاها والدته من قبل أبيه بذهولٍ مرتاع. النظرة المذعورة التي انتفضت في حدقتيه، وأمسكت بها عيني والدته، في هذه اللحظات العصيبة، جعلتها تتراجع عن حدتها، وتتبدل للنقيض كليًا، وكأنها تداركت في التو فداحة غضبها الأهوج. ثقلت خطواتها، وقاومت دفع زوجها له لتتوسله في صوتٍ مال للاختناق:
-لأ يا "مهاب"، ماتعملش معايا كده!
بلا تهاونٍ خاطبها، وقبضته تشتد على عضدها:
-أنا حذرتك، وإنتي عصيتي أوامري
انحنت جاثية على ركبتيها، وتعلقت بكلتا ذراعيها في ساقه تستجديه بحرقةٍ:
-كانت لحظة طيش، أرجوك ارحمني، وبلاش تحرمني من ابني.
غروره الممزوج بنزعة التجبر المستحوذة عليه جعله أشد تصميمًا على تأديبها بقســــاوةٍ، أمسك بها من شعوره، وجرها منه في صورة مهينة ومذلة، حتى شعرت مع سحبه الشـــرس أنه على وشك اقتلاعه من جذوره. وجد الصغير "أوس" نفسه عاجزًا عن منع ما تلاقيه من تعنيف مخيف، نظر مثل البقية في رعب مراقبًا طردها من الجنة الزائفة لأبيه.
ألقاها "مهاب" ككيس قمامة مقزز خارج بيته، قبل أن يصفق الباب في وجهها، متجاهلًا الطرقات المتلاحقة عليه في شكل جنوني من كلتا قبضتيها، ثم التفت ناظرًا إلى الخدم محذرًا إياهم باللغة الإنجليزية:
-غير مسموحٍ بدخولها مطلقًا، أفهمتم؟!!
لم يعلقوا بشيءٍ سوى بإبداء إيماءة طائعة لأمره الصارم، ليقوم بعدها برفع بصره تجاه ابنه، وأمره هو الآخر بغير تساهلٍ:
-روح على أوضتك يا "أوس"!
نادى الصغير والدته في صوت أقرب للبكاء:
-ماما، أنا عاوزها!
أنذره بغلظةٍ وهو يشير إليه بسبابته:
-اسمع الكلام وارجع أوضتك وماتخرجش منها!
عصاه في عنادٍ طفولي، وظل ينادي باسمها، فاضطر لتوجيه أمره للمربية:
-اذهبي به إلى غرفته!
في الحال استجابت له، وهرولت نحو الصغير لتحمله إلى غرفته وسط تذمراته الغاضبة وركلاته القاسية من قدميه لجسدها، لعل وعسى ينجح في الإفلات منها.
لم تتوقف "تهاني" عن الطرق والصراخ ببكاء حارق ليفتح لها الباب ويردها إلى عصمته، ندمت أشد الندم لتسرعها الأرعن، آه لو صمتت، وصبرت، وكبتت في نفسها ما عرفته، لما آلت بها الأمور إلى هذه النهاية المأساوية المحطمة لها؛ امرأة مطلقة، مطرودة في الشارع، ومحرومة من صغيرها!
تجاهلها "مهاب" تمامًا، وأرسل للأمن ليقوم بطردها وإبعادها من محيط مسكنه، فقد أصر هذه المرة على ألا يكون متساهلًا في شأنها، وصمم بعدائية متصاعدة على أن يحيل ما ظنت أنها حياتها الهانئة إلى جحيم مستعر، لتتعلم الدرس جيدًا، فمحاسبته على سلوكياته؛ وإن كانت غير سوية، ليست بشيءٍ يُغتفر ............................................ !!!
(وضاع العمر هباءً)
جلست على طرف الفراش حينما انتهت من ارتداء قميصها المنزلي، شدته للأسفل لتضبطه على جسدها، وراحت تزرر فتحة الصدر، قبل أن تمد يدها وتمسك بمنديل رأسها لتلفه حول شعرها الذي ما زال رطبًا من استحمامها. حانت من "فردوس" نظرة جانبية نحو زوجها المستلقي على الجانب الآخر من السرير، ويوليها ظهره مستغرقًا في نومه. لم يكن ما يجمعهما معًا هو الحب، إنما الظروف العصيبة التي فرضت على كليهما، ورغم مُضي ما يزيد عن خمس سنوات على زواجهما إلا أنها لم تنجذب إليه بشدةٍ مثلما أوهمها الجميع، كان ما بينهما روتينيًا، فاترًا، يميل لقضاء الواجب عنه للشغف والوله.
حادثت نفسها في سقمٍ، وتكشيرة كبيرة تجتاح وجهها:
-خليك كده نايم يا "عوض"، ده اللي بقيت باخده منك، تيجي تنام، وطول الوقت برا!
حتى حلمها بالحمل، والإنجاب كان متعذرًا، فكيف يحدث ذلك وقلما يحظيان بليلة حميمية عاصفة تندلع فيها شرارات الرغبة والهيام؟!
تركت خواطرها المؤرقات جانبًا، ونهضت بتكاسلٍ عن الفراش، ثم سارت بخطواتٍ خفيفة حذرة نحو باب الغرفة، ألقت نظرة أخيرة على زوجها، قبل أن تخرج من الحجرة، لتوارب الباب خلفها. واصلت مشيها الحثيث تجاه الغرفة الصغرى الماكثة بها والدتها، كانت الأخيرة تنام على جنبها، لا تتحرك، فمنذ الأخبار المشؤومة التي تلقتها بشأن فصل ابنتها البكرية من عملها، وانقطاع كامل أخبارها عنها أصابها الإعياء والمرض. زهدت الحياة، وأصبحت متعلقة بأملٍ واحد فقط، ربما لن يتحقق؛ لكنها تشبثت به، ألا وهو رؤية الابنة الغائبة!
تأملتها من عند عتبة الباب، وجهها أصبح تعيسًا، ذابلًا، زاره المرض كضيف مقيم لا عابر، وحفر آثاره عليه، حز في قلبها رؤيتها تنزوي يومًا بعد يوم بسبب أوهامها الواهية، حتى الكلام انقطعت عنه، وبات من النادر سماع صوتها. مرة ثانية زفرت "فردوس" الهواء الثقيل من رئتيها قبل أن تتقدم تجاهها لتتفقدها، انحنت عليها لتقبلها من رأسها، ابتسمت لرؤيتها يقظة، وخاطبتها في صوتٍ خفيض:
-عاملة إيه النهاردة يامه؟
ابتسمت "عقيلة" بسمة باهتة، فارتضت بها ابنتها، ثم مسحت بيدها على وجنتها في رفقٍ، وأكملت سؤالها لها وهي تسحب الغطاء عليها لتغطيها:
-محتاجة حاجة أجيبهالك؟
هزت "عقيلة" رأسها بالنفي، فربتت على كتفها في مودةٍ، قبل أن تستقيم واقفة لتنظر بصدمة مذهولة إلى صينية الطعام المتروكة على الطاولة الملاصقة لفراشها القديم، استنكرت عزوفها عن تناوله، وصاحت في ضيقٍ:
-الله! ده الأكل زي ما هو من ليلة إمبارح!!
مجددًا نظرت إلى والدتها تستعتبها بقولها:
-طب ليه كده بس؟
اغتاظت من تصرفها الضار بصحتها، وقامت بتأنيبها لفظيًا في حدة:
-وربنا حرام اللي بتعمليه في نفسك!
اقتربت منها، ورأت كيف تجمعت الدموع في عينيها إيذانًا بالبدء في نوبة بكاءٍ صامتة، مما استفزها، وجعلها تزيد من وتيرة غضبها عليها بترديدها:
-ليه تعــــذبي روحك بالشكل ده؟
ذرفت "عقيلة" العبرات الساخنة، فكزت "فردوس" على أسنانها محتجة على ما تقوم به، فابنتها لا تستحق ذلك التعاطف، وهي الأكثر جحودًا على الإطلاق. جلست على طرف الفراش ملاصقة لها قبل أن تهتف في صيحة استهجانٍ:
-فكرك يعني هي هتحس بيكي وترجع لما ما ترضيش تاكلي وتعيطي عليها؟
ثم ضربت بكفيها معًا وهي تضيف:
-هي خلاص يامه .. شافت حياتها ونسيتنا.
ابتلعت "فردوس" غصة مريرة، واستمرت تقول:
-طول عمرها كده، متمردة على حياتنا، مش عجباها...
انخفضت نبرتها إلى حدٍ ما قائلة بسخطٍ:
-ومين يرضى بعيشة الفقر والغلب؟!!
رمقتها بنظرة مقهورة قبل أن ترجوها بيأسٍ:
-نفسي تحسي بيا وتقدري اللي بعمله عشانك.
بكت "فردوس" هي الأخرى تأثرًا بما جال في نفسها خلال هذه اللحظات الحساسة، وراحت تدمدم:
-خمس سنين يامه بعمل كل حاجة عشان ترجعي زي الأول.
مسحت بظهر كفها ما انسال على وجهها من دمعٍ، وأكملت بنفس الشجن:
-لا اشتكيت من فقر، ولا فتحت بؤي بكلمة، نفسي تكلمي تاني..
توسلتها باستعطافٍ يفطر نياط القلوب:
-يامه .. إنتي آخر حد فاضلي في الدنيا، من بعد ما خالتي ماتت، مش عايزة أخسرك إنتي كمان، عشان خاطري كفاية زعل وحزن على ناس ما تستاهلش!
نهضت بعدئذ من على الفراش، وحملت الصينية، ثم قدمتها لها قائلة:
-كُلي حاجة وريحيني.
نبذت "عقيلة" الصينية بيدها، وأبعدتها عنها، ليتضاعف الحنق في نفس ابنتها. بالكاد تمالكت أعصابها وهسهست:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، طب أعمل إيه بس عشان ترضي؟
ما كان من والدتها إلا أن أولتها ظهرها، وتجاهلتها، ليملأ روحها المزيد من الحقد والغيظ، تحركت "فردوس" مغادرة الغرفة وهي تقول في حرقةٍ:
-منك لله يا "تهاني"، هتجيبي أجل أمك حتى وإنتي بعيدة!
...............................................
لم تنجح كتلة مساحيق التجميل التي لطخت بها تقاطيع وجهها في إخفاء الحزن العميق والراسخ فيها، حتى عيناها كانتا مكسوتان بحمرة ملتهبة جراء بكائها الذي لا ينقطع. بدت "تهاني" وهي جالسة في المطعم بصحبة "ممدوح" واجمة للغاية، شاردة في أغلب الأحيان، انتظرت اللحظة التي ترك لها العنان لتفرغ مكنونات صدرها، فانطلقت في شكواها كعادتها خلال لقائها المنتظم به، حينما يغادر زوجها البلاد، ويذهب لواحدٍ من مؤتمراته الطبية الهامة ويغيب لعدة أيامٍ.
في البداية كان جالسًا في مواجهتها؛ لكنه مع الوقت انتقل ليجاورها، لتشعر به قريبًا منها. اختنق صوتها بشدة للدرجة التي خرج بها متقطعًا وهي تعترف له:
-خلاص مابقتش قادرة.
نظر لها بتعاطفٍ ماكر، ومد يده ليمسك بكفها المفرود على سطح الطاولة، لم تمانع مسكته، واستمرت في استرسالها:
-أنا بموت في اليوم ألف مرة، وهو ولا فارق معاه، بيعمل كل حاجة مُقـــرفة عشان يقهــرني.
شعر بتشنج أصابعها على كفه وهي تضيف بصعوبةٍ:
-خيـــانة، وشُرب، وحاجات ماتخطرش على البال.
فاضت الدموع من عينيها، ولم تكترث برؤية من حولها لها وهي تبكي، تطلعت إليه بعجزٍ قبل أن ترد في شرودٍ مغلف بالندم الكامل:
-يا ريتني قولت لأ من الأول، يا ريتني.
بيده الأخرى احتضن "ممدوح" نفس كفها، بث إليها الدفء، وتوسلها بنبرته الحنون المدسوس بها سم الأفعى:
-اهدي يا "تهاني"، ماينفعش اللي بتعمليه ده، الناس هتاخد بالها.
ردت عليه بمرارةٍ:
-يا ريت حد ياخد باله، على الأقل كنت اترحمت.
شعرت بيده تشتد على راحتها، ورأت نظراته تحتويها، ليخبرها مؤكدًا بلؤمٍ:
-أنا هنا .. موجود جمبك.
سكتت بعدها للحظاتٍ، قبل أن تسحب يدها معتذرة منه:
-أنا أسفة يا "ممدوح"، شغلتك معايا زي تملي، بس ماليش غيرك هنا.
تخليها عن الألقاب الرسمية بينهما جاء بعد توطيد صداقتهما السرية، والتي دامت لفترة ممتدة إلى الآن. راقبها الأخير وهي تبعد يدها في توترٍ معقبًا بهدوءٍ:
-متقوليش كده، بجد هزعل، لو إنتي بس تسمحيلي آ...
كانت تعرف ما يريد قوله قبل أن ينطق به؛ التدخل لإنهاء هذه الزيجة بأقل الخسائر مثلما كان يخبرها، فقاطعته في التو:
-أرجوك، أنا مش عاوزاه يعرف إني وصلت للحالة دي، ما هيصدق يزيد أكثر، كفاية إني لاقية حد بفضفض معاه بدل ما أتخنـــق وأمـــوت.
عاتبها بنظرته الرقيقة وهو يفوه بجزعٍ:
-بعد الشر، خسارة الجمال ده يتدمـــر كده.
استخدمت "تهاني" منديلها القماشي لتمسح بخفة ما بلل وجنتيها، وقالت بعد أخذها لنفسٍ عميق:
-أنا مستحملة ده كله عشان ابني، بس مسيره يكبر ويعرف أنا عملت إيه عشانه.
تصنع الابتسام حين علق:
-أكيد طبعًا...
مجددًا تجرأ واحتضن يدها ليوصيها باهتمامٍ زائد:
-المهم عندي دلوقتي تهدي، وتريحي أعصابك.
بادلته الابتسام الخافت وهي تقول بعد تنهيدة بطيئة، تاركة إياه يداعب أصابعها:
-هحاول.
.........................................
فرغت لتوها من توزيع ما قامت بخبزه من فطائر صغيرة بمساعدة جارتها المقربة، على الفقراء والمعدمين، أثناء تواجدهما بمنطقة المقابر. طوت "فردوس" الكيس البلاستيكي الخالي، ووضعته في آخر تحمل فيه أشيائها الصغيرة، كان النهار حارًا، ونسمات الهواء شبه معدومة، فراح العرق يتصبب من جسدها بغزارة، لذا استخدمت كم عباءتها لتمسح به حبات العرق المتجمعة عند جبينها، أدارت رأسها قليلًا نحو "إجلال" عندما خاطبتها باستحسانٍ:
-القُرص المرادي مخبوزة حلو.
أخبرتها بلا ابتسامٍ:
-عشان حطينا فيها سمنة بلدي.
ظلت جارتها على أسلوبها الودي وهي تتكلم إليها:
-عادة ماتتقطعش يا حبيبتي، وربنا يجعلها بثوابه.
نظرة مهمومة ألقتها الأخيرة على شاهد القبر الذي يضمن بداخله رفات خالتها الراحلة، وكذلك من سبقوها، قبل أن ترد بصوتٍ بائس:
-كله عشان خاطر أمي.
لاحت على ثغر جارتها بسمة راضية حين أضافت:
-مالناش بركة إلا هي.
بدأت "فردوس" بالسير عبر الطرقات الضيقة لتخرج من هذه المنطقة، شردت في وجوم متذكرة كيف تغذى الحزن على صحة والدتها، ونهل من عافيتها، فتركها كالأشبـــاح، بالكاد تصارع للبقاء على قيد الحياة. غص صدرها بالبكاء لهذه الأفكار والخواطر المؤلمة، وراحت تشكو لها في صوتٍ يفيض بالأسى:
-نفسي تسيبها من الهم اللي قضى عليها، والتفكير في "تهاني"، ده اللي راح ما بيرجعش.
لم توافقها الرأي، وحادثتها بصوتٍ مال للجدية:
-غصب عنها، هي أم، والضنا غالي.
ردت عليها بشيء من النقم:
-ده لما يكون يستاهل.
تفهمت موقفها المعادي، وحاولت إظهار بعض التقدير لها بقولها:
-معلش يا "دوسة"، هوني على نفسك، الكل عارف إنتي بتعملي إيه عشان خاطرك الست "عقيلة".
لوت فمها متمتمة:
-ربنا موجود.
وصلت كلتاهما بعد برهة من السير إلى حيث يتواجد موقف الحافلات المزدحم، لم يكن من السهل إيجاد مقاعد شاغرة وسط مئات البشر المتصارعين للحاق بأول حافلة تصل. لتقضي على طول فترة الانتظار، اقترحت فجأة "إجلال" بنزقٍ، وقد ظهرت رنة من الحماس في صوتها:
-بقولك إيه، مفكرتيش تشتغلي يا "دوسة"؟
انعكست الدهشة على ملامح وجهها، وردت باستغراب مشوبٍ بالتعجب:
-إيه؟ أشتغل؟!
أكدت لها حُسن اقتراحها بإيماءة من رأسها لتستحثها على القبول به:
-أيوه، أهوو تجيبي قرش زيادة يساعدك في البيت.
رفضت بعد صمتٍ لحظي، وكأنها قد قامت بعمل تقييم سريع لأوضاعها:
-لأ، "عوض" مش هيرضى، ده غير إني مقدرش أسيب أمي لواحدها وهي في الحالة دي.
لم تستسلم أو تيأس، بل كررت عليها بقدرٍ بسيط من الإلحاح:
-عمومًا فكري، مش هتخسري حاجة.
ضجرت "فردوس" من عدم جدوى انتظارهما، فأشارت بيدها نحو الأمام وهي تخاطب جارتها:
-ربنا يسهل، خلينا نمشي من هنا، ونركب من على أول الشارع.
أيدتها في الرأي، وتبعتها قائلة:
-يكون أحسن برضوه، أهوو بدل وقفتنا اللي مالهاش لازمة.
.....................................
بلطافةٍ مصحوبة بالحذر قامت المربية الأجنبية الجديدة بمسح فم الصغير ذي الخمسة أعوام، عقب انتهائه من تناول الحساء الساخن في غرفته، كانت مسئولة عن رعـايته في غياب والديه، مهام وظيفتها لم تكن مقتصرة على ذلك فقط، بل كُلفت بأمور أخرى كانت تتلهف لها عن أي شيء آخر. ابتسمت له بكل محبة وألفة، ثم أمسكت بعدئذ بصحن الخضار، ووضعته أمامه وهي تطلب منه في صوت رقيق لكنه آمر باللغة الإنجليزية:
-ملاكي، تناول ذلك أيضًا.
عبس الصغير "أوس" بملامحه رافضًا الاقتراب منه، فأصرت عليه بنفس الصوت الحنون:
-إنه شهي.
رفض تناوله بعنادٍ، وقبل أن تضغط عليه انتبهت لصوت أحدهم وهو ينادي:
-حبيبي!
نهض الصغير من موضعه فور أن رأه حاضرًا، واتجه إلى أبيه ليتلقفه الأخير في أحضانه، وينهال عليه بقبلات أبوية دافئة؛ لكن نظرات "مهاب" تعلقت بالمربية الرشيقة التي لمعت عيناها برغبة وانتشاء. نكست الأخيرة رأسها في ارتباكٍ مصطنع، وتمتمت بنعومةٍ:
-عودًا حميدًا سيدي.
اكتفى بهز رأسه، وأبعد ابنه عنه ليخاطبه في جدية:
-عاوزك تسمع الكلام وماتعملش شقاوة، إنت راجل، والراجل لازم يبقى أد كلمته، اتفقنا؟
أظهر طاعته له بتحريك رأسه إيجابًا، فبدا "مهاب" مسرورًا لذلك، وتركه منصرفًا من الغرفة، لتهتف المربية وهي تشير بإصبعها للصغير في تلبك مريب:
-لا تتحرك من مكانك، انتظرني هنا، سأعود سريعًا.
لحقت بـ "مهاب"، وسألته في اهتمام متزايد:
-سيدي، أتريد شيئًا؟
رمقها بهذه النظرة الماجنة التي تفهم مغزاها جيدًا، قبل أن يجاوبها بعبارة موحية كانت مدركة تمامًا لما ورائها:
-نعم، لا تتأخري.
اتسعت ابتسامتها اللاهية، وأخبرته:
-حسنًا، سأترك الصغير مع ألعابه ليلهو، وسأحضر في الحال.
أولاها ظهره، وغمغم بخفوت نازعًا عنه سترته:
-وماله!
.............................................
منذ عودته إلى المنزل وهذا التعبير المريب يكسو كامل ملامحه، بالإضافة لالتزامه بالصمت الطويل، راقبت "فردوس" زوجها بنظرات غريبة متشككة، ودفعة من الأسئلة المحيرة تتدفق في رأسها، لم ترغب في شغل بالها بأمره، فاقتربت منه في جلسته المنعزلة بالشرفة، وسألته بعدما أعدت له كوبًا من الشاي الساخن:
-مالك يا "عوض"؟ من ساعة ما رجعت من برا، وإنت ساكت وواخدلك جمب!!
جاورته في جلسته، وسألته بإلحاحٍ أكبر:
-حصل حاجة؟
لم يجب بشيء، فواصلت ضغطها عليه:
-عرفت خبر عن أهلك طيب؟
تنهد مطولًا قبل أن يجيبها بإيجازٍ مزيحًا ذلك الثقل الجاثم على نفسه:
-لأ.
زوت ما بين حاجبيها متسائلة في تصميمٍ:
-أومال في إيه؟
استمرت في محاصرته بنبرتها المُلحة، وهي تركز كامل بصرها عليه:
-اتكلم يا راجل، مش هتحايل عليك!
نظر لها بعجزٍ، ليتكلم في صوتٍ مُثقل بالهموم:
-استغنوا عن خدماتي في الشغل يا "فردوس"!
في البداية لم تستوعب حقيقة طرده من عمله، فقد أصابت الصدمة المفاجأة تفكيرها بالجمود، فاستفهمت منه بقلقٍ راح ينتشر في تقاسيمها:
-يعني إيه الكلام ده؟
أجابها في صراحة صادمة:
-يعني مابقوش عايزين واحد زيي يخلص ورق الحكومة، وبقيت على باب الله!
جحظت عيناها في ذهولٍ قبل أن تلطم على صدرها منددة بالكارثة التي حطت على رأس عائلتها المنكوبة:
-يا نصيبتي!
ردد في قلة حيلة:
-لله الأمر من قبل ومن بعد.
سألته في تحسرٍ، وقلبها يدق في فزعٍ:
-طب وهتعمل إيه؟
بنفس النظرة العاجزة أخبرها وهو يهز كتفيه:
-لسه مش عارف.
ظلت "فردوس" تنوح وتولول، ويداها تضربان على فخذيها:
-أهي مصيبة لا كانت على البال ولا على الخاطر.
تبادلت مع زوجها نظرات أكثر قلقًا وخوفًا، ولسانها يردد:
-يعني هناكل منين؟ وهنعيش إزاي؟
حاول طمأنتها بكلماته المواسية:
-سبيها على الله، ربنا مابينساش حد.
نظرت له شزرًا، وكأنها غير مقتنعة بعدم مبالاته، واستهانته بالأمر، هل يظن أن أبواب العمل متاحة لمن مثله من محدودي الشهادات والخبرات؟ بالكاد إن وجد واحدة مماثلة فستقيم الأفراح؛ لكنها كانت شبه متيقنة أنه لن يتمكن من الحصول على واحدة بسهولة أبدًا. انقلبت سحنتها على الأخيرة، وأخذت تقول في نقمٍ:
-ونعم بالله، بس احنا ورانا هم ما يتلم، بيت مفتوح، ومصاريف أد كده، ده غير علاج أمي...
وكأن عاصفة من الهم اجتاحتها، فراحت تزيد في تعداد المصائب بإضافتها:
-ده لواحده بالشيء الفلاني، ولا مديونية البقال والجزار، وآ...
قاطعها "عوض" مشيرًا بيده، وبصوته الهادئ:
-أنا هتصرف، وأرض الله واسعة!
اشتاطت غيظًا مما اعتبره برودًا، ونهضت من جواره لتواصل ندبها البائس:
-كل الناس خيبتها السبت والأحد، وأنا خيبتي ما وردت على حد!!!
.....................................................
كان بحاجةٍ للذهاب إلى الحمام، وتلبية نداء الطبيعة، حاول قدر المستطاع تمالك نفسه؛ لكنه ضجر من الانتظار غير المجدى بداخل غرفته، فنفخ في مللٍ، وناداها لأكثر من مرة:
-ناني .. ناني!
لم يجد منها أي استجابة، لذا تأهب للخروج من غرفته للبحث عنها بداخل المطبخ معتقدًا أنها منهمكة في إعداد وجبة غذائية صحية له. توقف في منتصف الطريق عندما سمع هذه الأنات الغريبة تأتي من جهة غرفة والده. وقتئذ نال منه التردد، وخشي من الذهاب إلى هناك، جمده الخوف في مكانه، وأرهف السمع محاولًا تبين ماهية ما يصدر. سرعان ما غالب فضوله الطفولي رهبته المؤقتة، واستحثه على التحرك.
سار الصغير "أوس" على مهلٍ، واقترب من غرفته، لم يكن الباب مغلقًا بشكلٍ تام، بل كانت هناك فُرجة صغيرة، تسمح بانبعاث الضوء من الداخل، والمصحوب بخيالات غريبة لأطياف غير محددة المعالم تنعكس كالظلال على الأرضية اللامعة. ركز الصغير بصره على هذه الانعكاسات المتحركة بإمعانٍ مشوبٍ بالحيرة، توهم أنها تخيلات مجسدة لأشباح مخيفة، ربما قد تطارده إن رأته واقفًا هكذا كالصنم. عقله لم يفهم بعد طبيعة ما يدور، ورغم ذلك لم يشعر بالارتياح، ولم تكن كذلك لديه الرغبة لاكتشاف حقيقتها لهذا انسحب على الفور دون أن يصدر صوتًا، محاولًا نسيان ما قد يسبب له الأحلام والكوابيس المفزعة ليلًا حين ينام بمفرده.
.................................................
حينما عادت من الخارج، مكثت في غرفة صغيرها تستمع بإنصات لما فعله خلال يومه، استمتعت "تهاني" بنعيم أحضانه، وبحلاوة قبلاته البريئة. كاد كل شيء يسير على ما يرام لولا أن حكى لها في عفوية تامة ما شاهده مصادفةً على مقربة من غرفة والده، وعن اختفاء المربية الأجنبية لمدة استطالها قبل أن تعود إليه بشكل غير مرتب. آنئذ احمر وجهها فجأة، وأحست بانفجارات تحدث داخلها، حيث تفقه ذهنها لما جرى في غيابها مجددًا من أفعال مشينة. ظهرت على قسماتها علامات الاستنكار، والحنق، والاستهجان العظيم، استحقرت فعلته الدنيئة والمتكررة، والأسوأ من ذلك أنها تحدث على مرأى ومسمع من طفلها البريء.
مدفوعة بغضبها المستعر، انطلقت "تهاني" تجاه غرفة مكتبه، والمتواجد بها حاليًا، اقتحمتها دون استئذان وهاجمته باندفاعٍ متعصبٍ:
-إنت إزاي يجي في بالك تعمل القــــذارة دي هنا؟ لأ وقصاد ابنك كمان!!!
نظر لها "مهاب" باستعلاءٍ وبكل برود، وكأن تشنجها الواضح أمامه لا يهمه أو يعنيه. تابعت زوجته هجومها المليء بالإدانة وهي تدنو من مكتبه:
-إيه مش خايف يشوف نجــــاستك ويعرف حقيقتك بدري بدري؟
عندما تمادت في إهانته بهذا الشكل الفج، لم يتحمل "مهاب"، فانتفض واقفًا، وهدر بها بغضبٍ جم:
-إنتي نسيتي نفسك؟!!!
ردت عليه "تهاني" بشيء من الكرامة وعزة النفس، وهذه النظرة المزدرية تطل من عينيها إليه:
-لأ عارفة كويس أنا مين وأصلي إيه...
ثم لوت ثغرها في نفور وهي تستكمل بنفس الوجه المشمئز:
-الدور والباقي على الدكتور المحترم اللي ما بقاش عارف يفرق بين الصح والغلط، واللي المفروض يتعمل وما يتعملش في بيته وقصاد ابنه!!
هذه المرة كانت المشاحنة حامية والصدام بينهما عنيفًا، لم يتوقع "مهاب" أن تتحداه هكذا، بل ويتطاول عليه لسانها بهذا الشكل السافر، فما كان منه إلا أن قال بلا ندمٍ، وبما جعل قلبها ينخلع في موضعه:
-إنتي طــالق!
صدمها ما فاه به، وحملقت فيه بعينين متسعتين بشدة، فأكمل بصوتٍ أقرب للصياح المهدد بعدما تأكد من تأثير قساوة قراره النزق عليها:
-اطلعي برا بيتي، وابني مش هتشوفيه تاني.
لم يمهلها الفرصة لاستيعاب ما جرى في التو، كانت مذهولة كليًا من التطور المخيف الذي دار بينهما في لمح البصر. بنوعٍ من العنف والخشونة، اتجه "مهاب" إليها ليقبض على ذراعها، دفعها منه دفعًا إلى الخارج وهو ينعتها بكلمات نابية يندى لها الجبين، غير مكترثٍ بالجلبة أو الفضيحة الحادثة أمام الخدم الذين تابعوا ما يدور بين الزوجين باندهاشٍ ممزوج بالتحير.
وقف الصغير "أوس" يتأمل المعاملة المهينة التي تتلقاها والدته من قبل أبيه بذهولٍ مرتاع. النظرة المذعورة التي انتفضت في حدقتيه، وأمسكت بها عيني والدته، في هذه اللحظات العصيبة، جعلتها تتراجع عن حدتها، وتتبدل للنقيض كليًا، وكأنها تداركت في التو فداحة غضبها الأهوج. ثقلت خطواتها، وقاومت دفع زوجها له لتتوسله في صوتٍ مال للاختناق:
-لأ يا "مهاب"، ماتعملش معايا كده!
بلا تهاونٍ خاطبها، وقبضته تشتد على عضدها:
-أنا حذرتك، وإنتي عصيتي أوامري
انحنت جاثية على ركبتيها، وتعلقت بكلتا ذراعيها في ساقه تستجديه بحرقةٍ:
-كانت لحظة طيش، أرجوك ارحمني، وبلاش تحرمني من ابني.
غروره الممزوج بنزعة التجبر المستحوذة عليه جعله أشد تصميمًا على تأديبها بقســــاوةٍ، أمسك بها من شعوره، وجرها منه في صورة مهينة ومذلة، حتى شعرت مع سحبه الشـــرس أنه على وشك اقتلاعه من جذوره. وجد الصغير "أوس" نفسه عاجزًا عن منع ما تلاقيه من تعنيف مخيف، نظر مثل البقية في رعب مراقبًا طردها من الجنة الزائفة لأبيه.
ألقاها "مهاب" ككيس قمامة مقزز خارج بيته، قبل أن يصفق الباب في وجهها، متجاهلًا الطرقات المتلاحقة عليه في شكل جنوني من كلتا قبضتيها، ثم التفت ناظرًا إلى الخدم محذرًا إياهم باللغة الإنجليزية:
-غير مسموحٍ بدخولها مطلقًا، أفهمتم؟!!
لم يعلقوا بشيءٍ سوى بإبداء إيماءة طائعة لأمره الصارم، ليقوم بعدها برفع بصره تجاه ابنه، وأمره هو الآخر بغير تساهلٍ:
-روح على أوضتك يا "أوس"!
نادى الصغير والدته في صوت أقرب للبكاء:
-ماما، أنا عاوزها!
أنذره بغلظةٍ وهو يشير إليه بسبابته:
-اسمع الكلام وارجع أوضتك وماتخرجش منها!
عصاه في عنادٍ طفولي، وظل ينادي باسمها، فاضطر لتوجيه أمره للمربية:
-اذهبي به إلى غرفته!
في الحال استجابت له، وهرولت نحو الصغير لتحمله إلى غرفته وسط تذمراته الغاضبة وركلاته القاسية من قدميه لجسدها، لعل وعسى ينجح في الإفلات منها.
لم تتوقف "تهاني" عن الطرق والصراخ ببكاء حارق ليفتح لها الباب ويردها إلى عصمته، ندمت أشد الندم لتسرعها الأرعن، آه لو صمتت، وصبرت، وكبتت في نفسها ما عرفته، لما آلت بها الأمور إلى هذه النهاية المأساوية المحطمة لها؛ امرأة مطلقة، مطرودة في الشارع، ومحرومة من صغيرها!
تجاهلها "مهاب" تمامًا، وأرسل للأمن ليقوم بطردها وإبعادها من محيط مسكنه، فقد أصر هذه المرة على ألا يكون متساهلًا في شأنها، وصمم بعدائية متصاعدة على أن يحيل ما ظنت أنها حياتها الهانئة إلى جحيم مستعر، لتتعلم الدرس جيدًا، فمحاسبته على سلوكياته؛ وإن كانت غير سوية، ليست بشيءٍ يُغتفر ............................................ !!!