رواية وبقي منها حطام انثي الفصل الثامن عشر 18 بقلم منال سالم
الفصل الثامن عشــــر ( الجزء الأول ) :
(( هَا قَدْ عُدتُ إِلَيكِ .. وَلَكِن خَالِية الْوِفَاض ..
لَا أَملُك إِلَا تَعَاسَتِي .. وَذِكرَى البِعَاد ..
أَلَا تَرفَقِي بِي مَدِينَتِي ، وَتُعِيدِي إليَّ حَبل الوِصَــــال ؟ ))
إنهار محسن جالساً على أقرب مقعد غير مصدق ما سمعه تواً..
لقد كانت زوجته إيثار حاملاً ..
هي حملت في أحشائها وريثه المرتقب .. وهو بغبائه وعنفه المفرط قتله بلا وعيٍ ..
ضرب رأسه بكفه عدة مرات ليصرخ من بين أسنانه :
-ليه .. ليه .. كان فين مخي ؟!
تابع الطبيب قائلا بجدية :
-الموضوع فيه شبه جنائية ، اﻹجهاض حصل نتيجة اعتداء ، ده غير أثار الكدمات الواضحة على وشها ، والتجمعات الدموعية عند آآ...
انتبه له محسن ، وسيطر سريعاً على حالته الهائجة ، وهتف مقاطعاً إياه بغلظة وعينيه تنطقان بالشرر الصريح :
-ده كان قضاء وقدر .. سامع يا دكتور .. قضاء وقدر !!!
استشعر الطبيب من لهجته العدائية وجود تهديد بين كلماته المتوارية ، فأطرق رأسه خوفاً منه ، خاصة أن قرأ في عينيه نية مبيتة لإيذائه .. لذا تنحنح بخشونة وهو يضع يده على فمه :
-أكيد .. ربنا يعوض عليك ، وألف سلامة على المدام !
ثم تركه وتحرك مبتعداً عنه ليكمل عمله ...
........................
وقفت أمل إلى جوار باب غرفة العمليات منتظرة بتلهف خروج تلك المسكينة التي فقدت شيئاً ثميناً تتمناه مثيلاتها في لحظة جنون وطيش من زوجها دون أن تدري بوجوده أصلاً ..
تحرك اثنين من الممرضين نحوها وهما يدفعان أمامهما ناقلة طبية ممدد عليها إيثار ..
فأسرعت هي نحوهما ، ونظرت إلى تلك الغائبة عن الوعي بإشفاق ، وهتفت بحزن وهي تطالعها بنظراتها المشفقة :
-إيثار ! ان شاء الله هاتبقي كويسة و...آآآ...
قاطعها الممرض قائلا بنبرة رسمية :
-حاسبي شوية يا ست
نظرت له بتوسل وهي تقول :
-أنا عاوزة اطمن عليها
رد عليها بجمود نسبي :
-هي هتتنقل على أوضة عادية ، وإنتي تقدري تشوفيها هناك
-ماشي
تركتهما ينصرفان بها ، واستدارت بجسدها ناحية محسن الذي بدى في حالة غريبة .. لم يظهر عليه الندم .. ولكن تشكل على وجهه تعابير الوجوم الصريحة ..
لم تتوقف عن رمقه بنظرات تحمل اللوم واﻹستهجان .. فكل ما تعانيه تلك البائسة نتيجة بطشه القاسي .. ورغم هذا لم تنبس ببنت شفة ..
.............................
على الجانب اﻷخر ، طرق عمرو بكفه بعصبية واضحة على سطح المكتب الخشبي القديم وهو يهدر منفعلاً :
-يعني ايه مالوش عنوان ؟
أجابه الموظف بهدوء مستفز وهو يغلق الملف القديم :
-مش متسجل عندنا حاجة !
صـــاح بها عمرو بإنفعال أشد :
-ازاي ؟! مش انتو شئون عاملين وكل التفاصيل بتاعة الناس اللي شغالة هنا المفروض تكون عندكم !
رد عليه الموظف بصوت جاف :
-ايوه .. بس المعظم بيغير عناوينهم .. ومش بيبلغنا ، فده مش ذنبنا يا أخ عمرو !!!
وضع عمرو يديه على رأسه ، وضغط عليها بقوة وهو يحدث نفسه بعصبية :
-طب هاوصله ازاي ؟
بدت عليه الحيرة واضحة ، فحاول الموظف مساعدته ، فبادر قائلاً :
-شوف يا أستاذ عمرو .. الأستاذ شعبان ممكن يدلك على عنوانه !
انتبه عمرو إلى ما قاله الأخير ، خاصة أن كلماته أضاءت بارقة الأمل لديه ..
قطب هو جبينه مهتماً ، وســـأله بتلهف :
-مين اﻷستاذ شعبان ده ؟
رد عليه الموظف بتفاخر :
-ده أقدم مننا كلنا ، ويعرف دبة النملة هنا .. فاحتمال كبير يكون عارف عنه أي حاجة تفيدك
تلاحقت أنفاس عمرو نوعاً ما بعد تلك الأخبار المبشرة ، فربما يكون هذا الشخص هو طرف الخيط الذي سيوصــله بمحسن ..
ســأله بنزق وهو يميل بجسده للأمام ليستند بكفيه على السطح الخشبي للمكتب :
-طب هو فين ؟
أجابه الموظف بهدوء :
-في أجازة ، وهيرجع على أول الاسبوع
ســأله عمرو دون تردد وقد ضاقت نظراته :
-طب مالوش موبايل ولا رقم أوصله
هز الموظف رأســـه نافياً وهو يجيبه :
-مش هايرد عليك .. بعيد عنك دماغه قفل من ناحية التكنولوجيا
نفخ عمرو بضيق ، فهو يعلم تلك النوعية من الأشخاص ( أو ما يطلق عليهم أعداء التكنولوجيا ) الذين ينبذون كل ما له علاقة بوسائل الإتصال الحديثة ..
ظل الموظف يتطلع إليه بنظرات مترقبة منتظراً ردة فعله القادمة .. فتنهد عمرو بإرهاق وهو يقول على مضض :
-ماشي .. بس الله يكرمك أول ما يجي بلغني ....!!
-بأمر الله
انصـــرف بعدها عمرو وهو يتمتم بكلمات مبهمة يلعن فيها عدم تريثه ، وربما سوء اختياره لذلك الشخص الغير مؤتمن على شقيقته ..
.............................
لم تكف تحية عن الاتصـــال بإبنها لتعرف أخر المستجدات منه عن ابنتها الصغيرة إيثار ..
ما آلمها أنها لم تقف إلى جوارها في أشد أوقاتها احتياجاً لها ..
تورمت عيناها من كثرة البكاء حسرة عليها ، ولم يتوقف لسانها عن التضرع للمولى لطمأنتها عليها .. خاصة وأن صوت صراخها الأخير وما تبعه من تهديدات عنيفة جعلها غير قادرة على الوقوف على قدميها ، فإنهارت تولول وتلطم بهلع جلي ..
بينما لم يتوقف رحيم عن محاولة التصرف بطريقته من أجل الوصــول إلى محسن .. لكنه كان عاجزاً في هذا البلد الغريب عن اتخاذ اللازم ، فغالبية معارفه مقيمون بالقاهرة .. ولم يردْ أن يدخل أخيه مدحت في تلك المسـألة حتى لا يثير الضجة أكثر .. لذا كان اعتماده الكلي على ولده عمرو ..
.................................
استعادت إيثار وعيها تدريجياً ، وفتحت عيناها ببطء لتتأمل المكان من حولها ..
ما أرهقها هو قوة الإضاءة التي تؤلم عينيها ..
أصدرت أنيناً مكتوماً وهي تحاول تحريك جسدها على الفراش ، فقد كانت هناك عدة وخزات حــادة تؤلمها في أماكن متفرقة ..
شعرت بيد ناعمة توضع على جبينها ، فرفع عيناها نحوها لتجد أمل تطالعها بنظرات حنونة ..
ابتسمت لها الأخيرة وهي تقول بخفوت :
-حمدلله على سلامتك
همست لها إيثار بصوت واهن وهي تنظر إليها :
-هو .. هو حصل ايه ؟
ضغطت أمل على شفتيها بقوة ، وأجابتها من بينهما بحزن :
-انتي .. انتي وقعتي ، وآآ.. والحمل بتاعك راح !
اتسعت عيناها بذهـــول ، وهمست بصوت متقطع :
-آآ.. حـ.. حمل
ابتلعت أمل ريقها ، وحاولت المحافظة على ابتسامتها المطمئنة وهي تتابع بحذر :
-إنتي .. كنتي حامل ، بس ربنا مأردش إنه ..آآ.. يكمل
هزت رأسها مستنكرة ، وبدأت العبرات تتجمع في مقلتيها .. وصرخت بصوت ضعيف عاجز :
-لأ.. لأ ..
اقتحم عقلها ومضـــات قاسية مما تعرضت له على يد محسن من ضربات عنيفة وإهانات لاذعة حتى لم تعد تشعر بشيء ..
تحركت يدها عفوياً على بطنها لتتحسسه ، فنظرت لها أمل بحزن واضح ، ومـــدت يدها لتضم كفها في راحتها ، وضغطت عليه بأصابعها وهي تقول بصوت شبه مختنق :
-شششش .. هاتتعوض يا حبيبتي ، اهدي بس !
نهج صـــدر إيثار علواً ، وتلاحقت أنفاسها وهي تصرخ في عدم تصديق :
-لألألأ .. !!
وجدت صعوبة في التنفس بصورة طبيعية وهي تتذكر صفعات محسن العنيفة عليها ، ضرباته القوية على جسدها الضعيف ..
آلمها بشدة أنها لم تستطع أن تنعم ولو للحظات بإحساس كونها ستصير أماً .. ففقدت ذلك الشعور على يده ..
قاومت أمل انهمـــار عبراتها أسفاً عليها .. وصاحت بتوجس من حالتها النفسية السيئة :
-اهدي يا ايثار ، إنتي ربنا بيحبك والله ، ورحمك من حاجات آآ....
لم تكمل عبارتها الأخيرة حيث قاطعها صوت محسن المستفز :
-حمدلله على السلامة يا حلوة
اشتعلت عيناي إيثار غضباً عند رؤيتها إياه .. وتحول وجهها لكتلة دموية حمراء رغم شحوبه ..
فمجرد وجود شخص مثله معها في نفس المكان يثير حنقها وانفعالها .. فهدرت بلا وعــي وهي تكز على أسنانها :
-آآ.. إنت
ابتسم لها بسماجة وهو يقترب منها ليقول :
-أنا مكونتش أعرف إنك حامل ، بس هانعوض يا قمر ، احنا لسه قدامنا آآ....
لم تتحمل إيثار طريقته المستفزة في الحديث وكأنه لم يرتكب جرماً شنيعاً في حقها .. فصرخت بإنفعال رغم آلامها :
-اطلع برا .. !!
دنا منها أكثر وهو يقول ببرود :
-حقك تزعلي مني ، بس أنا هاعوضك ، ده إنتي الحتة اللي في الشمال
توقفت لثانية لتلتقط أنفاسها قبل أن تتابع بشراسة رغم بحة صوتها :
- انت .. انت مش بني آدم ، انت حيوان .. حيـــوان !
قطب جبينه بإندهاش من وقاحتها الصادمة ، وعاتبها ببرود :
-الله ! الله ، الله ! ليه الغلط بس يا حبيبتي !
رأت أمل احتدام الأجواء الغاضبة بينهما ، فاتجهت نحو محسن ، ووضعت يدها على ذراعه، ودفعته للخلف وهي تقول بتوجس :
-امشي دلوقتي يا محسن
نظر لها بطرف عينه وهو يقول بغيظ :
-انتي مش شايفة لسانها الطويل ، وأنا بس ساكت عشان حالتها
رمقته أمل بنظرات نارية قبل أن تصرخ فيه بحنق :
-انت معندكش دم ولا احساس ، واحدة ضيعت حملها بغباءك ، عاوزها أول ما تشوفك تاخد بالأحضان
أطرق رأسه حرجاً من كلماتها ، وأخفض صوته ليقول بإمتعاض :
-مش كده ، بس آآ...
قاطعته أمل قائلة بإصرار :
-من غير بسبسة ، اتوكل على الله ، وبعد كده نتكلم
ثم دفعته من ظهره للأمام ليخرج من الغرفة ..
لم تتوقف إيثار عن الصراخ المصحوب بالنحيب والأنين .. ففاجعتها في نفسها أكبر من طاقتها على التحمل ..
هي خسرت روحها ، وقطعة منها ، وقبلها حبيبها .. وتجسد نصب عينيها ذكريات موجعة مع من حولها .. فساءت حالتها النفسية أكثر ، وزاد صراخها المرير .........
....................................
رتب مدحت حفلاً كبيراً ليعقد فيه قران ابنته ســــارة على الشاب الثري رامز ..
كانت مفاجأة لعائلة رحيم زواج ســارة السريع ، ولم يكن أمامهم سوى مباركة تلك الزيجة الغريبة التي لم يهتموا بمعرفة تفاصيلها كثيراً ، فهم مشغولون بما ألم بإيثار..
اتفق الطرفان على إنهاء كل شيء في أقرب وقت ، فلم يكن هناك داعٍ للإنتظار ، فلا يوجد منزل للزوجية للتريث من أجل انهائه ، ولا أثاث يلهثون وراء شراءه ، بالإضافة إلى حاجة رامز للسفر للخــــارج بصحبة عروسه في أقرب وقت متاح ...
انبهرت ســـــارة ( بالشبكة ) التي ابتاعها لها .. فقد كانت باهظة الثمن ، مغرية .. تخطف الألباب والأنظار .. وبالطبع كانت فرصتها الثمينة للتباهي أمام أقاربها ورفيقاتها ..
ودت لو كانت غريمتها إيثار متواجدة لتريها الفارق بينهما ، وتتفاخر بحظها الجيد الذي أوقعها مع ذلك العريس ( اللقطة ) والذي سيلبي لها كل أحلامها ...
وما إن انتهت مراسم الزواج والحفل البهيج حتى اصطحب رامز عروســـه في سيارة فاخرة ليقضوا ليلتهما المميزة في فندق شهير ، وبعدها يستعد كلاهما للذهاب إلى المطار لتبدء بعدها ســـارة في رحلة شهر عسلها الغامض ....
......................................
مـــــرت عدة أيام ، والأوضـــاع لم تتغير كثيراً لدى إيثار ، فحالتها النفسية في الحضيض ، ومع هذا اضطرت أن تعود بعد امتثالها للشفاء إلى المنزل الريفي .. ولكنها كانت أكثر شحوباً ، أكثر ذبولاً ، وأكثر فقداً للحياة ..
لم تتركها أمل للحظة ، وظلت باقية إلى جوارها لتهون عليها ما مرت به ..
مسحت على ظهرها وهي تقول بهدوء :
-ارتاحي يا إيثار ، وشوية وهاجيبلك تاكلي
أومــأت برأسها موافقة ، وتمددت على الفراش .. لكن قبل أن تسترخي عليه ، اقتحم عليها الغرفة محسن ليقول بجمود :
-نورتي بيتك يا عروسة ، هاسيبك تدلعي يومين ، لكن عاوزين نلم الشمل ونقرب الود بينا
رأت أمل في عيني إيثار نيران مستعرة ، فتوجست خيفة من إشتعال الحرب الكلامية بينهما .. وكانت على حق .. فقد صرخت إيثار بعنف في وجهه وهي تنهض عن الفراش :
-ده بعينك لو قربت مني تاني ، الموت أهون عليا من إني أسيبك تلمسني
رد عليها ببرود ليثير حنقها :
-مش بخطرك يا حلوة ، أنا متجوزك عشان أجيب منك عيال ، وأديني اطمنت وعرفت إن أرضك خصبة !
صرخت إيثار فيه بإهتياج جلي :
-أنا بأكرهك ، بأكرهك
رد عليها بنبرة باردة :
-محدش قالك حبيني
انفعلت بعصبية وهي تشير بيدها :
-اطلع برا ، مش عاوزة أشوفك
لم يتحمل محسن إهانتها ، فقبض على رأسها ، ولف شعرها على ذراعه ليلوي رأسها للأعلى ، وأمسك بقبضته الأخرى بذقنها ، واعتصرها بأصابعه القوية ، ورمقها بنظرات مخيفة ، ثم جز على أسنانه قائلاً بتهديد :
-طولة لسان مش عاوز ، أنا ايدي بتاكلني ، وشكلك مش بيجي غير بالضرب
تدخلت أمل على الفور لإبعاده عنه ، وكافحت لتحرر إيثار من قبضتيه وهي تقول بهلع :
-يا محسن ماينفعش اللي بتعمله ده
جذب هو إيثار من خصلاتها أكثر ، فصرخت متأوهة من الآلم ، وتوعدها بنبرة أعنف :
-مش هاسيبها إلا لما أربيها
توسلته أمل بإستجداء كبير :
-هاتموت في ايدك ، دي لسه قايمة من عيا
وبالفعل نجحت في إبعاده عنها ، وجاهدت لدفعه للخـــارج ، فإغتاظ مما تفعله زوجته الأولى ، وصاح بغل :
-هي هتسوق فيها ، بينها نسيت نفسها
ضغطت أمل على شفتيها لتقول بضيق :
-اصبر عليها شوية
خرج الاثنين من الغرفة ، فأوصدت الباب خلفهما ، فهتف محسن بحنق :
-دي مراتي
رمقته أمل بنظرات مشتعلة ، وهتفت محتجة وقد تحول وجهها للوجوم :
-وأنا مراتك زيها ولا نسيت
تنحنح بخشونة وهو يجيبها :
-لا منستش !
ثم فرك ذقنه بكفه وتابع :
-بس هي معوجة عليا ، وأنا جبت أخري معاها
استندت إيثار بظهرها لباب الغرفة بعد أن أوصدته من الداخل ، وبكت بحرقة حسرة على مصيرها البشع مع ذلك البغيض ..
ثم كفكفت عبراتها ، وحدقت أمامها في الفراغ .. ورددت بإصرار عجيب :
-أنا مش لازم أستنى هنا أكتر من كده ، لازم أهرب ، أيوه أنا هاهرب ...........................!!!
.........................................
يتبع
الفصل الثامن عشــــر ( الجزء الثاني ) :
عــــاد الأستاذ شعبان إلى عمله ، فتفاجيء بذلك الشاب الذي يقف فوق رأســه ليسأله بإلحاح مريب عن محسن ..
رمقه شعبان بنظرات متفحصة ومتربصة قبل أن ينطق بصوت متحشرج :
-وانت بتسألني عنه ليه ؟
كز عمرو على أسنانه ليقول بنفاذ صبر :
-أنا أخو مراته ، ومش عارف أوصله
حرك شعبان أنفه للجانبين ، وأردف قائلاً ببرود :
-ممم .. باين في مشاكل عائلية بينكم ، وانت عاوز تدخلني بينكم ، الخلافات دي يا أستاذ مكانها البيوت مش هنا !
صـــاح به عمرو بنفاذ صبر :
-يا سيدي مافيش لا خلافات ولا غيره !
نهره شعبان بغلظة وهو يشير بإصبعه :
-متزعقش يا أستاذ
سيطر عمرو على أعصابه بصعوبة حتى لا ينفعل مجدداً .. ورسم ابتسامة سخيفة على ثغره وهو يقول بإمتعاض :
-حقك عليا !
ثم أخفض نبرة صوته ليقول بحزن حقيقي :
-بس أمي تعبانة ونفسها تشوف أختي ، ومحسن مسافر بقاله كتير ، وموبايله ضاع ومش عارف أوصله !
هز شعبان رأسه بتفهم وهو يردد :
-ألف سلامة على الحاجة
ســأله عمرو بتلهف :
-الله يسلمك ، ها ، عارف هو فين ؟
صمت شعبان لبرهة ليفكر فيما سيفعله .. بينما نظر له عمرو بترقب .. فأي معلومة سيبوح بها ذلك الكهل ستفيد في الوصول إلى شقيقته ، وعليه أن يكون أكثر حرصاً وتحكماً في انفعالاته ليصل إلى مبتغاه ...
حك شعبان صدغه بأظافره المتسخة ، ومسح على طرف شاربه ، ثم استطرد حديثه قائلاً بجدية :
-شوف يا سيدي اللي أنا فاكره ، إنه كان ليه بيت كده في حتة في الأرياف ، بس معرفش إن كان باعه ولا لسه ، أصل الموضوع ده أديله زمن وآآ...
قاطعه عمرو قائلاً بتلهف بعد أن استمع إلى ما فاله والذي كان يحمل بصيص الأمل :
-فينه البيت ده ؟
رد عليه شعبان بفتور وهو يمرر كفه على رأسه الصلعاء :
-هو أنا مش متذكر أوي ، بس كان آآ...
قاطعه عمرو مجدداً بإصرار :
-الله يكرمك افتكر ، دي مسألة حياة أوموت
ردد شعبان مع نفسه بأسلوب رتيب ليحث عقله على التذكر :
-فين البيت يا شعبان ، مكانه كان فين يا شعبان ؟ افتكر يا شعبان !
تابعه عمرو بنظرات مترقبة ، وتسارعت أنفاسه إلى حد ما وهو ينتظر رده ..
هتف شعبان فجــأة بحماس :
-ايوه ، افتكرت
وبالفعل حصل عمرو على عنوان المنزل الريفي ، وتعشم خيراً أن تكون أخته متواجدة هناك ...
لم يرد هو اخبار أبويه حتى لا يعلقهما بآمال زائفة ، سيذهب للتأكد بنفسه أولاً من وجودها ، ثم سيبلغهما لاحقاً ...
.................................
خططت إيثار للفرار من محبسها .. وعقدت العزم على عدم التراجع عما إنتوت فعله ..
ارتدت ( إسدال ) الصلاة على ثيابها الخارجية حتى لا تثير الريبة إن رأها أحدهم ..
وانتظرت انشغــال جميع من في المنزل بأعمالهم اليومية لتقدم على تنفيذ خطتها ...
،أصبحت فرصتها متاحة بذهاب محسن للإستلقاء في الغرفة الأخــرى ...
تريثت حتى سمعت صوته يعلو في النوم .. فتسللت بحذر نحو الدرج ..
ونزلت عليه وهي تتلفت حولها بحرص شديد ..
حبست أنفاسها وهي تقترب من باب المنزل الرئيسي ..
ثم بخطوة جريئة ولجت للخـــارج ..
كان كل شيء هادئاً .. فأكملت سيرها بحذر ..
وما إن ابتعدت عن البوابة الرئيسية ، حتى بدأت بالركض لتنجو ببدنها ..
استغلت ذكرياتها المقيتة مع محسن لتحث نفسها على الركض أكثر إن خــارت قواها فتفر للأبد منه ...
لم تشعر بعبراتها المنهمرة على وجنيها وهي تلهث .. ولم تتوقف للحظة لتلتقط أنفاسها ..
كل ما كان يدور في عقلها هو الهروب من جحيمه الذي ينتظرها إن تخاذلت .. لم تفكر في تعبها ، ولا في آلم ركبتيها .. المهم هو الفرار ..
..................................
في نفس التوقيت وصل عمرو إلى المكان المنشود ، وترجل من عربة القطار وهو يتلفت حوله بنظرات سريعة خاطفة ..
اعتصر قلبه حزناً على حــال أخته ، فهو من دفعها لتلك الهاوية بإصراره العنيد على تزويجها دون التحقق كفاية من زميله ..
كان المكان مختلفاً في طبيعته عن الحياة المدنية التي اعتاد عليها مع عائلته ، فشعر بمدى الفارق الواضح ...
تحرك خـــارج المحطة ، واستدار برأسه للجانبين ليبحث عمن يرشده إلى منزل محسن ..
وجد أحد الأشخاص البسطاء يجلس القرفصاء على الطريق ، فمـــال عليه ، وهمس له بكلمات غير واضحة ، فأشـــار له الرجل بيده للجانب وهو يجيبه ، فشكره عمرو ممتناً ، وأسرع في خطاه نحو أحد سيارات الأجرة ....
.....................................
وصلت إيثار إلى محطة القطار ، وبحثت بعينيها الخائفتين عن مكان حجز التذاكر .. وولجت للداخل وهي تلهث بصوت مسموع ..
تحاشت قدر الإمكان التحديق في أوجه المحيطين بها حتى لا يروا في أعينها نظرات الرعب ...
قرأت لافتة بيع التذاكر ، فأسرعت نحوها .. ومدت يدها القابضة على النقود إليه ، وهتفت بصوت لاهث :
-عاوزة أحجز تذكرة
رفع الموظف رأســـه لينظر إليها ، وســألها بجفاء :
-لفين يا ست ؟
أجابته دون تردد وهي محدقة فيه :
-اسكندرية
رد عليها بفتور وهو يعاود التحديق في الأوراق الموضوعة أمامه :
-مافيش مواعيد دلوقتي !
ارتجف جســد إيثار ، وعضت على شفتها السفلى بتوتر .. وخشيت أن يفشل مخططها ، فهداها تفكيرها للجوء إلى أي مكان أخـــر بعيد عن هنا حتى تفكر فيما ستفعله لاحقاً ، لذا هتفت بتلهف :
-طب .. طب أقرب ميعاد للقطر عشان يتحرك ؟
رفع الموظف عينيه نحوها ، وأجابها بإمتعاض :
-في طالع كمان نص ساعة على (( ...))
هتفت بجدية وهي تضع النقود أمامه :
-ماشي ، احجزلي مكان
-طيب .. القطر هيتحرك من رصيف 3 ، هو هناك على ايدك اليمين !
أعطاها الموظف تذكرتها ، فتناولتها منه ، وحدقت فيها بنظرات زائغة ، ثم طوتها ، وتحركت إلى حيث أشـــــار ...
...........................
ترجل عمرو من سيارة الأجرة على مقربة من منزل محسن .. وتفحصه بنظرات دقيقة ..
تلون وجهه بحمرة حانقة وهو يتخيل هيئة إيثار بعد إعتداء محسن عليها ..
هو قد علم من والدته بما صار معها ، وبالتالي توقع الأسوأ حينما يراها ..
قرر في نفسه ألا يتركها له ، سيصطحبها معه حتى لو استخدم العنف مع زوجها.. وسيترك المسائل القانونية لتحل لاحقاً ، ولكن عليه أولاً أن يأخذها معه ويعيدها إلى المنزل آمنة .. فهذا هو حقها عليه بعد تقصيره معها ..
لم يحتاج عمرو إلى قرع الجرس ليدخل إلى المنزل ، فقد كانت البوابة الرئيسية مفتوحة على مصرعيها ..
خطى إلى الداخل وهو يتلفت حوله ببطء ليدرس المكان جيداً ..
ولكن قطع تأمله صوت أم فتحي :
-انت مين يا جدع انت ؟
استدار برأسه نحوها ، وســألها بصوت متصلب :
-مش ده بيت محسن ؟
اقتربت منه أم فتحي ، وســألته مستفهمة :
-اه هو .. انت مين ؟
رمقها بنظرات قوية قبل أن يجيبها :
-أنا أخو مراته إيثار ، هو فين ؟
هللت أم فتحي بنبرة عالية :
-يا مراحب بأخو الست إيثار ، نورت المكان يا أستاذ
رد عليها بإيجاز :
-متشكر
تابعت هي قائلة بحماس :
-دي الست هاتفرح أوي لما تشوفك وخصوصا بعد ما حبلها نزل !
وقعت كلماتها كالصاعقة فوق رأسه ، وصــاح مدهوشاً وقد اتسعت مقلتيه :
-نعم
لم يتخيل أن تكون أخته حاملاً ، بل والأفظع أن تخسر جنينها قبل أن يرى النور دون أن يدري السبب ....
أكملت أم فتحي بحزن :
-عيني عليها رقدت في المشتشفا كام يوم ، بس هي رجعت تنور بيتها تاني ، تلاقيه هو اللي اتصل بيك عشان تفرحها وتاخد بخاطرها
كز هو على أسنانه بقوة محاولاً التحكم في غضبه ، وجاهد ليبدو طبيعياً في إنفعالاته أمامها .. وهتف بصعوبة :
-متشكر يا ست ، هو فينه ؟
أدارت رأسها للخلف وهي تجيبه :
-سي محسن أعد فوق !
ثم ســــارت للأمام ، وأشارت بيدها وهي تهتف بسعادة :
-اتفضل يا سي الأستاذ .. يا مرحب بيك ، المكان نـــوّر !
كور عمرو قبضة يده ، وضغط على أصابعه بقسوة ، وتوعد في نفسه بنبرة عدائية وهو يتحرك خلفها :
-وقعتك سودة معايا يا محسن لو أختى جرالها حاجة بسببك !!
........................................
جلست إيثار على المقعد الخاص بها بداخل عربة القطار غير مصدقة أنها أصبحت على متنه ، وأنها على وشك الرحيل من هنا ..
ارتعش جسدها من فرط التوتر ، وتجنبت الجلوس بجوار النافذة كي لا يراها محسن إن اكتشف هروبها من منزله ..
عضت على أناملها بخوف ، وزاغت أبصارها وهي تطالع بحذر أوجه الجالسين على مقربة منها ...
لم تفارقها ذكرياتها الموجعة ، وتجسدت بين الفنية والأخرى في مخيلتها لتزيد من هلعها ..
وبصعوبة بالغة قاومت رغبتها في البكاء ..
فالكل أســـاء إليها ، والكل تخلى عنها في أحلك أوقاتها وأكثرها احتياجاً..
أخفضت يدها لتضعها على بطنها .. فمازالت ذكرى خسارتها تؤلمها ..
هي لم تخضْ تجربة الحمل ، لكنها حزنت وبشدة لفقدان جزءٍ منها ..
انتبهت إلى صوت صــافرة القطــــار وهي تصدح في الأجواء ، فتصلبت في مقعدها ، وتشبثت أكثر بمسنديه .. وحبست أنفاسها مترقبة ..
بدأ القطار في التحرك رويداً رويداً ، ومع كل حركة كانت دقات قلبها تتسارع حتى باتت في سبق معه ..
تنفست الصعداء بإبتعاد القطار عن محطته السابقة ، فإرتخى جسدها المتشنج ، واسترخت إلى حد ما على مقعدها ..
..............................
تفاجئت أمــــل بدخـــول أم فتحي وبصحبتها ذلك الرجل الغريب ، فأسرعت بضبط حجاب رأسها ، وتساءلت بجدية وهي تنظر إليه بتفحص :
-ايوه ، انت عاوز مين ؟
اجابتها أم فتحي بدلاً منه :
-ده سي الأستاذ أخو الست إيثار
اتسعت حدقتي أمل في صدمة واضحة ، وفغرت فمها مشدوهة من رؤيته .. وهمست بتلعثم :
-آآ.. اخوها
ابتلعت ريقها بتوجسٍ ، وحاولت إستيعاب تلك الصدمة بسرعة لتتصرف بعقلانية دون أن تثير أي جلبة ، فوجهت أنظارها إلى أم فتحي ، وأردفت قائلة بهدوء :
-روحي إنتي يا أم فتحي ! أنا هارحب بالضيف
ردت عليها الأخيرة بتحمس :
-أوامرك يا ست أمل
ثم تحركت مبتعدة لتترك الاثنين بمفردهما ...
هـــدر عمرو بإنفعال وقد أظلم وجهه :
-أختي فين ؟
اقتربت منه أمل وهمست بإرتعاد وهي تضع يدها على فمها :
-ششش .. وطي صوتك
صـــاح بغضب وهو يلوح بيده في الهواء :
-مش هاوطي صوتي ومش هاهدى ، أنا جاي هنا عشان أختي !
توسلت له قائلة بخوف وهي تتلفت حولها :
-من فضلك ، محسن نايم ولو صحى ممكن يعمل مشاكل ، أنا هاخليك تشوف أختك بس اهدى !
لوح بذراعه بغضب وهو يصيح بشراسة :
-وأنا عاوزه يصحى ، خليه يقوم يكلمني اللي عامل راجل على أختي !
ارتعدت فرائصها ، وهمست بفزع :
-إنت .. إنت كده ناوي تأذي أختك !
رمقها عمرو بنظرات ساخطة قبل أن يسألها بقسوة :
-وإنتي أصلاً مين عشان تكلمي معايا ؟!
ابتلعت ريقها بتوجس ، فبدلاً من الزهو بكونها زوجة صاحب المنزل ، كانت تشعر بالخزي منه ، ترددت في اخباره بهويتها ، ولكن لا مفر من الهروب من إجابته ، لذا بصوت أسف ردت عليه :
-أنا .. أنا أمل ، مراته الأولى !
اتسعت مقلتيه مصدوماً ، وارتفع حاجبيه للأعلى في ذهــــول كبير ، فمحسن قد أبلغه عن وفاة زوجته ، فكيف تكون من الأحياء ، وهتف بعدم تصديق وهو ينظر لها متفحصاً :
-مين ؟ مراته ؟ إنتي .. إنتي مش كنتي ميتة ؟!!
هزت رأسها نافية ، وأجابت بتلعثم وقد تشكل الخزي على نظراتها :
-لأ .. هو .. هو كدب عليك ، أنا .. أنا آآ..
قاطعها مطلقاً سبة عنيفة :
-الواطي ابن الـ ****
لوحت بكفها نافية وهي تقول بصوت مختنق :
-أنا ماليش ذنب
أدرك عمرو أنها على صواب ، فما ذنب معاتبها أو حتى تعنيفها ، فصاحب الوزر الأقبح هو من ظن أنه رفيقه ، وخدعه ، وبدى هو كالساذج المغفل أمامه..
وبغضب أشــرس صاح بها :
-ناديلي على المحروس ، أنا كلامي مش معاكي ، مع البأف اللي سلمته أختي وجوزتهاله !
أشارت بأصابعها قائلة برجاء :
-يا أستاذ اسمعني
لم يمهلها الفرصـــة ، بل تحرك ركضاً في اتجاه الدرج ، وصعد عليه وهو يصرخ بإهتياج :
-يا محسن ، ايثار ، إنتي فين ؟
لحقت به وهي تتوسله:
-استنى هنا يا أستاذ
صــــــاح عمرو بنبرة اكثر جنوناً :
-إيثـــــــــــــار !!!!!
ووصل إلى الطابق العلوي ، وبدأ يبحث عن أخته في باقي أرجاء المنزل ...
.....................
أفاق محسن من نومـــه على صوت الصراخ الهادر الذي ينبعث من خارج غرفته ، وتثاءب وهو يصيح بتأفف :
-مين ابن الـ **** اللي بيزعق في بيتي ده ، وقعت أهله منيلة !
نهض عن الفراش ، وتحرك صوب الباب وعلى وجهه نذير شؤم ، ولكنه تفاجيء ببابه يُفتح مرة واحدة ليرى عمرو أمامه ، فحدق فيه مشدوهاً ..
تحولت نظرات عمرو للإحتقان الشديد ، وأسرع ليمسك بتلابيب محسن ، وهزه بعنف وهو يصرخ فيه بصوت مهتاج :
-عملت في اختي ايه يا بن الـ **** ؟!
حاول محسن إبعاد قبضتيه عنه بعد أن صدمته حركته المباغتة ، ورد عليه بصعوبة :
-الله ! الله ! جرى ايه يا عمرو ، إنت جاي تتهجم عليا في بيتي !
-ده أنا هاموتك !
قالها عمرو وهو ينهال باللكمات المتتالية على وجه محسن حتى رأى خيوط الدماء تتدفق من بين فكيه ومن أنفه ..
ثم أسقطه أرضاً ، وركله بعنف في معدته ، وتابع بحنق شديد :
-بقى تضحك عليا ، وتستغفلني ، وتخلني أجوزك اختي ، وانت طلعت واطي !
تأوه محسن من الآلم ، وقاوم قدر إستطاعته ضرباته الشرسة ، وتمكن من الإمساك بقدمه ليجذبه منها ، ثم طرحه أرضاً ، وجثى فوقه ليضربه هو الأخـــر ، وهدر بصوت غاضب :
-هو أنا ضربتك على ايدك ، ما إنت اللي مصدقت
دفعه عمرو من صدره بركلة عنيفة ، وصــــاح بجنون :
-صح ، أنا غلطت ، وجاي النهاردة عشان أصلح غلطي !
ســأله محسن بريبة وهو يعتدل في وقفته :
-قصدك ايه ؟
وقف عمرو قبالته ليلتقط أنفاسه ، وهدر بصوت جهوري :
-أنا هاخد اختي من هنا ، وهاطلقها منك
أشعلت كلماته الأخيرة الغضب في محسن ، فتوهجت عيناه ، وصرخ من بين أسنانه بعصبية :
-لا عندك ، اختك مش طالعة من بيتي إلا على جثتي ، دي مراتي ، وأنا حر في التصرف معاها !
رد عليه عمرو وهو ينقض عليه :
-مش هاسيبهالك
ثم تابع إعتدائه الشرس عليه ، ولم يترك فيه جزءاً إلا وقد ركله أو لكمه ...
لم يكن محسن بالشخص الهين الذي سيسقط من قوة الضربات ، بل قاوم حتى الرمق الأخير نوبة جنونه ..
وما إن تمكن عمرو من طرحه أرضاً حتى ركض إلى خـــارج الغرفة صارخاً بإهتياج :
-ايثـــــار ، انتي فين ؟
حاول محسن إمساكه ، وقبض على ذراعه ، وأعاق حركته وهو يقول :
-استنى ، مش سايبك !
لطمت أمل على صدغيها وهي تصيح بهلع :
-إلحق يا محسن ، إلحق !!!
انتبه لها الاثنين ، فأكملت بفزع وقد زاغت أبصارها :
-إيثار مش موجودة في أي حتة في البيت
صدم كلاهما مما قالته ، وحل الصمت لثوانٍ قبل أن يقطعه محسن صارخاً بجموح :
-انتي بتقولي ايه ؟
انفعل عمرو متساءلاً بحدة :
-اختي فين ؟
تلعثمت وهي تجيبهما بنبرة مرتجفة :
-بـ.. باين ..آآ.. إنها .. إنها هربت !
لم يقتنع عمرو بما قالته ، فقد ظن أنها خدعة مفتعلة منهما ، لذا لوح بذراعه بغضب وهو يقول :
-ده ملعوب عاملينوه عليا أنتو الاتنين !
هزت أمل رأسها نافية وهي تقول بخوف :
-لا والله ، هي فعلاً مش موجودة
أطبق محسن على عنق زوجته ، وضغط عليه بقسوة وهو يسألها بشراسة :
-عملتي ايه في البت يا ولية ؟
اختنق صوتها ، وجحظت عيناها من فرط الخوف ، وأجابته:
-مجتش جمبها يا محسن !
أرخى قبضته عنها ليمسك بطرف ذقنها ، واعتصره بقوة وهو يكمل بإهتياج :
-شكلك إنتي اللي هربتيها من هنا
هزت عيناها نافية ، وهمست بصوت متحشرج :
-مـ.. محصلش ، والله ما عملتها
صرخ فيه عمرو من الخلف بنبرة عدائية :
-قسماً بالله يا محسن لأندمك على كل لحظة أذيت فيها أختي ! ومش هاسيبك ، هاتدفع تمن اللي عملته في أختي غالي
التفت محسن برأسه نحوه ، ولم يفلت أمل من قبضته ، ورد عليه بتحدٍ سافر :
-هي مراتي ، وانت ملكش حكم عليها ، وهاجيبها تاني هنا إن شاء الله بحكم الطاعة !
هدر فيه عمرو بانفعال :
-مش هاتلحق لأني هاطلقها منك ، وإن حكمت هاتخلعك ، وأنا وإنت والمحاكم بينا ..!
ثم تركه واندفع نحو الدرج ليتجه بعدها إلى باب منزله ، ثم صفقه خلفه بعنف ..
.....................................
ترجلت إيثار من عربة القطـــار ، وســارت بخطوات سريعة نحو المخرج ..
بحثت بعينيها عن وسيلة مواصلات تقلها إلى محافظة الإسكندرية ، خاصة أن المسافة لم تكن بعيدة ..
فوجدت منطقة خاصة بالحافلات ، فحجزت مقعداً لها في الخلف بعد أن استقلت إحداهن ...
استندت بيدها على النافذة ، وظلت محدقة في الطريق أمامها ..
لمعت عيناها وهي تقاوم سيل ذكرياتها المريرة ..
بحثت في طيات عقلها عن أي ذكرى سعيدة لتهون بها على نفسها ، لكن للأسف .. لم تجد ..
ظلت خلال رحلة عودتها شــــاردة ، صامتة ، في حالة وجوم واضحة حتى توقفت الحافلة في الإسكندرية .. فردت إليها روحها ..
تفقدت المال المتبقي معها لتستقل أخـــر وسيلة مواصلات لتعود إلى منزلها ..
....................................
رفعت تحية جبهتها عن سجادة الصلاة ، وتهدل كتفيها في خزي ، ثم حدقت في السماء ببصرها ، وتضرعت للمولى قائلة بخشوع وهي تبكي :
-رجعالي يا رب ، احفظهالي من كل سوء ، يا رب ، أنا أمتك الغلبانة ، ماليش غيرك يا رب أشكيله ، نجيها من الهم اللي هي فيه ، ردهالي سالمة غانمة ، يا رب ، إنت السميع البصير .. يا مجيب الدعوات قرب البعيد يا رب ..!
قاطع دعائها الباكي صوت قرع الجرس ، فالتفتت برأسها للخلف ، وشعرت بخفقان قوي في قلبها ..
استشعرت بروحها أن المولى قد أجاب دعائها ، فنهضت على عجالة من مكانها ، وركضت مسرعة نحوه ...
بيدٍ مرتعشة أدارت المقبض ، وفتحته لتجد صغيرتها أمامها ..
شهقت مصدومة من رؤيتها على تلك الحالة المفزعة ..
وهتفت بعدم تصديق :
-بنتي ، إيثار !
ثم ألقت بجسدها نحوها لتحتضنها وتضمها إلى صدرها بقوة ، وتابعت بنحيب :
-يـــــاه يا بنتي ! آه يا ضنايا !
استكان جســـد إيثار في أحضـــان أمها ، وشعرت أنها وجدت الملجأ من كل الشرور المحيطة بها في صدرها الحنون .. فاستسلمت لشعورها بالأمان ، وفقدت وعيها بين ذراعيها ..
................................
عودة للوقت الحالي ،،،
فتحت إيثار عينيها الذابلتين فجأة لتأتي بحجابها الذي تطاير عن رأسها للوراء علي أثر الهواء ، ثم استنشقت رائحة البحر ليتخلل صدرها ، وزفرته على مهلٍ وهي تتنهد بعمق ..
توجهت نحو المقعد الممتد الطول ثم جلست عليه واضعة نظارتها الشمسية على عينيها لتحجب عنها ضوء الشمس ، فقد بات ذلك الضوء بمثابة ذكرى مؤلمة نبشت بصندوق ذكرياتها الموجعة ...
هـــا قد تذكرت ما مرت به خلال الثلاث أعوام المنصرمــــة ..
أوجـــاع تلتها أوجـــاع .. وذكريات تبعتها أخرى أضنت قلبها وعقلها ..
تركت لهواء البحر مهمة تجفيف عبراتها المتجمدة ، وأخذت تتنفس بعمق لتسيطر على نفسها الهائجة كموج البحر الذي تطالعه ..
نعم تبدل حالها ، وتغيرت ظروفها ، وأصبحت الآن امرأة أخـــرى غير تلك الصغيرة التي قاست على أيدي الأقرب إليها ...
وبتثاقل مصحوب بالإرهـــاق ، نهضت من مكانها لتعود من جديد لتكمل خطواتها .. فلم تعد لديها رغبة في البكاء على الأطلال أكثر من هذا، لقد انتهى عصر الأحزان .. وبدأ عهد الآمــال ..
انتهى شتاء عاصف من حياتها ، وصيف مثير على وشك البدء في القادم من عمرها ...
(( لنترك ما مضى جانباً ،
ونبحث بين طيات عقلنا ،
عن جانب السعادة الخفي في حياتنا .. )) ....
عــــاد الأستاذ شعبان إلى عمله ، فتفاجيء بذلك الشاب الذي يقف فوق رأســه ليسأله بإلحاح مريب عن محسن ..
رمقه شعبان بنظرات متفحصة ومتربصة قبل أن ينطق بصوت متحشرج :
-وانت بتسألني عنه ليه ؟
كز عمرو على أسنانه ليقول بنفاذ صبر :
-أنا أخو مراته ، ومش عارف أوصله
حرك شعبان أنفه للجانبين ، وأردف قائلاً ببرود :
-ممم .. باين في مشاكل عائلية بينكم ، وانت عاوز تدخلني بينكم ، الخلافات دي يا أستاذ مكانها البيوت مش هنا !
صـــاح به عمرو بنفاذ صبر :
-يا سيدي مافيش لا خلافات ولا غيره !
نهره شعبان بغلظة وهو يشير بإصبعه :
-متزعقش يا أستاذ
سيطر عمرو على أعصابه بصعوبة حتى لا ينفعل مجدداً .. ورسم ابتسامة سخيفة على ثغره وهو يقول بإمتعاض :
-حقك عليا !
ثم أخفض نبرة صوته ليقول بحزن حقيقي :
-بس أمي تعبانة ونفسها تشوف أختي ، ومحسن مسافر بقاله كتير ، وموبايله ضاع ومش عارف أوصله !
هز شعبان رأسه بتفهم وهو يردد :
-ألف سلامة على الحاجة
ســأله عمرو بتلهف :
-الله يسلمك ، ها ، عارف هو فين ؟
صمت شعبان لبرهة ليفكر فيما سيفعله .. بينما نظر له عمرو بترقب .. فأي معلومة سيبوح بها ذلك الكهل ستفيد في الوصول إلى شقيقته ، وعليه أن يكون أكثر حرصاً وتحكماً في انفعالاته ليصل إلى مبتغاه ...
حك شعبان صدغه بأظافره المتسخة ، ومسح على طرف شاربه ، ثم استطرد حديثه قائلاً بجدية :
-شوف يا سيدي اللي أنا فاكره ، إنه كان ليه بيت كده في حتة في الأرياف ، بس معرفش إن كان باعه ولا لسه ، أصل الموضوع ده أديله زمن وآآ...
قاطعه عمرو قائلاً بتلهف بعد أن استمع إلى ما فاله والذي كان يحمل بصيص الأمل :
-فينه البيت ده ؟
رد عليه شعبان بفتور وهو يمرر كفه على رأسه الصلعاء :
-هو أنا مش متذكر أوي ، بس كان آآ...
قاطعه عمرو مجدداً بإصرار :
-الله يكرمك افتكر ، دي مسألة حياة أوموت
ردد شعبان مع نفسه بأسلوب رتيب ليحث عقله على التذكر :
-فين البيت يا شعبان ، مكانه كان فين يا شعبان ؟ افتكر يا شعبان !
تابعه عمرو بنظرات مترقبة ، وتسارعت أنفاسه إلى حد ما وهو ينتظر رده ..
هتف شعبان فجــأة بحماس :
-ايوه ، افتكرت
وبالفعل حصل عمرو على عنوان المنزل الريفي ، وتعشم خيراً أن تكون أخته متواجدة هناك ...
لم يرد هو اخبار أبويه حتى لا يعلقهما بآمال زائفة ، سيذهب للتأكد بنفسه أولاً من وجودها ، ثم سيبلغهما لاحقاً ...
.................................
خططت إيثار للفرار من محبسها .. وعقدت العزم على عدم التراجع عما إنتوت فعله ..
ارتدت ( إسدال ) الصلاة على ثيابها الخارجية حتى لا تثير الريبة إن رأها أحدهم ..
وانتظرت انشغــال جميع من في المنزل بأعمالهم اليومية لتقدم على تنفيذ خطتها ...
،أصبحت فرصتها متاحة بذهاب محسن للإستلقاء في الغرفة الأخــرى ...
تريثت حتى سمعت صوته يعلو في النوم .. فتسللت بحذر نحو الدرج ..
ونزلت عليه وهي تتلفت حولها بحرص شديد ..
حبست أنفاسها وهي تقترب من باب المنزل الرئيسي ..
ثم بخطوة جريئة ولجت للخـــارج ..
كان كل شيء هادئاً .. فأكملت سيرها بحذر ..
وما إن ابتعدت عن البوابة الرئيسية ، حتى بدأت بالركض لتنجو ببدنها ..
استغلت ذكرياتها المقيتة مع محسن لتحث نفسها على الركض أكثر إن خــارت قواها فتفر للأبد منه ...
لم تشعر بعبراتها المنهمرة على وجنيها وهي تلهث .. ولم تتوقف للحظة لتلتقط أنفاسها ..
كل ما كان يدور في عقلها هو الهروب من جحيمه الذي ينتظرها إن تخاذلت .. لم تفكر في تعبها ، ولا في آلم ركبتيها .. المهم هو الفرار ..
..................................
في نفس التوقيت وصل عمرو إلى المكان المنشود ، وترجل من عربة القطار وهو يتلفت حوله بنظرات سريعة خاطفة ..
اعتصر قلبه حزناً على حــال أخته ، فهو من دفعها لتلك الهاوية بإصراره العنيد على تزويجها دون التحقق كفاية من زميله ..
كان المكان مختلفاً في طبيعته عن الحياة المدنية التي اعتاد عليها مع عائلته ، فشعر بمدى الفارق الواضح ...
تحرك خـــارج المحطة ، واستدار برأسه للجانبين ليبحث عمن يرشده إلى منزل محسن ..
وجد أحد الأشخاص البسطاء يجلس القرفصاء على الطريق ، فمـــال عليه ، وهمس له بكلمات غير واضحة ، فأشـــار له الرجل بيده للجانب وهو يجيبه ، فشكره عمرو ممتناً ، وأسرع في خطاه نحو أحد سيارات الأجرة ....
.....................................
وصلت إيثار إلى محطة القطار ، وبحثت بعينيها الخائفتين عن مكان حجز التذاكر .. وولجت للداخل وهي تلهث بصوت مسموع ..
تحاشت قدر الإمكان التحديق في أوجه المحيطين بها حتى لا يروا في أعينها نظرات الرعب ...
قرأت لافتة بيع التذاكر ، فأسرعت نحوها .. ومدت يدها القابضة على النقود إليه ، وهتفت بصوت لاهث :
-عاوزة أحجز تذكرة
رفع الموظف رأســـه لينظر إليها ، وســألها بجفاء :
-لفين يا ست ؟
أجابته دون تردد وهي محدقة فيه :
-اسكندرية
رد عليها بفتور وهو يعاود التحديق في الأوراق الموضوعة أمامه :
-مافيش مواعيد دلوقتي !
ارتجف جســد إيثار ، وعضت على شفتها السفلى بتوتر .. وخشيت أن يفشل مخططها ، فهداها تفكيرها للجوء إلى أي مكان أخـــر بعيد عن هنا حتى تفكر فيما ستفعله لاحقاً ، لذا هتفت بتلهف :
-طب .. طب أقرب ميعاد للقطر عشان يتحرك ؟
رفع الموظف عينيه نحوها ، وأجابها بإمتعاض :
-في طالع كمان نص ساعة على (( ...))
هتفت بجدية وهي تضع النقود أمامه :
-ماشي ، احجزلي مكان
-طيب .. القطر هيتحرك من رصيف 3 ، هو هناك على ايدك اليمين !
أعطاها الموظف تذكرتها ، فتناولتها منه ، وحدقت فيها بنظرات زائغة ، ثم طوتها ، وتحركت إلى حيث أشـــــار ...
...........................
ترجل عمرو من سيارة الأجرة على مقربة من منزل محسن .. وتفحصه بنظرات دقيقة ..
تلون وجهه بحمرة حانقة وهو يتخيل هيئة إيثار بعد إعتداء محسن عليها ..
هو قد علم من والدته بما صار معها ، وبالتالي توقع الأسوأ حينما يراها ..
قرر في نفسه ألا يتركها له ، سيصطحبها معه حتى لو استخدم العنف مع زوجها.. وسيترك المسائل القانونية لتحل لاحقاً ، ولكن عليه أولاً أن يأخذها معه ويعيدها إلى المنزل آمنة .. فهذا هو حقها عليه بعد تقصيره معها ..
لم يحتاج عمرو إلى قرع الجرس ليدخل إلى المنزل ، فقد كانت البوابة الرئيسية مفتوحة على مصرعيها ..
خطى إلى الداخل وهو يتلفت حوله ببطء ليدرس المكان جيداً ..
ولكن قطع تأمله صوت أم فتحي :
-انت مين يا جدع انت ؟
استدار برأسه نحوها ، وســألها بصوت متصلب :
-مش ده بيت محسن ؟
اقتربت منه أم فتحي ، وســألته مستفهمة :
-اه هو .. انت مين ؟
رمقها بنظرات قوية قبل أن يجيبها :
-أنا أخو مراته إيثار ، هو فين ؟
هللت أم فتحي بنبرة عالية :
-يا مراحب بأخو الست إيثار ، نورت المكان يا أستاذ
رد عليها بإيجاز :
-متشكر
تابعت هي قائلة بحماس :
-دي الست هاتفرح أوي لما تشوفك وخصوصا بعد ما حبلها نزل !
وقعت كلماتها كالصاعقة فوق رأسه ، وصــاح مدهوشاً وقد اتسعت مقلتيه :
-نعم
لم يتخيل أن تكون أخته حاملاً ، بل والأفظع أن تخسر جنينها قبل أن يرى النور دون أن يدري السبب ....
أكملت أم فتحي بحزن :
-عيني عليها رقدت في المشتشفا كام يوم ، بس هي رجعت تنور بيتها تاني ، تلاقيه هو اللي اتصل بيك عشان تفرحها وتاخد بخاطرها
كز هو على أسنانه بقوة محاولاً التحكم في غضبه ، وجاهد ليبدو طبيعياً في إنفعالاته أمامها .. وهتف بصعوبة :
-متشكر يا ست ، هو فينه ؟
أدارت رأسها للخلف وهي تجيبه :
-سي محسن أعد فوق !
ثم ســــارت للأمام ، وأشارت بيدها وهي تهتف بسعادة :
-اتفضل يا سي الأستاذ .. يا مرحب بيك ، المكان نـــوّر !
كور عمرو قبضة يده ، وضغط على أصابعه بقسوة ، وتوعد في نفسه بنبرة عدائية وهو يتحرك خلفها :
-وقعتك سودة معايا يا محسن لو أختى جرالها حاجة بسببك !!
........................................
جلست إيثار على المقعد الخاص بها بداخل عربة القطار غير مصدقة أنها أصبحت على متنه ، وأنها على وشك الرحيل من هنا ..
ارتعش جسدها من فرط التوتر ، وتجنبت الجلوس بجوار النافذة كي لا يراها محسن إن اكتشف هروبها من منزله ..
عضت على أناملها بخوف ، وزاغت أبصارها وهي تطالع بحذر أوجه الجالسين على مقربة منها ...
لم تفارقها ذكرياتها الموجعة ، وتجسدت بين الفنية والأخرى في مخيلتها لتزيد من هلعها ..
وبصعوبة بالغة قاومت رغبتها في البكاء ..
فالكل أســـاء إليها ، والكل تخلى عنها في أحلك أوقاتها وأكثرها احتياجاً..
أخفضت يدها لتضعها على بطنها .. فمازالت ذكرى خسارتها تؤلمها ..
هي لم تخضْ تجربة الحمل ، لكنها حزنت وبشدة لفقدان جزءٍ منها ..
انتبهت إلى صوت صــافرة القطــــار وهي تصدح في الأجواء ، فتصلبت في مقعدها ، وتشبثت أكثر بمسنديه .. وحبست أنفاسها مترقبة ..
بدأ القطار في التحرك رويداً رويداً ، ومع كل حركة كانت دقات قلبها تتسارع حتى باتت في سبق معه ..
تنفست الصعداء بإبتعاد القطار عن محطته السابقة ، فإرتخى جسدها المتشنج ، واسترخت إلى حد ما على مقعدها ..
..............................
تفاجئت أمــــل بدخـــول أم فتحي وبصحبتها ذلك الرجل الغريب ، فأسرعت بضبط حجاب رأسها ، وتساءلت بجدية وهي تنظر إليه بتفحص :
-ايوه ، انت عاوز مين ؟
اجابتها أم فتحي بدلاً منه :
-ده سي الأستاذ أخو الست إيثار
اتسعت حدقتي أمل في صدمة واضحة ، وفغرت فمها مشدوهة من رؤيته .. وهمست بتلعثم :
-آآ.. اخوها
ابتلعت ريقها بتوجسٍ ، وحاولت إستيعاب تلك الصدمة بسرعة لتتصرف بعقلانية دون أن تثير أي جلبة ، فوجهت أنظارها إلى أم فتحي ، وأردفت قائلة بهدوء :
-روحي إنتي يا أم فتحي ! أنا هارحب بالضيف
ردت عليها الأخيرة بتحمس :
-أوامرك يا ست أمل
ثم تحركت مبتعدة لتترك الاثنين بمفردهما ...
هـــدر عمرو بإنفعال وقد أظلم وجهه :
-أختي فين ؟
اقتربت منه أمل وهمست بإرتعاد وهي تضع يدها على فمها :
-ششش .. وطي صوتك
صـــاح بغضب وهو يلوح بيده في الهواء :
-مش هاوطي صوتي ومش هاهدى ، أنا جاي هنا عشان أختي !
توسلت له قائلة بخوف وهي تتلفت حولها :
-من فضلك ، محسن نايم ولو صحى ممكن يعمل مشاكل ، أنا هاخليك تشوف أختك بس اهدى !
لوح بذراعه بغضب وهو يصيح بشراسة :
-وأنا عاوزه يصحى ، خليه يقوم يكلمني اللي عامل راجل على أختي !
ارتعدت فرائصها ، وهمست بفزع :
-إنت .. إنت كده ناوي تأذي أختك !
رمقها عمرو بنظرات ساخطة قبل أن يسألها بقسوة :
-وإنتي أصلاً مين عشان تكلمي معايا ؟!
ابتلعت ريقها بتوجس ، فبدلاً من الزهو بكونها زوجة صاحب المنزل ، كانت تشعر بالخزي منه ، ترددت في اخباره بهويتها ، ولكن لا مفر من الهروب من إجابته ، لذا بصوت أسف ردت عليه :
-أنا .. أنا أمل ، مراته الأولى !
اتسعت مقلتيه مصدوماً ، وارتفع حاجبيه للأعلى في ذهــــول كبير ، فمحسن قد أبلغه عن وفاة زوجته ، فكيف تكون من الأحياء ، وهتف بعدم تصديق وهو ينظر لها متفحصاً :
-مين ؟ مراته ؟ إنتي .. إنتي مش كنتي ميتة ؟!!
هزت رأسها نافية ، وأجابت بتلعثم وقد تشكل الخزي على نظراتها :
-لأ .. هو .. هو كدب عليك ، أنا .. أنا آآ..
قاطعها مطلقاً سبة عنيفة :
-الواطي ابن الـ ****
لوحت بكفها نافية وهي تقول بصوت مختنق :
-أنا ماليش ذنب
أدرك عمرو أنها على صواب ، فما ذنب معاتبها أو حتى تعنيفها ، فصاحب الوزر الأقبح هو من ظن أنه رفيقه ، وخدعه ، وبدى هو كالساذج المغفل أمامه..
وبغضب أشــرس صاح بها :
-ناديلي على المحروس ، أنا كلامي مش معاكي ، مع البأف اللي سلمته أختي وجوزتهاله !
أشارت بأصابعها قائلة برجاء :
-يا أستاذ اسمعني
لم يمهلها الفرصـــة ، بل تحرك ركضاً في اتجاه الدرج ، وصعد عليه وهو يصرخ بإهتياج :
-يا محسن ، ايثار ، إنتي فين ؟
لحقت به وهي تتوسله:
-استنى هنا يا أستاذ
صــــــاح عمرو بنبرة اكثر جنوناً :
-إيثـــــــــــــار !!!!!
ووصل إلى الطابق العلوي ، وبدأ يبحث عن أخته في باقي أرجاء المنزل ...
.....................
أفاق محسن من نومـــه على صوت الصراخ الهادر الذي ينبعث من خارج غرفته ، وتثاءب وهو يصيح بتأفف :
-مين ابن الـ **** اللي بيزعق في بيتي ده ، وقعت أهله منيلة !
نهض عن الفراش ، وتحرك صوب الباب وعلى وجهه نذير شؤم ، ولكنه تفاجيء ببابه يُفتح مرة واحدة ليرى عمرو أمامه ، فحدق فيه مشدوهاً ..
تحولت نظرات عمرو للإحتقان الشديد ، وأسرع ليمسك بتلابيب محسن ، وهزه بعنف وهو يصرخ فيه بصوت مهتاج :
-عملت في اختي ايه يا بن الـ **** ؟!
حاول محسن إبعاد قبضتيه عنه بعد أن صدمته حركته المباغتة ، ورد عليه بصعوبة :
-الله ! الله ! جرى ايه يا عمرو ، إنت جاي تتهجم عليا في بيتي !
-ده أنا هاموتك !
قالها عمرو وهو ينهال باللكمات المتتالية على وجه محسن حتى رأى خيوط الدماء تتدفق من بين فكيه ومن أنفه ..
ثم أسقطه أرضاً ، وركله بعنف في معدته ، وتابع بحنق شديد :
-بقى تضحك عليا ، وتستغفلني ، وتخلني أجوزك اختي ، وانت طلعت واطي !
تأوه محسن من الآلم ، وقاوم قدر إستطاعته ضرباته الشرسة ، وتمكن من الإمساك بقدمه ليجذبه منها ، ثم طرحه أرضاً ، وجثى فوقه ليضربه هو الأخـــر ، وهدر بصوت غاضب :
-هو أنا ضربتك على ايدك ، ما إنت اللي مصدقت
دفعه عمرو من صدره بركلة عنيفة ، وصــــاح بجنون :
-صح ، أنا غلطت ، وجاي النهاردة عشان أصلح غلطي !
ســأله محسن بريبة وهو يعتدل في وقفته :
-قصدك ايه ؟
وقف عمرو قبالته ليلتقط أنفاسه ، وهدر بصوت جهوري :
-أنا هاخد اختي من هنا ، وهاطلقها منك
أشعلت كلماته الأخيرة الغضب في محسن ، فتوهجت عيناه ، وصرخ من بين أسنانه بعصبية :
-لا عندك ، اختك مش طالعة من بيتي إلا على جثتي ، دي مراتي ، وأنا حر في التصرف معاها !
رد عليه عمرو وهو ينقض عليه :
-مش هاسيبهالك
ثم تابع إعتدائه الشرس عليه ، ولم يترك فيه جزءاً إلا وقد ركله أو لكمه ...
لم يكن محسن بالشخص الهين الذي سيسقط من قوة الضربات ، بل قاوم حتى الرمق الأخير نوبة جنونه ..
وما إن تمكن عمرو من طرحه أرضاً حتى ركض إلى خـــارج الغرفة صارخاً بإهتياج :
-ايثـــــار ، انتي فين ؟
حاول محسن إمساكه ، وقبض على ذراعه ، وأعاق حركته وهو يقول :
-استنى ، مش سايبك !
لطمت أمل على صدغيها وهي تصيح بهلع :
-إلحق يا محسن ، إلحق !!!
انتبه لها الاثنين ، فأكملت بفزع وقد زاغت أبصارها :
-إيثار مش موجودة في أي حتة في البيت
صدم كلاهما مما قالته ، وحل الصمت لثوانٍ قبل أن يقطعه محسن صارخاً بجموح :
-انتي بتقولي ايه ؟
انفعل عمرو متساءلاً بحدة :
-اختي فين ؟
تلعثمت وهي تجيبهما بنبرة مرتجفة :
-بـ.. باين ..آآ.. إنها .. إنها هربت !
لم يقتنع عمرو بما قالته ، فقد ظن أنها خدعة مفتعلة منهما ، لذا لوح بذراعه بغضب وهو يقول :
-ده ملعوب عاملينوه عليا أنتو الاتنين !
هزت أمل رأسها نافية وهي تقول بخوف :
-لا والله ، هي فعلاً مش موجودة
أطبق محسن على عنق زوجته ، وضغط عليه بقسوة وهو يسألها بشراسة :
-عملتي ايه في البت يا ولية ؟
اختنق صوتها ، وجحظت عيناها من فرط الخوف ، وأجابته:
-مجتش جمبها يا محسن !
أرخى قبضته عنها ليمسك بطرف ذقنها ، واعتصره بقوة وهو يكمل بإهتياج :
-شكلك إنتي اللي هربتيها من هنا
هزت عيناها نافية ، وهمست بصوت متحشرج :
-مـ.. محصلش ، والله ما عملتها
صرخ فيه عمرو من الخلف بنبرة عدائية :
-قسماً بالله يا محسن لأندمك على كل لحظة أذيت فيها أختي ! ومش هاسيبك ، هاتدفع تمن اللي عملته في أختي غالي
التفت محسن برأسه نحوه ، ولم يفلت أمل من قبضته ، ورد عليه بتحدٍ سافر :
-هي مراتي ، وانت ملكش حكم عليها ، وهاجيبها تاني هنا إن شاء الله بحكم الطاعة !
هدر فيه عمرو بانفعال :
-مش هاتلحق لأني هاطلقها منك ، وإن حكمت هاتخلعك ، وأنا وإنت والمحاكم بينا ..!
ثم تركه واندفع نحو الدرج ليتجه بعدها إلى باب منزله ، ثم صفقه خلفه بعنف ..
.....................................
ترجلت إيثار من عربة القطـــار ، وســارت بخطوات سريعة نحو المخرج ..
بحثت بعينيها عن وسيلة مواصلات تقلها إلى محافظة الإسكندرية ، خاصة أن المسافة لم تكن بعيدة ..
فوجدت منطقة خاصة بالحافلات ، فحجزت مقعداً لها في الخلف بعد أن استقلت إحداهن ...
استندت بيدها على النافذة ، وظلت محدقة في الطريق أمامها ..
لمعت عيناها وهي تقاوم سيل ذكرياتها المريرة ..
بحثت في طيات عقلها عن أي ذكرى سعيدة لتهون بها على نفسها ، لكن للأسف .. لم تجد ..
ظلت خلال رحلة عودتها شــــاردة ، صامتة ، في حالة وجوم واضحة حتى توقفت الحافلة في الإسكندرية .. فردت إليها روحها ..
تفقدت المال المتبقي معها لتستقل أخـــر وسيلة مواصلات لتعود إلى منزلها ..
....................................
رفعت تحية جبهتها عن سجادة الصلاة ، وتهدل كتفيها في خزي ، ثم حدقت في السماء ببصرها ، وتضرعت للمولى قائلة بخشوع وهي تبكي :
-رجعالي يا رب ، احفظهالي من كل سوء ، يا رب ، أنا أمتك الغلبانة ، ماليش غيرك يا رب أشكيله ، نجيها من الهم اللي هي فيه ، ردهالي سالمة غانمة ، يا رب ، إنت السميع البصير .. يا مجيب الدعوات قرب البعيد يا رب ..!
قاطع دعائها الباكي صوت قرع الجرس ، فالتفتت برأسها للخلف ، وشعرت بخفقان قوي في قلبها ..
استشعرت بروحها أن المولى قد أجاب دعائها ، فنهضت على عجالة من مكانها ، وركضت مسرعة نحوه ...
بيدٍ مرتعشة أدارت المقبض ، وفتحته لتجد صغيرتها أمامها ..
شهقت مصدومة من رؤيتها على تلك الحالة المفزعة ..
وهتفت بعدم تصديق :
-بنتي ، إيثار !
ثم ألقت بجسدها نحوها لتحتضنها وتضمها إلى صدرها بقوة ، وتابعت بنحيب :
-يـــــاه يا بنتي ! آه يا ضنايا !
استكان جســـد إيثار في أحضـــان أمها ، وشعرت أنها وجدت الملجأ من كل الشرور المحيطة بها في صدرها الحنون .. فاستسلمت لشعورها بالأمان ، وفقدت وعيها بين ذراعيها ..
................................
عودة للوقت الحالي ،،،
فتحت إيثار عينيها الذابلتين فجأة لتأتي بحجابها الذي تطاير عن رأسها للوراء علي أثر الهواء ، ثم استنشقت رائحة البحر ليتخلل صدرها ، وزفرته على مهلٍ وهي تتنهد بعمق ..
توجهت نحو المقعد الممتد الطول ثم جلست عليه واضعة نظارتها الشمسية على عينيها لتحجب عنها ضوء الشمس ، فقد بات ذلك الضوء بمثابة ذكرى مؤلمة نبشت بصندوق ذكرياتها الموجعة ...
هـــا قد تذكرت ما مرت به خلال الثلاث أعوام المنصرمــــة ..
أوجـــاع تلتها أوجـــاع .. وذكريات تبعتها أخرى أضنت قلبها وعقلها ..
تركت لهواء البحر مهمة تجفيف عبراتها المتجمدة ، وأخذت تتنفس بعمق لتسيطر على نفسها الهائجة كموج البحر الذي تطالعه ..
نعم تبدل حالها ، وتغيرت ظروفها ، وأصبحت الآن امرأة أخـــرى غير تلك الصغيرة التي قاست على أيدي الأقرب إليها ...
وبتثاقل مصحوب بالإرهـــاق ، نهضت من مكانها لتعود من جديد لتكمل خطواتها .. فلم تعد لديها رغبة في البكاء على الأطلال أكثر من هذا، لقد انتهى عصر الأحزان .. وبدأ عهد الآمــال ..
انتهى شتاء عاصف من حياتها ، وصيف مثير على وشك البدء في القادم من عمرها ...
(( لنترك ما مضى جانباً ،
ونبحث بين طيات عقلنا ،
عن جانب السعادة الخفي في حياتنا .. )) ....